مرافعة عن جوهر الدين ألقاها محامٍ بارع في محكمةِ الضَّمير

أحمد عبد الحسين ١

الآن أكملتُ قراءة كتاب أستاذي وصديقي المفكر د. عبد الجبار الرفاعي «الدين والظمأ الأُنطولوجي»، وأردت أن أشارككم هذا التأمُّلَ فيه. منذ عنوان الكتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يربط المفكرُ عبد الجبار الرفاعي بين ما يراه احتياجًا لاستكناه الغيب وتشوُّفًا للمجهول وعطشًا إلى ينبوع الوجود من جهة، وبين الدين من جهة أخرى، باسطًا على صفحات الكتاب رؤًى ناصَّة على أن هذا الظمأ الراكز في جبلَّة الإنسان ليس له رَواء إلا بالدين. لكن الالتباس واقع في الاثنين معًا، في عبارة «الظمأ الوجودي» ذات التركيب الشعريِّ والموحية بجذرٍ عرفاني، كما في لفظ الدين، بل أزعم أن الأخير أشدُّ الْتباسًا وأبعد عن أن يكون له معنى واحد في الأفهام يناظر واحديته في الأسماع. فما الدين؟ أهو الجملة المكونة من الشرائع: عبادات ومعاملات، ومن العقائد والأعراف ونمط العيش؟ أهو النصوص الأولى فقط أم يمكن أن يستوعب النصوص الدائرة في فلكهما؟ هل الدين هو الاسم الآخر للتديُّن من عبادات وطقوس، أم هو محضُ الإيمان قبل ترجمته على هيئة مخصوصة؟ هل تدخل المؤسسة الدينية في ملاك ما يمكن أن يسمى دينًا؟ معلوم عند كل متأمل ذي بصيرة أن تأريخ فكرةٍ ما هو عينه تأريخُ مَن تعاقبوا على الاستيلاء على هذه الفكرة، تبنيًا وإشهارًا أو صرفًا واستثمارًا. وبحديثنا عن الدين فنحن لا يمكننا إغفال الآثار العميقة التي خلَّفتها فيه باطنًا وظاهرًا صنوفُ الحركات السياسية والمدارس الكلامية والفقهية والفلسفية، إلى حدِّ أنَّ الدين في بُعْدِه التاريخيِّ ليس شيئًا آخر سوى هذه الآثار التي وسَّعتْ رقعةَ انتشار الدين أفقيًّا، في الوقت الذي عمقتْ مَوَاطِنَ التَّنَاحُر فيما بين معتنقيه على ما نرى من شيوع للطائفية والمذهبية، وتناحر يبدأ من الدرس الدينيِّ الصرف وينتهي إلى مقابر ومستشفيات. لكنَّ هذه الآثار هي ما يتوجَّه إليه الدكتور الرفاعي، مزيلًا طبقاتها شيئًا فشيئًا، كأنما يعمِد في قرارةِ نفسه إلى ترسُّم هذه العبارة المضيئة: «تردُّدِي في الآثار يُوجِبُ بُعْدَ المَزَار» المنسوبة طورًا إلى الإمام الحسين بن علي، وطورًا إلى ابن عطاء الله السكندري. وقد اتَّضح جليًّا أنَّ عمل الباحث محض قبول كنائيٍّ لعمل العارف الذي لا بدَّ أن يبدأ أولًا بالتخلِّي (أي بإزالة العوالق والشوائب) وصولًا إلى التحلِّي فالتجلِّي، فهو يقرُّ بعطش الإنسان إلى ينبوع الغيبِ لكنَّه يرى بأن هذا الينبوع مردومٌ اليوم بأحجارٍ وأقذارٍ تُعِيقُ الوصولَ إليه، ومهمته تتحدد بإزالة كل ذلك وصولًا إلى ما يسميه تارة بالجوهر وتارة بالمعنى وأخرى بالدين الأُنطولوجي تفريقًا له عن الدين الأيديولوجي. لا يغالط الباحثُ نفسَه ولا يخدع أحدًا، فهو يقرِّرُ منذ البدءِ أنَّه منشغل بالدين انشغالًا عميقًا استغرق حياتَه بأكملها (سيرته التي رواها في الكتاب بأسلوبٍ أخَّاذ شاهد على ذلك)، ليس لحياته معنى من دون هذا الانشغال الديني الذي باشره منذ طفولتِه وَجْدًا وشغفًا، ثم عبادةً وانخراطًا في الإسلام السياسي، ثم بحثًا ودرسًا معمقًا، وصولًا إلى ما هو عليه الآن من مهمة عسيرة تتمثل في الدلالة على جوهر ديني يراهُ منسيًّا، ومعنًى لا يكاد يلتفتُ إليه أحد. أكثر من أي وقت مضى، فإن الباحث الديني المستنير اليوم، ينخرط بوضعٍ هو أقرب إلى حالة الطوارئ منه إلى استرخاء البحث الأكاديمي؛ ذلك أنَّ ما يستجرُّه الدين الآن من كوارث وحروب أهلية وإشاعةٍ للبغضاء والتفرقة لم يعدْ خافيًا على أحد، فنحنُ جميعًا شهودُه وشهداؤُه، وأنَّ تجنُّب بقاء الدين مولِّدًا للكارثة غير ممكن إلا بالالتفات إلى الدين نفسه ومساءلته ومحاولة التعرُّف إلى الغريب فيه، إلى جرثومة الخلل التي جعلتْهُ موطنَ البغضاءِ والتَّناحُر ومحرضًا على كراهية الإنسان للإنسان. البحث حالة طوارئ يرادُ منها إنقاذُ الدين، جوهره أو معناه، وليس صدفةً أن الكتاب هذا يأتي بعد كتاب آخر للرفاعي عنوانه «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين». وكما أنَّ عنوان «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يتستر على مُصادَرَةٍ مؤدَّاها أن هناك ظمأً وجوديًّا لا يرويه إلا الدينُ، فإن في عنوان الكتاب الآخر مصادرةً بيِّنة ذات ثلاث شُعب؛ أولها: أن هناك نزعة إنسانية في الدين. والثانية: أن هذه النزعة في خطر. والأخيرة: أن هذه النزعة الإنسانية يمكن إنقاذُها. وأحسبُ أن هذه المصادرةَ الثلاثيَّة تهيمن على كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» برمته. لكنْ هل يمكن لنا مؤاخذة الباحث على ارتكابه مصادرة كهذه؟ المسألة باعتقادي أعمق وأعقد من أن نباشرها بتخطئة أو تصويب منطقي، فكلما كان مدارُ الحديث عن الغيب وتجلياته في النفس كان الأمرُ متعلقًا بتجرِبة رُوحية ذوقيةٍ لا سبيل إلى البرهنةِ عليها أو التثبت منها بحثيًّا، وتتأكد الحيرةُ إذا ما عرَفنا أنَّ هذه التجرِبة استغرقتْ عمرًا بأكمله؛ بحيث باتتْ هي الإنسان ذاته. وأنا أمام حيرةِ أستاذنا الرفاعي أتذكَّر حيرةَ الفيلسوف المعاصر آلان باديو في حديثه عن الحب، وإقراره أكثر من مرة أنَّ في حديث الفيلسوف عن الحب لا مفر له من أن يجرَّ وراءه سلسلة مُصادرات. مشروع الرفاعي يبلغ مع هذا الكتاب مدى بعيدًا في تنزيه الجوهر الإنساني الذي تنطوي عليه الصناعةُ الإلهيةُ (الدين)، فمع أن مشروعًا كهذا يجدُ له في العرفاء والمتصوفة آباءً مؤسِّسين، إلا إنه في الوقت عينه ينأى بنفسه عن تصوف الانعزال والتطيُّر من الناس. نبهني الكتابُ إلى إفادةٍ قلَّما فكرتُ بها مليًّا قبل قراءته، تتعلَّق ببراءة المؤسسات الدينية كالحوزة والأزهر مثلًا من الحركات المسماة «إسلامية»، فالمؤلف يستقصي أسماء قادة هذه الحركات العنفية وأبرز ممثليها، لنجد معه ألَّا أحد منهم قد تخرَّج من هذه المؤسسات، وهي نقطة غاية في الأهمية لم أكنْ ملتفتًا إليها. الكتاب باختصارٍ مرافعةٌ عن جوهر الدينِ ألقاها محامٍ بارعٌ في محكمة الضمير.

١  شاعر وناقد عراقي. نُشر المقال في جريدة العالم الصادرة ببغداد ١٠ / ١ / ٢٠١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤