نَخلُص من ذلك إلى أننا في حياتنا اليومية
المعتادة نتخذ دائمًا موقف «الإدراك العملي»، فلا نُدرك الأشياء إلا بوصفها وسيلةً إلى
غاية أو غرض يتجاوز تجربة الإدراك ذاتها؛ ومِن ثم فنحن نَجتزئ بإدراكِ ما يَكفي لإنجاز
الغرض العملي؛ فقد علَّمَتْنا الحياة العملية أن «نقتصد» في الإدراك، وننظر إلى الأشياء
والأشخاص بالقدر الذي يكفي لتمييزهم، وكأننا في الحقيقة لا نرى الأشياء ذاتها بل نقرأ
بطاقات الأشياء لنَعرف على الفور كيف نسلك إزاءها، أو ننظر إلى الشيء لنرى فيه
«النمط»
type لا «النسخة»
token (بتعبير اللسانيات الحديثة). يقول كلايف بِل: «لقد اخترع
هذه البطاقات المفيدة أناسٌ عمليون من أجل أغراض
عملية، والبَلِيَّة هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادةَ تمييز البطاقات
يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في
ذاته هي الشعور بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسِّهم بالواقع.»
١
هذا «الاقتصاد الإدراكي»، أو عادة قراءة بطاقات الأشياء، هو أمرٌ مفيدٌ ولا بد منه
لادِّخار الطاقة وحفظ الحياة، وقد قيل يومًا: إنَّ الذئب الفنان يموت جوعًا! وتأويل ذلك
أنه سيظلُّ يتأمَّل الشاة (ويتغذى بانفعاله الإستطيقي) ولن ينقضَّ عليها أبدًا، إنه
«جمالي متطرف»
aesthete يُسرف في إدراكه ويخلط المقولات
٢ ويفشل في «عزل»
٣ الفن، ويُريد أن يُسيِّر الحياةَ بمُقتضيات الفن. «وقد بيَّن روجر فراي أنه
من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثورٍ مُغِير (هاجم) كغايةٍ في ذاته، ويُسلموا
أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نُميِّز بطاقة «ثور مُغير» حتى
نُهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل، ها هنا تكون عادةُ تمييز البطاقات مفيدةً لنا، إلا أنها
تضرنا عندما تَحُول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داعٍ للفعل
أو العجلة … إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرُّؤية الفكرية بدلًا من الرؤية
الانفعالية؛ هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضَّحالة البصرية، لمعظم
الراشدين المتحضِّرين، فنحن لا ننسى ما حرَّكَ شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم
نَزِد فهو لا يُخلِّف في ذهننا أثرًا عميقًا.»
٤
مساوئ الموقف العملي
ذلك هو الموقف العملي، أما «الموقف الإستطيقي» فهو الموقف الذي نتَّخذه من شيءٍ
ما عندما نهتم به دون باعث من المنافع العملية، فنُوليه اهتمامًا «منزَّهًا عن
الغرض»
disinterested ونتأمله من أجل ذاته فحسب،
فإذا كانت العادة تغطِّي عالَمنا بقشرةٍ من الرتابة وتذهب بماوَّيته وبهائه
وتُغشِّي على موضع الدهش منه، فإن الفن اختراقٌ إلى باطن الحياة وقراءةٌ في قلب
الواقع وامتدادٌ بملَكات الإدراك، وإذا كانت الحياة العملية «تُقلص رؤيتنا وتضع على
أعينِنا غمائم كي لا نتلفَّت ولا ننظر إلا في الاتجاه الذي تفرضه ضرورات العمل.»
٥ فإن الفنَّ سراحٌ للعين والخاطر، وهجرةٌ إلى الواقع النهائي.
يرى السوقة أن الفنان رجلٌ ذاهلٌ جدًّا، لأنه مُتيقِّظٌ جدًّا لما نحن ذاهلون
عنه، إننا نَبتذل الوجود ونُسطِّحه، ونُشيح عنه كأننا سنزوره ألف مرة، فلا نَنظر
الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقاتها، ونرى إليها بعين الغرض فلا نرى غير تصنيفاتها التي
أعدَّتها لنا سلفًا ثقافتنا المحلية، إننا نَنظرها باللغة، واللغة تطمس الفروق
وتَسرق «فردية» الأشياء وتُحيلها إلى فئاتٍ عامَّة وأنماطٍ كلية، يَنصِب «اللفظُ»
وجهه بيننا وبين «الشيء» فيَحجُبه عنا، فلا نرى منه غير الاسم والغرض (وإلا لكنا
جميعًا رسامين ومثَّالين).
ولا تكتفي الألفاظ بأن تقف حائلًا بيننا وبين الأشياء، بل تقف أيضًا حائلًا بيننا
وبين أنفسنا! إن مشاعرنا وانفعالاتنا الذاتية لتُفلت هي أيضًا من قبضتنا، فنحن لا
نعرفها على وجه التحديد — لا نلمس تعاريجها الدقيقة ولا نسبر أعماقها الغائرة ولا
نتبيَّن قسماتها الفردية وملامحها الشخصية، ولا نُدرك منها إلا جانبها التقريبي غير
الشخصي ووجهَها العام الشائع الذي تسنَّى للغة أن تَلتقِطه وتُسجله (وإلا لكنا
جميعًا شعراء وروائيِّين وموسيقيين).
إنَّ الحياة العملية، كما يقول برجسون، تُلقي بنا في عالمٍ نفعي يقوم على بعض
الرموز والدلالات العامة، من شأنها أن تسلب منا فردية الأشياء وفرديتَنا، وينقضي
وجودنا في منطقةٍ محصورةٍ ضيقةٍ لا هي بالذات ولا هي بالعالم الخارجي، بل هي — على
وجه التحديد — منطقة متوسِّطة بيننا وبين الأشياء، هي منطقة التعامل مع الواقع،
يقول برجسون: «لقد عملَتِ المصادفات السعيدة على ظهور أناسٍ تبدو حواسُّهم وشعورهم
أقلَّ التحامًا بالحياة، وكأن الطبيعة قد نسيَت أن تربط ملَكة الإدراك الحسي عندهم
بملكة الفعل والتصرف، وهؤلاء حينما ينظرون إلى شيء فإنهم لا يرونه لأنفسهم، بل
لنفسه هو! وهم لا يُدركون لمجرد العمل والتصرف، بل يدركون للإدراك ذاته، أعني لغير
ما غايةٍ، اللهمَّ إلا المتعة وحدها، وهم يولدون منفصلين — في جانب من جوانبهم،
سواء أكان هذا الجانب هو إحدى الحواس أم هو الشعور نفسه — عن الواقع أو الحقيقة
الخارجية، وبالتالي فإنهم يُولَدون مصوِّرين أو مثَّالين أو موسيقيين أو شعراء.»
٦