سؤالا الدين١

عبد الجبار الرفاعي

الدين ظاهرة تتصل عضويًّا بالرُّوح والقلب والعقل والجسد، الدين ظاهرة مركبة متنوعة الأبعاد والتعبيرات، أيُّ فهمٍ يختزل الدينَ ببعد واحد هو فهم تبسيطي ساذج، الكائنُ البشري كينونتُه متعددة الأبعاد، وتبعًا لذلك تتعدد أبعادُ دينِ هذا الكائن بتعدُّد أبعادِ كينونته. الدين من جهة هو فهمٌ لما هو الإله، ومحاولة تأويلٍ وتفسير لحقيقةِ الإلهيِّ، وما يتَّصِفُ به من صفاتٍ لا تُكَرِّرُ ما هو بشري، ونمط الصلة الأُنطولوجية للبشري بالإلهي، وكيفية تمثُّل البشريِّ للإلهي، وحضور المطلق الكامل الغني — الذي لا يحدُّه شيء، ولا يشبهه شيء، ولا ينقصه شيء، ولا يفتقر لشيء — في وجود وحياة الكائن البشري، هذا الكائن الفقير المحدود غير الكامل بطبيعته. الدين من جهةٍ أخرى إدراك لمتطلبات رُوح وقلب الإنسان، والمعايير والقيم التي تنتظم في سياقها تلك المتطلبات، بما تنشده حياتُه من قيم الإيمان والحب والجمال، وما ينجز فيها من الخير والحق والعدل.

أزمات الإنسان تعودُ إلى أنَّ العلمَ الحديث ينتج إنسانًا ذا بعد واحد، في حين أن الإنسان كائن مركب متعدد الأبعاد. اختصاره في الجسد يفضي إلى قلق وجودي يمزِّق الرُّوح، ويحرق القلب، كما أنَّ اختصاره في الرُّوح أو القلب يفضي إلى إنتاج كائن يعيش خارجَ الواقع. كذلك يفضي اختصارُ هذا الكائن في العقلِ إلى إهدار طاقات الرُّوح، وإطفاء ما يفيضه القلب، وتبديد قدرات الجسد. وقتئذٍ لا يعود هذا الكائنُ أرضيًّا بشريًّا، بل يصير موجودًا يمكن أن يشبه كلَّ شيء إلا الإنسان، بعد شطب أبعادِ وجودِه الأُخرى المقوِّمة لكينونته؛ ذلك أنَّ محوَ أيِّ بُعد من أبعاد وجوده يمحو معه عنصرًا محوريًّا في طبيعته، ويخلق إعاقةً وانكسارًا يمزِّقان عالمه الجوَّانيَّ.

الدين يسعى لتأمين توازُنٍ لحاجات الرُّوحِ والقلب والعقل والجسد، كلٌّ بحسبه، وطبقًا لحدود إمكاناته وسعته الوجودية. أشرت في الكتابِ إلى أن تمثلات الأديان لبِثتْ تحكي روايةَ أنماط الاجتماع البشري، وطرائق عيش الإنسان، وما يسودُ في الأرض من مختلف مواطن ضعفه وقوته، وحربه وسلمه، وهزيمته وانتصاره، وحزنه وفرحه، وفشله ونجاحه، وقبحه وجماله، وشره وخيره، وشقائه وسعادته، وجهله وعلمه. أمسى الدين قناعًا يخلعه الإنسان على قراراته ومواقفِه المتضادَّة، إذ يمكن أن يكون تبريرًا للحرب، في الوقت الذي يكون فيه تبريرًا للسِّلم، وهكذا يمكن أن يكون تبريرًا للفرح، في الوقت الذي يكون فيه تبريرًا للحزن … إلخ. تبعًا لمطامح الاستحواذ على المال والسلطة، أو حاجة الإنسان للأمن والسلام والطمأنينة والسعادة.

محورُ الكتاب ليس حضور الدين في مؤسسات المجتمع، والتوكُّؤ عليه في الاستحواذ على الثروة والسلطة، بل محاولة اكتشاف الفاعليات الجوَّانيَّة للدين، أي الدين بوصفه تجرِبةً باطنية معيشة، وآثاره في بناء كينونة الإنسان، وكيف يرتقي هذا الكائنُ بالإيمان فيتحقق بطور وجوديٍّ أغنى، يثري كينونته، ويكرس وجوده، وكأن كينونته تتوالد عبر سلسلة ولادات، تتطور فيها طبقًا لتطور إيمانه وتكامُله.

أما الإلحاد فهو ضرب من ضياع الرُّوح وتعطُّش القلب واضطراب العقل، إنه كدح شاقٌّ في الظلام يُنهك رُوحَ الملحد، ويستنزف قلبَه، ويستهلك عقلَه. إنه تجلٍّ لقلقٍ وجودي يجتاح كينونةَ الإنسان للعقول التي لا تكفُّ عن البحث عن الإله وعوالم الغيب، غير أنها لا تصل إلى ما ترمي إليه؛ ذلك أنها تخطئ الطريق، ومن يخطئ الطريق لن يصل، إذ إنها تسافر كل مرة إليه بما لا يُوصلها إليه، إنها كمن يحاول السفرَ إلى مدينة وسط الصحراء عبر سفينة. لا يشفي داءَ الرُّوح إلا دواءٌ من جنس الداء. الإلحاد محاولةُ سفرٍ للحقِّ على غير الطريق، وتجلٍّ لقلقٍ وجوديٍّ عميقٍ، يمزق الرُّوح، ويعبث بالقلب. لا طريق للحقِّ إلا الحقُّ تعالى، الحقُّ هو الطريق. لا طريق للقلب إلا القلب، القلب هو الطريق. لا طريق للإيمان إلا الإيمان، الإيمان هو الطريق.

أفهم سحر الأديان، وسطوتها على رُوح الإنسان. من هنا تجيء النبواتُ لتحميَ الإنسان من الضياع في التشوهات الحادة للأديان، وإنقاذه من عبثها بحياته، ووضع الشخصيات الدينية البشرية في سياقها الواقعي وزمانها الأرضي. التمثلات البشريةُ للأديان لا تقتصر على التعاطِي مع تلك الشخصيات في إطار بشريٍّ تاريخيٍّ، بل تحاول أن تتخطَّى ذلك لتخرجها من عالمها الأرضي، وخصائصها البشرية، كما يفعل بعضُ مريدي المتصوفة الذين يغالون بشيوخهم فيخرجونهم من الزمان البشري الأرضي إلى زمان مقدَّس خارج حياة البشر.

إن خطورة أيِّ شخصية دينية تكمن في عُبُورِها من الواقعيِّ إلى الميثولوجيِّ، بل انقلابها من كونها حقيقة إلى متخيَّل محض، لا حضورَ له في الواقع. وقتئذٍ يصير الرمزُ مُنوِّمًا بعد أن كان مُلهِمًا، مُخدِّرًا بعد أنْ كان مُوقِظًا، فتنقلب الأديانُ وتهرب إلى عالم غير عالمها تخسر فيه رسالتَها. في كل ديانة غطاءٌ ميثولوجيٌّ، لكن حين يستهلك الغطاءُ المضمونَ، تخسر الأديانُ مقاصدَها وأهدافَها.

ينشغل الدينُ بسؤالين محوريين هما سؤالا الأسئلة، عنهما تتفرع، وإليهما تَرْتَدُّ الأسئلةُ الكبرى في الوعي البشري. سؤالان كانَا وما زالا وسيلبثان يغذِّيان وعيَ الإنسان، ويوقدان عقلَه على الدوام، حيثما وأنَّى كان. سؤالان جائعان لا يكفَّان عن التلهُّف للإجابات، ولا يرتويان من النقاش، ولا يتوقفان عند تخوم إجابات العقل الأداتي، ويستفزُّهما العلمُ الوضعيُّ الذي لا يتخطَّى أسرارَ المحسُوس، وينحبس في عوالمه، ويختنق في مجالاته الضيقة. ذلك العلم الذي يتسيَّد فيه العقلُ، ويجري فيه توثينُه بالمعنى الوضعي المادي، ومحو ما سواه، من: رُوح وقلب وشعور ولاشعور ومخيلة ورمز. لا يمكن اختزال الإنسان في العقل. الإنسان كائن حقيقته مركبة من: الرُّوح والقلب والعقل والجسد، محو أي عنصر منها يفضي إلى انشطار الكائن البشري وتمزقه.

سؤالا الدين يتكرَّسَان ويتراكمان ويتطوَّرَان بتكرُّس وتراكم وتطور وعي الإنسان، وتراكم تجارِبه الرُّوحية، وتعزيز خبراته العاطفية، وتوهُّج مشاعره وانفعالاته وأحاسيسه وأشواقه. سؤالا الدين كانا وما زالا وسيلبثان سؤالي الأسئلة في وعي الإنسان، حتى آخر كائن بشري يمتلك وعيًا يعيش في الأرض. سؤالا الدين أولان منذ آدم الأول، أخيران مع آدمَ الأخير. سؤالا الدين، هما:

  • أولًا: سؤال «ما الإله»، ما حقيقته، ما المبدأ، وكيف، ولماذا، وأين، ومتى؟
  • ثانيًا: سؤال «ما الإنسان»، ما حياته، ما معناها، ولماذا … ما موته، ولماذا، ما مصيره، ولماذا … ما الذي يحيط به، ما طبيعة صلته بما حوله، كيف يتمكن من تطبيع علاقته بما يحيط به، ما حقيقة الصلة بين الإله والإنسان من جهة، والإنسان والعالم من جهة أخرى؟

هذان السؤالان تنبثق عنهما، وتتفرع منهما، وتعود إليهما أسئلة الإنسان في: العلوم والمعارف، سواء في مجال اللاهوت والميتافيزيقا، أو الأخلاق، أو العلوم الإنسانية. بل حتى العلوم الطبيعية تتمحور حولَ سؤال «ما الإنسان واحتياجاته»، وما يتفرع عنه. ذلك أن العلوم الطبيعية ليست سوى إجابات عن أسئلة تنشد اكتشاف ما هو مجهول من أبعاد حسِّيَّة، في الإنسان أوَّلًا، وما يحيط به ثانيًا، وتأمين احتياجاته.

الإنسان بطبيعته كائن مسكون بتفسير وفهم ذاته، وكل شيء فيما حوله، من أجل الخلاص من قلقه الناجم عن غموض وخفاء ما حوله. الغموض والخفاء ينتج الخوف، المعرفة ضرب من الأمن. بالمعرفة واكتشاف قوانين الطبيعة يستطيع الإنسانُ تطبيعَ صلته بالطبيعة، والخلاص من الوجل والقلق الذي تثيره طبقاتها الخفية، وعوالمها المجهولة. مضافًا إلى أن اكتشافه للمزيد من القوانين المتحكمة في الطبيعة يمنحه إمكانات واسعة للتحكم فيها وتسخيرها، بدلًا من أن تكون هي متحكِّمة فيه، وهو عاجز حيالها.

«الدين والظمأ الأُنطولوجي» كما أشرتُ في المقدمة «رسالة في الإيمان»، وليس كتابًا أكاديميًّا علميًّا، مقطوع الصلة بالرُّوح والقلب والشعور. ميزة رسالة الإيمان أنها خطاب للروح والقلب والشعور من خلال العقل. إنها ليست نصًّا متخشبًا باردًا، وإنما هي بمثابة الشِّعر الذي يتحول معه كلُّ شيء يمسُّه شعرًا.

المهم أن تصل هذه الرسالة للكل، يتفاعل معها الكلُّ، يتذوقها الكلُّ، نفيًا أو إثباتًا، النقاش والنقد فيما أثارته من آراء؛ يعني أن «الدين والظمأ الأُنطولوجي» أنجز شيئًا من وعوده في تجديد الحوار الحرِّ في أعمق وأهم سؤالين في الوعي البشري، سؤال الإله وسؤال الإنسان، السؤالان اللذان يتمحور هذا الكتابُ حول الْتِماس أجوبة ليست مبتذلة لهما عبر التشديد على بيان وظيفة الدين، التي يمكن تلخيصها بما يلي:

  • (١)

    الإجابة عن أسئلة المبدأ والمصير.

  • (٢)

    إنتاج معنًى لما لا معنى له.

  • (٣)

    إرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدس.

  • (٤)

    إنتاج وتكريس القيم الرُّوحية.

  • (٥)

    إغناء وتكريس القيم الأخلاقية.

  • (٦)

    إغناء وتكريس القيم الجمالية.

«الدين والظمأ الأُنطولوجي» مرافعة للدِّفاع عن الدين، مثلما أفهمه وأعيشه، ومحاولة بناء الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية والعقلية، ونقد تحليليٌّ لأدبيات الجماعات الدينية. رسالتي تتلخص في إحياء الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية والعقلية؛ عبر تكريس حبِّ اللهِ والإنسان، وبناء قيم الحقِّ والخير والعدل والجمال والثقة والسلام. لا طريق لنجاة مجتمعاتنا إلا بإحياء صورة الله المقترنة بالحب والحرية والحق والجمال والخير والعدالة والسلام. اقتران صورة الله بالكراهية والإكراه والقبح والتمييز والقتل عند التديُّن السلفي، هو ما يغذِّي كلَّ أشكال التدين القاتل في مجتمعاتنا.

تحرير صورة الله يبدأ بتحرير الإنسان. تمجيد الله وحمده والثناء عليه لا يساوِي تبخيسَ مكانة الإنسان، والحطِّ من كرامته وإهانته. مقاصد دين الله تنشد تحريرَ الإنسان من كافة عبوديَّاته القاتلة. أسقط الإنسان عبودياته على صورة الله، كي يخلع مشروعيةً مقدسة على تسلطه واستبداده وعدوانه وعبودياته في الأرض.

وهذا ما تشدِّد عليه أدبياتُ الجماعات السلفية الجهادية التي ترسم صورة متوحشة لله تفتقر لمنطق المحبة والرحمة الإلهية. يتجلى اللهُ في أية مناسبة ليمطر الناس برحمته، ويعلن أنه يحبهم قبل أن يحبوه. الشباب الذين يُلقَّنون تلك الأدبيات فينصِّبون أنفسهم بوليسًا إلهيًّا، وأوصياء على البشرية، يراقبون حركات الناس وسكناتهم، وينتهكون خصوصياتهم، ويستبيحون دماءَهم، وكأنهم لا يعلمون أن اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وليس فقيرًا أو عاجزًا كي يمنحوه احتياجاته. المحزن أن هؤلاء الشباب لا يعلمون أن صوت الله لا نسمعه إلا بصوت الإنسان، فلو مات صوت الله في ضمير الإنسان، لن نسمع صوته في آياته التكوينية والتدوينية، وأن الطريق إلى الله لا يمر إلا عبر الإنسان، ورحمة الله لا تتجلى إلا في الرحمة بالإنسان، ونور الله لا نقتبسه إلا بإشراقه في قلب الإنسان، وكرم الله لا يظهر إلا بيد الإنسان. حين نلتقي عاشقًا لله فإنه أجمل عاشق للإنسان.

الناس قلقون من فقدان إيمانهم. إنهم يبحثون عن خارطة طريق تنقذ حياتهم من القلق والاضطراب واللامعنى، وتهبهم الخلاصَ، وترشدهم إلى دروب النجاة. وحين تغيب الكتاباتُ الإيمانية المضيئة يضيعون في كتابات لا يعثرون فيها على إيمانهم، وقتئذٍ يتفاقم اغترابُهم. الإيمان أثمن الممتلكات القدسيَّة للإنسان، الناس يبحثون عن كتابات لا يخسرون معها طاقةَ أرواحهم ومنابع أخلاقهم. كتابات ترسم لهم خارطة طريق تنجيهم من ضياعهم.

١  مؤمنون بلا حدود ٢٢ / ٢ / ٢٠١٦م. تحية إلى الصديق محمد جمعة عباس، الذي حفزني لكتابة هذا المقال جوابًا عن مقالته حول كتابي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤