في الحديقة
في كل قرن منذ بداية العالم اكتُشفت أشياء رائعة. وفي القرن الأخير اكتُشفت أشياء أروع من أي قرن سابق. أما في هذا القرن الجديد، لا يزال هناك المزيد من الأشياء المذهلة سوف تخرج إلى النور. في البداية يَرفض البشر تصديق إمكانية فعل شيء جديد غريب، ثم يبدءون في تمنِّي لو أمكنهم فعله، ثم يرون أن من الممكن فعله، ثم يفعلونه ويتعجب العالم أجمع من أن هذا الشيء لم يحدث منذ قرون مضت. ولعل من الأشياء الجديدة التي بدأ البشر اكتشافها في القرن الماضي أن الأفكار — الأفكار المجردة — قد تكون في قوة البطاريات الكهربائية، وفي فائدة أشعة الشمس للإنسان، أو قد تكون في ضرر السم عليه. وفتح أبواب عقلك أمام فكرة حزينة أو سيئة في خطورة دخول جرثومة الحمى القرمزية إلى جسدك. وإن تركتها تبقى بعد دخولها، فربما لا تستطيع التغلب عليها ما حييت.
طالما كان عقل الآنسة ماري مليئًا بأفكار بغيضة عن كرهها للناس وآرائها السيئة فيهم، والإصرار على عدم شعورها بالسعادة أو الاهتمام بأي شيء؛ ومن ثَم كان وجهها مُصفرًّا وكانت طفلةً مريضةً وبائسةً وضجرةً. غير أن الظروف كانت رحيمة بها إلى أقصى مدًى، على الرغم من عدم إدراكها لهذا الأمر تمامًا. فقد ظلت تنقلها من مكان لآخر لأجل صالحها. وحين امتلأ عقلها تدريجيًّا بطيور أبي الحنَّاء، وأكواخ المستنقَع المزدحمة بالأطفال، والبستانيين العجائز ذوي الطباع السيئة والأطوار الغريبة، وخادمات يوركشاير الشابات المتواضعات الحال، وبفصل الربيع والحدائق السرية التي تعود إلى الحياة يومًا بعد يوم، وأيضًا بفتى المستنقع و«كائناته»، لم يعد للأفكار السيئة التي أثَّرت على كبدها وهضمها وجعلتها تبدو صفراء اللون ومتعبة مكان.
وطالما ظل كولن حبيس غرفته لا يفكر إلا في مخاوفه وضعفه وكرهه للناس الذين ينظرون إليه، ويفكر طوال الوقت في الحدبات والموت المبكر؛ ومن ثم كان طفلًا صغيرًا هستيريًّا على مشارف الجنون ومريضًا بوسواس المرض، لا يعرف شيئًا عن أشعة الشمس والربيع، ولم يكن يعلم أيضًا أن حالته من المُمكن أن تتحسَّن، وبإمكانه الوقوف على قدميه إن حاول. وحين بدأت أفكار جديدة جميلة تزيح الأفكار القديمة البشعة، بدأت الحياة تعود إليه، وبدأ الدم يتدفَّق بصحة في عروقه، وغمرته القوة كالفيضان. كانت تجربته العلمية عملية وبسيطة للغاية ولم يكن بها أي شيء غريب على الإطلاق. والمزيد والمزيد من الأشياء المدهشة يُمكن أن تحدث لأي شخص لديه من الحس ما يجعله يتذكَّر في الوقت المناسب، حين تتبادَر إلى ذهنه فكرة بغيضة أو مثبِّطة للهمم، ويدفعها بعيدًا من خلال وضع أفكار محببة ومشجِّعة مكانها. فلا يُمكن لشيئين أن يجتمعا في مكان واحد؛
في الوقت الذي كانت فيه الحياة تعود للحديقة السرية، وتعود للطفلين أيضًا معها، كان ثمة رجل يتجوَّل في أماكن معينة جميلة بعيدة في الخلجان البحرية الصخرية النرويجية وأودية سويسرا وجبالها، وظل طوال عشر سنوات يملأ عقله بأفكار قاتمة تفطر القلوب. لم يكن يتحلَّى بالشجاعة؛ فلم يُحاول قط وضع أي أفكار أخرى محل هذه الأفكار القاتمة. تجوَّل على ضفاف البحيرات الزرقاء يتأمَّلها، واستلقى على سفوح الجبال ومن حوله تزدهر طبقات من زهور كف الذئب ذات اللون الأزرق الداكن، تعبق الهواء برائحتها وكان يتأمل كل هذا. لقد خيَّم عليه حزن شديد من بعد السعادة التي كان ينعم بها، وترك رُوحه تمتلئ بالسواد ورفض بعناد أن يدع أي لمحة من ضوء تتسلل إليه. نسي منزله وواجباته وهجرها. وحين سافر للتجول، خيمت الكآبة عليه تمامًا؛ حتى إن رؤيته كانت بمثابة خطأ يُرتكب في حق الآخرين؛ لأنه كان كمن سمَّم الهواء من حوله بالكآبة والحزن. فظن معظم الغرباء عنه أنه إما مشارف على الجنون أو رجل يخفي جريمة من نوع ما في نفسه. كان رجلًا طويل القامة وجهه مسحوبٌ وكتفاه منحنيتان، وكان الاسم الذي يُدونه دائمًا في سجلات الفنادق هو «أرتشيبولد كرافن، ضيعة ميسلثويت، يوركشاير، إنجلترا.»
سافر إلى كل أصقاع الأرض منذ التقى بالآنسة ماري في غرفة مكتبه وأخبرها بأن بإمكانها الحصول على «قطعة من الأرض». زار أجمل بقاع أوروبا، على الرغم من عدم مكوثه في أي مكان لأكثر من بضعة أيام. وكان يختار أبعد البقاع وأكثرها سكونًا. صعد إلى قمم الجبال التي تكاد تلامس السحب، ونظر من فوقها إلى الجبال الأخرى حين أشرقت الشمس وداعبتها بأشعتها، في مشهد بدا كما لو أن العالم يولد للتوِّ.
ولكن الضوء لم يبدُ أنه قد لامسه قطُّ حتى يومٍ ما، حين أدرك أن شيئًا غريبًا قد حدث لأول مرة منذ عشر سنوات. كان في وادٍ رائع في ولاية تيرول النمساوية وكان يسير وحده عبر هذا الجَمال الذي من شأنه السمو بالروح وانتشالها من الظلام. ظل يسير لمسافة طويلة دون أن يطرأ أي تحسن على الإطلاق. لكنه أخيرًا شعر بالتعب وارتمى بجسده ليستريح على غطاء طُحلبي بجوار أحد الجداول. كان جدولًا صغيرًا صافيًا يتدفَّق بسعادة على طول مجراه الضيق عبر الخضرة الرطبة الطيبة الرائحة. وكان في بعض الأحيان يصدر صوتًا يُشبه ضحكًا خافتًا للغاية، وهو يغمر الأحجار ويتدفق من حولها. رأى الطيور وهي تأتي وتغمس رءوسها في المياه لتشرب من الجدول ثم ترفرف بأجنحتها وتطير مبتعدة. بدا المشهد نابضًا بالحياة، ومع ذلك زاد صوته الخفيض على المكان سكونًا على سكونه. فقد كان الوادي ساكنًا إلى أقصى الحدود.
وبينما هو جالس يُحدِّق في صفاء الماء الجاري، شعر أرتشيبولد كرافن تدريجيًّا بالهدوء يسري في عقله وجسده، هدوء يشبه هدوء الوادي نفسه. تساءل عما إذا كان النعاس يغالبه، لكنه لم ينم. بل جلس وحدَّق في المياه المتوهجة بأشعة الشمس، وبدأت عيناه ترى الأشياء وهي تنمو على حافة الجدول. كانت ثمة كتلة رائعة من نبات أذن الفأر زرقاء اللون تنمو على مقربة شديدة من الجدول لدرجة أن أوراقها كانت مبتلةً، ووجد نفسه ينظر إليها مثلما كان ينظر إلى مثل هذه الأشياء منذ سنوات مضت حسبما يتذكَّر. فقد كان في الواقع يفكر بحسٍّ مُرهف في مدى جمال هذه الأزهار، ومدى روعة اللون الأزرق الذي تلوَّنت به المئات من أوراقها الصغيرة. لم يكن يعلم أن مجرد هذا الفكرة البسيطة كانت تملأ قلبه ببطء، وظلت تملؤه وتملؤه حتى نحَّت الأشياء الأخرى جانبًا برفق، كما لو أن ينبوعًا عذبًا صافيًا قد بدأ يتفجَّر في بركة راكدة وظل يتمدد ويتمدد حتى جرف الماء الآسن تمامًا في النهاية. لكنه نفسه بالطبع لم يفكر في هذا. فلم يكن يدرك إلا أن الوادي يبدو أنه يزداد هدوءًا وهو جالس به يُحدِّق في زرقة أزهاره الزاهية الناعمة. لم يعلم كم من الوقت ظلَّ هناك، أو ماذا كان يحدث له، لكنه في النهاية تحرك كما لو أنه يستيقظ، ونهض ببطء ووقف على الغطاء الطُّحلبي، وأخذ نفَسًا طويلًا وعميقًا ورقيقًا، وتعجَّب من نفسه. فقد بدا كما لو أن شيئًا قد تحرَّر من القيود وانطلق بداخله، بهدوء شديد.
قال في صوت أقرب إلى الهمس وهو يمسح بيده على جبهته: «ما هذا؟ أكاد أشعر كما لو أني … كما لو أني على قيد الحياة!»
لا أعلم ما يكفي عن روعة الأشياء التي لم تُكتشف بعد لكي أستطيع أن أفسِّر كيف حدث هذا له، ولا أي شخص آخر بعد؛ فهو نفسه لم يفهم ما حدث على الإطلاق، لكنه تذكَّر هذه الساعة الغريبة بعد تلك الواقعة بعدة أشهر حين كان في ميسلثويت مرةً أخرى، وعرف مصادفةً أنه في ذلك اليوم بالذات صاح كولن حين دخل إلى الحديقة السرية وقال: «سأعيش إلى أبد الآبدين!»
ظلَّ هذا الهدوء الفريد مصاحبًا له طوال المساء، ونام نومًا هادئًا جديدًا، لكنه لم يبقَ معه طويلًا؛ فلم يكن يعلم أن بإمكانه الاحتفاظ به. وفي الليلة التالية فتح الأبواب على مصراعيها لأفكاره القاتمة الكئيبة فعادت في حشود مُتسارعة. ترك الوادي وواصل تجواله مرةً أخرى. ولكن الغريب، كما بدا له، أنه كانت ثمَّة بضع دقائق، كانت أحيانًا ما تمتدُّ إلى نصف ساعة، يرتفع فيها العبء القاتم عنه، دون أن يدري، وكان يشعر حينها أنه إنسان على قيد الحياة ولم يمُت بعد. فببطء شديد، ولسبب مجهول له، كانت «الحياة تعود» إليه مع عودتها إلى الحديقة.
مع تحوُّل الصيف الذهبي إلى خريف ذهبي، توجه إلى بحيرة كومو، وهناك وجد جمال الأحلام. كان يمضي أيامه على مياه البحيرة الزرقاء البِلَّورية أو يعود سيرًا بين خضرة النبات الناعم الكثيف في التلال، ويظل يتجوَّل حتى يُعييه التعب حتى إنه قد ينام. ولكن في هذا الوقت أدرك أن نومه قد بدأ يتحسَّن، ولم تعد أحلامه تُسبب له ذُعرًا.
فكَّر في نفسه قائلًا: «لعل جسدي يزداد قوة.»
كان جسده يزداد قوة بالفعل، ولكن بسبب ساعات الهدوء الثمينة التي كانت أفكاره تتغيَّر فيها، كانت روحه تزداد قوة أيضًا ببطء. بدأ يُفكر في ميسلثويت ويتساءل إن كان بالضرورة أن يعود إلى المنزل.
كان يتساءل بين الآن والآخر دون تصريح بشأن ولده الصغير، وسأل نفسه عمَّا سيشعر به إن ذهب ووقف بجوار سريره المنقوش ذي الأعمدة الأربعة مرةً أخرى ونظر إلى هذا الوجه الأبيض العاجي اللون ذي الملامح الحادة وهو نائم، ورموشه السوداء تحفُّ عينيه المغلقتين على نحو مُروِّع، فارتعدت فرائصه.
في أحد الأيام الرائعة ابتعد في سيره للغاية، حتى إنه حين عاد كان القمر مكتملًا ومرتفعًا في السماء وسادت العالم بأسره ظلال أرجوانية وفضية. كان سكون البحيرة والشاطئ والغابة رائعًا للغاية لدرجة أنه لم يدخل إلى الفيلا التي كان يُقيم فيها، بل توجَّه إلى شُرفة صغيرة محاطة بتعريشة على حافة المياه وجلس على أحد المقاعد فيها وأخذ يستنشق كل الروائح العذبة التي يعبق بها الليل. وشعر بهدوء غريب يتسلَّل إليه وظل يتوغَّل أكثر فأكثر حتى خلد إلى النوم.
لم يدرِ متى غلبه النعاس ومتى بدأ يحلم، وبدا حلمه حقيقيًّا للغاية حتى إنه لم يشعر بأنه يحلم. تذكَّر فيما بعد كم كان يظنُّ أنه يقظ ومتنبِّه إلى أبعد حدٍّ. ظن أنه بينما كان جالسًا يستنشق عبق الأزهار في وقت متأخر من الليل ويستمع إلى صوت تلاطم الماء الهادئ عند قدميه سمع صوتًا يناديه. كان صوتًا عذبًا واضحًا وسعيدًا قادمًا من بعيد. بدا له بعيدًا للغاية، لكنه سمعه بوضوح كما لو كان بجواره.
قال له: «أرتشي! أرتشي! أرتشي!» ثم بصوت أكثر عذوبة ووضوحًا من ذي قبل قال مرةً أخرى: «أرتشي! أرتشي!»
اعتقد أنه هبَّ واقفًا على قدميه دون أدنى شعور بالخوف. فقد كان الصوت حقيقيًّا للغاية وبدا طبيعيًّا تمامًا أن يسمعه.
ردَّ عليه: «ليلياس! ليلياس! ليلياس! أين أنتِ؟»
عاد الصوت كما لو كان صوتًا صادرًا من مزمار ذهبي: «في الحديقة، في الحديقة!»
وعندها انتهى الحلم، لكنه لم يستيقظ. فقد غطَّ في نوم عميق وهانئ طوال هذه الليلة الرائعة. وحين استيقظ أخيرًا كان صباحًا جميلًا وكان الخادم يقف مُحدِّقًا فيه. كان خادمًا إيطاليًّا وكان معتادًا، مثل جميع الخدم في هذه الفيلا، على تقبُّل أي شيء غريب يفعله سيده الأجنبي دون تساؤل. فلم يكن أي منهم يعرف أبدًا متى سيخرج، أو متى سيعود، أو أين سينام، أو ما إذا كان سيتجوَّل في الحديقة، أو يستلقي في قارب في البحيرة طوال الليل. كان الرجل يحمل صينية تقديم عليها بعض الخطابات وينتظر في صمت حتى أخذها السيد كرافن. حين انصرف الخادم جلس السيد كرافن بضع لحظات حاملًا هذه الخطابات في يده وينظر إلى البحيرة. لم يكن هدوءه الغريب قد فارقه وزاد عليه شيء آخر؛ شعور بالخفة كما لو أن هذا الأمر القاسي الذي حدث لم يحدث كما كان يظن، كما لو أن شيئًا قد تغيَّر. كان يتذكر الحلم، الحلم الحقيقي للغاية.
قال مندهشًا وتساءل في نفسه: «في الحديقة! في الحديقة! لكن الباب موصد والمفتاح مدفون في جوف الأرض.»
سيدي العزيز
أنا سوزان سويربي التي تجرأت على التحدُّث معك ذات مرة في المستنقع. وقد تحدثتُ إليك حينها عن الآنسة ماري. سأتجرأ مرةً أخرى على التحدث إليك. لطفًا يا سيدي، لو كنتُ مكانك لعدتُ إلى المنزل. أعتقد أنك ستُسر إن عدتَ، وإن سمحت لي يا سيدي، أعتقد أن السيدة زوجتك كانت ستَطلُب منك العودة لو كانت هنا.
قرأ السيد كرافن الخطاب مرتين قبل أن يعيده إلى مظروفه، وظلَّ يفكر في الحلم.
قال: «سأعود إلى ميسلثويت. أجل، سأعود على الفور.»
واجتاز الحديقة وصولًا إلى الفيلا، وأمر بيتشر بالتجهيز لعودته إلى إنجلترا.
في غضون بضعة أيام كان في يوركشاير مرةً أخرى، وطوال رحلته الطويلة بالقطار وجد نفسه يفكر في ولده الصغير كما لم يفكر فيه طوال السنوات العشر الماضية. فطوال هذه السنوات لم يكن يتمنَّى إلا أن ينسى وجوده فحسب. والآن، وعلى الرغم من أنه لم يتعمَّد التفكير فيه، كانت ذكرياته عنه تزحف على عقله باستمرار. فقد تذكَّر الأيام الحالكة التي ثار فيها كالمجنون؛ لأن الطفل كان على قيد الحياة في حين ماتت أمه. فقد رفض أن يراه، وحين ذهب للنظر إليه أخيرًا، رأى طفلًا بائسًا ضعيفًا حتى إن الجميع كانوا على يقين بأنه سيموت في غضون بضعة أيام. إلا أنه لدهشة جميع مَن تولوا رعايته، فقد مرت الأيام وعاش الطفل، ثم اعتقد الجميع بأنه سيُصبح مخلوقًا مشوَّهًا ومعاقًا.
لم يقصد أن يكون أبًا سيئًا، لكنه لم يشعر بشعور الأُبوَّة على الإطلاق. لقد وفَّر له الأطباء والممرضات وسُبل الرفاهية، لكنه أحجم عن مجرد التفكير في الطفل ودفن نفسه في مأساته. وفي أول مرة عاد فيها بعد غياب عام كامل عن ميسلثويت، رفع هذا الشيء الصغير البائس وجهه البائس في وهنٍ وفتور ورأى فيه عينين رماديتين كبيرتين تحيط بهما رموش سوداء، تُشبهان كثيرًا تلك العينين السعيدتين اللتين عشقهما على الرغم، ولم يتحمَّل رؤيتهما وانصرف ووجهه شاحب كالموتى. بعد ذلك لم يكن يراه إلا نادرًا وهو نائم، وكل ما كان يعرفه عنه أن إعاقته قد تأكَّدت، بالإضافة إلى مزاجه السيئ الهستيري الأقرب إلى الجنون. وكان السبيل الوحيد لإبعاده عن نوبات الغضب التي تضرُّ بصحته، هو تنفيذ رغباته في كل شيء.
لم يكن تذكُّر كل هذه الأشياء مشجعًا على الإطلاق، لكن بينما كان القطار ينطلق به عبر الممرات الجبلية والسهول الذهبية بدأ الرجل الذي «عادت إليه الحياة» يفكر بطريقة جديدة، وظل يفكر طويلًا وبهدوء وعمق.
قال في نفسه: «ربما كنتُ مخطئًا طوال هذه السنوات العشر. فعشر سنوات وقت طويل، ربما يكون الوقت قد تأخر لفعل أي شيء، تأخر للغاية. ما الذي كنتُ أفكر فيه!»
بالطبع كان هذا هو السحر الخطأ … أن يبدأ المرء بقول «متأخِّر للغاية.» حتى كولن كان يستطيع أن يقول له ذلك.
لكنه لم يكن يعلم أي شيء عن السحر، لا أسود ولا أبيض؛ فهذا ما هو على وشك تعلمه. تساءل عما إذا كانت سوزان سويربي قد تحلَّت بالشجاعة وكتبت إليه فقط لأنها أدركت بأمومتها أن الفتى قد ساءت حالته كثيرًا، والآن هو في مرض الموت. لو لم يكن الآن تحت سحر السَّكِينة الغريبة التي سيطرت عليه، لكان الآن أكثر بؤسًا من أي وقتٍ مضى. غير أن السكينة أمدَّته بنوع من الشجاعة والأمل في الوقت نفسه. وبدلًا من الاستسلام للأفكار السيئة، وجد نفسه يحاول بالفعل تصديق الأشياء الجيدة.
فكَّر في نفسه: «هل من الممكن أن تكون قد رأت أنه قد يكون بإمكاني تحسين حالته والسيطرة عليه؟ سأذهب وأقابلها في طريقي إلى ميسلثويت.»
لكنه حين أوقف عربته أمام الكوخ في طريقه عبر المستنقع، تجمع سبعة أو ثمانية أطفال الذين كانوا يلعبون في مجموعة واحدة، وبعد إلقائهم سبع أو ثمان تحيَّات ودودة ومهذبة، أخبروه أن والدتهم قد ذهبت إلى الطرف الآخر من المستنقع في وقت مبكِّر من الصباح لمساعدة سيدة جاءها مولود جديد. ثم تطوَّعوا بإخباره بأن ديكون في الضيعة يعمل في إحدى الحدائق بها حيث يذهب عدة أيام في الأسبوع.
تفحَّص السيد كرافن هذا الجمع من الأجسام الصغيرة القوية ذات الوجوه المستديرة المتورِّدة الوجنات، كلٌّ منها يبتسم بطريقته الخاصة، وتنبَّه إلى كونهم جمعًا من الأطفال المحبوبين المعافين. ابتسم لضحكاتهم الودودة وأخرج عملة ذهبية من جيبه وأعطاها لإليزابيث إلين التي كانت أكبرهم.
قال لها: «إذا قسمتِ هذه إلى ثمانية أجزاء، سيَحصُل كل منكم على نصف كراون.»
وامتطى عربته وانصرف وسط هذه الابتسامات والضحكات والانحناءات المهذبة، تاركًا خلفه سعادة بالغة وتدافُعًا بالأيدي وقفزات صغيرة من الفرح.
كانت القيادة وسط روعة المستنقع شيئًا باعثًا على الهدوء والسكينة. لماذا يبدو أنه يمنحه شعور العائد المتشوِّق إلى الوطن، وقد كان متأكدًا من أنه لن يستطيع الشعور بذلك أبدًا مرة أخرى، ذلك الشعور بجمال الأرض والسماء والأزهار الأرجوانية البعيدة، ويبثُّ الدفء في قلبه كلما اقترب من المنزل الكبير القديم الذي ضم أسلافه طوال ستمائة عام بين جنباته؟ كم كان يرتعد من التفكير في الغُرف المغلقة والطفل الصغير المستلقي في السرير ذي الأعمدة الأربعة، الذي تتدلَّى منه الستائر المُطرَّزة عندما غادره آخر مرة. هل من الممكن أن يجده قد تغيَّر إلى الأفضل قليلًا، وأنه ربما يتغلب على شعوره بالانكماش منه؟ كم بدا هذا الحلم حقيقيًّا، وكم بدا هذا الصوت الذي ردَّ عليه «في الحديقة، في الحديقة!» رائعًا وواضحًا.
قال: «سأحاول العثور على المفتاح، سأُحاول فتح الباب. لا بدَّ أن أفعل هذا، مع أني لا أعرف السبب.»
حين وصل إلى الضيعة، لاحظ الخدم، الذين استقبلوه بالمراسم المعتادة، أنه يبدو أفضل حالًا، وأنه لم يذهب إلى الغرف البعيدة التي يبقى فيها عادةً ويخدمه بيتشر. فقد ذهب هذه المرة إلى المكتبة وأرسل في طلب السيدة ميدلوك، التي جاءت إليه في حماس وفضول وارتباك إلى حدٍّ ما.
سألها: «كيف حال السيد كولن، يا ميدلوك؟» ردَّت السيدة ميدلوك: «حسنًا يا سيدي، لقد … لقد صار مختلفًا، إن جاز التعبير.»
سألها: «أصار أسوأ حالًا؟»
احمرَّ وجه السيدة ميدلوك بشدة.
حاولت أن تشرح له فقالت: «حسنًا يا سيدي، لم نعدْ نستطيع لا أنا ولا الطبيب كرافن ولا الممرضة تفسير حالته بالضبط.»
«لماذا هذا؟»
«في الواقع، يا سيدي، إن السيد كولن ربما يكون قد تغيَّر للأفضل وربما يكون قد تغير للأسوأ. فشهيتُه يا سيدي لم تعد مفهومة على الإطلاق، وتصرفاته …»
سألها سيدها مقطِّبًا حاجبيه في قلق: «هل أصبح أكثر غرابة؟»
«هذا هو التفسير يا سيدي. إنه يزداد غرابة مع الوقت، حين تقارنه بما كان عليه من قبل. فقد اعتاد عدم تناول أي شيء، ثم فجأة بدأ يأكل بشراهة، ثم توقَّف مرةً أخرى فجأةً، وأصبحت الوجبات تعود إلى المطبخ كما هي. وعلى الأرجح أنك لم تعلم يا سيدي أنه صار يخرج من المنزل ولا يدع أحدًا يُرافقه. فالأشياء التي مررنا بها حتى نُقنعه بالخروج من المنزل في مقعده المتحرك تجعل جسد المرء يرتعد كورقة في الهواء. فقد كان يدخل في حالة جعلت الطبيب كرافن يقول إنه لن يتحمَّل مسئولية إجباره على الذهاب. بعدها يا سيدي، وبدون سابق إنذار، بعد وقت ليس طويلًا على واحدة من أسوأ نوبات غضبه، إذ به فجأةً يُصرُّ على الخروج من المنزل كل يوم بصحبة الآنسة ماري وديكون ابن سوزان سويربي، ليدفعه في مقعده. لقد صار يحب كلًّا من الآنسة ماري وديكون، كما أحضر ديكون حيواناته الأليفة إلى هنا، ويمكنك القول يا سيدي إنه يقضي اليوم بأكمله خارج المنزل من الصباح حتى المساء.»
جاء سؤاله التالي: «كيف يبدو؟»
«لو كان يتناول طعامه على نحو طبيعي، لظننتُ أن وزنه قد بدأ يزيد، لكننا نخشى أن يكون هذا نوعًا من الانتفاخ. وفي بعض الأحيان يضحك بأسلوب غريب حين يكون بمفرده مع الآنسة ماري، في حين أنه لم يكن يضحك من قبل على الإطلاق. سيأتي الطبيب كرافن لمقابلتك على الفور، إن سمحت له بهذا؛ فهو لم يتعرض لمثل هذه الحيرة من قبل في حياته.»
سألها السيد كرافن: «أين السيد كولن الآن؟»
«في الحديقة يا سيدي. إنه في الحديقة طوال الوقت، على الرغم من أنه لم يكن مسموحًا لأي مخلوق بشري بالاقتراب منه خشية أن ينظروا إليه.»
سمع السيد كرافن كلماتها الأخيرة بالكاد.
فقد قال: «في الحديقة!» وبعدما أمر السيدة ميدلوك بالذهاب، وقف وكرَّر العبارة مِرارًا وتكرارًا: «في الحديقة!»
كان عليه أن يبذل جهدًا ليعود إلى المكان الذي كان يقف فيه وحين شعر بأنه يقف على الأرض مرةً أخرى، استدار وخرج من الغرفة. اتَّخذ طريقه، كما فعلت ماري، عبر الباب بين الشجيرات وسار بين ورق الغار وأحواض الأزهار حول النافورة. كانت النافورة تعمل الآن وكانت محاطة بأحواض من أزهار الخريف الخلَّابة. عبر المرج وانعطف إلى الممشى الطويل بجوار الأسوار المغطاة باللبلاب. لم يكن يسير سريعًا، بل كان يسير ببطء واضعًا عينيه على الطريق أمامه. شعر كما لو أن شيئًا ما يُعيده إلى المكان الذي هجره منذ وقت طويل، ولم يدرِ سببًا لهذا. ومع اقترابه منه بدأت خطواته تتثاقل أكثر. لقد كان يعرف مكان الباب بالرغم من تدلي غطاء كثيف من اللبلاب عليه، لكنه لم يكن يعرف بالضبط أين يقبع المفتاح المدفون.
لهذا توقف ووقف ساكنًا ينظر حوله وبعد لحظة تقريبًا من توقفه انتفض مجفلًا وشرع يُنصت ويسأل نفسه عمَّا إذا كان يسير داخل حلم.
كان اللبلاب متدلِّيًا بكثافة على الباب، والمفتاح مدفونًا تحت هذه الشجيرات، ولم يمر إنسان عبر هذا المدخل طوال عشر سنوات من العزلة، ومع هذا سمع أصواتًا من داخل الحديقة. كانت أصوات أقدام تركض كأنما تُطارد بعضها تحت الأشجار، كانت أصواتًا غريبة لأصوات خفيضة مكتومة؛ صرخات وصيحات مبتهجة مكبوتة. في الواقع بدا الأمر أشبه بضحكات أطفال صغار، ضحكات لا يمكن التحكم فيها لأطفال يُحاولون ألا يسمعهم أحد، لكنهم للحظة أو نحو ذلك، مع تصاعد حماسهم، انفجروا في الضحك. ما هذا الذي يحلم به بحق السماء، ما هذا الذي يسمعه بحق السماء؟ هل يفقد عقله ويعتقد أنه يسمع أشياء لا يُمكن لبشر سماعها؟ هل هذا ما كان يقصده الصوت البعيد الواضح؟
ثم جاءت اللحظة، لحظة فقدان التحكم، حين نسيت الأصوات إسكات نفسها. صارت الأقدام تركض أسرع وأسرع، وكان الصوت يقترب من باب الحديقة، ثم صدر صوت أنفاس صغيرة قوية ومتسارعة وانفجار جامح من الضحك لا يُمكن احتواءه، ثم فُتح الباب في السور على مصراعيه، وتأرجح ستار اللبلاب إلى الخلف، واندفع صبي صغير عبر الباب بأقصى سرعته، ودون أن يرى الدخيل، اندفع حتى كاد يدخل بين ذراعيه.
مدَّ السيد كرافن ذراعيه في الوقت المناسب لإنقاذ الفتى من السقوط نظرًا لاندفاعه نحوه دون النظر أمامه، وحين دفعه بعيدًا لينظر إليه بدهشة نظرًا لوجوده في هذا المكان، لم يستطع التقاط أنفاسه.
كان فتًى طويل القامة وجميلًا، يشع بالحياة وبث ركضُه لونًا رائعًا في وجهه. أزاح خصلات شعره الكثيفة من على جبهته وأعادهما إلى الخلف، ورفع عينيه الرماديتين الغريبتين، وكانتا عامرتان بضحكة صبيانية وتُحدُّهما رموش سوداء كثيفة رائعة. كانت هاتان العينان هما ما أعجزا السيد كرافن على التنفس. قال متلعثمًا: «مَن … ماذا؟ مَن!»
لم يكن هذا ما توقَّعه كولن … لم يكن هذا ما خطَّط له. فلم يخطر له قط مثل هذا اللقاء؛ أن يأتي مندفعًا هكذا، وقد فاز بسباق مع رفيقيه … ربما كان هذا حتى أفضل. انتصب في وقفته ليبلغ أقصى طول له. ورأت ماري، التي كانت تركض معه واندفعت عبر الباب أيضًا، أنه استطاع أن يجعل نفسه يبدو أطول ممَّا بدا في أي وقت مضى، ببضع بوصات.
قال: «أبي، أنا كولن. أرى أنك لا تُصدق هذا، ولا أنا أيضًا، لكني أنا كولن.»
ومثل السيدة ميدلوك، لم يفهم كولن قصد والده حين قال بسرعة: «في الحديقة! في الحديقة!»
قال كولن سريعًا: «أجل، لقد كان هذا من فِعل الحديقة، وماري وديكون والكائنات، والسحر. لا يعلم أحد بالأمر. فقد أخفيناه حتى أُخبركَ حين تعود. لقد تحسَّنت صحتي، ويمكنني التغلب على ماري في أي سباق. سأصبح بطلًا رياضيًّا.»
قال كلَّ هذا مثل أي طفل يتمتَّع بالصحة؛ فتورَّد وجهه، وتداخلت كلماته مع بعضها في غمرة لهفته، ما جعل روح السيد كرافن تَنتفِض بسعادة لم يكد يصدقها.
مدَّ كولن يده ووضعها على ذراع والده وأضاف قائلًا: «ألست سعيدًا يا أبي؟ ألست سعيدًا؟ فأنا سأعيش إلى الأبد والأبد!»
وضع السيد كرافن كلتا يديه على كتفَي الفتى وثبَّته في مكانه. فقد كان يعلم أنه لا يجرؤ على الكلام ولو للحظة حتى لو حاول.
وأخيرًا قال: «خذني إلى داخل الحديقة، يا بني، وأخبرني بكل ما حدث.»
فأرشدوه جميعًا إلى الطريق.
كان المكان غابةً برِّيةً تنبض بألوان الذهبي والأرجواني والأزرق المائل للبنفسجي والقرمزي الناري الخريفية، وفي كل ركن منها كانت توجد حزم من أزهار السوسن أزهرت مؤخرًا تقف بارزة معًا، إمَّا بيضاء أو ذات لون أبيض ممتزج مع الأحمر الياقوتي. كان يتذكَّر جيدًا حين زُرعت أولى هذه الأزهار أن هذا الوقت من السنة هو موسم إزهارها وتألُّقها. كذلك تسلقت ورود أزهرت مُؤخَّرًا الأشجارَ وتدلت منها واتخذت شكل عناقيد، وزادت أشعة الشمس اللون الأصفر للأشجار اصفرارًا، مما جعل المرء يشعر بأنه يقف داخل معبد محاط بالذهب. وقف الوافد الجديد صامتًا تمامًا مثلما فعل الأطفال حين دخلوا إلى الحديقة وسط ذبولها الرمادي، وظل ينظر حوله في كل مكان.
قال: «ظننتُ أنها قد ماتت.»
قال كولن: «هذا ما اعتقدتْه ماري في البداية، لكن الحياة عادت إليها.»
ثم جلسوا جميعًا تحت شجرتهم، كلهم ما عدا كولن، الذي أراد أن يظل واقفًا وهو يروي القصة.
رأى أرتشيبولد كرافن أن هذا أغرب شيء سمعه على الإطلاق، وهو يتدفَّق من أفواههم بأسلوب صبياني متسارع. فالغموض والسحر والكائنات، ولقاء منتصف الليل الغريب، وحلول الربيع، والغضب من إهانة الكبرياء التي دفعت الأمير الصغير إلى الوقوف على قدميه ليتحدَّى العجوز بِن ويذرستاف في وجهه. وكذلك الصُّحبة الغريبة، والتمثيل، والتكتُّم الشديد على هذا السر العظيم. ضحك المستمع حتى اغرورقت عيناه بالدموع، وأحيانًا ما كانت تغرورق دون ضحك. فهذا البطل الرياضي، والمحاضر، والمُستكشِف العلمي لم يكون إلا فتًى يافعًا مضحكًا ومحبوبًا ويتمتَّع بصحة جيدة.
قال في نهاية قصته: «والآن، لا داعيَ لإبقاء الأمر سرًّا بعد الآن. أعتقد أن الأمر سيُصيبهم بالذعر حين يرونني، لكني لن أعود أبدًا للجلوس على هذا المقعد. سأعود معك إلى المنزل سائرًا على قدميَّ، يا أبي.»
نادرًا ما كانت مهام بِن ويذرستاف تُبعده عن الحدائق، لكنه في هذا الوقت كان قد استأذن ليحمل بعض الخضراوات إلى المطبخ ودعته السيدة ميدلوك إلى بهو الخدم ليشرب كوبًا من الجِعَة؛ ومن ثمَّ كان في موقع الحدث، كما تمنَّى دومًا، وقت وقوع أعظم حدث درامي يشهده الجيل الحالي في ضيعة ميسلثويت. فقد كانت إحدى النوافذ تطل على فناء المنزل وتظهر أيضًا لمحة من المرج. ونظرًا لعلم السيدة ميدلوك أن بِن قد جاء من منطقة الحدائق، فقد كانت تأمل أن يكون قد لمح سيدَه والتقى مصادفةً بالسيد كولن.
سألته: «هل رأيت أيًّا منهما يا ويذرستاف؟»
أنزل بِن كوب الجعة من على فمه ومسح شفتيه بيده من الخلف، ورد عليها بأسلوب فيه دهاء واضح: «أجل رأيتهما.»
سألته السيدة ميدلوك: «كلاهما؟»
قال لها بِن ويذرستاف: «أجل كلاهما. شكرًا جزيلًا لك يا سيدتي؛ بإمكاني احتساء كوب آخر.»
قالت السيدة ميدلوك بسرعة وهي تعيد ملء كوبه في حماس: «معًا؟»
قال بِن وهو يتجرَّع نصف كوبه الجديد جرعة واحدة: «معًا، يا سيدتي.»
«أين كان السيد كولن؟ وكيف بدا؟ وماذا قال كلٌّ منهما للآخر؟»
قال بِن: «لم أسمع هذا؛ فقد كنتُ أقف على السُّلم النقَّال أنظر من فوق السور. ولكني سأخبرك بهذا؛ ثمَّة الكثير من الأشياء كانت تحدث بالخارج أنتم يا أهل المنزل لم تعلموا عنها شيئًا، وستعرفينها قريبًا.»
ولم تمضِ دقيقتان حتى كان يبتلع آخر رشفة من جعته ويشير بالكوب بوقار نحو النافذة التي تُظهر جزءًا من المرج عبر الشجيرات.
قال: «انظري هناك إن كان ينتابك الفضول. انظري مَن القادم عبر الحشائش.»
حين نظرت السيدة ميدلوك رفعت يدَيها وصرخت صرخة قصيرة جعلت كل خادم وخادمة في مرمى السمع يندفعون عبر بهو الخدم ووقفوا ينظرون عبر النافذة وأعينهم تكاد تقفز من رءوسهم.
فقد رأوا عبر المرج سيد ميسلثويت قادمًا وقد بدا كما لم يبدُ من قبل لكثير ممن رأوه من قبل. وبجواره يسير ورأسه إلى السماء وعيناه يملؤهما الضحك في قوة وثبات كأي فتًى في يوركشاير … السيد كولن.