أيها الإنسان! لستَ إلهًا؟
موقف الإنسان في هذه الأيام موقفٌ عجيب.
لا أحب في بداية هذا المقال أن أتسرَّع بالحديث عن انحلال الإنسان المعاصر وتفسُّخه ومحنته وما شابه ذلك من الكلمات اليسيرة، ولكن القارئ قد يتفق معي إذا قلت إنه يشعر بنوعٍ من الإحساس بالغربة، وبأن العالم المحيط به قد أصبح يهدِّده ويعاديه على نحوٍ من الأنحاء. إنه يشعر — كما يقول الشاعر رلكه — بأنه «لم يعد مُطمئنًّا في بيته.» ويحسُّ وسط العالم الذي فسَّر كل شيء فيه «بأنه غريب لا وطن له.» في خِضَمِّ هذا الضياع والاضطراب يصبح البحث عن الملاح الرائد أو عن النجم الهادي أمرًا طبيعيًّا. وإذا كان كثير من الكُتَّاب والمؤرخين قد وصفوا القرن الثامن عشر بأنه القرن الذي يتميز بانتصار العلوم الطبيعية، والتاسع عشر بالعلوم البيولوجية، فقد نادى عددٌ غير قليل منهم بأن القرن العشرين هو قرن القلق. ولعل الوجودية لم تكن وحدها هي السبب في إطلاق هذه الكلمة، بل كانت هي علة رواجها حتى أصبحت «موضة» على كل لسان. مهما يكن من شيء فإن المحنة قائمة لا شك فيها، نحسُّ بها في حياتنا اليومية كما نُحسُّ بها في صراع المذاهب والنظم والأفكار، وطبيعي ألَّا يبلغ الغرور بكاتب هذه السطور إلى الحد الذي يزعم معه أنه يشخِّص داء العصر أو يصف البلسم الشافي منه، ولكنه سيحاول — بغير أن يتعرض للتطور التاريخي الطويل الذي أدى إلى هذا القلق — أن يضع يده على أحد أسباب أزمته، فيقول — وقد لا يخلو حُكمُه من الخطأ أو التعجُّل: إنها قد ترجع في بعض جوانبها إلى فقدان التواضع، والبُعد عن الحدِّ والاعتدال.
والكلام عن الاعتدال يؤدِّي بنا بالضرورة إلى الكلام عن طبيعة الإنسان، فمن صفاته الأساسية، لا بل من أَوْلى واجباته، أن يعرف لنفسه حَدًّا يقف عنده، وأن يُعيِّن هذا الحد بمحض اختياره؛ فالإنسان — دون غيره من الكائنات التي تعلو عليه، أو تدنو عن مستواه — قد وُهِبَ هذه الملكة التي تدل عليه والتي نسميها ملكة الحدِّ. فهذه الكائنات، بقدر ما تسمح معرفتنا الراهنة بالحديث عنها، تلتزم بطبيعتها بحدٍّ لا تستطيع أن تتجاوزه، أو لا تحتاج إلى تجاوزه. فالطبيعة مثلًا قد تكفَّلت بألَّا تصل الأشجار إلى السماء، وهي كذلك قد أعطت الحيوان إحساسًا غريزيًّا بالحد الذي يقف عنده ولا يتعداه، والوحوش نفسها لا تقتل إلا بالقدر الذي يساعدها على الحياة، فإذا شبعت لم تجد ما يحركها إلى مزيد من القتل. إن الغريزة وحدها هي التي تدفعها إلى القتل، والغريزة وحدها هي التي توقفها عن الإسراف فيه؛ ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إن الوحش المفترس يظل بريئًا حتى وهو يلتهم ضحيته؛ لأنه لا يعرف شيئًا عمَّا نسميه بالجشع أو الحقد أو الانتقام، بل إن القوى المادية نفسها في اندفاعها وبطشها الأعمى، تصل دائمًا إلى النقطة التي تلتزم فيها بحدٍّ تقف عنده، أمَّا الإنسان وحده فهو الذي يمكنه أن يفلت من الحدود والمقاييس، ويتوه في ضلال التطرف والشطط، وينساق وراء العناد أو الغرور فيحاول القفز وراء حدوده البشرية؛ ذلك أنه يستطيع أن يتحرَّر من قيود الغريزة ويسلِّم أمره إلى العقل والبصيرة، وهما دائمًا موضع السؤال والإشكال. غير أن تعريفنا له بأنه حيوانٌ عاقل لم يستطع أن يُلزِمه بالتعقُّل؛ فهو يميل بطبعه إلى السخط على نفسه وعدم الاقتناع ولا القناعة بشيء يُرضي طموحه أو يُشبع تطلعه، والذين يكررون عليه من أجيال طويلة أن «القناعة كنزٌ لا يفنى» لم يستطيعوا أن يقنعوه بذلك لحظةً واحدة!
•••
عرف اليونان الأقدمون هذه النزعة الخطرة الكامنة في طبيعة الإنسان، وتحدَّثوا عنها في حكاياتهم وأمثالهم، وحذَّروا منها على لسان حكمائهم وشعرائهم، فما من قدر عندهم أفدح من أن ينساق الإنسان وراء التهوِّر الأعمى ليحطِّم نفسه بنفسه. كذلك كان قدر «إيكاروس» الذي أراد أن يطير فوق الأرض فسقط مُحطَّمًا عندما اقترب من الشمس، وكذلك نجد في أقوال الحكماء السبعة الذين عاشوا حول عام ٦٠٠ قبل الميلاد وتحدثت عنهم العصور التالية بما يشبه حديث الأساطير؛ ما يحض الإنسان على التزام الحد والاعتدال، ويُذكِّره على الدوام بأنه بشر وليس إلهًا.
لن نستطيع هنا أن نتتبع هذا الصراع بين الاعتدال والتطرف، ولكننا نستطيع أن نقول ونحن مطمئنُّون إنه لم يبلغ في أي وقت ما بلغه في العصر الحديث، لم يبلغ التطرف في عصر من العصور ما بلغه اليوم، ولم يحدث في تاريخ الإنسانية أن أفلتت قوى الشر والطيش واللامعقول من زمام العقل كما تفعل اليوم. ولو أن الأمر اقتصر على بعض الحركات الأدبية أو الصرخات الفنية لقُلنا أوهام شعراء، ولابتسمنا ونمنا هادئين، ولكنه أصبح حقيقة واقعة نحسُّ بها في حياتنا اليومية، وخطرًا نشفق منه على نظام العقل والمجتمع والوجود، ونذيرًا بدمار الحضارة كلها في لحظات. كل ما في العالم من جمال، كل ما في التاريخ من تراث، وفي القلب من راحة أصبح معلَّقًا بغضبة جنرالٍ مشهور، أو صرخة سياسيٍّ كبير، أو اكتشافٍ علمي رهيب، لا بل بغلطة جندي أو موظفٍ بسيط في إحدى محطات التحكم في الصواريخ أو الطائرات المحمَّلة بالقنابل الذرية أو سفن الفضاء المتجسِّسة على مساكن البشر. نعم، ليس ماكبث وحده هو الذي قتل النوم؛ فقد قتله كل هؤلاء.
هل يجرنا هذا إلى التشاؤم؟ ولكن كلمة التشاؤم تصبح كلمةً ساذجة إذا أدركنا هول ما يحيط بنا اليوم، فكل أحلام الرومانتيكيين أو شطحات اللامعقوليين أو الصرخات المثيرة على لسان فيلسوف القوة والإرادة «نيتشه»؛ تُصبح كألعاب الأطفال على شاطئ البحر المعتم العاصف الذي نقف اليوم أمامه. أهناك ضرورة عمياء وراء ما نشهده اليوم من مظاهر الجنون في السرعة والتسلح والتعصب الأعمى للمذاهب، والتحلل الخلقي في كل مكان، وتمجيد العمل بأي ثمن، والحماس للبطولة أيًّا كانت، وتخزين قنابل الذرة والميكروبات؟ أم أن هذه الضرورة القاتلة ليست في التاريخ نفسه، بل لا بد من البحث عنها في مكان آخر؟ أنجدها في تلك الهوَّة المظلمة العميقة، في ذلك العالم السفلي المخيف الذي كشفت عنه أعمال فرويد والرومانتيكيين واللامعقوليين والرمزيين … إلى آخر القائمة؟! أم نجدها في خُطَب من يَعِدوننا بفردوسٍ قريب على الأرض وبغير مقابل، اللهم إلا دم بعض الأجيال وشبابهم وسعادتهم؟! أم نجدها أخيرًا في كارثة لا بد أنها حدثت للعقل البشري نفسه، فهدمت الأعمدة التي كان يرتكز عليها هيكله النبيل، وأحدثت فيه صدعًا لن يلتئم إلا إذا أعاد العقل نفسه النظر في نفسه، وأدرك وظيفته الحقيقية التي ترتبط بالإنسانية منذ قال اليونان على لسان أرسطو: إن الإنسان حيوان ناطق؟
إن العقل هو الشيء الإنساني حقًّا في الإنسان، والمطالبة اليوم بسيادة العقل والتعقل تصبح هي المطالبة بجعل الحياة إنسانية عن طريق الحد من القوى اللامعقولة وترويضها وكبح جماحها. وإذا كان هناك واجب يُلقي عبئه على الناس اليوم فهو واجب الإيمان بجوهر الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا، وإدراك مسئولية هذا العقل في توجيه مصيره تجاه الفوضى والظلام المحيطَين به؛ إن عليه أن يتعلَّم كيف يُطيع صوت العقل. طبيعي أننا لا نطلب منه أن يعود إلى التفاؤل العقلي الذي اتسم به عصر التنوير في القرن الثامن عشر وأدَّى بأحد أقطابه «ليبنتس» إلى رؤية النظام والانسجام في كل ما تقع عليه العين، والقول بأن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة؛ ذلك أن الرجوع بالزمن إلى الوراء شيء مستحيل، وأشد منه استحالة أن نطالب الإنسان بأن ينظر بعين أجداده أو يفكر تفكيرهم أو يحس إحساسهم، هذا إلى جانب أن الإيمان المطلق بالعقل في ذلك العصر لا يخلو اليوم من شيء من السذاجة والتفاؤل اليسير وحسن النية في طبيعة الإنسان الخيِّرة، وقد أثبتت الكوارث التي مرت بالعالم في حربَين عالميتَين أنها كانت نوعًا من العبط أو التمنِّي، ومع ذلك يظل الإيمان بالعقل والثقة في قدرته على تأكيد قيمة الإنسان وإبراز مسئوليته هو الواجب الأول اليوم، الواجب الذي لا يحتاج إلى الكلمات الكبيرة أو طبول الوعظ المدوِّية، بل يحتاج إلى أن يحمله الناس في صمت وجدٍّ وبساطة وهم يباشرون حياتهم اليومية، ولا بد من التفكير لحظة في هذا السؤال الخالد: ما هو الإنسان؟ سيعلِّمهم أن يتوقَّفوا قليلًا وسط التيار الذي يجرفهم كل يوم ليتذكَّروا أن الإنسان هو الكائن العاقل، أي الكائن الجدير بالاحترام والتكريم.
•••
نقول: إن العقل هو مبدأ الاعتدال، ونصِف الرجل في لغتنا اليومية بأنه «عاقل» إذا وجدنا لديه الاستعداد للتفاهم، والالتقاء في وجهات النظر، والتسامح في قبول الرأي المعارض، والبعد عن التعصب بوجهة نظره. إنه رجل نأخذ ونعطي معه في الكلام، ونشترك معه في البحث عن الحل المعقول للمشكلات. ولكن ما هو الحل المعقول؟ ليس حلًّا لمسألةٍ حسابية أو رياضية، ولكنه العمل بروح من التسامح والمشاركة للتغلب على الخلاف والتناقض، والوصول إلى حالة من التوازن والتلاقي تسمح بأن يحيا الناس بعضهم مع البعض في سلام، هذا الصوت العاقل لا يمكن أن يسمع بالطبع حيث تثور الانفعالات وتنطلق النزعات، وتقذف بالإنسان كأنه كرة من اللحم والأعصاب المتوترة إلى أقصى حدود التوتر؛ ذلك أنه حيث يكون العقل يكون الاعتدال ويكون التزام الحد. ولكن هل يكون في حديثنا عن العقل إلغاء لكل ما توصل إليه اللاعقل من إمكانيات وما كشف عنه في طوايا النفس من كنوز وأسرار على يد أصحاب حركة «العاصفة والاندفاع» أو الرومانتيكيين أو الوجوديين واللامعقوليين من أبناء اليوم، لا بل على يد الشعراء والمتصوفين والملهمين في كل العصور؟ لا يمكننا بالطبع أن نطلب ذلك؛ فنحن لا ننكر ولا نستطيع أن ننكر ما في كل هذه الحركات الفنية والأدبية والنفسية من جوانب إيجابية، ولا نستطيع أن نغمض أعيننا عن هذا العالم السحري المزدحم بالقوى الخفية، الذي ظل مغلقًا على أبناء العصور القديمة والعصر الوسيط وبداية العصر الحديث. كما أننا لا نستطيع أيضًا أن نغفل عمَّا في إبراز الحياة اللامعقولة من فائدة للعقل نفسه، ولا ما في تحليلات المعاصرين لألوان القلق والهم والضياع والاغتراب والتأزم من خصوبة حقَّة في فهم الإنسان. ولكن ما يهمنا هنا هو النتائج «العملية» التي يؤدي إليها هذا الاهتمام الزائد بجوانب اللامعقول، ومزالق التطرف والتهور التي يمكن أن تؤدي إليها؛ فقد يكون الوقت قد حان لتوجيه النظر إلى الجانب المعقول من الحياة بمثل ما وجهناه إلى الجانب غير المعقول، وقد يكون الوقت قد حان للقول بأن الجانب المُضيء من الوجود لا يقل أهمية ولا روعة عن الجانب المظلم، وأن الأمل والشجاعة والتعاطف والفرح والحياة تستحق أيضًا — بعيدًا عن كل تفاؤلٍ رخيص — أن نتكلَّم عنها كما نتكلم عن اليأس والقلق والهم والغربة والموت.
إن من الصعب أن نتتبع الحركات اللامعقولة في التاريخ الحديث لندرك إلى أي مدًى انحرفت إلى التطرف ونسيت الحدود، ولكن يحسُن أن نقف عند بعضها وقفةً قصيرة قد تعيننا على تبيُّن ما نُسمِّيه بالحد والاعتدال.
وأول ما يخطر على البال هو «نيتشه» فيلسوف الإرادة والقوة والإنسان الأعلى، والعبقري الذي دفع ثمن عبقريته بالدم والألم والجنون. إنه يقول على سبيل المثال في كتابه «وراء الخير والشر»: «لقد أصبح الحد (أو المقياس) شيئًا غريبًا علينا، ولنعترف بهذا: إن ما يدغدغنا الآن هو اللامتناهي اللامحدود، إننا نحن أبناء العصر الحديث نحن أنصاف البرابرة أشبه بالفارس الذي يمتطي صهوة جواد راكض إلى الأمام، نترك زمام اللجام يسقط أمام اللامتناهي، ولا نشعر أننا في قمة السعادة إلا حيث نكون في قمة الخطر.»
ولسنا في حاجة إلى اقتباس نصوصٍ أخرى من نيتشه سيضيق عنها المقام؛ فهذا النص يصلح لإلقاء الضوء على «عدم الاعتدال» الذي قُلنا إنه يميِّز الطابع الأساسي للعصر الذي نعيش فيه، وقد يصلح كذلك ليبين لنا جانبًا من خيانة الإنسان الحديث لإنسانيته، فقد استطاع نيتشه في كلمته الموجزة أن يُشخِّص الداء ويعبِّر عنه في أتم صيغة: إنه احتقار الحد والتنكر للمقياس، و«دغدغة» اللامتناهي واللامحدود التي تدفع بالإنسان إلى تحطيم نفسه بنفسه، وهدم معبده فوق رأسه، وهو أخيرًا تمجيد الخطر والإعلاء من شأن البطل الذي يتجاوز بالمغامرة والبطولة حدود الإنسان الحالي بمثل ما تجاوز الإنسان حدود القرد. ولن تخفى على القارئ هذه الكبرياء التي يصف نيتشه بها أبناء العصر الحديث — كما يصف نفسه — حين يقول عنهم: إنهم «أنصاف برابرة»، فمما لا شك فيه أن نيتشه لم يكن يقصد بالبطل أو الإنسان الأعلى أو نصف البربري ذلك «الوحش الأشقر» الذي راح ينشر الدمار في الحرب الأخيرة، كما أنه لم يكن يفهم من ورائه أي معنًى من معاني التفوق الحربي ولا العسف أو الظلم من جانب «السادة» على «العبيد»، فالذي فهم هذا فأساء الفهم هم أنصاف المتعلمين أو أنصاف الآدميين من العسكريين ورجال السياسة الألمان الذين حسبوا أن البطولة هي العسف، والقوة هي العنف، والخطر هو الخطل والجنون. لقد ظنُّوا أنه يكفي أن يضع الإنسان الخوذة على رأسه والنياشين على صدره ويمشي مشية الإوزة لكي يكون بطلًا أو إنسانًا أعلى! ولكن ألا يقع جزء من التبعة على هذا التمجيد المطلق للحياة الخطرة والطاقة المنطلقة من كل قيد والنزوع إلى المستحيل واللامتناهي؟ ألم يكن في هذا الشوق الفاوستي إلى المطلق غير المحدود إغراء لمن لا يملكون براءة نيتشه وشهامته بالسقوط في هاوية الظلم والطغيان؟ ألم يحمل ذلك البعض إلى تصوير الالتزام بالحد كأنه شيء جدير باحتقار الأقوياء، والجهد الصامت المتواضع للحصول على الأمان والاطمئنان كأنه شيء لا يليق بمن يسعون وراء البطولة والمطلق، والعمل في سبيل السلام والنظام كأنه تعبير عن الانحلال والضعف؟ وهل من العجيب بعد ذلك أن تفهم الحياة الخطرة على أنها إشعال الحرب، والعظمة الخلاقة على أنها الظلم والاستعباد؟ إن الإنسان هنا تأخذه النشوة بما يُخَيَّل إليه أنه هو العظمة الأخيرة للإنسان، وبدلًا من أن يرتفع إلى سماء «السوبرمان» نجده يسقط إلى هاوية الوحش، وبدلًا من أن يقوده الشعور المتكبر إلى أخلاق البطولة؛ نراه ينحدر إلى حضيض العبودية.
كلمة نيتشه إذن مثالٌ واضح على ما يميز الإنسان الحديث من بعده، أعني فقدان الإحساس السليم بالحد، والتنكر للمقياس والاعتدال، والاندفاع وراء التهوُّر المخرِّب تحت ستار السعي إلى المطلق واللامتناهي. إن هذا التهوُّر والانفلات من الحدود قد تخلَّل حياتنا الحاضرة من أخص خلجاتنا وهمومنا إلى أعم قضايانا في السياسة والاجتماع، وأصبحنا في غمرة التهور الجارف نعيش في خطر الدمار الشامل بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة الرهيبة.
كذلك فإنَّ جَرْينا وراء المتعة لم يعد يعرف حَدًّا يقف عنده، وبحْثنا عن اللذة المتجددة لا يسلمنا إلَّا إلى الألم المتجدِّد. نريد أن نقتني التليفزيون، ولا نكاد نحصل عليه حتى نلهث وراء الثلاجة والعربة الخاصة والمركز المرموق، ولا نكاد نصل إلى هدف حتى تُلْهِبَ السياط ظهورنا إلى هدفٍ جديد، ولا نكاد نحقق حاجة حتى نشتهي حاجات وحاجات. وطبيعي أن الدعوة إلى حكمة الحكماء أو نُسُك النساك تكون هنا سخفًا يبعث على الضحك والرثاء، ولكن ألا يحق لنا مع ذلك أن نسأل: إلى أين يؤدي بنا هذا القلق المستمر؟ إلى أين يسوقنا التعجل الدائم واللهاث الذي لا ينقطع؟ وهل يعرف الراحة من يجري على الدوام؟ وهل يشعر بالمتعة الحاضرة بين يديه مَنْ لا يكفُّ عن السعي إلى مُتعٍ جديدة لا تنتهي؟ ألا يكون السؤال هنا على الحد والاعتدال ضرورةً لازمة؟
ولا يختلف الأمر في عالم الصناعة والتقدم التكنولوجي؛ فالاكتشاف يلحق الاكتشاف، والرقم القياسي يضرب الرقم القياسي، والتقدم التكنولوجي يسير بسرعةٍ مذهلة تنسيه السؤال عن معناه أو غايته، وكأنه عربة تنحدر من قمة الجبل إلى قاع الوادي، بعد أن غاب سائقها وفسدت فراملها. لقد أصبح الاهتمام بالكمِّ على حساب القيمة، والكيف هو شعار العصر، وأصبحت الإحصائية التي تترجم الزيادة والتفوق إلى أرقام قياسية هي مطلب الساعة. ومن الطبيعي أن يكون الوقوف في وجه التطور أمرًا مستحيلًا، بل غير مرغوب فيه، والحنين إلى فردوس الرعاة أو طبيعة «روسو» عاطفية وسذاجة. ولكن ألا يحق لسائل أن يسأل: نحن نتطور، جميل، ولكن إلى أين؟ ما المعنى ولأية غاية؟ أهو التطور من أجل الإنسان؟ أم الإنسان من أجل التطور؟ أليس من واجبنا في زحمة هذا العمل والتطور أن نفهم كيف نحافظ على هدوئنا الباطني؟ أليس على العالم ورجل الاقتصاد أن يراعيا العدل والاعتدال؟ إن عليهما ألَّا يتركا التطور و«التكنيك» يسيطر على الإنسان؛ لأنهما قد خُلِقَا من أجله ولم يُخْلَق ليكون عبدًا أو ضحيةً لهما، ذلك عبء يلقيه على الكتفين واجب المحافظة على الحد، وهو عبء يزداد ثقلًا كلما ازداد العلم والتكنيك تطورًا، فلا شك أن أي إنسانٍ محبٍّ للمعرفة والتقدم يعجب من كل قلبه بالنجاح العلمي الذي يتحقق كل يوم والجهد العقلي الذي يكمن وراءه، بل ويفتخر بأنه ينتمي إلى نفس الجنس الذي أخرج كل هذه المعجزات إلى الوجود، ولكنه كذلك لا بد أن يأسف للقلق والعذاب الذي سبَّبه لأبناء هذا الجيل، والخوف المستمر من مصير هذا كله إن لم يتحكم العقل المتزن في زمامه. أمَّا التطرف في مجال السياسة فلأترك كوارث حربَين عالميتَين وحروب جانبيه لم تهدأ نارها يومًا واحدًا أن تتحدث بنفسها عنه!
قلت: إن من الصعب أن أتتبَّع في هذا المجال الضيِّق تطور فكرة الحد والاعتدال، وبخاصة في تلك العصور «الكلاسيكية» التي قد يرجع السبب في تسميتها كذلك إلى أنها عرفت كيف تحافظ على المقياس الصحيح في كل شيء، وأن تزن قدرات الإنسان بالميزان العدل، وتضع له في مجالات المعرفة والشعور والطموح تلك الحدود التي لا ينبغي للإنسان أن يتخطاها ما بقي إنسانًا. إنه كلما تطاول به التبجُّح والغرور إلى عرش الآلهة، أو هَوَتْ به الشهوة العمياء إلى حضيض الوحوش؛ فَقَدَ إنسانيته ولفَّ حبل المأساة حول رقبته. وقد رأى القارئ كيف كتب اليونان الأقدمون شعارهم الرائع المُضيء على بوابة تاريخهم، وكيف ظلت عبارتهم «لا تبالغ في شيء» هي اللحن الأساسي في حضارتهم وأدبهم. والقارئ يعرف بالطبع مقدار العذاب الذي قاساه بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر، مع أنه لم يكن بشرًا خالصًا بل كان نصف إله. وطبيعي كذلك ألَّا يغفل مَنْ يتعرض للاعتدال عن رأي الفيلسوفَين العظيمَين: أفلاطون وأرسطو، الأول بفكرته المشهورة عن «السوفروزيني» (التعقُّل أو التدبُّر)، وهي فضيلة العلاقة والمقياس الصحيح الذي يحافظ به الإنسان على حريته تجاه النزعات والانفعالات، دون أن يضطر إلى كبت هذه النزعات والانفعالات، أو فكرته المشهورة عن العدالة كما شرحها في جمهوريته بوجه خاص، بحيث لا تقتصر على ما نفهمه منها الآن من فضيلة العدل والإنصاف عن طريق القانون، بل تتسع فتشمل التوازن الذي يحققه الإنسان بين ملكاته وقواه المختلفة، وتدل على المثل الأعلى للتجانس والانسجام. ولا نستطيع أن نغفل الثاني بفكرته المشهورة عن الفضيلة بوصفها «الوسط العسير» بين زيادةٍ مفرطة في جانب ونقصانٍ مُخِل في جانب آخر، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والبخل، ولا أن ننسى فضائل الفروسية في العصور الوسطى. وما نعرفه في التراث العربي من فضائل الشهامة والعفة والكرم والإباء أشهر من أن نتعرض له. المهم في هذا كله هو المقياس الحي الصحيح بين طرفَين معيبَين، والحد المعتدل بين الانفعال الطائش الأعمى من ناحية والعقلانية الجافة الذليلة في ناحيةٍ أخرى، وليس هناك مقياسٌ واحد يصلح لكل زمان ومكان، وإلا ألغَينا صفةً أساسية من صفات الإنسان، وهي أنه كائن تاريخي، من حقه أن يحدد نفسه تحديدًا متجدِّدًا إزاء الظروف والمواقف الجديدة عليه. والمثل الذي قدمناه عن «إيكاروس» أو عن «ابن فرناس» اللَّذَين تجاوز كلٌّ منهما حدود الإنسانية في زمانه، وأراد أن يستعير جناح الطير ويرفرف فوق أرض البشر؛ لم يعد من الممكن اليوم أن نذكره كمثال على التطرف أو التهور، وإلا كُنَّا كمن ينصح الطيارين بأن يعودوا إلى العقل ويسيروا على الأرض فهي أسلم! المهم بعد هذا كله أن نؤكد نسبية الحد وانبثاقه عن حرية الإنسان وتقديره للموقف الذي يجد نفسه فيه، وأن نعرف أن كرامته وواجبه في أن يخلق لنفسه هذا الوسط المعتدل.
لقد عرفت الإنسانية من قديم الزمان — في تجارب الزهاد والقديسين والصالحين — أن العفة والقناعة هي الأصول الأولى للاعتدال وضبط النفس، كما عرفت أن فضيلة الاعتدال أوثق اتصالًا بالحياة الأخلاقية والعقلية للإنسان.
وينقلنا هذا إلى الكلام عن التواضع، فنحن لا نستطيع أن نتكلم عن الاعتدال بغير أن نذكر التواضع، فمن المعروف أن من طبيعة الإنسان أن يطمح إلى تحقيق الصورة الكاملة لوجوده، وأن يسعى جهده إلى التفوق والامتياز. وحين تنجح فضيلة الاعتدال في ربط هذه النزعة الطبيعية بنظام العقل نطلق عليها اسم التواضع. ولكن ما هو التواضع؟ هو أن يقدِّر الإنسان نفسه بما يطابق الحقيقة، دون أن يغالي في الزيادة أو النقصان، وما من شيء يوضح حقيقة التواضع أفضل من القول بأنه لا يتنافى مع الإباء، بل إنهما متجاوران متقاربان، فإذا أردنا أن نبحث عن ضدهما وجدناه في الغرور والضعة على التوالي.
فالأبيُّ هو الذي يتجه بالفكر والعقل إلى عظائم الأمور، إنه يسعى إلى العظمة ويحقق ما يجعله جديرًا بها «وإذا كانت النفوس كبارًا …» وينظر فيما حوله فيختار ما يليق به، ويعد نفسه لما يجلب له الشرف الرفيع، كل ما يخل بالشرف فهو غير خليق به، وكل صغار فهو مُحتقَر في همته على نحو ما يقول المتنبي، إنه صادق غير هيَّاب، وما من شيء تستبشعه نفسه كالخوف من إعلان كلمة الحق، والنفاق والخسة والخديعة وكل ما يصدر عن النفوس الصغيرة أشياء يحتقرها، بل إنه لا يعرف الشكوى من شيء ولا الشكوى لأحد؛ لأن قلبه لا يسمح لأي شر من الخارج أن ينتصر عليه، إنه كبير الأمل دائمًا، واثق على الدوام، مرتاح القلب راحة مَنْ لا يعرف الخوف أو اليأس أو الارتياب، إنه لا يحني رأسه لإنسان، ولا يخضع لقدر، ولا يستسلم لاضطراب العاطفة، وليس غريبًا بعد هذا أن يكون الإباء مقترنًا بالتواضع، وألا يتنافى التواضع مع شيء بقدر ما يتنافى مع الضعة والمهانة.
والتواضع بمعناه الحق لا يتصل بعلاقة الناس بعضهم ببعض، إنه خضوع المخلوق لقوة تعلو عليه، وإقراره بالفناء والعجز أمام الوجود الأكبر، وهو في صميمه موقف باطني، تختاره الإرادة وتصر عليه، وليس مجرد مظهر خارجي في السلوك والعادات، إنه قبل كل شيء اعتراف من الإنسان بأنه «ليس إلهًا» ولا هو كالإله، ولعلنا نستطيع أن نقول: إن في هذا الاعتراف نوعًا من الذكاء الفطري، أو من المرح والصفاء، وأن في الغرور شيئًا من الكآبة والجهامة جعلت البعض يقول: إن الذنوب جميعًا تفرُّ أمام وجه الله، إلا الغرور فهو يعانده ويتحداه! ونصل إلى الاعتدال في مجال المعرفة.
إن إرادة المعرفة — هذه الملكة العالية من ملكات الإنسان — في حاجةٍ دائمة إلى الحكمة التي تضع لها الحدود التي ينبغي أن نقف عندها، فعلى الإنسان أن يعرف لنفسه حَدًّا لا يتجاوزه في معرفته للأشياء، حتى لا يقع في التناقض والوهم، ولا يسبح في التأمل الأجوف بعيدًا عن أرض الواقع المتاح. كذلك كان هم واحد مثل «كانط» أو مثل «نيتشه» في حربهما على الميتافيزيقا، ولفتهما الأنظار إلى عالم التجربة والواقع.
ولكن كيف يكون هذا التطرف والخروج على الحد؟ نحن لا نستطيع بالطبع أن نصف جهود العقل في الكشف عن أسرار الطبيعة بالتطرف، أو طموح العلم إلى حل ألغاز الكون بالخروج عن الحد؛ فروح الفلسفة والعلم في السؤال، ولا يمكن أن يكون هناك حد لهذا السؤال، ومع ذلك فكثيرًا ما يفلت مِنَّا «الكل» حين نقصر البحث على «الأجزاء»، وكثيرًا ما يكون سوء استغلال النظرة العلمية المدققة إلى الظواهر سببًا في ضياع «روحها» و«معناها» وفقدان الصلة الحميمة التي كانت تربط الإنسان القديم بها، وما زالت تقرب الطفل والشاعر منها، وربما كان هذا «النهم» العلمي الذي لا يقنع بحد يقف عنده سببًا في كثير مما يعانيه عصرنا من القلق والضيق اللذين لا يكف اليوم أهل المدن عن الحديث عنهما. ولعل كلمة من كلمات جوته في شيخوخته تعبر عن ذلك حين تقول: «إن في إمكاننا أن نعرف كثيرًا من الأشياء معرفة أفضل، لو أننا لم نحاول أن نعرفها بالدقة المتناهية»، وعندما أطلق الروس قمرهم الصناعي الأول هلَّل المتحمسون والمتعجلون بهذا النصر العلمي الذي كان وما يزال مفخرة للبشر في كل مكان، ولكن بعضهم ذهب في غمرة حماسه إلى حد القول بأن الإنسان قد أصبح قادرًا على الكشف عن كل الأسرار، وكأن جيوش البشر قد ضربت الحصار حول مملكة الله! مع أن كل سر نكشف عنه اللثام يُفضي بنا إلى سرٍّ جديد، وكل انتصار حقيقي ينبغي أن يزيد من تواضعنا بقدر ما يُضيف إلى ثقتنا بأنفسنا، ومعارفنا مهما زادت ليست إلا مصباحًا صغيرًا نرفعه وسط بحرٍ مظلم من أسرار المجهول.
طبيعي أن الإنسان لم تُخلَق له عينان إلا ليرى بهما، وينظر الأعماق وراء السطوح، ولكن هناك نوعًا من لذة الرؤية يفسد عليه معنى الرؤية الأصيل، ويجلب عليه التشتُّت والاضطراب؛ فالمعنى الأصيل للرؤية هو إدراك الواقع والحقيقة، غير أن نهم العينَين لا يحاول إدراك الواقع، بل ينصبُّ على حب الاستطلاع. وإذا كان النَّهَم في الطعام والشراب لا يقصد الشبع بقدر ما يقصد التلذُّذ بالمأكل والمذاق، فإن نهم العيون المُحِبَّة للاستطلاع لا يتجه إلى إدراك الحقيقة والتلبث فيها عن معرفة ويقين، بل يريد أن يسلِّمَ نفسه للعالم (على نحو ما يقول هيدجر في كتابه «الوجود والزمان» ص١٧٢). إن حب الاستطلاع بهذا المعنى المبتذل لا يزيد عن كونه نوعًا من الهروب العقلي، كما يقول القديس توماس الأكويني، يتجلى في لذة الثرثرة والكلام، والظمأ الدائم إلى الاستطلاع، وجمع المعلومات، والقلق الذي لا يستقر على فكرة أو رأي. إن الإنسان يقتلع من جذوره، يعجز عن السكن في ذاته، يظل يتقلَّب من موضوع إلى موضوع ومن مكان إلى مكان، يهرب يائسًا من فراغ نفسه ليبحث عن الوجود الخصب حيث يتعذر العثور عليه، وتظل شهوة الاستطلاع تلهث وراء الانطباعات والإحساسات، وتتهالك على الإثارة والضجة والإغراب، فتفقد البصيرة حين تُسيء استخدام البصر، وتفتح نوافذ الحواس على مصراعيها فتضيع الإحساس، وتبني لنفسها عالمًا من الفراغ واليأس لا تسكنه إلا أشباح التسلية والزينة والأضواء والألوان، عالم خداع هو العدم بعينه، يخنق قدرة الإنسان على إدراك الواقع، ويفقده هدوء العقل وتركيزه وكرامته، ويبعده عن نفسه بقدر ما يبعده عن الحقيقة، فإذا طالبنا العين بالاعتدال فإننا نطالبها بأن تحمي نفسها من بريق المظهر لتعود إلى الرؤية الأصيلة، وتأخذ نفسها بنوع من الصوم عن حب الاستطلاع حُبًّا في المعرفة، بذلك وحده تستطيع أن ترى نفسها وترى العالم، وتحافظ على هدوء النفس وانسجام الوجدان بعيدًا عن بريق المظهر وصراخ الألوان، ولن يخفى على القارئ — خصوصًا في زمان الكم والدعاية والإعلام — ما في هذا النوع من الاعتدال من شجاعة ورجولة وجمال!
بالتطرف في اللذة أو التسلط أو مختلف أمراض الأنانية؛ يفقد الإنسان نفسه من حيث يريد أن يثبت وجودها، فكل خطوة على طريق التطرف هي في الواقع خطوة على طريق اليأس. إن المتطرف يخلق لنفسه جنةً كاذبة من المتع الموهومة، كلما حاول إثبات نفسه عن طريق اللذة ازداد نسيانًا لها وهروبًا منها؛ ذلك أنه سرعان ما يكتشف أن الخروج عن الحد هو اليأس بعينه، وحيث يكون التهالك على اللذة عبئًا وسخرةً، يكون الاعتدال حريةً ونقاءً، وما الاعتدال في نهاية الأمر إلى نقاء القلب. ولست في حاجة إلى أن أدعو القارئ إلى الصوم أو التهجد أو الوحدة أو الصمت حتى يصل إلى هذا النقاء، فرجال الدين والتصوف أَقْدَر مني على ذلك، كما أن النقاء لا يُصطنَع وليست هناك وصفة مجرَّبة لتحضيره. إن الإنسان يكون في القلب أو لا يكون، قد تساعد على تطهيره تجارب الحياة من فرحٍ عظيم أو ألمٍ عظيم (فليست المآسي التي تمثل على المسرح هي وحدها التي تطهِّر كما تقول عبارة أرسطو المشهورة!) وقد ينقيه إحساس بالخطر الهائل، أو بالقرب من الموت، المهم أن نقيَّ الروح سيحسُّ بأن كيانه كله قد تفتَّح للوجود، وأنه يقف موقف الشجاع الواثق من حقيقة الكون والإنسان، وأن طريق العدل والاعتدال هو سبيله الوحيد إلى هذا الموقف الشجاع.
•••
مما يُعزِّي النفس حَقًّا أن يرتفع صوت واحد من أنبل المفكرين من أبناء هذا الجيل دفاعًا عن الحد ودعوة إلى المحافظة عليه، وأعني به الكاتب المفكر «ألبير كامي». إنه في كتابه الرئيسي «المتمرد» الذي يستعرض فيه قدر الثورات الغربية — من ثورة سبارتاكوس محرر العبيد إلى الثورة الفرنسية والثورة الماركسية — يشرح كيف انحرفت هذه الثورات عن التمرد المعتدل وانفلتت من الحد الذي ترسمه الطبيعة الإنسانية، فبدأت بتحرير الإنسان من العبودية وانتهت بفرضها عليه. وإذا كان التمرد بوجهٍ عام هو ذلك الإنسان الذي يقول «لا» في وجه الموت والظلم والعذاب، فهو كذلك الذي يقول «نعم» ليؤكد وجود حد ينبغي لمضطهده أن يقف عنده، إنه يقول له: «إلى هنا ولا تزد»، كما يقول له: «هناك حد لا يجوز لامرئ أن يتخطاه»، ولكنه بهذا النفي والاحتجاج يؤكد في الوقت نفسه وجود قيمة يريد لها أن تُحترَم، كما يؤكد وجود طبيعةٍ إنسانية مشتركة لا يجوز لأحد أن يمتهنها أو يجور عليها، فالتمرد الحق لا بد أن يكون تمرُّدًا معتدلًا يعرف حدوده أو لا يكون على الإطلاق، وفكرة الحد هي الثمرة الخالدة التي أهدتها إلينا شجرة الفكر اليوناني أو فكر الظهيرة والبحر المتوسط كما يسميه كامي، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره، وهي وحدها التي تستطيع أن تحمي التمرد عبر التاريخ الطويل المزدحم بالتهور والتطرف والجنون، فتبين له النظام والمعيار، وتخلقه في كل لحظة من جديد، وتحرص على ألَّا ينزلق في الانحرافات التي وقعت فيها الثورات على اختلاف العصور. أمَّا فكر منتصف الليل، أو فكر أبناء الشمال، فهو في نزوعه إلى المطلق وشوقه المستمر إلى اللامتناهي، وانفلاته من كل القيود والحدود التي تفرضها طبيعة البشر المحدودة، قد انتهى — على يد هيجل وأتباعه — إمَّا إلى تأليه الإنسان أو تشييئه، لقد أراد أن يحقِّق المستحيل في الممكن، والمجرد في الواقع، والمطلق في النسبي، وكان هدفه هو تحقيق الحرية المطلقة عن طريق تأليه الإنسان، أو تحقيق العدالة المطلقة في دولةٍ مثالية بعيدة يجعله شيئًا من الأشياء، إنه يندفع بأقصى سرعته في غزو الشمول، ويفلت على الدوام من الحدود ليتوه في مغامرة اللا محدود، وما أبعده بذلك عن فكر «الظهيرة» الذي وجد مثله الأعلى في الروح اليوناني الذي التزم دائمًا بفكرة الحد، واستطاع أن يحافظ على التوازن بين الطبيعة والعقل، وبين الظل والنور، بعيدًا عن النزعة الشمولية التي تهدد اليوم بدمار العالم!
وإذا كان كل تفكير أو سلوك ينفي نفسه بنفسه كلما تجاوز نقطة معينة فلا بد أن يكون هناك حد يلتزم به الناس كما تلتزم به الأشياء. ومن واجب الإنسان أن يبحث عن هذا الحد ويوجده؛ لأن من واجبه على الدوام أن يبحث عن التوازن بينه وبين العالم الذي يعيش فيه، ويعيش في توتر وصراع دائمَين ليعثر على الوسط الملائم بين طرفَين متباعدين، ولا بد أن يكون سبيله إلى ذلك هو الفكر «التقريبي» الذي ينصف الواقع ويقدِّر إمكاناته، ويحترم الممكن والنسبي فلا يحشره في قالبٍ غريب عليه، ولا يفرض عليه مبدأً عدوًّا له.
•••
التزام الحد والاعتدال ليس إذن رأيًا ولا فكرة يقبلان الجدل والمناقشة، بل واجب مُلِحٌّ يلقي ثقله كله على أبناء هذا الجيل. وإذا كانت العصور السالفة قد عرفت أن في فضيلة التوسط أو احترام الحدود تكريمًا للإنسان وضمانًا لسعادته وسلامه، فإن العصر الحاضر لا بد أن يدرك أن بقاءه أو زواله مرتبطان بمقاومة التهور والتطرف، والعودة إلى الحد والوسط. إن حقيقته وسط هذا العالم المضطرب مرهونة بقدرته على التزام التواضع والاعتدال، ولم يحدث في تاريخ الإنسان الطويل أنْ كان عليه أن يتعلَّم الرقص على حبلٍ مشدود بين هاويتين يتربص به الخراب فيهما كما يحدث له اليوم: بين الطموح المغرور الذي يهيئ له أنه يمكن أن يتشبَّه بالآلهة، والهوان المطلق الذي يجعل من البشر قطعانًا صامتةً تسير معصوبة العيون إلى المصير المجهول، عليه أن يتعلم من جديد أن الاعتدال هو ذروة الطبيعة الإنسانية، والجذر العظيم للعالم كما كان يقول أهل الصين القدماء، أعني أن يتعلم التواضع بمعناه الشامل الأصيل فيقول لنفسه اليوم قبل الغد: «أيها الإنسان لستَ إلهًا!»
Bruno Snell: Leben und Meinungen der sieben Weinsen, Mtinchen, Tusculum, 1952.
راجع كذلك كتاب المؤلف «الحكماء السبعة»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢.
O. Fr. Bollnow: Mass und Vermessenheit des Menschen. Gottingen, Vanden-heock & Ruprecht, 1962.
J. Pieper: Zucht u. Mass. Munchen, Kosel Verlag, 1955.