يُعَد الاتجاه الشكلي في الإستطيقا بمثابة تأصيلٍ نظري للفن الحديث، فالإبداع دائمًا
سابق
على التأمل النظري، والعمل الفني الأصيل هو قانونُ نفسِه ومُشرِّع ذاته، فهو يخلق نظريته
ولا تخلقه النظرية، ونحن في الأغلب الأعم لا نفهم الأحداث إلا استعادة in
retrospect، ولا نعي ما جرى إلا بعد أن يتم ويكتمل ويَبهَظ، ويكاد يفقأ
عين كل أوديب منَّا، إنَّها بومة مِنِرفا لا تَشرَع في تحليقها إلا بعد انقضاء النهار،
أو
هي «الحكمة» لا تُنعِم بحضورها إلا «بعد
الحفل» post-festum.
(١) الانطباعية Impressionism
كان الفن في أواسط القرن التاسع عشر في سُبات أقرب إلى الاحتضار، وكان الشطر الأكبر
من اللوحات الفنية يهدف إلى المحاكاة الأمينة والترديد الحرفي للمرئيات الطبيعية
الجميلة؛ لشخصياتٍ مليحةٍ، وشواطئ ساحرةٍ، ومناظر ريفيةٍ خلَّابة.
في قلب هذا الركود بزغت حركةٌ قَلِقةٌ مقلقة تنمُّ على حيوية جديدة، هي حركة
«الانطباعيين» الفرنسيين، أما اللفظة «انطباعية» فقد أطلقها النقاد على مجموعةٍ من
المصورين كان مونيه Monet فارسها الأشهر، وهي مأخوذة
من عنوان لوحة رسمها مونيه عام ١٨٧٢ وسمَّاها «انطباع» كناية عن مشهد لشروق الشمس.
وتمثل اللوحة شمس مدينة «الهافر» وهي تشرق وسط ضباب المدينة البحرية، ومن خلال
الانعكاسات الضوئية وبعض الزوارق. كذلك يمكن تأريخ بداية الانطباعية بالوقت الذي أقيم
فيه «معرض الفنانين المرفوضين» Salon des Refusés الذي
أذن الإمبراطور نابليون الثالث بفتحه عام ١٨٦٣، حيث عرض «إدوار مانيه» E.
Manet ثلاث لوحات ضخمة
أهمها لوحته الشهيرة (الغداء على
الخضرة) Déjeuner sur l’Herbe التي أثارت ثائرة الجمهور ضده.
لم يجد عامة الجمهور في لوحة مانيه سوى صورة فتاة متجردة تجلس إلى جوار شابين كاملي
الملابس، بينما جعلت صديقتها المتشحة برداء أبيض شفاف تغسل قدميها في غدير صافٍ ينساب
بين الأشجار، ولكن يبدو أن مانيه — كما لاحظ إميل زولا — لم يكن يعلق على «موضوع
اللوحة» كلَّ تلك الأهمية التي اعتاد الجمهور أن يعلقها، فإن «الموضوع»
subject matter لم يكن بالنسبة له أكثر من حجة أو
«ذريعة»
pretext للقيام ببعض الدراسات الفنية، أما
الجمهور فلم يكن يرى من أية لوحة غير «موضوعها». كذلك لم يقدِّم مانيه في لوحته شخصيات
تاريخية مستعارة من لوحات الأقدمين، بل صوَّر فيها شخصياتٍ باريسيةً حية مستمَدة من
صميم بيئته، ولم يسبغ على فتاته العارية ذلك الطُّهْر السحري المثالي الذي اعتاد
المصوِّرون أن يسبغوه، بل صوَّرها بصورة الأنثى التقليدية، كما أن مانيه رسم الأشكال
في
تلك اللوحة بطريقة الانتقال المفاجئ من الضوء إلى الظل، مستهينًا بالأسلوب التقليدي في
التصوير وهو الانتقال التدريجي في تجسيم الأشكال.
١
كانت تلك بدايات حيية ومفاتحات متردِّدة سرعان ما تبلورت في حركة واضحة وكسبت أنصارًا
عديدين، كان هؤلاء يولون موضوع اللوحة أهميةً ضئيلة ويجعلون هدفهم هو الوصول إلى تأثير
اللون والضوء والظل في موضوعات تجربتنا البصرية، وإذ انصبَّ اهتمامهم على مظهر الضوء
واللون في العالَم فقد ركَّزوا انتباههم على السطوح الخارجية للأشياء، وقلَّلوا من
تكتُّل الموضوعات المصوَّرة وصلابتها. إن انعكاس الشيء في الرسم هو عندهم حقيقةٌ لا تقل
عن حقيقة الشيء المعكوس نفسه؛ فالرؤية يجب أن تكون جديدة طازجة، والاتصال بالأشياء يجب
أن يكون ملامَسةً حيةً للمُعطيات الحسية في واقعها المباشر وحضورها الآني.
لقد أعاد الانطباعيُّون تعليمَ الناس كيف ينظرون إلى الأشياء من جديد، كما عملوا
على
صرفهم عن تعاليمَ فنيةٍ كثيرة. تخلَّى الانطباعيون عن مهمة إعادة بناء الماضي، وعن
التآليف المجازية، وعن التخيُّلات الرمزية،
٢ وأصبح يقال: «الانطباعية إنما تُثير الإحساس عوضًا عن إثارة المخيلة.» إن
الرموز، على حدِّ قول كلايف بِل، ليسَت أشكالًا دالة في عامة الأحوال، بل ناقلات خبر
شكلية، والرموز لا يبثُّها انفعال الفنان بل يخترعها فكرُه. إنها مادة ميِّتة في كائن
عضوي حي، وهي جاسئة مُغلقة؛ لأنَّها غير مغمورة في إيقاع «التصميم»
design. وليست الأساطير الشارحة، التي اعتاد رسَّامو الصور
التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم، بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية
التي أفسد بها كثير من الرسَّامين القديرين تصاميمهم. «إنَّ الفن الرمزي المحض — الفن
الذي يحتاج إلى مفتاح — ما هو دائمًا إلا بابٌ لخزانة، في حين أن الفن العظيم مصراعٌ
مُشرعٌ على التجربة العظيمة.»
٣
(٢) سيزان: ما بعد الانطباعية
Post-Impressionism
غير أن تركيز الانطباعيِّين على السطوح الخارجية للأشياء دفعهم إلى الإقلال من تكتُّل
الموضوعات التي يُصوِّرونها وصلابتها، مما جعل فنَّهم يبدو في كثير من الأحيان خافتًا
مائعًا رخوًا مُفتقرًا إلى الشكل والصلابة، وفي قلب هذه البوادر الهدمية للحقيقة
الواقعية في ظاهرها وُلدت الحاجة إلى إعادة بناء الواقع، وقد تم ذلك على يد سيزان Cézanne أبي الفن الحديث.
«ينظر إلى بول سيزان (١٨٣٩–١٩٠٦) في العادة على أنه أعظم شخصية مؤثِّرة في الفن
الحديث، وربما تُشير أعماله إلى ضرب من التوازي مع الحركة الوجودية؛ إذ نرى عنده نهايةً
للأشكال التقليدية في الفن وخلقًا لأشكالٍ جديدة، وهو يُمكننا من أن نرى الأشياء
بطريقةٍ جديدة، وفي علاقات جديدة … كان الفن في القرن الثامن عشر فنًّا عقلانيًّا
منظَّمًا، ولقد حاول الفن الرسمي في القرن التاسع عشر عبثًا أن يدعم هذا النظام العقلي
في مواجهة هجمات الفنانين اللامعين الأُصَلاء الذين استخدموا الفن بطرق مختلفة للتعبير
عن عواطِفهم الشخصية أو الإمساك بالجوانب الروَّاغة من الطبيعة، وكان آخر هؤلاء جميعًا
رجلًا عجوزًا غريبًا نشيطًا، كان يرى وهو يشقُّ طريقه بواسطة تجربة طويلة مُنعزلة،
راجعًا إلى نقطة البداية التي ينظر فيها إلى الفن على أنه إعادة تنظيم مؤكدة للعالم الطبيعي.»
٤
أسَّس سيزان حركةً بنائية أعادت للتصوير صلابته ومتانة بنيانه، واستخدم اللون من
أجل
التعبير عن «ثقل» الأشياء أو تكتُّلها، ولا يقلُّ عن هذا أهمية ذلك العمق الكبير الذي
اتَّسمت به لوحاته، وهكذا نراه يستطيع أن يَخلق تجاوبًا إيقاعيًّا بين العلاقات
المكانية التي تمتد من وراء مسطح الصورة، فتنتقل عين المشاهد فوق المسطحات المُتداخِلة
للوحة ويشعر نتيجة لذلك بالحركة والتوتُّر، هذه العلاقات «التشكيلية» بين الكتل
المصوَّرة تؤلف جزءًا من معنى «الشكل» عند سيزان.
٥
كان سيزان، كما يقول إتيين سوريو، يدَّعي تأييد الانطباعية وتدعيمها، في حين أنه
في
الحقيقة كان يؤسِّس شيئًا جديدًا كليًّا، فبعد ذلك النوع من صهر الانطباعية للأشكال
وتمييعها، برَزت نزعةٌ تُجسِّد الحنين إلى بنية الأشكال، لقد جعَل سيزان مِحوَر اهتمامه
التنظيم الشكلي للعناصر التصويرية: الخط واللون والمسطَّح؛ أي جعل التصوير تصويرًا،
وأهاب بما هو فريد في التصوير، وما لا يُمكن إدراكه على أيِّ نحو آخر، مما جعَله يلجأ
إلى تحريفٍ متعمَّد للشيء الطبيعي ويتخلَّى عن المحاكاة الحرفية
ويُقلِّل من أهمية الموضوع، ويُولي أهمية خاصة
للخطوط والألوان بمَعزِل عن وظيفتها التمثيلية. إنَّ الفن، بعد كل شيء، عالم قائم
بذاته، لا يتَّكئ إلى الحياة وليس مسئولًا أمامها، بل إنَّ له أهدافه وقيَمَه الخاصة،
وكلما تخلَّص الفن من آثار المُحاكاة ومن أوضار «التمثيل» representation زادت قيمته خلوصًا ونقاءً بوصفه فنًّا، وهو مما يَستدعي
بشدة قول «موريس دنيس» المأثور «يجب أن نتذكَّر أن لوحةً ما، قبل أن تكون ممثِّلة لجواد
حربي، ولامرأة عارية، أو لأي موضوع آخر، إنما هي في جوهرها مساحة مسطَّحة مغطاة بألوانٍ
مجموعةٍ على نسقٍ معين.»
وبعد حلول القرن العشرين اتَّجه الفنانون إلى استبعاد جميع آثار «التمثيل»؛ فالقيم
التشكيلية واللونية للتصوير يمكن أن تُستغل على أكمل نحو عندما لا يكون العمل مضطرًّا
إلى اهتمام بمشابهة الواقع، وفي عام ١٩٠٧ أتمَّ بيكاسو لوحته الشهيرة «صبايا أفينيون»
التي اعتُبرت ثورة في فن التصوير واستبصارًا جديدًا بالواقع، وانبثقت عنها الحركة
«التكعيبية» cubism، كانت الدراسات التمهيدية التي
قام بها بيكاسو قبل إنجاز اللوحة نهائيًّا تُلخِّص تطور هذه الثورة؛ ففي البداية كان
المقصود من العمل أن يكون تمثيليًّا، بل كان له شيء من الدلالة الأخلاقية، وفي الدراسات
التالية أخذ البناء الشكلي للعمل يزداد أهمية، حتى انتهى الأمر إلى حذف العنصر الأخلاقي
لصالح تكوينٍ يتألف من هيئة شكلية خالصة، تزداد بالتدريج، أثناء تطورها، تجريدًا
وانتزاعًا للقوام الإنساني، وفي العمل النهائي انقسمت الوجوه والأجسام إلى تصميمات من
الزوايا والمسطحات.
وبالمثل فإن الألوان في أجزاء الجسم كانت في كثير من الأحيان بعيدة كل البُعد عن
أية
مشابهة مع الحياة، كانت هذه اللوحة إرهاصًا بالحركة التكعيبية التي أوغلت في التجريد
وجعلت تحلِّل الموضوعات الطبيعية إلى تصميمات للسطوح، بطريقة تَبلُغ في كثير من الأحيان
من الابتعاد عن الواقع حدًّا لا نستطيع معه أن نعرف ما هو الأنموذج
model إلا عن طريق عنوان اللوحة، غير أن هذا أمر لا أهمية له،
وكما يقول ليجيه
léger «إنَّ السؤال: ما الذي يمثله
هذا؟ هو سؤال لا معنى له.» والمهم في الأمر هو خلق تصميم هندسي يتميَّز في صميمه بأنه
يجذب العين ويَأسِرُها، وأخيرًا تم التخلِّي عن أية علاقة ولو واهية بالواقع؛ ففي الفن
«اللاموضوعي» مثل فن كاندينسكي
Kandinsky وموندريان
Mondrian و«التفوقيِّين»
Superematists لا يوجد موضوع
للتصوير على الإطلاق؛ فاللوحة إنما هي تشكيل من الخطوط الملونة والأقواس وغيرها من
الأشكال، وهي لا تصور أشياء أو أشخاصًا، ومن هنا كان الفنان يضع لها عناوين مثل «خط
محوري» أو «تكوين بالأبيض والأسود والأحمر»، يقول كاندينسكي: «إنَّ الفنان يُحرِّر نفسه
من الموضوع؛ لأنَّ الموضوع يحول بينه وبين التعبير عن نفسه بالوسائل التصويرية الخالصة
وحدها.»
٦