يبدو أنه لم يكن يُعير الكلمة المكتوبة ما نعيرها الآن من اهتمام، فلم يخطر بباله
أن
يمسك بالقلم إلا بعد أن تجاوز الخمسين، وعلَّم عشر سنوات في مدرسته الفلسفية في روما
في
النصف الثاني من القرن الثالث بعد المسيح. راح يكتب في عجلة كأنه مُلهَم أو ممسوس، في
خط لا تكاد العين تتبين حروفه، ويظهر أنه شعر بما يشعر به كل مَنْ يكتب من خيبة الأمل
حين يرى أفكاره الحية قد ذَوَتْ في رداءٍ شاحب من الكلمات المكتوبة، ومَنْ يدري؟ لعله
ندم على ما فعل؛ فعاش بقية حياته — فيما يروي تلميذه وناشر أعماله فور فيريوس — لا
يحتمل أن يسمع أحدًا يقرأ عليه رسائله، ولا يحاول أن يُعيد النظر فيها مرةً
واحدة.
وانتهت إلينا هذه الرسائل الساحرة كما نشرها تلميذه فور فيريوس الذي قسَّم منها أربعة
وخمسين رسالة إلى ست مجموعات اشتهرت إلى اليوم باسم التاسوعات، غير أن أفلوطين لم
يكتبها على هذه الصورة، بل أغلب الظن أنه كتبها في فيض من الإلهام، وتركها بلا فواصل
أو
عناوين. وليس مرجع ذلك — كما يرى تلميذه — أن بصره كان قد ضعف في أواخر حياته ضعفًا
شديدًا، بل لا بد لنا أن نبحث عن سببه في طبيعة الموضوع نفسه، فما هو هذا الموضوع الذي
سنحاول أن نقترب من حقيقته؟
على الرغم من أننا نلاحظ في السنوات الأخيرة ما يشبه حركة البعث لفلسفة أفلوطين كما
تتجلَّى في نشر أعماله باليونانية نشرًا دقيقًا مُحقَّقًا وفي ترجمتها إلى معظم اللغات
الأوروبية؛ إلا أن أفلوطين لم يُقدَّر له أبدًا أن يكون من الفلاسفة الذين يُقْبِل
الناس على قراءتهم ومناقشة آرائهم والتحمُّس لأفكارهم، ومع ذلك فيكاد كل مثقف أن يعرف
شيئًا عنه أو يردِّد بعض كلماته المعروفة: الواحد، الفيض أو الإشعاع الذي تصدر به
الموجودات الكثيرة من الموجود الواحد الأوَّل، التدرج الذي يهبط من العقل إلى النفس إلى
المادة، المادة أصل الشر، الفناء والوجد … إلخ. كما يكاد كل مَنْ له إلمام بالفلسفة أن
يعرف أن أفلوطين قد علم أن مصير النفس التي سقطت عن الواحد هو أن تعود مرةً أخرى إلى
الأصل الأوَّل الذي نَبَعَتْ منه، وتتحد معه في لحظاتٍ نادرة من حياتها بما يشبه الوجد
والانجذاب؛ الأمر الذي وُفِّقَ إليه أفلوطين أربع مرات في حياته، على نحو ما يروي عنه
تلميذه ومؤرخ حياته!
ولكن هذا التصوير لفلسفة أفلوطين لن يفرق كثيرًا بينها وبين غيرها من المذاهب
الفلسفية المأثورة في تاريخ الفكر الغربي، حقًّا إنها قد تبدو شيئًا مشوِّقًا عميقًا
غريبًا، ولكنها ستبدو للقارئ المعاصر — الذي يفهم عن «الحقيقة» و«الواقع» — شيئًا
مختلفًا أشد الاختلاف عما كان يفهمه القدماء منهما، وكأنها أثرٌ تاريخي عفى عليه
الزمان، وسكنت فيه نبضات الحياة. وربما كان للقارئ الذي يرى هذا الرأي عذره، فأفلوطين
هو أعظم الناطقين باللسان اليوناني في المرحلة الأخيرة من مراحل الفلسفة اليونانية،
اتحدت فيه عناصر هذا التراث الضخم وأينعت ثمرتها الناضجة المتأخرة، وتشكَّلت في صورة
مذهبٍ شامخ يطلُّ كالفنارة الوحيدة على شاطئ بحرها الزاخر غير المحدود.
كل هذا معروفٌ مشهور، يستطيع القارئ إذا شاء أن يجده في أي كتاب من كتب تاريخ الفلسفة
الكثيرة، ولكن ما نريد أن نتحدث عنه اليوم شيءٌ آخر غريبٌ وجديد وفريد، ربما لم يكن له
دورٌ يُذكَر في تأثير أفلوطين على العصور التالية، وربما لم يكن من المستطاع أن يُكْتَب
له مثل هذا الدور، فما هو هذا «الشيء» الجديد؟
فما هو هذا الواحد؟
ربما كان السؤال على هذه الصورة ساذجًا أو مجانبًا للصواب؛ فهو يسأل عن «ما» هو
الواحد، بينما يجوز أن يكون الواحد مما لا يُقال عنه «ما»، ولكننا سنتركه كذلك إلى
حين.
يصل أفلوطين من الناحية الفلسفية الديالكتيكية إلى فكرته عن الواحد في معرض سؤاله
عن الأصل.
٤ والسؤال عن الأصل أو المبدأ ليس سؤالًا أفلوطينيًّا خالصًا؛ ذلك أنه
قديم قِدَم الفلسفة نفسها، بل إن في استطاعتنا أن نقول: إنه السؤال الأوَّل لكل
متفلسف، لقد حرَّك الفلسفة اليونانية منذ نشأتها الأولى، ويكفي أن نتذكر أن
الفلاسفة الطبيعيين قبل سقراط (طاليس وأنكسمندر وأنكسمانس) قد فرَّقوا تفريقًا
حاسمًا بين الأصل وبين ما يصدر عنه من أشياء، أي أنهم رأوا أن الموجود أو الشيء
يصدر عما لا يتصف بمحدودية الشيء والموجود، تشهد بذلك عبارة أنكسمندر المشهورة:
«أصل الموجودات هو اللامحدود.»
٥ وتتصل هذه التفرقة بين الأصل وبين ما يصدر عنه من موجودات في الفلسفة
اليونانية من بعدُ وبخاصة عند أفلاطون، بينما نجد تلميذه العظيم أرسططاليس يحاول أن
يُغيِّر من هذه التفرقة ويمهِّد لضياع ملامحها.
ليست قيمة أفلوطين في أنه رجع إلى هذا التراث الفلسفي الذي ميَّز بين الأصل وبين
ما ينبع منه، بل في أنه أخذ هذا التمييز مأخذ الجد فحدَّده تحديدًا حاسمًا، واهتم
به اهتمامًا لم يصل إليه مفكر قبله ولا بعده. إنه يقول مثلًا في إحدى رسائله المبكرة:
٦
أمَّا العلة فليست هي نفس المعلول، إن علة كل شيء ليست شيئًا من
الأشياء.
ثم يقول في إحدى رسائله المتأخرة:
٧
إن ذلك الذي يصدر عنه كل موجود، ليس هو نفسه ككل موجود، بل هو مختلف عنها
جميعًا.
هذا المعنى نفسه يتكرر في مواضع لا حصر لها من كتاباته. والواقع أن أفلوطين لا
يأتي في ذلك بجديد، فقد ذهبت الفلسفة اليونانية دائمًا في تاريخها الطويل إلى أن
الكثرة والتعدُّد هما الصفتان الغالبتان على العالم والموجودات، وكان من الطبيعي أن
يكون الأصل فيها مختلفًا عنها، أعني أن يكون واحدًا وبسيطًا، ويتردد هذا المعنى
نفسه في أقدم عبارة فلسفية أُثِرَت عن أب الفلاسفة طاليس، فالمشهور عنه أنه قال: إن
الأصل في جميع الموجودات هو الماء، وليس هذا الماء شيئًا أسطوريًّا ولا هو الماء
الذي يحدد الكيميائيون معادلته بأنها «يد٢ أ» والذي ندير الصنبور لنغسل وجوهنا منه
كل صباح، بل هو — على حد تعبير هيجل — «ماءٌ تأملي»، أي يستطيع الفكر وحده أن
يتخيَّله في وحدته وبساطته.
قُلنا: إن ما يميز أفلوطين عن المفكرين من قبله ومن بعده هو نظرته الحاسمة إلى
وحدة الأصل وعدم تعدده أو كثرته. وكلمة «الواحد» من الكلمات التي يمكن أن يُساء
فهمها بسهولة، ولعل ذلك ألَّا يكون من قبيل المصادفة، بل يرجع إلى طبيعة اللغة
نفسها؛ ذلك أن أفلوطين حين يفكر في الواحد فإنما يتصوَّره على أنه ما ليس بمتعدد
ولا بكثير، أي على أنه ذلك «الآخر» المخالف في طبيعته للعالم ولكل ما يحتويه هذا
العالم، وهو حين يحاول أن يصفه يكشف عجزه فيقول: إنه لا يمكن أن يوصف لا بالكلام
ولا بالكتابة،
٨ ولكنه مضطر أن يفكر فيه عن طريق اللغة؛ فقد يكون هناك فكر بلا كلام، أو
فكر لا يجد الكلمات التي تعبِّر عنه، ولكن لا يمكن أن يكون هناك فكر بلا لغة، وهذه
اللغة التي يستخدمها للتعبير عما ليس في العالم ولا منه قد جُعِلَت من أجل هذا
العالم، وإذن فهو مضطر بالضرورة إلى التعبير عنه بالوسيلة القاصرة التي لا يملك
وسيلة سواها، وتعجز الكلمة التي يلجأ إليها فلا تستطيع أن تسمي، بل تكتفي بالإشارة
إلى ما يفلت من كل تسمية، وتصبح لها وظيفة أخرى غير وظيفتها الطبيعية. إنها لم تعد
تقرِّبنا مما نسميه بل أصبحت توضح عجزنا عن إيجاد اسم له. وليس عجيبًا بعد ذلك أن
يجد أفلوطين نفسه في موقف مَنْ لا يكاد ينطق بكلمة حتى يجد نفسه مضطرًّا إلى
التراجع عنها وإيثار السكوت الخاشع عليها.
الوحدة تقابلنا في كل مكان، كل ما هو موجود فهو واحد، وليس في الوجود شيءٌ واحد
يمكن أن يُقال عنه إنه متَّحد مع شيءٍ آخر من جميع الوجوه «حتى الأوراق على الشجرة
الواحدة ليس بينها ورقةٌ واحدة يمكن أن يُقال عنها إنها هي نفسها الورقة الأخرى،
كما لاحظ ليبنتس بحق.» ونحن لا نستطيع أن نرى شيئًا أو نفكر في شيء إلا إذا رأينا
على وجهٍ من الوجوه أنه واحد وأدركنا أنه وحدة بمعنًى من المعاني، كل موجود فهو إذن
واحد على الدوام، ولكن كل موجود في نفس الوقت هو أيضًا كثير. فالنفس مثلًا واحدة؛
لأنها تتلقى هذه الوحدة من الواحد وتشارك فيها، ولكنها في نفس الوقت كثيرة؛ إذ
تنطوي على قوًى متعددةٍ كالفكر والنزوع والإدراك، تتحد بدورها ويؤلف بينها الواحد
(٦–٩، ١-٢، ص١٧٣) حتى أبسط مضمونات الفكر — كالوجود أو الوحدة مثلًا — تحتوي دائمًا
على الكثرة، وإذن فكل ما هو موجود فهو واحد وكثير في وقتٍ واحد، أو هو كثرة ألَّفت
بينها وحدة، وإذا كان هناك ما لا حصر له من الموجودات الكثيرة، فهناك أيضًا ما لا
حصر له من الموجودات الواحدة.
كل الوحدات إذن هي دائمًا واحدة على نحوٍ نسبي، أي أنها ليست واحدة بشكلٍ مطلق،
بل هي واحدة من ناحية وكثيرة من ناحيةٍ أخرى.
ولكن أفلوطين يفكر في «الأصل»؛ فيرى أنه واحدٌ مطلق، ولا بد أن تكون هذه الوحدة
التي يعنيها شيئًا مختلفًا تمام الاختلاف عما كان يُقْصَد بها من قبلُ، إنها لم تعد
تُفْهَم عن طريق الإيجاب، بل عن طريق السلب؛ فهي بهذا المعنى الجديد ما ليس بكثير،
إنه يتحدث في هذا المقام عن «رفض» الكثير أو تجريده، ويُشير إلى الرمز الفيثاغوري
عن أبوللون
٩ أو غير الكثير
١٠ كما يتحدث عن الهروب من الكثرة والتقسيم،
١١ وليست الوحدة هنا مفهومًا عدديًّا-كميًّا ولا مكانيًّا، ولا هي
بالمعنى الذي نفهمه من الواحد حين نذكر العدد «١»، ولا بمعنى النقطة حين نقصد منها
العنصر المكوِّن للمكان؛ ذلك أن الواحد عند أفلوطين ليس عنصرًا من العناصر
المكوِّنة للعالم، بل هو «الآخر» المختلف عن كل ما هو عالمي أو من العالم.
النقطة والعدد وكل ما هو موجود وكل وحدة يمكن أن تتعدد وتتكاثر، أمَّا الواحد فهو
ما يختلف عن كل كثرة ووحدة، وما لا يمكن أن يتعدد على أي نحو من الأنحاء؛ ذلك أنه
الوحيد على وجه الإطلاق؛ فهو إذن ليس كثرة ولا وحدة على هذا المعنى، بل هو وراء هذه
التفرقة كلها. والواحد باعتباره الأصل في كل موجود لا يمكن أن يكون هو نفسه
موجودًا، أي لا يمكن أن يكون «هذا»
١٢ ولا «ما»
١٣ ولا «ذلك»، وربما أوهمتنا أداة التعريف «ال» — التي تُضاف إلى لفظة
الواحد — أنه شيءٌ محدَّد، ولكن الواحد ليس كأي شيء، فلا هو موضوع ولا هو ذات، ولا
هو موجود نصفه فنقول عنه: إنه واحد؛ ذلك أن كل موجود فهو ذو شكل، وهو بهذه الصفة
محدودٌ معين. أمَّا الواحد باعتباره «الآخر» المختلف عن كل ما هو موجود فهو حقيقة
لا شكل لها ولا سبيل إلى تحديدها أو التعبير عنها.
لا بد إذن أن نقول: إن الواحد لا يُسَمَّى ولا يوصف؛ ذلك لأن كل اسم أو وصف إنما
يُطْلَق على شيء ما، ولو شئنا الدقة لما جاز أن نسميه «بالواحد»، ولو أن هذه
التسمية هي أنسبها جميعًا في رأي أفلوطين، إن كان لا بد لنا من الاختيار،
١٤ بل ولا أن نسميه بذلك
١٥ وهي أكثر أسماء الإشارة نصيبًا من الاتساع وعدم التحديد، ولو سِرنا في
هذا الطريق الديالكتيكي إلى آخره؛ لتَبيَّن لنا أن الواحد لا هو كثير ولا هو غير
كثير، وأن كل ما نصِفه به فإنما يلغي نفسه بنفسه؛ إذ أين نجد الكلمة التي تستطيع أن
تعبِّر عما لا سبيل إلى التعبير عنه، أو تُسَمَّى التجربة التي تحار أمامها
الأسماء؟
هل نكون بهذا كله قد ضللنا في متاهةٍ جدلية لا مخرج منها؟ ألا يمكن أن تؤدي بنا
هذه التأملات أو الشطحات إلى العدم أو ما يشبه العدم؟ ومن أين لعقلنا الطبيعي
المحدود بهذا العالم أن يجد الجناحَينِ اللذين يرفرفان به إلى ما ليس من هذا
العالم؟
الحق أن أفلوطين قد شعر بهذه المخاوف التي تُصيب كل من يفكر تفكيرًا طبيعيًّا؛
فهو يقول:
١٦ «كلما أوغلت النفس فيما لا شكل له، وهي عاجزة كل العجز عن الإحاطة به؛
لأنها لم تحدد به … انزلقت وخافت من أن يكون نصيبها هو العدم.» إن ما لا شكل له —
وهو مجال الواحد — ليس هو العنصر الطبيعي الذي تسبح فيه النفس والفكر؛ ذلك أن ما لا
شكل له فلا سبيل إلى وصفه أو فهمه؛ لأن الخيال لا يستطيع أن يدركه أو يتشبث به،
فإذا تجاوزت النفس كل ما هو ذو شكل — أي كل موجود؛ إذ لا يخلو موجود من أن يكون له
شكل — فلا بد لها أن تنزلق عنه، ولا بد أن ترتجف ارتجافة الرهبة والخوف حين لا تجد
أمامها سوى العدم والفراغ، ولا تهتدي إلى شيء يمكنها أن تتشبث به. إنها ما زالت
غفلًا لم تجرِّب ولم تتمرَّس؛ فلا عجب أن تظن أن ما لا شكل له فلا وجود له، ولكن ما
لا وجود له لا يتساوى مع ما هو عدم، وأفلوطين نفسه يسأل في موضعٍ هامٍّ من الرسالة الثالثة
١٧ في سياق حديثه عن القفزة الحاسمة إلى الواحد إن كانت قفزة إلى العدم،
١٨ وهنا يلجأ إلى التعبير المدهش حين يقول: «أجل، إنه هو العدم بالقياس
إلى كل ما هو أصل له؛ إذ ما من شيء يمكن أن يُقال عنه: لا إنه وجود، ولا إنه جوهر،
ولا إنه حياة؛ إذ هو يرتفع فوقها جميعًا.»
١٩ الواحد المطلق إذن عدم، لا بمعنى العدم المفتقر إلى الوجود، بل بمعنى
ما يتفوق في القوة والجود والامتلاء على كل ما هو موجود، إنه ليس موجودًا، بل هو
فوق كل موجود، على حد تعبير أفلوطين في ختام الرسالة السادسة.
٢٠
فما هو إذن هذا العدم أو هذا الواحد، أو ما نشاء له من أسماء لا تستطيع أن
تسمِّيه؟ ما هذا الذي يفوق كل موجود في الجود والقوة والامتلاء والوجود؟!
القارئ يعرف الآن أنه ما من جواب على هذا السؤال، ذلك أن كل جواب طال أو قصر
سيكون بالضرورة على هذه الصورة: «إنه هو «يكون» هذا أو ذاك»، لكن الواحد ليس «هذا»
ولا «ذاك»، ولا سبيل إلى التعبير عنه بفعل «يكون»؛ فالجواب إذن سيخطئ السؤال، بل إن
كل سؤال سيؤدي بطبيعته إلى توجيه الجواب وجهةً خاطئة؛ إذ ما من سؤال يسأل إلا كان
عن موجود على نحوٍ من الأنحاء.
هل نكون بذلك قد أوغلنا في المتاهة التي لا أمل في الخلاص منها؟ إن القارئ قد
يغفر لنا عجزنا عن إيجاد الجواب، ولكن كيف نطلب منه أن يغفر لنا العجز حتى عن توجيه
السؤال؟ ألا نكون بذلك قد خرجنا عن دائرة الفهم البشري وتُهْنَا في فراغ يخرس فيه
السؤال ويضيع الجواب؟!
ولكن كيف نقترب إذن مما يسميه أفلوطين «بالواحد»؟!
إن ما ينطبق على أية فلسفة ينطبق على أفلوطين؛ فنحن لا نستطيع أن نعزل فكرة
الواحد عن السياق الشامل الذي وردت فيه، ولن يُجدينا التأمل فيها شيئًا ما لم نضعها
في الكل الذي يحتويها. إن الحجر الواحد لا قيمةَ له بغير البيت الذي يكون فيه،
وكذلك الفكرة المفردة لا أهمية لها إذا انسلخت عن البناء الشامخ الذي وُضِعَت
فيه.
لا فائدة إذن من التفكير في «الواحد» أو «العدم» أو «ما وراء» أو غيرها من
الكلمات الأثيرة عند أفلوطين بمعزل عن حركة الفكر عنده، هذا الفكر يتحرك حركةً
صاعدة نحو الواحد، ويلتزم في سَيره بمنهج أو طريق يتدرج خطوةً فخطوة إلى
غايته.
هو طريقٌ صاعدٌ متدرج كما قُلنا،
٢١ كل درجة منه تُمهد للدرجة التي تليها وتسبق الدرجة التي تركتها وراءها،
هذه الدرجات المشهورة هي على الترتيب الجسد (سوما
soma) والنفس (بسيخي
Psyche)
والعقل (نوس
Nous)، وكلما بلغ الفكر درجة منها
أحسَّ بما يعْتوِرها من نقص، وشعر بالحاجة تدفعه إلى تجاوزها إلى الدرجة التي تليها
على السلَّم الصاعد، ولكن إلى أين؟ إلى الواحد الذي يكفي نفسه بنفسه.
٢٢ ولا يحتاج إلى شيء عداه، وأي إنسان هذا الذي يستطيع أن يصعد إلى هناك؟
لعله أن يكون ذلك الذي رأى كل شيء، أو كما يُقال: رأى معظم الأشياء.
٢٣
ليس هذا الطريق الصاعد المتدرج شيئًا جديدًا عند أفلوطين؛ فالمعروف أن تفكير
أفلاطون في جوهره تفكير صاعد أو كما يقول الفلاسفة تفكير ديالكتيكي، وقد حدد
أفلاطون معالم هذا الطريق — بوجهٍ خاص — على لسان «ديوتيما» (في محاورة المأدبة أو
المشرب (سيمبوزيوم) — إن شئنا الدقة — في حديثها عن الطريق الصاعد إلى «الجميل
نفسه»).
غير أن ما يميز أفلوطين عن أفلاطون، بل ويتفوق عليه فيه، هو أن «الصعود» عنده هو
في نفس الوقت «رجوع» وعودة إلى الأصل أو هو ما سميناه من قبل «بالاتجاه إلى
الباطن»، وهو سر أصالة أفلوطين وتفرده في تاريخ الفكر الغربي كله.
هذا الطريق يصعد إذن من درجته الدنيا — وهي الجسد — إلى درجته العليا — وهي العقل
— ولكن الدرجتين ما زالتا في دائرة العالم، هنا نصل إلى القفزة الحقيقية في تفكير
أفلوطين، فعندما يصل التفكير إلى الدرجة الأخيرة فإنه يثب إلى ما يخرج عن حدود
العالم أو يعول عليه، أعني إلى الواحد المطلق، أو ما نسميه عادةً بالعلو أو بالعالي
(الترانسندنس). يقول أفلوطين في الرسالة السادسة:
٢٤ «أمَّا إذا وصلتَ بملكة المعرفة عندك إلى اللامحدود؛ لأنه ليس من هذه
الأشياء، فاستند إلى هذه الأشياء نفسها، ومنها شاهد». ومعنى هذا أن الحركة الصاعدة
لا تبدأ في الفراغ أو الخيال الغامض غير المحدود، بل ترتكز على أرض هذا العالم،
وتنطلق من أشيائه وموجوداته.
لقد طالما أُسيء فهم أفلوطين، واتُّهِمَ بعداوته للجسد واحتقاره للعالم، وتلميذه
فرفريوس هو المسئول عن هذه الخرافات التي رواها عنه؛ ألم يقل: إن معلمه كان يخجل من
جسده، ويرفض أن يرسمه مصوَّرًا، ويضنُّ بسرِّ حياته؛ فلا يبوح لأحد عن وطنه وآبائه؟
٢٥ غير أن الحقيقة تختلف عن ذلك تمامًا؛ فقد كان أفلوطين يعرف قدر هذا
العالم الحسِّي، ويتذوق مباهج الجمال والحسن فيه، ويكفي أن نقرأ معًا هذه القطعة من
رسالته الثانية المتأخرة
٢٦ التي يقف فيها موقفًا حاسمًا من الغنوصيين محتقري الجسد
والعالم:
وكذلك فإن احتقار العالم والآلهة الذين فيه
والأشياء الجميلة الأخرى ليس هو
الطريق إلى الخير … فكيف لامرئ
أن يكون على هذا الكسل في التفكير وألَّا يؤثر فيه
شيء، حين يرى كل هذا الجمال في العالم المحسوس،
وكل هذا التجانس والتوافق المذهل
والمنظر المتألق الذي تتيحه الكواكب على
الرغم من بُعْدِها؟! ألا يحس بشيء يختلج في فؤاده،
وبالرهبة تستولي عليه وهو يرى كيف ينشأ البديع
من البديع؟ إنه عندئذٍ لم يفهم هذا العالم ولا رأى
العالم الآخر. أمَّا إذا زعموا أنهم لا يتأثرون ولا
يميزون بين الأجساد
القبيحة أو الأجساد الجميلة التي يرونها، فإنهم لا
يستطيعون كذلك أن يميِّزوا بين الأفعال القبيحة
والأفعال الجميلة، ولا أن يتبينوا العلوم
الجميلة، ولا أن يبلغوا الرؤية ولا الله.
فالطريق إذن إلى مشاهدة الواحد يبدأ من مشاهدة هذا العالم الجميل،
ولا يتسنى للإنسان أن يرى الرؤية الحقة حتى يغوص بكليته في هذه الأرض، ويملأ عينَيه
من هذا الواقع المحسوس. العقل هو الدرجة الأخيرة على سلَّم الفكر الصاعد، ولا بد
هنا من الإشارة إلى خطأ شائع يُتَّهَم فيه أفلوطين بمعاداة العقل، فالواقع أنه قد
قدَّر العقل وأعلى من شأنه، ولكن تقدير العقل أو احتقاره ليسا في الحقيقة بالأمر
الأساسي، فإن عظمة أفلوطين تكمن في أنه لم يقف عند هذا العقل على الرغم من تقديره
لقوته، بل تجاوزه إلى ما وراءه، وحقَّق ما سميناه بالعلو عليه، ومضى في الطريق
الصاعد نحو الواحد.
قُلنا: إن النفس تعلو درجة درجة إلى الواحد، وأفلوطين يصوِّر هذا العلو في حديثه
عن المشاهدة، وذلك في رسالته الثالثة الهامة،
٢٧ ولا يصح أن يفوتنا هنا الإشارة إلى أن المشاهدة (ثيوريا)
٢٨ تلعب دورًا هامًّا في تاريخ الفلسفة اليونانية، وبالأخص في عصرها
الذهبي الرائع عند أفلاطون وأرسطو. والفعل من هذه الكلمة يعني التفرج في المسرح
والمشاركة في طقوس العبادة؛ فأصبح بعد ذلك يُسْتَخْدَم للدلالة على علاقة الإنسان
بالحقيقة، بحيث يكون أسمى ما يصل إليه هو مشاهدتها والتملِّي منها، وليس غريبًا بعد
ذلك أن يعود أفلوطين إلى هذه الكلمة ذات التاريخ الطويل؛ ليصور ارتفاع النفس إلى
الواحد، ويبالغ في معناها إلى الحدِّ الذي تخالف به مفهومها القديم.
فالمشاهدة تَكْتَسب عند أفلوطين معنًى أنطولوجيًّا (وجوديًّا) شاملًا، يفوق بكثير
ما كانت عليه عند أفلاطون وأرسططاليس، وتصبح شكلًا أساسيًّا للموجود على وجه
الإطلاق، إنه يؤكد شمول المشاهدة في بداية رسالته التي ذكرناها فيما تقدم، وذلك حين
يتحدث في مطلع هذه الرسالة عن التقابل بين الهزل واللعب، ويذهب إلى أن كل سلوك
الإنسان من لعب الصبي إلى جد الرجل، ومن الفعل الذي يُشبع به حاجاته الضرورية إلى
الفعل الذي يتجه في حرية إلى الباطن؛ إنما ينبع من مصدرٍ واحد هو النزوع إلى
المشاهدة. ويستطرد أفلوطين فيعمم هذه الفكرة على دائرة الوجود كلها، بين درجته
الدنيا «وهي الطبيعة»
٢٩ إلى الدرجة التي تليها «وهي النفس»
٣٠ ثم إلى العقل
٣١ وكل منها تمثل درجة من المشاهدة، تظل ترتفع إلى السلم الصاعد حتى تبلغ
درجة الاتحاد مع المشاهد، وتصل إلى ما يعبر عنه هذا التعبير المحيِّر الغريب حين
يقول: إنها هي المشاهدة التي لا تشاهَد أو الرؤية التي لا تُرَى …
يبدأ أفلوطين من أدنى الدرجات على السلم الصاعد إلى الواحد فيبين أن جوهر الطبيعة
الخلَّاقة (فيزيس) هو المشاهدة، إن عملية الخلق المبدعة التي لا تفتأ الطبيعة
تمارسها في كل لحظة لا يمكن تفسيرها على أساسٍ آلي: «ولكن على الإنسان أن يستبعد
العمل بالروافع من عملية الخلق في الطبيعة؛ إذ كيف يستطيع الدفع والضغط أن يبدع هذه
الألوان والأشكال البهيجة المتعددة.»
٣٢ ليست الطبيعة إذن كالعامل اليدوي الذي يصنع شيئًا بآلاته وأدواته، وهي
لا تخلق الأشياء بعد إمعان في التفكير لتؤلف بينها بعد ذلك في وحدةٍ شاملة، بل
الأَوْلى أن يُقال: إن الكل هو الذي يسبق الأجزاء في عملية الخلق الطبيعية:
«الطبيعة تبدأ من الأصل وليست في حاجة إلى التفكير.»
٣٣
مبدأ الفعل الخلاق في الطبيعة إذن قوة مبدعة، باقيةٌ قادرة على التكوين والتشكيل،
تخرج الكليات والأشكال المشاهدة فيها إلى الوجود، هذه القوة الخلَّاقة هي التي
يسميها أفلوطين في بعض الأحيان باللوجوس (كلمة – معنى – عقل)، ويرى أن جوهرها هو
الرؤية والمشاهدة، «والآن فبقدر ما تخلق (أي القوى الطبيعية) على الدوام، وتظل
متماسكة في نفسها، وبقدر ما هي لوجوس؛ فإن من الممكن أن تكون هي نفسها مشاهدة»،
٣٤ هذه القوة المبدعة التي تفيض فيضًا مستمرًّا هي في رأي أفلوطين مبدأ كل
حياة، وسر كل وجود، وهذا السر هو الذي يسميه بالرؤية أو المشاهدة.
ومع أن الطبيعة تعمل في صمت، فإن أفلوطين يحاول أن يهدينا إلى سرها العظيم — لا
أن يفسره — فيجعلها تتحدث عن نفسها فتقول:
وإذا سألها أحد: لماذا تخلق؟ وكان لديها
الميل إلى الاستماع إلى السائل والحديث إليه فإنها
ستجيبه قائلةً: خيرٌ لك ألَّا تسأل، بل أن تفهم أنت
نفسك في صمت كيف أنني أنا أيضًا أخلد إلى الصمت وليس
من عادتي الكلام. ولكن ماذا تفهم؟ أن المخلوق رؤياي،
أي رؤيا نتجت عن ماهيتي، وأنني، وقد نشأت أنا نفسي عن مثل هذه
الرؤيا، مفطورة على محبة الرؤية والمشاهدة، وأن الرؤيا من جانبي
تخلق
المرئي، على نحو ما يرسم الرياضيون
أثناء رؤيتهم، والفرق أنني لا أرسم،
بل تخرج معالم الأجسام إلى الوجود في أثناء
رؤيتي، كما لو كانت تتساقط عني.
ولا بد لنا لكي نفهم هذا الجواب الغريب أن ننتبه إلى أن الرؤيا أو
المشاهدة ليست مجرد تطلُّع سلبي، بل إنها قد تكون فعلًا إيجابيًّا خلَّاقًا؛
فالمُثل الأفلاطونية لا تُرَى كما لو كانت أشياءَ ماثلةً أمامنا؛ لأن وجودها يختلف
عن وجود الأشياء في العالم الحسي، ولا تُتَصَوَّر كما لو كانت محض خيال أو وهم، بل
هي تُرى بفعلٍ فريد من أفعال الرؤية والمشاهدة العقلية الخالصة،
٣٥ ويأتي أفلوطين فيؤكد هذا العنصر الخلَّاق الكامن في كل رؤية، ويذهب إلى
أن كل ما هو موجود — من أدنى درجات المادة إلى أسمى درجات العقل — إنما ينشأ عن
الرؤية والمشاهدة.
الطبيعة تقول للسائل: خيرٌ لك ألَّا تسأل، بل أن تفهم أنت نفسك في صمت كيف أنني
أيضًا أخلد إلى الصمت وليس من عادتي الكلام. والطبيعة لا تقول هذا لأنها أدنى درجات
الحياة وأقلَّها حظًّا من الوعي والشعور فحسب، بل لأن سر الطبيعة وسر الحياة لا
يمكن التعبير عنه بالكلمات، وبالتالي لا يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير، ونسأل
أفلوطين: وما هو السبب؟ فيجيب: لأن السر يرى في صمت؛ لأنه رؤيا (وربما كان هذا هو
الذي جعله يوضح صدور الموجودات عن الواحد عن طريق ما سماه بالفيض أو الإشعاع، أي عن
طريق صورةٍ حسية لا عن طريق فكرةٍ عقلية).
وقد نعود فنسأل: وما الذي يجعل الأشكال والماهية التي تراها قوة الطبيعة تخرج إلى
الوجود المادي؟ فيقول: إن ذلك نتيجة ضعف الرؤية لدى الطبيعة، ثم يفسِّر ذلك بمثالٍ
مُستمَدٍّ من السلوك البشري حين يقول:
لأن البشر أيضًا، حين يفقدون القدرة على الرؤية، ينتجون
ظلًّا للرؤية وللعقل، هو الفعل والسلوك.
فالفعل عند أفلوطين لا يصدر عن القوة بقدر ما يصدر عن الضعف، وهو
يوضح ذلك فيقول:
ذلك لأنهم نتيجة لضعف في نفوسهم لا يستطيعون أن يستسلموا للرؤية
بدرجةٍ كافية، ولأنهم تبعًا لذلك عاجزون عن إدراك الصورة المرئية
رؤية كافية، ومِنْ ثَمَّ لا يصلون إلى حد الرضا
والإشباع، بل يسعون إلى مشاهدتها؛ لذلك يندفعون
إلى الفعل، لكي يروا بالحواس ما عجزوا عن رؤيته
بالعقل.
سوف نجد دائمًا أن العمل والفعل إمَّا أن يكون ضعفًا في الرؤية
أو يكون نتيجة مصاحبة لها. هو ضعف حين لا يجد المرء
«شيئًا يراه» أكثر من المعمول، وهو نتيجة مصاحبة لها، حين
يكون لديه شيء يراه أقوى من المعمول ويتقدم عليه.
إذ كيف يتَّجه إلى ظل الحقيقة من يملك
القدرة على رؤية الحقيقة؟ إن الدليل على هذا هو
الأطفال الخاملون من الناحية العقلية الذين
يعجزون عن التعلم والرؤية؛ فينتهون إلى الصنعة
(التكنيك) والحرفة اليدوية.
ولا ينبغي أن يُفْهَمَ من هذا أن أفلوطين يُنكِر قيمة الفعل أو
يقلِّل من شأنها؛ ذلك أنه لا يقصد إلا أن يبيِّن أن الفعل وجه من وجوه الرؤية، أو
هو رؤيةٌ ضعيفةٌ ناقصة، فالفعل عنده إمَّا أن يكون نتيجة ضعف في الرؤية، يحاول به
المرء أن يشغل نفسه بشيءٍ مصنوعٍ ماثل الوجود، لكي يستعيض به عن نقص الرؤية
الباطنية لديه، ويملأ الفراغ الذي يحسُّ به في نفسه، وإمَّا أن يكون ظاهرة مصاحبة
لرؤية النفس، ناجمة عن فساد أو قصور فيها، ولعل هذا هو السبب فيما ذكرناه في أول
هذا الحديث من أن أفلوطين لم يكن يكترث كثيرًا بتدوين مؤلفاته، ولم يحتمل، بعد أن
سطَّره فيما يشبه الإلهام المحموم، أن يعيد قراءتها مرة واحدة.
والدرجة التالية للطبيعة هي النفس، فكما أن الطبيعة الخارجية
٣٦ تُعدُّ رؤيةً ضعيفة للقوة الطبيعية الباطنة أو الطبيعة الطابعة،
٣٧ فإن هذه القوة الطبيعية تُعَدُّ كذلك رؤيةً ضعيفة للنفس الكلية، كما أن
هذه النفس الكلية بدورها رؤيةٌ ضعيفة للعقل الذي يمثل أكمل درجات الرؤية.
رؤية النفس أوفر حظًّا في «الباطنية» من الطبيعة، والتي تتبدد رؤيتها في المادة
الخارجية، وكلما ازدادت النفس رؤية ازدادت ميلًا إلى الهدوء والسكون، أي قل نصيبها
من الفاعلية؛ لأنها لا تعود تبحث عن شيء خارجها، بل تستريح في ذاتها؛ حيث تجد هناك
كل ما تتوق إليه.
ولكن لما كانت النفس لا تملك المرئيَّ ملكًا باطنيًّا كاملًا؛ فإنها تسعى إلى
درجة أعلى من الرؤية، وتلك هي درجة العقل المفكِّر في نفسه؛ فالنفس إذن تشغل من هذا
السلم الصاعد مكان الوسط، بين اتجاه الطبيعة إلى الخارج اتجاهًا كاملًا وبين
الاتجاه إلى الباطن اتجاهًا تامًّا عند العقل، فإذا كانت قوة الطبيعة تتبدَّد عند
الرؤية في عالم المادة الخارجية، فإن العقل يظل مع نفسه فحسب، خالصًا للتفكير
الخالص في نفسه، هنا يتحد الرائي والمرئي، ويتعانق الفكر والوجود. إن العقل الذي
يفكر في نفسه، أو — إن شئنا الدقة — الذي يفكِّر نفسه هو الحياة الأولى، أو هو
الحياة التي تهب نفسها الحياة، أو هو الرؤية الحية.
ولكن هل نصل مع العقل حقًّا إلى أعلى درجات الرؤية؟ وهل ينتهي السلم الصاعد فلا
نجد درجة أخرى نصعد إليها؟ الظواهر كلها تدل على هذا؛ فالسلم قد انتهى بالفعل، ولكن
الشوق إلى الصعود ما زال متَّقدًا، واللهفة إلى الارتفاع لم تهدأ بعدُ.
لا بد إذن من أن نُلْقِي بالسلم بعيدًا، ماذا تفعل؟ لم يبق أمامنا إلا أن نقفز
القفزة الأخيرة، لعلنا أن ندرك الواحد، غير أنها ليست قفزة الخيال الجامح، ولا طفرة
العاطفة المتحمِّسة؛ فقد مهدتْ لها ودفعتْنا إليها المراحل التي تركناها
وراءنا.
كل رؤية تفترض وحدة الرائي والمرئي واختلافهما في آنٍ واحد، غير أن الوحدة هي
الأصل، فليس الأمر في عملية الرؤية — مهما يكن نوع وطريقة تفسيرها — أن تكون هناك
ذاتٌ ترى من ناحية وأمامها الموضوع الذي تراه من ناحيةٍ أخرى، ثم تتصلان ببعضهما
على وجه من الوجوه، بل الأصح أن يُقال: إن فعل الرؤية يسبق كل تفرقة بين الرائي
والمرئي ويمكن لهما من الالتقاء، وكلما توثقت الوحدة بين الرائي والمرئي في الوجدان
الباطن؛ زاد نصيب الرؤية من «الباطنية»، وكلما نقص حظ الرؤية منها، كان ذلك دافعًا
إلى الارتفاع إلى رؤيةٍ أتم.
ولكن لِمَ لا يكون العقل الذي يصفه أفلوطين بأنه هو الفكر الذي ينكر نفسه، والذي
تتمثل فيه أكمل وحدة ممكنة بين الرائي والمرئي، لِمَ لا يكون هذا العقل هو نفسه
أعلى درجات الرؤية؟ الجواب ليس بعيدًا؛ فالعقل وإن يكن في حالةٍ نقيةٍ خالصة مع
نفسه، ولا يفكر في شيءٍ آخر سوى نفسه، فإنه مع ذلك لا يخلو من الثنائية الكامنة
بالضرورة في كل تفكير، ونقصد بها ثنائية المفكِّر والموضوع الذي يُفكِّر
فيه.
ما هي إذن هذه الرؤية الكاملة التي ما زلنا في سعيٍ دائب للوصول إليها؟ إنها كما
قلنا من قبلُ الرؤية التي لا تُرى، فإن سألنا ما هي طبيعتنا؟ أو كيف لنا أن ندركها؟
أعفانا أفلوطين نفسه من الجواب، وقال في عبارةٍ قد لا تخلو من الغموض: «فإن أنت
تركت الوجود «وراءك» لكي تستحوذ عليه (أي لكي تفهمه وتدركه) فسوف تقع في الدهشة،
عندئذٍ عليك أن تُلقي بنفسك عليه (تلقي بصرك أو تسدد سهمك إليه) وتُصيبه، وأن
تستريح في مملكته وتحيط به، وذلك بأن تفهمه عن طريق اللمس فهمًا أفضل، أمَّا العظمة
(أو العظيم) فيه فاعرفها عن طريق الموجود، الذي جُبِلَ على مثاله ومن خلاله.»
٣٨
أفلوطين هنا يحاول — باللفظ القديم الشاحب الذي لا يستطيع أن يسعفه — أن يعبر عن
الاتحاد مع الواحد، وأهم ما يلفت انتباهنا في هذه القطعة هو قوله: «أَلْقِ بنفسك عليه!»
٣٩ على الإنسان إذن أن يترك الموجودات كلها وراءه ويُلقي بنفسه على
الوجود. وتركه للموجودات كلها سيشعره بالدهشة؛ هذه الدهشة هي التي ستدفعه إلى إلقاء
نفسه على الوجود، على الواحد. إنه الآن لا يقف منه موقف الرائي من المرئي لكي يحاول
بعد ذلك أن يتَّحد به، بل يهب نفسه له، يُلقي بكيانه بين ذراعيه، يلامسه من كل
ناحية ويعانقه ويتَّحد به، لقد ترك وراء ظهره كل ما هو شيءٌ وموجود، وتملَّكته رعشة
الاندهاش فألقى بنفسه عليه حين أصابه وَجْد الراحة في الاتحاد معه اتحادًا يختلف عن
كل ما يمكن أن نتَّحد به من موجودات هذا العالم، ولكنه لا يطيل المكوث هناك، ولا
يستمرئ النعيم المتاح، بل يعود ثانيةً إلى هذا العالم، ويرجع إلى الموجودات ليراها
بعينٍ جديدة، ويدرك سر عظمتها التي استغلقت عليه من قبل.
ونعود فنسأل كما سألنا من قبل: ولكن ما هو هذا الواحد الذي نُلقي بأنفسنا عليه،
ونسدِّد كل سهامنا إليه، ونصعد لعلنا نتملَّى منه؟
ونعود أيضًا فنقول: إن السؤال بهذه الصورة مُجانِب للصواب؛ إذ كيف نسأل عما عسى
أن يكون الواحد مع أنه يعلو على كل وجود ويرتفع فوق كل كينونة؟
ومع ذلك فلنترك الكلمة لأفلوطين، وسوف يُعلِّمنا كيف نصمت حين يعجز كل
كلام:
ولكن هذا الذي لا يأتي إلى الوجود، ما هو؟
أجل، على الإنسان أن ينصرف صامتًا، وليس
له، بعد أن تاهت به حججه،
استطاع أفلوطين أن يعبِّر عن تجربته في هذه العبارة الكاملة:
«وحيدًا مع الواحد»،
٤١ وإذا كان الإنسان — وما أكثر التعريفات التي تُقال عليه، لأنه ما أشد
تعقده وغناه! — في تعريف أرسطو هو الكائن الوحيد الذي يعيش بطبعه في جماعة «المدينة»،
٤٢ فهو كذلك — بل وقبل ذلك — الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكون وحيدًا:
هذه الوحدة أبعد ما تكون عن الانعزال والانطواء؛ لأنها في صميمها التفتح الخالص
الذي هو شرط كل اجتماع أصيل. فالسجين في زنزانته ليس وحيدًا بحق؛ لأن الوحدة انطلاق
وتحرر، والحيوان وإن ثبت عن بعض أنواعه أنها تعيش في مجتمعات، لا يستطيع كذلك أن
يكون وحيدًا؛ لأنه حبيس في هذا العالم، عاجز عن العلو عليه أو الخروج منه.
وقد استطاع أفلوطين — ربما لأول مرة في تاريخ الفكر البشري — أن يخرج من هذا
العالم، وتجربته التي توصف بالوجد أو الانجذاب هي بمعناها الحرفي الخروج من
EK-stasis، ولكنه لم يخرج من هذا العالم إلا
لأن الواحد كان يجذبه بكليته إليه، لم يخرج منه إلا ليعود إليه، بهذا — وبهذا وحده
— استطاع أن يحبَّ العالم ويقترب من سرِّه، ويرى مواطن الجمال فيه بعينٍ جديدة لا
تغيب عنها الدهشة، إنه لم يرتفع فوق العالم إلا لكي يغوص فيه إلى الأعماق، فليس في
استطاعة الإنسان أن يغادر حدود كرته الأرضية؛ فهي ضيقة، هذه الكرة مزدحمة بالسجون
والأقفاص، برغم أبعادها غير المتناهية. إن باب الخروج من هذه الغرفة الأرضية
الواسعة لا يقع على حدودها وأطرافها، وإنما هو في باطنها، في نقطة المركز منها. ولن
يرتفع الإنسان فوق النجوم ما لم يهبط إلى الجذور الضاربة في الوحل.
إن أقدم شواهد الشعر الغنائي عند اليونان تنطق بهذه الوحدة؛ فشاعرة الحب والجمال
«سافو»
٤٣ تقول في أبياتها الأربعة الشهيرة:
الآن قد غاب القمر،
وكذلك الكواكب السبعة
انتصف الليل، وزمن الانتظار فات.
وأنا أنام وحدي.
وطريق المفكر والشاعر الغنائي طريقٌ وحيد، وقد ارتفع أفلوطين فوق
ذاته وفوق العالم، وأعتقد أنه سيجد في الواحد عزاءه الأخير، ولكنه ظل مع ذلك
وحيدًا، حتى مع الواحد، هنالك لم يبق أمامه إلا الصمت والسكون.
ومع ذلك فسوف يجد الإنسان دائمًا ما يعزيه عن وحدته أو ما يبعده عنها، في العمل
أو الحب أو الطموح أو الكفاح اليومي من أجل لقمة العيش، أمَّا مَنْ لا يجد العزاء
في شيء، فماذا تكون حاله؟ وكم يا ترى تكون قسوته وحدته؟