يُفرِّق كلايف بِل تفريقًا حاسمًا بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا، وبينما
هو
يؤكِّد ثقته الكبيرة في فرضيتِه الإستطيقية (وهي أن الخاصية الجوهرية في العمل الفني
هي
الشكل الدال؛ أي ضروب معيَّنة من حبكة الخطوط والألوان من شأنها أن تثير في المتلقِّي
وَجْدًا إستطيقيًّا) فإنه يدفع بفرضيته الميتافيزيقية بتحفُّظ وحذر، ويُؤكِّد مرارًا
وتكرارًا أنها مجرد احتمال لا يبلغ مرتبة اليقين على الإطلاق، من ذلك مثلًا
ما قاله في فصل «الفن والتاريخ» بالنص الحرفي: «لقد كانت
فرضيَّتي الإستطيقية (أنَّ الصِّفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال) قائمةً على
خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبرتي الإستطيقية على ثقة. أما عن فرضيتي الثانية (أن الشكل
الدال هو التعبير عن انفعالٍ خاص تجاه الواقع) فلست واثقًا منها بحال.»
لماذا تتأثَّر مشاعرنا كل هذا التأثر حِيالَ ضروبٍ معينة من تضام الأشكال؟
يبدو مُمكنًا في رأي كلايف بِلْ أنَّ الشكل المبدع يهزُّنا بهذا العمق؛ لأنَّه يُعبِّر
عن
انفعال مبدعه ويوصل إلينا هذا الانفعال؛ أي إن من المحتمل أن يكون التعبير عن انفعال
هو ما
يمنح العمل الفني تلك القدرةَ على إثارة الوَجْد الإستطيقي. فتجاهَ أي شيء إذن يَشعُر
الفنان بذلك الانفعال الذي يُفترض أنه يُعبِّر عنه؟ يبدو من وجهة نظر بِل أن الفنان في
لحظات إلهامه يحسُّ انفعالًا تجاه الأشياء بوصفها «أشكالًا خالصة»؛ أيْ بوصفها غاياتٍ
في
ذاتها، لا بوصفها وسائلَ ملفَّعةً بالارتباطات؛ أي إن الفنان في لحظة الرؤية الإستطيقية
يرى
الأشياء مبرأةً من كل ضروب الاهتمام السببي والطارئ، ومن كل ما يُمكن أن تكون قد اكتسبَتْه
من طيلة صحبتها لبني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ ومِن ثَمَّ يحسُّ دلالتها كغايةٍ
في
ذاتها.
وحين يتحدَّث بِل عن دلالة الشيء بوصفه غايةً في ذاته، فإنه يقترب كثيرًا من مفهوم
المثاليِّين عن «الشيء في ذاته» (النومين) أو عن «الواقع النهائي»
ultimate reality،
٢ ويكون جوابه عن سؤاله الميتافيزيقي: «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمُّعات معينة
من الخطوط والألوان؟» هو: «لأن بقدرة الفنانين أن يعبِّروا بتجمعات الخطوط والألوان عن
انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون.» ويترتب على ذلك أن «الشكل الدال»
Significant Form هو الشكل الذي نظفَر من ورائه
بحسٍّ بالواقع النهائي.»
هذه هي الفرضية الميتافيزيقية باختصار شديد، دفع بها كلايف بِل بتحرُّزٍ وتردُّد
يَنُمَّان عن حنكةٍ منطقية وتواضُعٍ فلسفي. على أن ما همس به بِل همسًا قد صادف فيما
بعدُ
مَن يَصدَع به ويعلنه بحسم وتوكيد، فهذا فيدلر
Fiedler
يؤكِّد أن أعمال الفن البصري تُجسِّم في موضوعات عينية صورةً قائمةً بذاتها من صور التجربة
الحسِّية، وهناك أشخاص مُمتازون قد جادت عليهم الطبيعة بمنحةٍ نادرة، فوهبتْهم من رهافة
الحس ورقة الشعور ما يستطيعون معه أن يُحقِّقوا ضربًا من الاتصال المباشر بالطبيعة، ومثل
هؤلاء الأشخاص لا يدركون من أي موضوع من الموضوعات بعضَ العلاقات الجزئية المُنبعثة من
بعض
التأثيرات المَحدودة، بل هم يدركون — على العكس من ذلك — صميمَ وجود الموضوع؛ وبالتالي
فإنهم يَشعُرون به ككل قبل أن يعمدوا إلى تجزئة هذا الشعور العام وإحالته إلى بعض الإحساسات
المنفصلة. ويُبيِّن هربرت ريد أن الإنسان حين يُقدِم على إبداع أي عمل فني، فإنه إنما
يُقبِل على معركة يُصارع فيها الطبيعة، ولكن لا من أجل وجودِه المادي، بل من أجل وجوده
الذهني. ومن هنا فإن بداية العمل الفني ونهايته إنما تَكمنان في عملية إبداع الأشكال
أو
الصور التي يستطيع الفنان من خلالها الوصولَ إلى قلب الوجود! وليس من شأن الفنان أن يَخلق
عالَمًا ثانيًا يضعه إلى جوار ذلك العالَم الآخَر الذي يوجد بذاته دون حاجة إلى نشاط
الفنان، وإنما يَجيء الفن فيُقدِّم لنا العالَمَ نفسَه وقد أعاد خلقه الوعيُ الفني،
وكأنَّما هو قد صُنِع خصيصًا من أجل الفنان وبفضل الفنان! وهذا كارل ياسبرز يقول: إنَّنا
لا
نكوِّن خبرةً صحيحةً عن الطبيعة والإنسان، اللهم إلا حين نلتقي بهما في صميم ماهيتهما
على
نحوِ ما تكشف لنا عنها فنونُ النحت والرسم والتصوير.
٣
(١) بين الفرضية الميتافيزيقية والمحاكاة الأرسطية
إن فرضية بل الميتافيزيقية بمثابة عقد رباطٍ وثيقٍ بين الفن والحياة، قد يُظن «ردة»
إلى نظرية المحاكاة، وعودةً صاغرة إلى حظيرة أرسطو بعد تمرُّدٍ طفولي على المعلِّم
الكبير، والحق أنَّ الفرضيَّة الميتافيزيقيَّة تحمل شُبهة التناقُض مع الفرضية
الإستطيقية، ولكن لا تناقُض هناك إلا لمن يخلط الأمور، ويقع في الخطأ المقولي الذي
ألمعنا إليه آنفًا؛ فقد فصل بِل فصلًا صارمًا بين نطاق الإستطيقا ونطاق الميتافيزيقا،
وجعل كل حديث ميتافيزيقي شيئًا خارجًا عن الموضوع من الوجهة الإستطيقية، ونفَى نفيًا
قاطعًا أن يكون حديثه عن علاقة الفن بالحياة تتمة لنظريته الإستطيقية، إنه حقًّا
يتلقَّى على أرض الميتافيزيقا بالمحاكاة الأرسطية، محاكاة الماهيات، غير أن هذا اللقاء
العابر القَلِق لا يمسُّ الإستطيقا الشكلية من قريب أو بعيد.
يقول رولو
ماي
R. May، عالم النفس والمفكِّر الوجودي الأمريكي، في كتابه «شجاعة
الإبداع»: إنَّ الإبداع يَحدث «في فعل من المواجهة»، بذلك يكون ماي قد دخل هو أيضًا أرض
الميتافيزيقا ليَرتحِل، على حدِّ تعبير كلايف بِل، في مناخ غير مُستقِر، ويُردف ماي:
«ها هو سيزان يرى شجرة، إنه يراها بطريقةٍ لم يرها بها أحدٌ من قبله قط، والتَّجربة
التي يمر بها، والتي من الممكن أن يقول عنها بلا ريب هي «أن الشجرة قد أطبقَت عليه.»
شموخ الشجرة وتسامقها وانتشارها الحاني الأمومي، والتوازن الرقيق في تشبُّثها بالأرض،
كل هذا، وكثيرٌ غيره، من سمات الشجرة قد امتصها إدراكه الحسي، وشعر بها من خلال بنيته
العصبية كلها، وهذا كله شطر من الرؤية التي تجتازها تجربته، هذه الرؤية تقتضي حذفًا
لبعض جوانب المشهد وتوكيدًا أكبر على جوانب أخرى، وما ينتج عن إعادة ترتيب هذا كله، غير
أنه أكثر من مجموع هذا كله، ويأتي في المقام الأول أن الرؤية لم تَعُد الآن شجرة، بل
«الشجرة»؛ ذلك أن الشجرة العينية التي نظَر إليها سيزان قد تشكَّلت فأصبحَت ماهية
الشجرة، ومهما تكن رؤيته أصيلةً لا تتكرَّر، فما برحت رؤيةً للأشجار جميعًا أطلقتها
مواجهته لهذه الشجرة الجزئية المعيَّنة، وهذا التصوير، الذي يصدر عن هذه المواجهة بين
إنسانٍ هو سيزان وواقعٍ موضعي هو الشجرة، هو مواجهةٌ جديدة وفريدة وأصيلة بمعنى الكلمة،
فها هو شيء يولد، يأتي إلى الوجود، شيء لم يكن له وجود من قبل، وهذا تعريف جيد للإبداع
نستطيع أن نضع عليه أيدينا، وكل من يأتي بعد ذلك ليشاهد اللوحة بشدةٍ في الوعي، ويتركها
تتحدث إليه، سيرى الشجرة بالحركة القوية الفريدة، وبالحميمية بين الشجرة والمنظر
الطبيعي، والجمال المعماري الذي لا يوجد بمعنى الكلمة في علاقتنا بالأشجار حتى جاء
سيزان بتجربتِه ورسمها، وأستطيع أن أقول بلا مغالاة إنني لم أشاهد قط شجرةً حقًّا حتى
رأيت واستوعبت رسوم سيزان لها.»
٤
قبل أن يخلص كلايف بِل إلى فرضيته
الميتافيزيقية كان يسأل الفنانين عن طبيعة عملهم، فقال له مرةً واحدٌ من أعظم الفنانين
إن ما يُحاول أن يُعبر عنه في لوحة فنية هو «فهم انفعالي للشكل»، وقد طالَما حيَّر بِل
هذا «الفهم الانفعالي»، حتى ظَفر بمعناه بعد حديثٍ كثير مع الفنانين وإصغاءٍ أكثر،
ولعلَّ ما حيَّر بِل هو أننا درجنا على أن الفهم يكون بالعقل، وأنَّ العقل نقيض
الانفعال؛ ومن ثم فإن علينا لكي نفهم شيئًا ما فهمًا موضوعيًّا أمينًا أن نكبت انفعالنا
نحوه أو نحيِّده، غير أن رولو ماي يبدهنا بعكس ذلك فيقول: «لقد كنا نَنحو إلى أن نضع
العقل في مقابل الانفعالات، وافترَضنا نتيجة لتضخُّمٍ زائد في هذه القسمة أننا نتمكَّن
من ملاحظة الشيء بدقة أكثر لو استبعدنا انفعالاتنا، أعني أننا سنكون أقل تحيُّزًا لو
أن
انفعالاتنا لم تتدخَّل على الإطلاق في الموضوع الذي بين أيدينا، وأنا أعتقد أن هذا خطأ
فادح؛ إذ توجد الآن بياناتٌ في استجابات رورشاخ
Rorschach تُشير إلى أن الناس يستطيعون أن يلاحظوا بمزيد من الدقة إذا
كانوا مدفوعين بانفعالاتهم، أعني أن العقل يَعمل بطريقةٍ أفضل في حضور العواطف،
فالإنسان يرى ببصرٍ أكثر حدة ودقة حين تشترك العواطف، والحق أننا لا نستطيع أن نرى
شيئًا رؤيةً حقيقية إلا إذا كنا مُرتبطين به ارتباطًا عاطفيًّا، فربما كان العقل يؤدِّي
عمله على أحسن وجه في حالة الوجد (النشوة)
ecstasy،
٥ ويرى ماي أن الوجد هو المصطلح الدقيق لشدة الوعي التي تَحدث في الفعل
الإبداعي، على ألا نُفكر فيه بوصفه «سماحًا بتحرير شيء ما بالمعنى الباخوسي، وإنما هو
شيء يَشمل الشخص كله بحيث يعمل ما تحت الشعور واللاشعور في وحدة مع الشعور، ومن ثم فهو
ليس لا عقلانيًّا، بل هو بالأحرى فائقٌ لما هو عقلي؛ فهو يمزج بين الوظائف العقلية
والإرادية والعاطفية في عملٍ واحد.»
يذكر بِل في فرضيَّته الإستطيقية أن عالم الرياضيات المُستغرِق في دراساته يُخبر
حالةً ذهنية شبيهةً غاية الشَّبه بالنَّشوة الإستطيقية التي تُغشي الفنان في لحظات
الإلهام: «وربما يَذهب بي الظن أحيانًا إلى أن مُدركي الفن ومُدركي الحلول الرياضية قد
يكونون أكثر قربًا وأوثق صلةً حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعال إستطيقي تجاه
تجمُّع من الأشكال، ترانا نُدرك بالفكر صواب هذا التجمع وضرورته؟»
٦ أليس هذا قريبًا حتى الانطباق من فكرة هربرت ريد عن «القابلية للتحقق»
verifiability بوصفها عنصرًا ضروريًّا من
عناصر الإبداع الفني كما هي في الوقت نفسه مقوم أساسي من مقوِّمات المنهج
العلمي؟
وكأني برجلٍ من أفذاذ العلم ومن نوابغ الرياضيات هو جول هنري بوانكاريه
G. H. Poincaré ينعم بحضرته ويُكمل لنا
الوجه الآخر من الأمر، ويقول (من كتابه «أساس العلم»): إن التركيبات المفيدة (التي
تنبثق من اللاشعور) هي بالضبط أجملها، أعني أقدرها على إمتاع تلك الحساسية الخاصة التي
يعرفها الرياضيون جميعًا، والتي يَجهلها غيرهم جهلًا تامًّا بحيث يُغريهم بالابتسام
عليها … ومن بين الأعداد الكبيرة من التوليفات التي صُنعت عشوائيًّا بوساطة الذات
المتسامية، يظل معظمها بلا أهمية وبلا نفع، وهذا بالضبط هو السبب الذي يجعلها أيضًا بلا
تأثير على الحساسية الجمالية، ولن يُدركها الوعي أبدًا، ولا يتَّسم بالانسجام سوى بعضٍ
منها، وبالتالي تكون في الحال مفيدة وجميلة، وتكون قادرةً على المساس بهذه الحساسية
الخاصة برجل الهندسة التي تحدَّثتُ عنها آنفًا، والتي إن أثيرت مرةً فسوف تجذب الانتباه
إليها؛ ومن ثم تُتيح لها الفرصة لكي تُصبح واعية.»
٧
ويُعلق ماي على قول بوانكاريه بأن «هذا هو الذي يَدعو الرياضيِّين والفيزيائيين
للحديث عن «أناقة»
elegance نظريةٍ ما، أما المنفعة
فتأتي في مرتبة أدنى بوصفها جزءًا من الخاصية التي يتمتَّع بها الشكل الجميل؛ فالانسجام
الذي يسري في شكل داخلي، والاتِّساق الباطن في نظريةٍ ما، وسمة الجمال التي تمسُّ
حساسية المرء — هذه كلها عوامل دالة تُحدِّد لماذا تَبزغ في الوعي بصيرةٌ معينة دون
غيرها، وبوصفي محللًا نفسيًّا لا يَسعني سوى أن أضيف أن تجربتي في مساعدة الناس على
تحقيق استبصارات من الأبعاد اللاشعورية داخل أنفسهم تكشف عن هذه الظاهرة نفسها؛ وهي أن
البصائر لا تَبزع أصلًا لأنها «صادقة عقليًّا» أو لأنها مُفيدة، ولكن لأنها تتميَّز
بشكلٍ معين هو الشكل الجميل الذي يستكمل ما ليس كاملًا فينا، هذه الفكرة، هذا الشكل
الجديد الذي يُقدم نفسه بغتة، يأتي لكي يُكمِل جشطلتًا كان حتى الآن ناقصًا، وكنا حتى
الآن نُناضله في إدراك واعٍ، ويستطيع المرء أن يتحدَّث بدقة شديدة عن هذا النموذج الذي
لم يَكتمل، هذا الشكل الذي لم يتشكَّل، بوصفه المكوِّن لذلك «النداء» الذي يُعطيه ما
قبل شعورنا من جيشانه العنيف الإجابة المنشودة.»
٨
يا لله كأني بالجَمال يُلوِّح للحق، وبالحق يُلوِّح للجَمال!
فها هو فيلسوف إستطيقي (بِل) يرى الجمال جمالًا لأنه صواب، وها هو عالم رياضي
(بوانكاريه) يرى الصواب صوابًا لأنه جميل، وكأني بفيلسوف المثالية الترانسندنتالية
(إيمانويل كانت) يباركهما من وراء الغيب. لا بدع؛ فالعقل ليس كيانًا سلبيًّا تدور حوله
الأشياء فيعكسها كما هي، إنما الأشياء تعنو للعقل وتُلائم نفسها وَفق قوالبِه ومقولاته،
فالعقل ليس متفرجًا سلبيًّا في لعبة المعرفة، العقل يَجبل العالم على طريقته ويشكل
العالم على صورته ويُشيد الأشياء تشييدًا.
(٢) ضرورة المواضعات الفنية
وعلى ذلك فإذا أردنا الارتقاء بمُوسيقانا فلا بد أن نضع لها قانونًا
وقاعدة.
أفلاطون: القوانين
هذه مسألة يستدعيها الحديث وإن تكن مسألةً غير إستطيقية وغير ميتافيزيقية (فهي في
الحقيقة مسألةٌ تكنيكية)، إن مهمة الفنان كما يبين بل هي إما أن يَخلق شكلًا دالًّا
وإما أن يُعبر عن حسٍّ بالواقع — حسبما تفضل من تعبير، غير أننا لا نرى أبدًا فنانًا
حقيقيًّا يمكن أن يقعد أو يقوم لا لشيءٍ إلا ليُبدع شكلًا دالًّا أو ليعبر عن حس
بالواقع، دون أي تحديد أبعد من ذلك، إنما يتوجَّب على الفنانين أن يتخذوا لأفعالهم
مجرًى معينًا، أن يركزوا طاقاتهم على مشكلة محددة؛ فالشخص الذي يشرع في رحلة صوب العالم
كله هيهات له أن يبلغ مكانًا، هذه الحقيقة تفسر لنا الضرورة المطلقة للمواضعات الفنية،
وتُفسِّر لنا لماذا تُعد كتابة شعر جيد أيسر من كتابة نثرٍ جيد، ولماذا تكون كتابة
الشِّعر المُرسل
٩ الجيد أصعب من كتابة مقاطع من شعر الدوبيت المقفَّى، هذا هو مغزى القوالب
الفنية مثل السونيتة والبالاد والروندو: إنَّ الحدود الصارمة تُركِّز طاقات الفنان وتُكثفها.
١٠
يقول الأستاذ العقاد: إنَّ الجمال هو الحرية،
١١ وإنَّ حب الأمم للحرية يُقاس بحبِّها للفنون الجميلة.
والحرية عند العقاد لا تعني التخلُّص من القيود، لأنَّ القيود والقوانين هي أساس
اختيار الحرية، انظر إلى بيتٍ من الشعر وتصرُّف الشاعر فيه، إنه مثل حق لما ينبغي أن
تكون عليه الحياة من قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهي قيودٌ شتى من وزن وقافية، غير
أن
الشاعر يعرب عن طلاقة نفس لا حد لها حين يَخطو بين كل هذه السدود خطوة اللعب، ويطفر من
فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالمٍ لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل، وإذا كانت
سنة الله في خلق هذا الكون قد شاءت أن تجعل من قوانينه دعامةً للحرية، وأصلًا لكل شعورٍ
انطلاقي، فليس عجيبًا أن يتلاقى في فن الشعر قيد الوزن وفرح اللعب، وليس من الغرابة في
شيء أن يتعانق على يدَيه الخيال الشارد والقافية المحبوسة.
والفنون الجميلة جميعًا هي «الفنون التي تُشبع فينا حاسة الحرية وتتخطى بنا حدود
الضرورة والحاجة، وما من شيء تستجمله وتخفُّ نفسك إليه وهو مغلول الحياة منقبض عن
وظائفها، حتى الأخلاق، ما من جميل فيها إلا كان جماله على قدر ما فيه من غلبةٍ على
الهوى وترفُّعٍ عن الضرورة وقوةٍ على تصريف أعمال النفس في دائرة الحرية والاختيار.»
١٢ إنَّ قيود الضرورة هي مسبار ما في النفوس من جوهر الحرية الصحيحة، كما أن
القيود التي تُثقل بها أعضاء البهلوان الماهر هي مسبار مهارتِه وقدرته على الخطران
والوثب واللعب، فليس النشاط الفني خروجًا على كل قاعدة، أو انطلاقًا في فضاءٍ مُطلَق
ليس به أدنى مقاومة، وإنما النشاط الفني طلاقة نَفسٍ تُحيل العوائق إلى وسائط، وتتَّخذ
من الضرورات أدوات للتحرُّر، وليست الضرورات والقوانين سوى القالب الذي تحصر فيه الحياة
عند صبِّها وصياغتها، ليكون لها خير محدود في هذا الوجود، ولتسلَم من العدم المُطلَق
الذي تَصير بها الفوضى إليه، وإلا فتصوَّر عالمًا لا موانع فيه ولا أثقال، ثم انظر ماذا
لعله يكون؟ إنه لا يكون إلا فضاء بغير فاصل أو هيولي بغير تكوين.
١٣
هذا ما يقوله أستاذُنا العقاد، ونريد أن نذهب أبعد من ذلك، فنقول إن الحدود الفنية
ليست إعاقةً مجانيةً ولا حفزًا سلبيًّا آليًّا؛ فالأمور في الفن أدق من ذلك وأعمق، فحين
نقول إنَّ الحدود الفنية (الأُطر، المواضعات، القيود …) ضرورة، فلسنا نعني بذلك أنها
مجرد مصاعب لا مناص من تجشُّمها أو شر لا بد منه، ولَسنا نعني حتى إنها (على طريقة أدلر
أو توينبي) عثراتٌ تحفز النشاط ومحنٌ تلهب العزيمة، كلا. إنَّ قيمة الحدود أعظم من ذلك
بكثير؛ الحدود «تُيسِّر» الإبداع الحقيقي! و«تُلهم» الفنان الحقيقي، إنها مجرى يتولى
انفعاله ويُنظِّم تدفُّقه … شبكةُ تصيد له الأشكال الدالة، وعينٌ ترمق له المعاني
السانحة، وفرسٌ قَيد الأوابد تُمكنه من شوارد المضامين، وبدونها يكون أشبهَ بنافخٍ في
رماد، أو بكبشٍ تَعسٍ أطلق في بريةٍ عراء وأرضٍ مذابة، أو بطفلٍ توحُّدي autistic يُعبِّر عن نفسه بحركاتٍ مُضطربة لا يفقهها
غيره، ولغةٍ مُغتربةٍ لا يفهمها سواه.
وليس بدعًا أن نقول إنَّ الوعي نفسه يتطلَّب الحدود وينشأ من إدراك الحدود: في بدايات
الوعي يخلق كل فرد ذاتًا أولية (أنا ترانسندنتالية) بأن يدع وعيه يلتف على نفسه فيفرق
نفسًا ما عن بقية العالم، عندئذ فقط يشرع الفرد — وقد صار الآن واعيًا بذاته — في تأسيس
الذوات الأخرى،
١٤ وعندئذ فقط يشرع المرء في رحلته الدائمة صوب المعرفة، وتأتي الإبستمولوجيا
التكوينية (النشوئية)
Genetic Epistemology عند بياجيه
لتكمل لنا القصة، وتُصور لنا المعرفة جدلًا بناءً بين البنيات الباطنة للذات العارفة
وبين الموضوع المعروف؛ فالبنيات الباطنة للذات هي حصيلة إنشاء فعلي متواصل يقوم على
خبرتها بالموضوع، والخصائص التي يتحدَّد بها الموضوع لا تُعرف إلا بفضل تدخل تلك
البنيات التي تُغني خصائص الموضوع وتؤطِّرها، هكذا تحمل كل معرفةٍ جانبًا جديدًا من
التكوين والإنشاء، وهكذا تبقى المعرفة على الدوام مسلسلًا تطوريَّا لا يتوقف وجشطلتًا
ناقصًا لا يتم.
«وعندما تكتب قصيدة، تكتشف أن ضرورة ملاءمة معناك في هذا الشكل أو ذاك تتطلب في حد
ذاتها أن تبحث في خيالك عن معانٍ جديدة وأنت ترفض طرائق معينة لقول هذه المعنى وتَنتقي
غيرها، محاولًا صياغة القصيدة من جديد دائمًا وأبدًا، وفي هذا التشكيل تصل إلى معانٍ
جديدة أكثر عمقًا لم تكن تَحلم بها، فليس الشكل مجرد تهذيب لمعنى لا تجد له مكانًا في
قصيدتك، ولكنه معينٌ لك في العثور على معنًى جديد، ومنشط لتركيز معناك، ولتبسيطِه
وتنقيته، ولتَكتشِف في بُعدٍ أكثر شمولًا الماهية التي تودُّ التعبير عنها، وما أكثر
المعاني التي كان شكسبير يستطيع أن يَضمَّها في مسرحياته لأنه نظمها شعرًا ولم يَكتبها
نثرًا، أو يضعها في سونيتاته؛ لأنَّها مكونة من أربعة عشر بيتًا.»
١٥
إن مما يُشبه المحال على فنانٍ لم يضع لنفسه مهمةً أكثر تحديدًا من إبداع شكلٍ دال
دون شروط أو حدود مادية أو فكرية، أن يُركز طاقاته بحيث يُنجز هدفه، إن مشروعه سيكون
مُفتقرًا إلى الدقة، وجهوده من ثم ستكون مفتقرة إلى القصد، وأدنى إلى اليقين أنه سيكون
غامضًا ومتراخيًا في عمله، وقد يلوح له باستمرار أن هناك احتمالًا بأن يعيد للشيء
عافيته بضربة حظ، وقلما يبصر بوضوح أنه قد ضل السبيل … إن من يشعر أنه لا عمل له إلا
أن
يصنع شيئًا ما جميلًا، يَندر أن يعرف من أين يبدأ أو أين ينتهي.
١٦
مرةً ثانيةً نقول إن القيود في الفن عونٌ وتيسير! فالحدود الفنية تُذلِّل طريق الفنان
الحقيقي ولا تُعيقه.
إنها أمٌّ رءومٌ تُرتِّب خزانته،
ورفيقةٌ شفافةٌ حييةٌ تفكر له وتعينه على عجزه،
وتُتحفه بالطُّرَف حتى لا يكاد يرى وجهها المُتواري خلف أكداس الهدايا.