لاهوتيٌّ يتكلم لغة الإيمان والحب والرجاء١

الكاردينال الدكتور لويس ساكو ٢

لقد قرأتُ بتمعُّن وشغف كتاب د. عبد الجبار الرفاعي: «الدين والظمأ الأُنطولوجي» ط٢، والذي صدر عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد ودار التنوير ببيروت ٢٠١٧م. بدأت بقراءة مقدمته، لكني لم أتمكن من التوقف، فانجذبتُ إلى قراءةِ الكتاب بالكامل. إنه سفرٌ مشوِّق يحمل بين طياتِه قلبًا وجدانيًّا مفعمًا بالحب والإيمان، وفكرًا ناضجًا عميقًا، نيِّرًا صادقًا. كلماته تعبر عن ذاته لذاته وللآخرين. إنها خبرة حياة وإيمان بكلِّ معنى الكلمة، وليست اجترارًا للسلف، ولا ترديدًا لطقوسٍ جامدة، ولا تديُّنًا زائفًا.

كتاب أتمنى أن يقرأه كل رجل دين مسلم ومسيحي، وكل إنسان مؤمن، لأنه في النهاية باعتقادي، سيقوده إلى أن يعبد الله «بالرُّوح والحق»، كما يقول السيد المسيح (إنجيل يوحنا ٤ / ١٣). لأن من يقرؤه سيزداد معرفة وتنويرًا وحقًّا وحبًّا لله … أقول ومن دون مجاملة وجدتُ الكتاب سفرًا غير معتاد من مسلم، يتحدَّى الجمود «الإكليروساني-الإسلامي» عن معرفة وخُبْر، فجاء مبدعًا ومحرِّكًا. عبد الجبار الرفاعي «ابن الحوزة العلمية»، يتكلم عن خبرة ذاتية، وعن عَلاقة شخصية بالله، ويتكلم عنه بمنطق الإيمان وليس بأسلوب فلسفي-ميتافيزيقي، أو بكلام الصالونات، أو باجترار للسلف، بلا تاريخ، «عود أبدي»، كما يسميه عندما يروي سيرته الشخصية في الفصل المخصَّص عن سيرته والمعنون «نسيان الإنسان». استمتعتُ بسيرته الذاتية جدًّا، والتي أتمنى أن تتحوَّل إلى فيلم أو مسلسل يُعَلِّم الجيلَ الجديدَ كيف يكون عصاميًّا بجهد شخصي «بعرق الجبين»، وليس بطريقة أخرى سهلة!

الكاتب لا يريد أن يعيش على الحدود، ويرفض البكاء على الأطلال، أو التغني بالأمجاد كما يفعل العرب عمومًا، بل يريد الإبحار إلى العمق إلى الجوهر؛ ليكشف ما فيه من جديدِ اللهِ في جديدِ الإنسانِ، وجديدِ الزمن، كما يروي في الفصل المخصَّص عن سيرته.

ما يشدُّ في الكتاب أنه يحكي ببساطة عن خبرة حياة إيمانية، عن إنسان يقيم عَلاقة شخصية معمقة مع الله، فيتكلم بشجاعة الأنبياء عن أن الإيمان ثورة حب، ووجدان، وغفران، وروح يقظة، وليس ممارسات جوفاء. يتكلم عن إنسانية الدين ويعطي الطمأنينة والأمان. يتكلم عن خبرات الإنسان، وتساؤلاته، وأوجاعه، وقلقه، وأحزانه، وأفراحه الصغيرة، وآماله الكبيرة، وخيباته، وإمكاناته، وطاقاته التي من خلالها يظهر الإنسانُ بكلِّ جماله.

القيامة في الحياة والحياة في القيامة، الحياة مشوار إلى القيامة. مَنْ ليس قائمًا منذ اليوم، لا يقوم إلى الأبد! القيامة هي الحياة الحقة التي لا تولد، بل تبدع كما سطرت. الإيمان «وليس التدين»، الفكر، الحب، خدمة الإنسان هي الخلود.

إنه يتواصل مع البدايات الممتازة، مع الينابيع الأصيلة من أجل «الأصالة والمعاصرة»، وألا تتخشب المعطيات فلا تقول شيئًا ذا معنًى لإنسان اليوم، كما فعل المسيح مع الفريسيين علماء الشريعة والذين سماهم: «القبور المكلَّسة» (متى، ٢٣ / ٢٧).

يشدد الرفاعي على أهمية الدراسة المقارنة للأديان، التي يتجلى فيها الجوهر الرُّوحاني العميق لها، فيكتب: «الدراسة المقارنة للأديان والفرق والمذاهب ضرورة تفرضها النزاعاتُ الدينية في مجتمعاتنا. المنهج العلمي في دراسة أية ديانة لا يصح إلا بالعودة إلى نصوصها المقدسة، ومدوناتها الحافلة بهذه النصوص. ما لم يتسع حقل مقارنة الأديان والفرق والمذاهب بين الدارسين والباحثين في المعارف الدينية، لا يمكن تصويب سوء الفهم والأحكام المسبقة، وحذف الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانة أو مذهب لمقولات أتباع ديانة أو مذهب آخر. سوء الفهم والأحكام المسبقة تتوالد منها أحكام أحادية إقصائية حيال الآخر، وتتحول إلى منبع تستقي منه حالات التعالي، وازدراء الآخر، واحتقار ديانته وتراثه. وسيجد الباحث عبر المقارنة الموضوعية للأديان أنها تنشد تكريس وإثراء الجوهر الرُّوحاني للإنسان.»

استفهم بشأن: «احتكار الأيديولوجيا لنظام إنتاج المعنى الديني»، وأوضح الرفاعي أن الأسئلة العُظمى للدين تتلخص في: «معنى الوجود والخلود والأخلاق والطقوس …» ويسعى بشجاعة لتجديد الفكر الديني في الإسلام وخطابه، ولربما هنا جواب غير مباشر على من يفكر بلا منطقية الدين، أو يخطف للتحريض على الإكراه والقتل والدمار.

الدين خلق وإبداع وليس جمودًا وتحنيطًا، سفرٌ دائم إلى الآفاق البعيدة، لاكتشاف معنى الأحداث والأشياء، وإيجاد أبجدية جديدة تنطق وتشحن وتحرك وتغير. الدين يدعو إلى تخطِّي عالَم الكلمات إلى عالَم المعاني.

كتاب عبد الجبار الرفاعي يتكلَّم عن عبور متواصل، قادر على الحضور في زماننا، من خلال تجدد يومي في الحياة، واحتفاء دائم بسر الوجود، وصلة حية بالله، كي نولد في قلب الله … أليس هذا هو الإيمان؟

لا يدعو الرفاعي للحب بأسلوب مبسط، وإنما يحاول أن يتعمق في تفسيره، ليشرح جذوة الحب الملهمة، بوصفه حالة تحققها الذات وتتحقق بها، ويكشف عن شيء من طبائع الشخصية البشرية. يكتب الرفاعي: «الإنسان كائن مسكون بطلب الحب. الحب من أصعب اختبارات المرء في الأرض، وأغناها عطاء. حب الناس من أشق المهمات في حياة الإنسان؛ ذلك أن الكائن البشري كثيرًا ما يتعذر عليه أن يحب غيرَه. الحب لا يُتخذ كقرار، وإنما هو حالة تتحقق وتوجد في الذات، وتتحقق وتوجد بها الذات في طور أجمل. الحب لا يُمتلَك إلا بعد تربية طويلة، وتزود بخبرات الشفاء من الكراهيات الغاطسة في الذات، ومقدرة الإنسان على مراجعة سلوكه مع غيره وكيفية تعامله مع الناس، وشجاعة نقد وتقويم الذات، وبصيرة تمكِّنه من اختبار سلوكه مع الناس بمقارنته بما ينفره من مواقفهم معه، فكل ما يزعجه منهم يزعجهم أيضًا لو صدر منه. الإنسان أعمى عن أخطائه، لأنها مألوفة لديه، ولفرط تكرارها أضحى مدمنًا عليها بشكل يمنعه من رؤيتها أخطاء، وعادة فإن ما يصبح مألوفًا في حياته يتعذر عليه أن يراه قبيحًا. الإنسان ليس كائنًا آليًّا، بل هو بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، لذلك لا تجفُّ منابعُ الغيرة في أحاسيسه، ولا تموت نزعاتُ الشر في أعماقه، ولا يكفُّ عن الصراع مع غيره، ولا يتوانى عن اللجوء للعنف مع خصومه. تلتقي في نفس الإنسان الكثير من الدوافع والرغبات المتضادة، المنبعثة من مكبوتات متنوعة مترسبة في ذاته.»

أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب كلُّ رجل دين مسلم ومسيحي، حتى تكون له شجاعة الأنبياء في تبليغ الناس رسالة الإيمان. هذا الكتاب صرخة موجعة أمام الواقع المرير، إنه نداء يتوجه إلى ضمير كل مؤمن مسلم ومسيحي. ويتمنى هو، وأتمنى أنا أيضًا: أن يجد صدًى ما في حياتنا.

أتمنى ألا يستمر صوت د. الرفاعي وحده حتى النهاية، بل أترقب أن يكوِّن حوله مدرسةً من طلاب فكر وإيمان ونور ومحبة وخير، فيعيد إلى الدين جوهره وصفاءه ممن خطفوه وشوهوه!

١  نُشر المقال في صحيفة العالم الجديد «بغداد»، الصادرة في ٢١ كانون الثاني ٢٠١٧م.
٢  مار لويس روفائيل الأول ساكو، بَطرِيَرْك الكَلْدان الكاثوليك منذ شُباط ٢٠١٣م. حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة البابوية في روما عام ١٩٨٣م، وماجستير في الفقه الإسلامي سنة ١٩٨٤م، كما حاز لاحقًا على شهادة دكتوراه من جامعة السوربون سنة ١٩٨٦م. ألف ونشر ما يزيد عن ٢٠٠ مقال، و٢٠ كتابًا في مجالات اللاهوت والدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤