ما هو الشيء؟
ما هو ذلك الشيء الذي اختزلنا في سبيله المكان إلى أقصى مداه، ومع ذلك لا نصل إليه ولا يصل إلينا؟ أحلنا من أجله الأعوام والشهور إلى لحظات ولم يزل ممتنعًا علينا، أبعد هذا كله يظل عَنَّا بعيدًا؟ أم يا ترى هو بطبيعته بعيد وقريب في آنٍ واحد؟ هل كان آباؤنا وأجدادنا أقرب إلى الوجود والموجودات مِنَّا اليوم؟ أم هل أبعدتنا هذه الأجهزة القادرة عن حقيقة الوجود والموجود؟
لنسأل معًا: ما حقيقة القرب؟ كيف نصل إلى كنهه وماهيته؟ يبدو أنه لن يتركنا نتسلل إلى سره بسهولة، فلنفتش إذن عما يدخل في دائرته، لنبحث عمَّا هو قريب. قريب مِنَّا ما تعودنا أن نسميه بالأشياء، ولكننا مضطرون أن نسأل مرة أخرى: وما هو الشيء؟ سؤال بسيط يوشك ألَّا يسأله غير البلهاء! ولكن لعل الإنسان في تاريخه الطويل قد أهمل في السؤال عن حقيقة الشيء، فلنَقِ أنفسنا إذن من التورط في حكمٍ سريع، ولنُعِد السؤال مرةً أخرى: كيف نصل إلى شيئية الشيء؟ وما الذي يجعل الشيء شيئًا؟ ولا بد لنا لكي نجيب عليه أن نعرف الدائرة التي يدخل فيها كل موجود نسميه باسم الشيء.
الحجر على الطريق شيء، وكومة التراب في الحقل، الجرة شيء والنبع في الصحراء، ولكن ما حال اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هذان أيضًا شيئان، كما أن السحب في السماء أشياء، وأوراق الخريف في مهب الرياح، وشجرة الصبار على الدرب المهجور، بل لعل من حقها جميعًا أن تكون أشياء. ما دُمنا نضيف الكلمة نفسها إلى ما لا يظهر ولا تراه عين، هذا الذي لا يظهر يُسمِّيه «كانط» مثلًا بالشيء في ذاته، وقد يُسمِّيه غيره باسم «الله»، فالأشياء في ذاتها، والأشياء التي تظهر للعين، وكل ما هو موجود على الإطلاق؛ يُعْرَف في لغة الفلسفة بالشيء، أعني كل ما ليس بعدم. غير أن التسمية مع ذلك تحتاج إلى شيء من التحديد، فنحن نخجل أن نُسَمِّي الله شيئًا، كما أننا لا نرضى أن ندعو الفلاح في الحقل، والعامل في المصنع والمعلم في المدرسة أشياء، بل إننا لنتردد أن نُسَمِّي الغزال في الغابة، والجراد في العشب، والقطة على عتبة البيت أشياء، والإنسان لا يمكن أن يكون شيئًا، فهذه الكلمة الأخيرة تفتقد كل ما نفهمه وراء الوجود الإنساني من معنًى وقيمة. كما أن كلمة الإنسان لا تشتمل على ما يجعل الشيء شيئًا، الأولى إذن أن نطلق كلمتنا على ما يشبه المطرقة والساعة والحذاء، غير أن هذه أيضًا ليست مجرد أشياء وحسب، والأقرب إلى المعقول أن نُسَمِّي كل ما تجرَد عن الحياة — سواء في الطبيعة أو في محيط الاستعمال — باسم الشيء، كأن يكون كتلة من الصخر، أو قطعة من الخشب، أو كومة من التراب. وهكذا نكون قد خرجنا من المملكة الواسعة التي سمَّينا فيها كل موجود باسم الشيء، كما تركنا ما سمَّيناه بالأشياء في ذاتها وأردنا به أسمى الموجودات وأبعدها في الخفاء، لنعود إلى أفقٍ ضيق كل موجود فيه لا يزيد عن كونه «مجرد شيء»، وكلمة «مجرد» هنا قد يُراد بها الشيء المحض، وقد تعني كذلك الشيء ولا مزيد عليه، بمعنى تقويمي يضع من شأنه، مثل هذه — فيما يبدو — هي الأشياء بالفعل، وهي التي ستساعدنا على تحديد ما نبحث عنه من شيئية الشيء.
من الخير في مثل هذه الأحوال ألا نسير في الطريق المجهول معصوبي الأعين. لنرجعْ لحظة إلى تاريخ الفكر، ولْنستعِنْ بما خلَّفه لنا التراث الفلسفي وهو يحاول الإجابة على هذا السؤال العتيد.
ما سأل سائل عن ماهية الوجود والموجود إلا برز الشيء أمامه كأنما هو أظهر الموجودات وأولاها بمعنى الوجود، وقد أدَّى هذا إلى أن أصبحت الإجابات المتوارثة عن ماهية الشيء أمرًا بيِّنًا واضحًا بذاته، حتى إنه ما عاد أحد يحسُّ بالحاجة إلى إثارة السؤال من جديد، ويمكننا أن نعرض للتفسيرات التي حاولت بها الفلسفة أن توضح ماهية الشيء (أو بمعنى آخر ماهية الوجود) فيما يلي:
هذا التفسير الذي لا يُطلَق على الشيء فحسب — بل على كل موجود على الإطلاق — تفسير لا يبلغ جوهره، ولا يصل إلى كنهه، وإنما يكتفي بأن يغلفه ويدثره، إنه لا يتيح لنا أن نلتقي التقاءً مباشرًا بحقيقة الشيء، بل الأَوْلَى أن نقول: إنه يأتينا عن طريق الحواس، أو إنه يصطدم بجسدنا إن جاز هذا التعبير، وليس عجيبًا بعد هذا أن يقوم تصورنا للشيء على مجموع معطياته الحسية، أو مجموع إحساساتنا به. والواقع أن الأشياء أقرب إلينا من إحساساتنا بها، ووقوفنا عند هذه الإحساسات يضيع علينا معناها وحقيقتها الكلية، نحن نسمع العاصفة تهب، والباب يصفق، ولا نسمع مجرد إحساسات صوتية، ونحن نرى البيت ولا نرى مجرد إحساسات بصرية أو لونية، ونلتذ بطعم التفاحة ولا نقف عند ملمسها ولونها ورائحتها.
غير أن هذا التفسير الذي سيطر على الفكر الفلسفي زمنًا طويلًا، وحدَّد تصوره للموجود عامة، سواء أكان مجرد شيء أم أداة لهدف أم عملًا فنيًّا (يكفي أن نتذكر النزاع الأزلي حول قضية الشكل والمضمون في الأدب والفن وعلم الجمال!) لا يقربنا مع ذلك من حقيقة الشيء.
- فالاعتراض الأول عليه: أنه لا يمكننا من التمييز بين الموجودات — على اختلاف درجاتها — بين مجرد الشيء كأداة تقصد إلى هدف، والعمل الفني الذي لا يشك أحد في أنه أبعد من أن يكون مجرد شيء أو وسيلة لغاية، وإنما نتبين من خلاله تجربتنا بالوجود والحقيقة على الإطلاق.
- والاعتراض الثاني: أن هذا المركب من الصورة والمادة قد أصبح مع الزمن قالبًا آليًّا يمكن أن يطبق في سهولة على كل ما يقع بين الأرض والسماء! فإذا فهمت الصورة على أنها العنصر المعقول المنطقي، والمادة على أنها العنصر غير المعقول وغير المنطقي، وإذا ربطنا هذه العلاقة بين الصورة والمادة بالعلاقة المشهورة بين الذات والموضوع، صارت لدينا أداةٌ سهلة تحيل الفكر إلى آليةٍ بحتة يوشك ألا يستعصي عليها شيء.
- والاعتراض الثالث: أنه لا ينبع من تصورٍ مباشر للشيء بما هو شيء، بل يتصوره أداة تهدف إلى غرض، أعني أنه تفسير يأتي من جهة الإنتاج والصناعة، وهنا يمكننا أن نفهم ما يقوله أرسطو من أن الصورة تحدِّد نوع المادة، كذلك يفعل الحداد قبل أن يطرق الفأس، والنجار قبل أن يصنع السرير، والخزاف قبل أن يسوِّي الجرة، فارتباط الصورة بالمادة يقوم سلفًا على الغاية التي جُعِلَت لها الجرة والفأس والسرير. من هذه «الغائية» يُحدد شكل الصورة كما اختير نوعُ المادة، واكتسب هذا النسق المؤلَّف من الصورة والمادة معناه، الشيء إذن — بحسب هذا التفسير — أداة أنتجتها يد صانع، والمادة تعينه من حيث هو وسيلة فحسب، ولا تعين بحال شيئيته بما هو شيء.
أردنا أن نجيب معًا على هذا السؤال، واتفقنا على أن نتناول شيئًا نجده قريبًا مِنَّا، وقبل أن نمد أيدينا إلى هذا الشيء نفسه آثرنا الروية والصبر ورحنا نسأل عن حقيقة الشيء، وكان لزامًا علينا — قبل أن نتعجل السير في طريقٍ مجهول — أن نناقش معًا مختلف التفسيرات التي حاول الفكر في تاريخه الطويل أن يجيب بها على هذا السؤال، وقد تبين لنا أنها جميعًا لم تقربنا من حقيقة الشيء، فلنتناول الآن شيئًا قريبًا مِنَّا، وليكن هذه الجرة.
نحن نقول: إن الجرة شيء، فما الجرة؟ نقول: إنها وعاء، ذلك الذي «يعي» شيئًا غيره ويَحوِيه، المحتوى فيها هو الأرضية والجدار، والجرة بما هي وعاء شيءٌ مكتفٍ بذاته، هذا الاكتفاء الذاتي يجعل لها كيانًا مستقلًّا يُميِّزها عن كل شيء أو موضوع سواها، والشيء المستقل بذاته يصبح موضوعًا عندما «نضعه» أمامنا، سواء كان ذلك في الإدراك المباشر، أو في ذلك الحضور الذهني الذي يتم عن طريق الذاكرة والتصور، ومع هذا فإن شيئية الشيء لا تكون في تصورنا له كموضوع، ولا «موضوعيته» تحدد لنا كنهه وماهيته.
الجرة تظل وعاءً سواء تمثَّلناها بالتصوُّر الذهني أو لم نتمثَّلها، والجرَّة بما هي وعاء، ذات قوامٍ مستقلٍّ بذاته، فما معنى قولنا: إنها قائمة بذاتها؟ هل يفسر لنا ذلك ماهية الجرة كشيء من الأشياء؟ الجرة لم تكن وعاءً حتى وُضعت في صورة الوعاء، وما تم لها ذلك حتى «صُنِعَت» على يد صانع، الخزاف جَبَل الجرة من طينة أعدها وانتقاها، والطينة من الأرض، ومنها تخلَّقت الجرة جرة. من هذه الطينة يمكن لها أن ترتكز مباشرة على الأرض، وبطريق غير مباشر على رفٍّ أو مائدة، بالصنعة ومن يد الصانع تم لنا ما سميناه بقوام الجرة، إن تناولنا الجرة بما هي وعاء مصنوع جعلها تبدو لنا وكأنها شيء من الأشياء، لا مجرد موضوع أيًّا كان، أو هل نعود فننظر إلى جرة على أنها «موضوع»؟ لنحاول ذلك، وسيتبين لنا أنها لم تعد مجرَّد موضوع يتمثله التصور الذهني فحسب، بل هي موضوع سوَّته يد صانعه «ووضعته» أمامنا. بهذا المعنى الجديد يبدو لنا قوام الجرة ذاتها وكأنه هو الذي جعل منها شيئًا. والحقيقة أننا نرى هذا القوام من جهة الصنع، من حيث إن صانعًا قصد إليه وفكَّر فيه، وهنا يتكشف لنا أننا قد رجعنا إلى ما أردنا أن ننفيه، أعني أننا سنفكر في الجرة من حيث هي موضوع، وإن كانت موضوعيتها في هذه الحالة آتية من جهة الصنع لا من جهة التصور المجرد، وسيتبين لنا أننا قد أخطأنا الطريق، وأن وقفتنا عند موضوعية الموضوع لم تؤدِّ بنا إلى شيئية الشيء، فلننظر الآن إلى المسألة من ناحية أخرى.
قلنا: إن شيئية الجرة تكمن في كونها وعاءً، ونحن نعرف معنى الوعاء مما يعيه، أعني حين نملأ الجرة، حتى لنوشك أن نقول: إن الأرضية والجدران هي التي «تعي» ما نصبُّه فيها، ولكن لنحترس مرةً أخرى من التورط في السرعة! هل إذا ملأنا الجرة خمرًا كان معنى ذلك أننا نصبُّها بين الجدران والأرضية؟ نحن نصبُّ الخمر حقًّا بين جدارين وعلى أرضية، والذي يحفظ السائل المصبوب هو الأرضية والجدران، وما يحفظ السائل ليس هو بالضرورة ما يعيه.
الخمر حين نفرغها في الجرة تملأ ما فيها من فراغ، الفراغ هو واعية «الوعاء»، الفراغ، هذا العدم في جرتنا هذه، هو الذي يجعلها وعاءً، الجرة وحدها تتكون من قاع ومن جدار، ومن هذا الذي تكونت منه يمكنها أن تستقر على رفٍّ أو مكتب. ولكن ماذا عسى أن تكون الجرة إذا انكسر قاعها أو جدارها فلم تعد تحوي شيئًا؟ إنها ما تزال جرة على كل حال، وإن أصبحت عاجزة عن أداء وظيفتها، فالجرة وحدها هي التي تمسك السائل أو تدعه يفلت منها!
من القاع والجدار تتكون الجرة، وبهما على الأرض تستقر، غير أنهما لا يكونان هذه الصفة الواعية فيها، فإذا سلَّمنا بما انتهينا إليه من أنها تكمن في الفراغ، كان علينا أن نقول: إن الخزاف لا يسوي من الطين قاعًا وجدارًا، أو إنه لا يشكل الطين بل يشكل الفراغ، من هذا الفراغ وفيه ومن أجله سوَّى الطين وأعطاه صورته، تصور الخزاف هذا الفراغ غير الواعي أول ما تصور، ثُمَّ شكله في صورة الوعاء، الفراغ في الجرة حدد شكل الإنتاج، ووجَّه كل ضربة من يد الخزاف، وشيئية الوعاء لا تكمن بحال في المادة التي صنعها منها، ولكن في الفراغ الذي يحتوي السائل المصبوب ويعيه.
ونعود الآن فنسأل: هل كانت الجرة حقًّا فارغة؟ أم سرح بنا الخيال في تأملات شاعرية حتى نسينا كلمة العلم؟ الفيزياء تؤكد لنا أن الجرة مملوءة بالهواء وما يتركب منه من عناصر كيميائية، ونحن حين نملأ الجرة خمرًا إنما نُحلُّ نوعًا محلَّ نوعٍ آخر، فالسائل المصبوب يزيح الهواء ويحل في مكانه، وهذه الحقيقة الفيزيائية لا شكَّ في صحتها، وهي تطابق التصور العلمي للواقع، ولكن هل هذا الواقع الذي قدَّمه لنا العلم هو الجرة؟ لا مفرَّ من الإجابة بالنفي؛ فالعلم لا يتعدى ما يسمح به منهجه من موضوعات ممكنة، حقًّا إن المعرفة العلمية ملزمة، فما وجه الإلزام في حالتنا هذه؟ وجه الإلزام أنه يلغي وجود الجرة كشيء ويتصورها مساحة جوفاء يحل السائل المصبوب فيها محل الهواء، أي إن حالة من حالات المادة تحل محل أخرى، الجرة كشيء لا وجود لها في نظر العلم. إن المعرفة العلمية — كما يقول هيدجر — قد بدَّدت وجود الأشياء من زمنٍ قديم، حتى قبل أن تصل إلى تفجير القنبلة الذرية والهيدروجينية، وما انفجار هذه القنبلة وغيرها من أسلحة الفتك والدمار إلا الحلقة الرهيبة الأخيرة من سلسلةٍ طويلة تم فيها الإجهاز على وحدة الشيء ونفي واقعه ووجوده. ولقد بقيت شيئية الشيء في تاريخ الفكر أمرًا منسيًّا لم يكشف عنه حجاب، وظلَّت حقيقة مطوية لم تجد التعبير عنها في لغة الإنسان.
سألنا هذا السؤال من قبلُ، ورحنا نبحث عن شيءٍ قريب مِنَّا لكي نستطيع الجواب عليه، ووجدنا الجرة، ولكي نصل إلى حقيقة الجرة كشيء، سألنا: ما الذي جعل الجرة جرة؟ وضاع مِنَّا هذا السؤال حين توجهنا إلى العلم نسمع منه الكلمة الأخيرة في القضية. والحق أننا لم نجد عنده إلا الفراغ كما تتصوره الفيزياء، لا فراغ الجرة كما بحثنا عنه، وأردنا أن نصل به إلى شيئية الشيء.
كيف يعي الفراغ في الجرة؟ يعي الفراغ حيث يتلقى السائل المصبوب ويحتفظ به، فكلمة «الوعي» إذن تتضمن تلقي السائل والاحتفاظ به في آنٍ واحد، ووحدتهما معًا تعين من وجه الانسكاب، سواء في ذلك سكب السائل في الجرة أو منها، سكب السائل من الجرة إهداء، وفي الإهداء ماهية الوعاء، والوعاء محتاج للفراغ الذي «يعي» ما يُسكَب فيه، وماهية الفراغ تكمن في إهداء ما فيه، على أن الهدية والإهداء أغنى من السكب والانسكاب، والذي يجعل الجرة جرة هو سكب ما فيها هدية للرفيق والحبيب، والجرة الفارغة أيضًا تكتسب ماهيتها من الإهداء، ولو لم يكن فيها من شيء نسكبه أو نُهدِيه، هذا الإهداء أو الامتناع عنه أمر يخص الجرة وحدها (فالمطرقة أو الحذاء مثلًا لا يستطيعانه).
هدية الجرة شراب، الشراب قد يكون ماءً أو خمرًا، في الماء يكمن النبع، وفي النبع الصخر، وفي الصخر نعاس الأرض تستقبل الندى والمطر من السماء، في ماء النبع تلتقي الأرض والسماء في عرسٍ بهيج، وتخضل الخمر عطية الكرم والعناقيد، ثمرة رضعت من خير الأرض، وتغذت من شعاع الشمس في انسكاب الماء وإهداء الخمر تلتقي الأرض والسماء، وفي الإهداء ماهية الجرة وحقيقتها، وفي الجرة تلتقي الأرض والسماء.
في إهداء الشراب يكمن البشر، وفيه تكمن الآلهة. في الشراب يجتمع الفانون والخالدون، وفي إهدائه تلتقي السماء والأرض والبشر والآلهة، وهذه العناصر الأربعة — وإن توحد كل منها بماهيته — مرتبطة في نسيجٍ محكم، لا يستغني واحد منها عن الآخر.
إهداء الشراب يكون هدية بقدر ما تجتمع فيه الأرض والسماء، والخالدون والفانون، أي بقدر ما يتحد فيه هذا الرباع الفريد، ولكن الإهداء هو الذي يكشف عن حقيقة الجرة، والإهداء من الجرة — كما قدمت — يجمع كل ما يتصل به بسبب: تلقي الخمر والاحتفاظ بها، القاع والجدار، الفراغ في الوعاء، صبُّ الشراب باعتباره هدية وتضحية.
الهدية تجمع هذه الأمور كلها من حيث تجمع «الرباع» الفريد، وتجعله يتلبث في هذا الشيء الذي أسميناه بالجرة، وهذا التجمع العجيب هو الذي يكشف لنا عن حقيقتها، فهي اللحظة والموضوع الذي يحل فيه.
تحدثنا عن القرب والبعد في مبدأ هذا المقال، قلنا: إننا نعيش في عصر انكمشت فيه الأبعاد وطُوِيَت المسافات. وبالرغم من ذلك فقد كُتِبَ علينا أن نبقى غرباء عن الأشياء وتبقى غريبة عَنَّا. نحن إذن لا نقترب من الأشياء، وهي لا تقترب مِنَّا، ونحن نعيش في حال تختلف عن أحوال آبائنا الأولين، وعن الفنان والشاعر الذي يكاد يضم الأشياء إلى صدره ويحسُّ نبضها على قلبه، ويلمس طبيعتها العذراء بين يديه. والآن نسأل: ما هو القرب؟
الوجود على الأرض معناه كذلك الوجود تحت السماء، والوجود الفاني يكون كذلك بقدر ما يتصور ذاته في مقابل وجودٍ خالد غير محدود.
والعناصر الأربعة تلتقي في وحدةٍ أصيلة تؤلف ما سميناه «بالرباع الفريد».
الأرض هي المهد واللحد، الغذاء والثمر ينبعان من قلبها، الماء واليابسة يمتدان على صدرها، النبات والحيوان يعيشان على خيرها ويلقيان نصيبهما من حنانها.
إن ذكرنا الأرض رجع بنا الفكر إلى العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، السماء هي مشرق الشمس ومغربها، ومطلع القمر وانحداره، وانبلاج النهار وغسق المساء، ورهبة الليل وروعة النجوم، وأحوال الطقس ودورة الفصول، وموكب السحاب وزرقة الأثير.
إن ذكرنا السماء رجع بنا الفكر إلى العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، الخالدون هم رسل الربوبية، من جوهرها الأزلي المقدس يتجلَّى جوهر الإله لنا، أو يحجب جلاله عنَّا.
إن ذكرنا الخالدين فقد ذكرنا العناصر الثلاثة الأخرى، في وحدة الرباع الفريد، الأرض والسماء، الآلهة والفانون، كل منها مستقلٌّ بكيانه، غير أنها جميعًا متحدة في نسقٍ فريد، وكل عنصر منها يعكس — على طريقته — جوهر العناصر الثلاثة الأخرى، كلٌّ منها يعكس ذاته في داخل هذا النسق العجيب، وفي هذا الانعكاس يستضيء كل عنصر على حدة، كما تغمر الكلَّ هالةٌ من النور، كل منها مستقل بذاته متمتع بحريته، غير أن الوحدة التي تتألف منها جميعًا وحدة ضرورية، سوف نطلق عليها اسم «العالم»، هي وحدة لا تُعْرَف بالتفسير والتعليل؛ لأنها بسيطة كلية، إن جزأناها إلى عناصرها أو فسرناها بغيرها فقد غاب عنَّا جوهرها ومعناها.
الشيء يجمع العناصر الأربعة، والشيء يضم العالم — وهو الاسم الذي سمَّينا به وحدة الرباع الفريد — في لحظة وفي موضع سمَّيناه بالشيء.
تُرْجِمَت الكلمة اليونانية السابقة إلى الكلمة اللاتينية Subjectum (الموضوع) والكلمة Hupostasis إلى الكلمة Substantia (القوام أو الجوهر)، كما تُرْجِمَت Sumbebekos إلى Accidens (العَرَض)، وكانت هذه الترجمة — التي ما زلنا نأخذ بها حتى اليوم كما هو الحال في كل ترجمة سواها — عاجزة؛ لأنها استبدلت لفظة بلفظة، ولم تستطع أن تنقل التجربة الفكرية الأصيلة إلى جوها الجديد. وعند هيدجر أن افتقار الفكر الفلسفي الغربي إلى أرض ثابتة يقف عليها في تجربة الوجود يرجع إلى هذه الترجمة أو «هذا النقل المحرف» نفسه.
M. Heidegger: Der Utsptung des Kunstwerkes, in: Holzwege, p. 7–69. V. Klostermann, Frankturt/Main, 1952.