الفصل السادس
الشَّكل في العمل الأدبي
لا تعود الكلمات تابعةً حصرًا للأشياء التي تُعبِّر عنها، بل تعمل لحسابها، تلعب،
«تمارس الحب»، كما يقول بريتون.
موريس بلانشو
يمثِّل الأدب صعوبةً خاصةً أمام الشَّكليين؛ فالوسيط الفني في حالة الأدب — أي الكلمات
—
هو بطبيعته «تمثيلي» representative يشير إلى غيره من
عناصر الحياة ويحيل إلى سواه من مكوِّنات العالَم الخارجي وأحداثه. للكلمات معانٍ تقع
خارجها، وهذه المعاني هي ما يُهمُّنا بالدرجة الأساس، فنحن لا نقرأ الرواية لكي نستمتع
برؤية كلماتها مرصوفة على الصفحة مثلما نستمتع بمرأى الخطوط في لوحة تجريدية، ولا نستمع
إلى
القصيدة لكي نطرب لمجرد جرسها الصوتي مثلما نطرب لمقطوعةٍ موسيقية؛ فالألفاظ في عامة
الأحوال تصرفنا عن ذاتها وتُحِيلنا إلى معانيها؛ أي إلى العالَم-الحياة.
يقول بِل: «إنَّ بوسع الأدب أنْ يعيش على الأفكار معزَّزًا مكرمًا. فتاريخ فينلي Finlay للإمبراطورية البيزنطية، على سبيل المثال، لا يثير
انفعالًا يُذكر، غير أن بوسعنا أن نَسلُكَ فينلي في زمرة الأدباء. كذلك الحال بالنسبة
لهوبس
ومُمسِن وسنت بيف وصموئيل جونسون وأرسطو، فبإمكان الفكر العظيم بغير شعور عظيم أن يصنع
أدبًا عظيمًا، وبين أقيَمِ ما لدينا من كتب هناك شطرٌ كبير لا ترجع قيمته إلى خصائصه
الانفعالية، وحتى حين يستند العمل العظيم إلى خاصية انفعالية، فإلى أي حدٍّ يكون هذا
الانفعال إستطيقيًّا؟ إنني أعرف أن المضمون الفكري والواقعي للشعر العظيم لا يكاد يسهم
في
دلالته بشيء؛ فالمعنى الحقيقي للكلمات في أغنيات شكسبير، وهي أنقى ما بلغه الشعر في اللغة
الإنجليزية، هو في عامة الأحوال إما تافهٌ أو مبتذل:
تعالَ، تعالَ إليَّ أيها الموت
ووَارِني تحت سَرْوةٍ حزينة
واغربي، اغربي عني أيتها الحياة
فقد قتلَتْني فتاةٌ قاسيةٌ جميلة
هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر ابتذالًا من هذا؟ … إنَّ موسيقى الشَّكل هي التَّي
تصنع
معجزة الشعر العظيم، فالشاعر يُعبِّر في شكل لفظي عن انفعال لا يتصل بالألفاظ التي وضعها
إلا صلة بعيدة.
غير أنَّه يتصل بها على أيَّة حال، وهو مِن ثَمَّ ليس انفعالًا فنيًّا خالصًا. إن
الشكل
ودلالته ليسا كلَّ ما في الشعر؛ فالشكل والمضمون في الشعر ليسا شيئًا واحدًا، ورغم أنَّ
بعض
أغنيات شكسبير تَقترب من الفن الخالص، فهي لا تخلو في واقع الأمر من أُشابة. إنَّ الشكل
في
الشعر مُثقَل بمضمون فكري، وهذا المضمون هو حالةٌ نفسية تَمتزج بانفعالات الحياة وتَستند
إليها؛ ومن هنا يعجز الشعر، رغم ما فيه من مَواجِد، عن أن ينقلنا إلى تلك الذُّرَى العالية
من الغِبْطة الإستطيقية التي ينقلنا إليها الشكلُ البصري والموسيقي الخالِص بفضل انفصاله
عن
الحياة البشرية.»
لقد خلص كلايف بِل إلى أن الأدب يُمثِّل حالة خاصة من حالات الفن، وأنه لا يمكن أن
يكون
فنًّا خالصًا، ولا يُمكن لتذوقه أن يكون تذوقًا نقيًّا؛ ذلك أن عنصر التمثيل ملازمٌ له
كظله، والمضمون الفكري يُثقله ويجعله لصيقًا بالحياة وأحداثها وانفعالاتها. بل إن صفة
«أدبي» literary عند أغلب الشكليين كنت تحمل دلالة
ازدرائية صريحة حين يوصف بها عملٌ من أعمال الفن البصري، فهي تعني أن العمل يُدلي بأفكارٍ
ويوحي بمواقف ويَروي قصصًا، وهي أمورٌ تنال من نقائه وخلوصه بوصفه فنًّا. وكان سيزان
يحذِّر
الفنانين من الانسياق وراء التأمُّلات الفلسفية والتعبيرات الأدبية القائمة على التجريدات
الذهنية؛ فالفن عنده يعني أسلوبًا في المعرفة متمايزًا عن كلٍّ من المعرفة العلمية والمعرفة
الفلسفية، والفن عنده يجب أن يتحدث بلغته لا بلغة غيره، ولغة الفن هي الخطوط والألوان
والأشكال، يُجسِّم بها الإحساسات والإدراكات بطريقته الخاصة، ويُعبر بها عن عمق الحقائق
الوجودية التي لا سبيل إلى التعبير عنها بلغة التصورات الذهنية والمفاهيم العلمية.
غير أنَّ الأدب فنٌّ عظيم نحسُّ إزاءه بانفعال إستطيقي لا شك فيه، وهو انفعال لا
يأتي به،
بحكم التعريف، إلا الشكل الدال؛ ومن ثَمَّ فقد كان ينبغي على بِل ألَّا يتردَّد أمام
الأدب
وألَّا يُؤثِر الحَذَر تجاهه، وأن يمدَّ نظريته لتتسع لفن الأدب بقدر ما اتَّسعت لفن
التصوير، وهذا ما فعله رفيقه فراي الذي أكَّد أن النظرية الشكلية تَسَع جميعَ الفنون؛
فالعمل الفني، أيًّا كان نوعه، هو بناءٌ شكلي في المقام الأول، ونحن في فن التصوير لا
نستجيب لِلَّون الواحد منعزلًا، وإنما نستجيب للعلاقات القائمة بين جميع الألوان. وبالمثل
فإن المهم في التراجيديا ليس الشدة الانفعالية للحوادث المصوَّرة، وإنما الإحساس الحي
بحتمية وقوعها. إنَّ للتراجيديا، كما يقول ف. إ.
هاليداي F. E. Halliday في كتابه «خمسة فنون»، شكلًا، فهناك نمطٌ من التوتُّرات يَنبثِق
عن عدد لا حصر له من الحوادث التي تبدو أول الأمر مُفتقرةً إلى التنظيم والتحدُّد، ويعمل
هذا النمط على دفعنا قُدمًا، وأخيرًا يصل إلى النهاية المحتومة، فهل يُمكن أن تكون الحوادث
المصورة على هذا القدر من الحيوية والتأثير لو لم يكن لها هذا النمط الشكلي؟
ولعلَّ الشكل في فن الشعر أكثر وضوحًا وخلوصًا مما هو في الرواية والمسرحية، فرغم
أن
الشعر يستخدم الكلمات ويحمل دائمًا مضمونًا ذهنيًّا وينطوي على معان عقلية؛ فإن الكلمات
في
الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق وتتخفَّف من ماضيها ولا تعود أداةً تخدم الفكر وتُحيل
إلى
معانٍ، إنها تَنصهر وتكتسب الشكل وتتحوَّل إلى غايةٍ وتأخذ صفة الرمز المُلتحِم بمعناه،
وكأنما الشعر عودةٌ باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه العودة طرائق كثيرة
منها الوزن (أو الموسيقى أيًّا كان نوعها)؛ فالوزن، كما أشار كرورانسوم، هو طريقة لفرض
الصورة صوتيًّا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في معاني الألفاظ نفسها، وبذلك
يخلق
الوزن نوعًا محببًا من التشتيت يجعل من التلقِّي تجربةً جمالية، كما أن للوزن تأثيرًا
سيمانتيًّا (دلاليًّا) هائلًا، فهو يَضطر الشاعر إلى أن يُضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى
يسلم له النغم، ويَلوي بالتركيب النحوي ليستقيم له العَروض، وفي هذه العملية يسترخي المعنى
ويتفكَّك ويُحقِّق الشعر ذاته؛ فيكون لغةً بدائيةً صورية شيئية غامضة، أفضل تسجيلًا لكثافة
الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة، ولعلَّ هذا هو السبب في أن الإلهام الذي ينبثق في وعي
الشاعر فيعبر عنه بالكلمات لا يكاد يَختلف عن الإلهام الذي يأتي المصور والموسيقيُّ
فيُعبِّران عنه بالألوان والأنغام، ولعل هذا هو السبب في أن القصيدة تعني دائمًا أكثر
مما
تَعنيه ترجمتها النثرية في لغةٍ أخرى؛ من حيث إن بناءها الشكلي والموسيقي قد جعل منها
«رمزًا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
١
ربما يَحتمل متذوِّق الأدب (بوصفه فنًّا) عبئًا كبيرًا يفوق ما يحتمله متذوق الفنون
الأخرى. إن عليه أن يُخلص إدراكه قدر المستطاع من العناصر الخارجة عن الموضوع، وما أكثرها،
لكي يقع على الشكل، وعليه ألا يلتمس المعاني والدلالات العقلية منعزلةً منفصلة، بل يلتمسها
كما تتجسَّد في الشكل؛ فقد تُمده المعاني والدلالات برضًا ذهني ومتعة فكرية، غير أنها
عاجزة
عن أن تُمدَّه بالوجد أو النشوة الإستطيقية؛ فالوجد الحقيقي لن يكون في غير الشكل.
يقول الشاعر السوري د. علي أحمد سعيد (أدونيس) في كتابه «سياسة الشعر» بمعرض ذكرياته
مع
واحدٍ من خيرة شعرائنا العرب: «وحين جاء دوري رغب إليَّ بإلحاحٍ أن أقرأ ما كتبتُه عن
الحسين (المسرح والمرايا، ١٩٦٨). مقطوعات صغيرة كتبتُها في القاهرة، وتحديدًا حول مسجد
الحسين، وفي حين أبدى إعجابه الكبير بها، كان فيما يبدو لي يتحفظ إزاء قصائد أرى تُشبهها
فنيًّا، وتساءلت: إن كان معجبًا بهذه المقطوعات فلماذا لا يعجب بما يشابهها؟ وفي محاولة
تفسير هذا التناقض كنت أقول: ثمة نوعان من الإعجاب بعملٍ شعري ما: الإعجاب الفني الخالص،
والإعجاب الانفعالي — التعاطفي،
٢ يقول الأول على لذة البناء والإتقان والتناسق، ويقوم الثاني على لذة التذكر
والتداعيات والتطابق بين ما في نفس القارئ وما يثيره العمل فيها، وكان إعجابه من النوع
الثاني.»
٣
أليس هذا قريبًا مما يقوله الشكليون من أن الإدراك الإستطيقي النقي يجب أن ينصب على
الشكل
وحده، وأن الانفعال الإستطيقي شيءٌ لا يقدر على إحداثه إلا الشكل الدال، وأن إهدار الانتباه
كله في العناصر التمثيلية والموضوع المصور والمعاني الفكري المنفصلة يفوت علينا الانفعال
الإستطيقي ولا يَجلب لنا غير الانفعالات العادية للحياة؟
(١) يظل الموضوع خارج القصيدة
ربما يستدعي هذا الحديث إلى ذاكرتنا قول الناقد الكبير أ. س. برادلي A. C. Bradley «يظلُّ الموضوع خارج القصيدة» …
فالموضوع الذي تدور حوله القصيدة لا يَعدو كونه مادةً نيئةً تخرج بطبيعتها عن نطاق
الجمال بمعناه الدقيق، الموضوع ليس هو القصيدة، والموضوع لا يَضمن القصيدة، إنما
القصيدة هي الموضوع إذ يتَّحد بالشكل، وليس ما يمنع أن تُكتَب قصائد عظيمة في موضوعات
مُسِفَّة، ولنا في ديوان الحسن بن هانئ (أبي نواس) شواهد لا تُحصى على ذلك، فقد كتب هذا
الشاعر الفذ قصائد غايةً في الجودة تدور حول موضوعاتٍ غايةٍ في الوضاعة! وتأويل ذلك أن
«التمثيل» يتحوَّل في هذه القصائد إلى «تعبير»؛ بحيث يَنصرف انتباهنا تمامًا عن
الموضوع، وربما نسيناه كليَّا؛ إذ يُمطرنا ابن هاني بأشكاله الدالة التي تُعبِّر عن
انفعاله أدق تعبير وأقومه، وتَرمي بنا في وجدٍ إستطيقي مؤكَّد، إننا هنا بإزاء «رموز
حقيقية» و«صواب إستطيقي» يغمرنا بانفعال الفن ولا يَغمرنا بانفعالات الحياة، ها هنا
يتحول اللهو في مصهر الفن إلى جد (كأنما لامَس حجر الفلاسفة) وها هنا يتحوَّل العهر في
مطهَر الفن إلى قداسة.
في عام ١٨٦٥ قدم مانيه إلى صالون باريس لوحته الشهيرة «أوليمبيا»، وهي تُمثِّل فتاةً
متجرِّدة قد استلقَت على فراشها، وقد ظهرت خلفها زنجيةٌ تحمل طاقةً هائلة من الورود،
وبالطرف الأقصى من الفراش قطٌّ أسود صغير قد استبدَّ به الذعر، أضفى مانيه على هذه
الفتاة طابع الاستهتار وعلى نظراتها طابع الدعوة الصريحة إلى الفجور والتخلِّي عن أي
وازع من الحياء والطهر، مما أحنق عامة الجمهور وأثار غضبهم، غير أن العديد من نقاد الفن
وجدوا في «الأوليمبيا» عملًا عظيمًا، وقال عنها إميل زولا بحقٍّ إنها أعظم ما أنتج
مانيه؛ ذلك أنها تضع تحت أبصارنا جسدًا رقيقًا يُثير في نفوسنا مشاعر الهيبة والجلال،
وكأننا بإزاء جسدٍ روحي قد تطهَّر من أدرانه فاستحال إلى شيءٍ قدسي له كرامة الموضوع
السحري الذي لا يُمس، إنه «الفن» وقد أحال نموذجه المفضَّل فكتورين ميران، على حدِّ قول
م. فلورنسون، «إلى صنم أو كاهنة أو مومياء، فهذه اليد السحرية التي تباعَدت أصابعها فوق
أعلى الساق، وذلك الرباط الأسود الذي يُحيط بالرقبة فيفصلها عن باقي أجزاء الجسم، وتلك
النظرة الفاحصة التي تُحدِّق في المجهول بكل ثبات واتزان، وذلك البياض الناصع الذي يكسو
جسد الغانية، كل هذا يُضفي على الأوليمبيا حالةً مجيدة من الطهارة والروحانية.»
٤
وليس ما يمنع، من الجهة الأخرى، أن يُصنع فنٌّ هابط حول موضوعات سامية، وأن تُكتب
قصائد تافهة في موضوعات جليلة؛ ومن أمثلة ذلك ما كان يُكتب لثوار الجزائر إبان التحرير،
فقد دُبِّجت مئات القصائد في هذا الغرض العظيم، كُتبت بشعورٍ صادق وانفعالٍ مشبوب، غير
أنها، ببساطة، قصائد تافهة؛ لأنها لم تجد الشكل الدالَّ ولم تتحوَّل إلى «رموز حقيقية»،
لقد أمدتنا بمعاني الحياة وانفعالات الحياة، ولكنها لم تُمدَّنا بالشكل الدال ولم تبثَّ
فينا انفعالًا إستطيقيًّا وما كان لها أن تفعل، وقد صدق الشاعر نزار قباني حين قال عن
هذه القصائد «وددتُ لو لم تصل هذه المخلوقات الشوهاء إلى ثوار الجزائر فإنهم بدونها
بألف خير»، وصفوة القول أن طبيعة ما يتمثل في العمل الفني وقيمته تختلفان تمامًا عما
هما عليه خارج نطاق الفن.
(٢) يبقى الموضوع خارج القصيدة
وهنا أيضًا يلتقي بل وبرادلي على صعيدٍ واحد، وإن كان بل يتحدث في فن التصوير على
وجه
الخصوص: «على كل فنانٍ أن يختار «مشكلته» الخاصة، وله أن يستمدَّها من حيثما شاء ما دام
قادرًا على أن يجعل منها البؤرة لتلك الانفعالات الفنية التي شرع في التعبير عنها،
والحافز لتلك الطاقات التي سيحتاج إلى التعبير عنها، وما يجب علينا أن نتذكره هو أن
«المشكلة» (موضوع اللوحة في حالة فن التصوير بصفة عامة) أمرٌ غير ذي بالٍ في حد ذاته.
إنها لا تعدو أن تكون إحدى وسائل الفنان للتعبير أو الإبداع، وفي أي حالة خاصة قد تكون
إحدى المشكلات خيرًا من الأخرى كوسيلة، تمامًا مثلما أن قماشة لوحةٍ أو صنفًا من
الألوان قد يكون أفضل من غيره، فذاك أمرٌ يتوقف على مزاج الفنان وقد لا نُنازعه فيه،
ليس «للمشكلة» قيمة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للفنان «فالمشكلة» هي الاختبار العامل
«للصواب» المطلق: هي المقياس الذي يَقيس ضغط البار. إنَّ الفنان يذكي ناره ليجعل المقبض
الصغير يدور، وهو يعرف أن آلته لن تتحرَّك حتى يَجعل المؤشِّر يبلغ العلامة، إنه يتقدم
تدريجيًّا إليها وبواسطتها، غير أنها لا تدير المحرك.»
٥
(٣) الشعر التجريدي
وقد بلَغ التجريد عند أحد الشعراء مبلغًا جعل الناقد د. علي أحمد سعيد (أدونيس) يقول
فيه: إنَّ شعره «يَحيد عن الموضوع، بالمعنى الذي اصطلَح عليه، أو لنقل إن «المعنى»
وفقًا للمُصطلح الشائع، ليس بالنسبة إليه شيئًا تفصح عنه اللغة، شيئًا ماديَّا موجودًا
لذاته خارجها، ليسَت اللغة، بتعبير آخر، وسيلةً لنقل شيء مُنفصِل عنها قائم في الطبيعة
أو العالم الخارجي … إنما المعنى في شعره محايثُ
٦ للكلمة، بل هو الكلمة ذاتها؛ إذ ليس لقصيدته موضوعٌ أو مرجعٌ خارجها، وإذا
كان لا بد من الكلام على «المعنى» في هذا الشعر، فهو حوار الكلمة مع جارتها، أو هو ما
تتهامَس به اللغة، إنه نوعٌ من الصلاة تتعالى في أصوات الكلمات
٧ … الشعر هنا، بتعبير آخر، موسيقى: لا يقوم على فكرة محددة واضحة، وإنما
يقوم على عناصر تترابط إيقاعيًّا، في ما يُشبه الترابط الهندسي، والقصيدة، إذن، هي هنا
إيقاع كلمات … كأن قصيدته طرازٌ معماري بالكلمات، وحين تدخل إليه تشعر كأنك تدخل
هيكلًا: تدخل في غلالةٍ من الزمن لكي تُعانق جسد الأبدية، ربما نَلتمِس هنا صحة القول:
إنَّ القصيدة شكل، وإنَّ الشَّكل هو وحده الدال.»
٨
«واضح إذن كيف أن هذا الشعر يُحيد عن العالم — عالم الأشياء الدبقة العابرة، وكيف
أنه
حوارٌ بين الكائن والكلام، وكيف أنَّ الدلالة فيه هي ما تتبادَله الكلمات من همس حينًا،
ومن صراخٍ حينًا، ومن صمتٍ حينًا.»
٩
«في هذا المنظر يتَّضح معنى التجريد، كمفهومٍ فني، فهو كبحثٍ عن الجوهر، محاولةٌ
لرؤية ما لا يُرى، وهو إذن تجاوزٌ للطبيعة وأشكالها، وخلق عالمٍ من الأشكال المحضَة،
أو
هو رد الأشكال كلها إلى جوهرها، إنه تَشفيفٌ للمادة، لا يريد منها غير الجوهر، الأشياء
المادية فوضى تشوِّش وزوال، رمادٌ مُبعثر، من هذا الرماد يلتقط التجريد إشارة النار،
فمشروعه بصيريٌّ لا بصَري، إنه مشروع اكتناه.»
١٠
«نحو ما لا يُرى: تلك هي طريق التجريد، الطريق إلى الله، لا مجال، إذن، لمحاكاة
الطبيعية أو مخلوقات الله، فهذه المحاكاة هي، إبداعيًّا، انخراطٌ في رؤية تَظلُّ، مهما
كملت، دون الأشياء وتحتها،
١١ وهي، دينيًّا، عملٌ يُغلب النفس (الأمارة بالسوء) على الروح، والفردي على
الكوني، والمادة على الرمز، ولئن كان لا بد هنا من الكلام على المحاكاة، فإنها محاكاةٌ
لفعل الخلق، دلالةً وحركيةً، وليست محاكاةً للشيء أو للمخلوق.»
١٢
«هكذا نصفه بأنه شعرٌ — هندسة: شكلٌ جميلٌ بذاته ولذاته، وهو، في جماليته هذه، فعالٌ
ودال — مع أنه لا يعكس «واقعًا» ولا يحمل «قضية»، والكتابة هنا ليست ترويضًا للغة وحسب،
شأن الترويض الذي يُمارس على الخطوط، وإنما هي أيضًا إرادة تنظيم وتناغُم، إرادة تشكيل
جمالي، والقصيدة هنا بنيةٌ/نسق، إنها العلم بالجمال، إنها علم جمال.»
١٣
(٤) تصنيف سوريو للفنون
يصنف إتيين سوريو
E. Souriau الفنون وفقًا للكيفيات
الحسية الغالبة في الأعمال الفنية والتي يُسميها
qualia، فاللون مثلًا هو الصفة الغالبة على التصوير،
والبروز أو الحجم هو الصفة الغالبة في النحت، والحركة في الرقص، والصوت الخالص في
الموسيقى، وقد خلص سوريو إلى حصر سبع كفيات أساسية هي الخطوط والأحجام والألوان
والإضاءة والحركة والأصوات المفسرة في اللغة والأصوات الموسيقية الخالصة، وعلى أساس
كلِّ كيفية من هذه الكيفيات قدم سوريو فنين اثنين أحدهما يَنتمي لفئة الفنون المحاكية
أو التمثيلية والآخر ينتمي لفئة الفنون التجريدية أو الموسيقية؛ أي أنه سلم ضمنيًّا،
ولمُتطلبات مذهبه في الفنون، بهذه التفرقة بين فنونٍ تحاكي أو تُمثِّل موضوعًا وفنونًا
تجريدية لا تُمثِّل شيئًا، واستخرج ارتباطًا قائمًا على أساس الكيفيات الحسية بين
أزواجٍ من الفنون التمثيلية والفنون غير التمثيلية:
-
فبالنسبة للخطوط هناك فنٌّ تجريدي هو الزخرفة (الأرابسك) وفن تمثيلي هو
الرسم.
-
وبالنسبة للأحجام هناك العمارة (فن تجريدي) والنحت (فن تمثيلي).
-
وبالنسبة للألوان هناك تلوين خاص (تجريدي) وتصوير ملوَّن
(تمثيلي).
-
وبالنسبة للإضاءة هناك إضاءة إسقاط ضوئي (تجريدي) وسينما
(تمثيلي).
-
وبالنسبة للحركة هناك الرقص (تجريدي) والتمثيل الصامت (تمثيلي).
-
وبالنسبة لأصوات اللغة هناك قواعد النظم (تجريدي) وهناك الأدب والشعر
(تمثيلي).
-
وبالنسبة للأصوات الموسيقية هناك الموسيقى (تجريدي) والموسيقى الدرامية
أو الوصفية (تمثيلي).
ولست أعني حين أعرض تصنيف سوريو للفنون أنه التصنيف الأفضل أو الصحيح، وإنما أعرضه
لأنه يحصر الفنون بطريقة تفي بغرضي وتُفيدني في تبيان ما أريد تبيانه، لقد حصَر سوريو
الفنون جميعًا وفقًا لمقولتي «التمثيل» representation
و«التجريد» abstraction اللتين تتعلَّقان بالضرورة
بمقولةٍ ثالثة هي مقولة «الكيفية» وهي قريبة حتى التطابُق مما نعنيه بالوسيط الحسي
medium، وما أريد أن أقوله هو أننا حتى لو استخدمنا
مصطلح سوريو تبقى الشكلية نظريةً صائبة ويبقى «الشكل الدال» هو القاسم المشترك بين
الفنون جميعًا، تمثيلية وغير تمثيلية؛ فالفنون التمثيلية نفسها ستكون في النهاية فنونًا
بما هي شكلٌ لا بما هي تمثيل، وستؤدي إلى الانفعال الإستطيقي بفضل الشكل الدالِّ وحده،
والفنون التمثيلية جميعًا، وأولها الأدب، هي فنونٌ بقدر ما تندمج عناصرها التمثيلية في
شكلٍ دال.
وبتعبير آخر يمكن أن أقول: إنَّه في جميع الفنون التمثيلية ينبغي أن يتحوَّل العنصر
التمثيلي ذاته إلى وسيط حسي آخر! أقترح أن نسميه «وسيط الدرجة الثانية» second-order
medium،
يُصاغ في شكلٍ دالٍّ، ذلك الشكل الذي سيقع عليه الإدراك الإستطيقي، والذي سيُسبغ على
العمل قيمته الجمالية، فإذا كانت الفنون بطبيعتها هي إما فنون تمثيلية وإما فنون
تجريدية، ففي جميع الأحوال لن يكون الفن فنًّا إلا بالشكل الدال.
هذه إذن صياغة أخرى للنظرية الشكلية تتجنَّب المصاعب وتسد الثغرات، أطرحها لا كبديلٍ
لصياغة بل، وإنما كنموذج إضافي يُكملها ويسهل عليها أن توضِّح اللبس وتصمد لكل
الانتقادات القائمة على سوء الفهم أو غموض الألفاظ، وبذلك تبقى الشكلية نظريةً وافيةً
تنطبق على جميع الفنون بما فيها فن الأدب؛ فالشكل الدال قاسمها المشترك، كل ما في الأمر
أن الوسيط في الفنون التجريدية بسيطٌ وفي الفنون التمثيلية مركب.