من تغيير العالم إلى تفسيره

هاجر القحطاني ١

خلافًا لكثير من أبناء جيله، يكتب الرفاعي في قضايا الدين مسكونًا بتفسير العالَمِ لا تغييره، إذ لا تختزل كتاباته المفاهيم المركبة بفهم وعظي بسيط، بل تحفر في طبقات المجتمع وخفايا النفس البشرية، تتقصَّى مَدَياتها وأغوارَها، وترصد الدين وتجلياته المختلفة في حياة البشر، وتستكشف أنماط التديُّن والعوامل المتعدِّدة المنتجة له في ضوء الوقائع المجتمعية المتنوعة، وكيفية ولادة تلك الأنماط وتعبيراتها وتحولاتها وتطوراتها، في سياق دراية واستيعاب ورصد مثابر منه للمعطيات المتجددة للعلوم الإنسانية وغيرها من المعارف الحديثة ذات الصلة.

يتحدث الرفاعيُّ عن الدِّين، ويدافعُ عن أصالته ومكانته المحورية في حياة الكائن البشري، لكنه ينأى بنفسه عن «التبشير» ولا يدَّعي «الرسولية». فلا نعثر في كتابه هذا على توصيات مباشرة أو صيغ جاهزة، وشعارات مبتذلة. حتى عنوان الكتاب «الظمأ الأُنطولوجي» هو عنوان متفرد يحوِّل العدسة عن الدين وقضاياه، كأنه شأن متعال عن الإنسان ومكابداته نحو حاجة الإنسان من الدين واشتباكه الطويل مع حضوره المتواصل في حياته وعوالمه وقلقه الوجودي.

يرى الرفاعي مهمَّة الدين المركزية متمثلةً في إرواء الظمأ للمقدس، فحيثما كان إنسان كان هذا الظمأ، وحيثما كان الظمأُ للمقدس لا بد أن يحضرَ الدينُ. كذلك يرى الرفاعي أنَّ الدين يقدِّم تفسيرًا وتبريرًا لتأبيد الحياة، واستمرار وجود هذا الكائن وخلوده، هكذا يغدو الموت مجردَ تحوُّل من طورٍ وجودي إلى طورٍ وجودي آخر، أو تبدُّل من نمطِ وجودٍ إلى نمطٍ آخرَ، أو من نشأةٍ إلى نشأةٍ أُخرى. يقول: «صحيح أنَّ الطور الثاني يكتنفه إبهام وغموض، غير أن الدينَ يقدمه كمعطًى نهائي ناجز لا نقاش فيه، ويصوِّره بنحوٍ يتبدَّى فيه مقنعًا لمعتنقيه، بوصفه شكلًا من التطور والصعود والتجرد والتسامي في رحلة تكامُلِ الكائنِ البشري». ولعلَّ أجمل ما يعبر عن هذه الفكرة قول جلال الدين الرومي:

متَّ من الجماد وصرت ناميا،
ومتَّ من النما فصرت حيوانا.
متَّ من الحيوان وصرت آدميًّا،
فلم الخوف؟ متى أنقص الموت مني شيئًا؟٢

لا تقتصر مهمةُ الدين على ذلك، حسبما يعتقد الرفاعي، بل إن الدين يمنح الإنسان معنًى لما لا معنى له، ذلك أن: «الإنسان يبحث عما يتجاوز الوقوفَ عند سطوح الأشياء، والاكتفاء بظواهرها، ومفهوم أعراضها الحسية، فهو يفتش على الدوام عما هو أبعد مدى من المعنى البسيط. إنَّه في توق لاكتشاف «معنى المعنى». في رحلته مع الدين وبالدين يمكنه بلوغ «معنى المعنى»، ذلك أن الدين يمتلك جهازًا تفسيريًّا يسمح بتعدُّد التأويلات وتوالدها، فكما أن الوجود لا متناهٍ، فإن الكائن البشري بطبيعته لا يكفُّ عن ملاحقة التفسيرات والتأويلات اللامتناهية أيضًا، كي يعزز ذلك شعورَه بأنه ليس متناهيًا.»

أهمية الدين عند الرفاعي تنشأ من أهمية الإنسان، وهو إذ يدافع عن حضوره فإنه يدافع في الواقع عما يتصوره حاجة الإنسان العميقة له، إذ لا وجود للدين خارج مكابدات الإنسان وأشواقه وقلقه وهشاشته. التعريف نفسه يعكس محاولة الرفاعي الجادة في إعادة ترحيل الدين من المجال الأيديولوجي والعودة إلى المجال الأُنطولوجي؛ الرحلة التي لم تكن فكرية فقط، بل هي مسيرة الرفاعي الإنسان خلال الأربعين سنة الماضية.

في مدخل الكتاب شرح الرفاعيُّ مضمونَ العنوان: «الدين والظمأ الأُنطولوجي»، ووضعَنا في صورة ما ترمي إليه فصوله، مشدِّدًا على أنَّ هدف الكتاب يتلخَّصُ في اكتشاف مهمة الدين ومجاله في حياة الإنسان، معرِّجًا على ترحيل الإسلام السياسي للدين إلى فضاءٍ تحوَّل معه الدينُ إلى وقود يحترق في صراعات الهيمنة والاستحواذ على المال والقوة والسلطة. يعالج الرفاعي ما أسماه «نسيان الذات»، مستحضرًا نشأته الحركية في الإسلام السياسي، وكيف يشوِّه هذا الضرب من النسيان صلة الإنسان بنفسه والعالَم، كما يعالجُ في فصل آخر «نسيان الإنسان»، منوِّهًا إلى إهمال هذا البعد في غالب ما ينتجه التديُّن السياسي من أدبيات وأفكار في الشأن الديني.

في «نسيان الذات» ذكَّرنا الرفاعي ببداهة نكاد ننساها وهي أن «الإنسان يولد بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألَّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، واليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الرُّوح، وانطفاء القلب، والهشاشة، والعدمية، والجنون … إلخ. وهكذا فإن عودة المرء لذاته تبدأ بالخلاص من عبودياته، واسترداد حرياته، ونبَّه إلى أنَّ: أخطر أنماط العبودية عبودية العقل، إنها هي التي تُفضي إلى عبودية الرُّوحِ والعواطفِ والضمير. الجبانُ عقلُه مشلولٌ، لا طاقةَ لديهِ للتفكيرِ، ذلك أن التفكيرَ شجاعةٌ، وأحيانًا تكون ضريبتُه موجعةً، وفي بلادنا من يفكر بحريةٍ لا بد أن يكونَ مُستعدًّا للتضحيةِ بمقامهِ ومالهِ وانتمائهِ لجماعتهِ، بل ربما حياته.»

احتل الفصل الثاني «نسيان الإنسان» المساحة الأوسع من الكتاب، وهو كما وصفه المؤلف «محاولة أوليَّة لكتابة سيرة ذاتية». أشار الرفاعي في أول فقرة من هذا الفصل إلى «صعوبة الاعتراف»، بل اعترف بتعذُّر الحياد والموضوعية في «كتابة الذات عن الذات، ورواية الذات لسيرة الذات»، إذ صرَّح بأنه أمضى أربعة عقود من حياته في الحوزة العلمية، وانخرط في عمر مبكر في الجماعات الدينية، مضافًا إلى ولادته ونشأته في قرية جنوبية لا تنتمي إلى العالم الحديث. كل هذه المحطَّات يسودُها التكتُّم وقلَّة البوح والاعتراف. لكنه مع ذلك اعترف بصراحة «لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من رُوح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في عالمنا، خاصة وأني ما زلت منتميًا للحوزة، ومتساكنًا مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصًا على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعَلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي؛ ذلك أنَّ من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطردُ والنفيُ واللعنُ مصيرَ كلِّ من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه.» رغم ذلك لم يبخل ببوحٍ شجاع عن محطَّات رئيسة في حياته، يحكي الوقائع والظروف والأوجاع والبؤس والحرمان الذي كابده في طفولته، وتجرِبة انخراطه في بداية شبابه في حزب الدعوة الإسلامية، ودراسته وتدريسه في الحوزة التي بدأت سنة ١٩٧٨م واستمرت إلى اليوم. وهو لم يمر على تلك المواقف مرورًا عابرًا، وإنما قدَّم في سياق كلِّ موقفٍ تأويلات، ورؤًى فلسفية، وتأمُّلًا نقديًّا عميقًا أثارته تلك الأحداث حتى أضحت وقائع حياتِه هامشًا محدودًا حيال ما ألهمته من مفاهيمَ وآراءٍ واستنتاجات. ختم الرفاعي هذه السيرة بقوله «تعلَّمتُ أن الحياةَ عبورٌ متواصلٌ … لا أتهيب المغامرة مهما كانت شاقة، ولو افتقدتُ أية وسيلة أستعينُ بأظفاري للحفر بين الصخور، والعضِّ بأسناني لتفتيتها، كما هي عادتي، منذ مغادرتي بيت أهلي بعمر اثني عشر عامًا، واستقلالي في إدارة شئون حياتي، وتجرُّع مرارة أيامي.»

إنها سيرة ملوَّنة لطفلٍ ريفي، انضم كفتًى إلى حزب الدعوة ثم غادره ١٩٨٥م، وكشاب انخرط في الحوزة ١٩٧٨م وبقي يواصل انشغالاتِه التدريسيةَ والفكريَّةَ في فضائها حتى الآن، اختار الرفاعي ألا يستغرق في هذه السيرة باليومي والعابر، إلا بقدر توظيفه لتشكيل رؤيته للعالم، وبناء فهم للحياة، واكتشاف ألوانها المركبة. ما أجدر أن يقرأ شباب الحركات الإسلامية اليوم هذه السيرة قبل غيرهم، ذلك أنَّ أحلامهم وأوهامهم اليوم هي أحلام وأوهام الرفاعي أمس، ودروبه دروبهم، وأن مآل الرفاعي اليوم قد يدلُّهم على ما يبحثون عنه، في: إيمانه، وتدينه، وأخلاقه، وحياته الرُّوحية والأخلاقية والفكرية، وإن افترقت طريقه عن الدروب التي تخيَّلها كتَّاب أدبياتهم أو سار عليها الكثير من رجالهم.

يحفظ الرفاعي للبشر حقهم في التمايز بتجارِبهم الدينية، إذ جاء في الفصل الثالث (التجرِبة الدينية والظمأ الأُنطولوجي للمقدس): «أنَّ التجارِب الدينية بمختلف مستوياتها وأنماطها هي منهلُ ارتواءِ الظمأ للمقدس. ومع أنها تختلف باختلاف البشر، وتمثلهم للإلهي في البشري، لكن كلَّ شخصٍ يرتوي منها حسب استيعاب ظرفِ وعائه، وقدرتِه على المثول في حضرة الله. التجرِبة الدينية تمثِّل البعدَ الأُنطولوجي في الدين، وجوهره وذاته وروحه وباطنه العميق. التجرِبةُ الدينية جوانيَّةٌ، غاطسةٌ في الذات، بل متماهيةٌ معها، لا يمكن بلوغُها بأدواتٍ ووسائلَ حسية، وربما لا تشير إليها ظواهرُ التدين الخارجية، أو قد تشي بعكسها أحيانًا، كما لدى بعض رجال الدين، الذين ربما يؤشِّر خطأ ما يمارسونه من طقوس وشعائر، إلى عمق تجارِبهم الدينية، رغم أن عالمهم الباطن بعيد عن الله.»

تحدث الرفاعي في الفصل الرابع من كتابه عن «المثقَّف الرسولي علي شريعتي»، وعنى بالمثقف الرسولي هنا ذلك المثقف الذي يرى نفسه بمثابة النبيِّ المرسل إلى أمته لهدايتهم. وأردف الرفاعيُّ عنوان الفصل بتوضيح ينصُّ على أن ما قام به شريعتي هو «ترحيل الدين من الأُنطولوجيا إلى الأيديولوجيا»، فشرح كيف عمل شريعتي على «أدلجة الدين والتراث». اتَّسمت هذه الكتابةُ عن فكر شريعتي بالتحليل النقدي، وشرحت مرجعياتِ أفكاره، وأحالته إلى الروافد التي تغذَّى منها، وحاكمت آراءه، بالاعتماد على نصوصه الفارسية. يصح القول إن هذا الفصل مرافعة نقدية مباشرة لأدبيات الجماعات الدينية، عبر اختيار مؤلَّفات شريعتي نموذجًا؛ كونها ظلت ملهمةً لأكثر من جيل من الشباب، وما زالت حتى اليوم واسعة الانتشار في البلاد العربية، بعد ترجمة معظمها مؤخَّرًا.

يرى الرفاعي أن أعمالَ شريعتي لا تبوح بمحتواها الأيديولوجي إلا للخبير الذي يقوم بحفريَّات ذكية لآرائه، ويذهب إلى أن هذا الجهد النقدي لمشروع علي شريعتي تزداد أهميته وراهنيته لكون قراءاته التي تتم اليوم في العالم العربي تأتي منقطعةً عن سياقه التاريخي والمعرفي، ناقلةً إيَّاه إلى عصر مختلف باجتزاء مخل، فيه الكثير من التباس المفاهيم والقفز على سياقات التفكير السوسيولوجية، خاصَّة أنَّ لغةَ الدكتور شريعتي هي لغةٌ تحفيزية وتحريضية في أغلبها، تخاطب الوجدان وتتسرب مباشرة إلى الفعل على الأرض. وهذه أول مراجعة شاملة تغربل أفكارَه بالعربية.

اقترح الرفاعيُّ على الباحثين والدارسين للجماعات الدينية: «أن تغدوَ قراءة ومراجعة آثار وتجرِبة المرحوم شريعتي، هي النموذج الذي يحسب أنه ينبغي أن نقرأ ونراجع في سياقه أدبيات هذه الجماعات سُنية وشيعية. وأشار إلى أن ما يفعله بعضُ كتَّاب هذه الأدبيات، من: الازدراء، والتوبيخ الشخصي، والغرق في تفاصيل رثَّة، هو بمثابة استثمار في الضغينة والكراهية، لأنها لم تتحرر من الكراهيات التي تتفجر من مكبوت أحقادٍ وثأرٍ شخصيٍّ متراكم. سلوك ومواقف الإسلاميين في العراق وعالمنا العربي، وإفشالهم للدولة، وفشلهم في بناء الحياة الرُّوحية والعقلية والأخلاقية، تشي بما استقَوه من هذه الأدبيات.»

غير أنه عاد وذكَّرنا بصعوبة هذا النوع من النقد والتمحيص؛ لأنه: «ليس بوسع الناس العيش بلا آباء، شريعتي هو الأب الرومانسي الجميل لحنين الهوية، وأن تلك الأدبيات هي التي ساهمت بصياغة نمط رؤيتهم للعالم، وأحلامهم، وأوهامهم، وما ينشدونه من صورة المجتمعات والإنسان والأوطان. يؤسفني أنه لم يفكر الكثيرُ منَّا بمحاكمتها.» ويضيف: «حاولتُ إنصاف شريعتي، لذلك عدتُ للمجموعة الكاملة لآثاره وكتاباته ومَنْ كتب عنه من الإيرانيين بالفارسية، وتجنبت ما هو مترجم بشكل سيئٍ بالعربية.» وينبِّه بقوله: «اعتاد الإسلاميون على المديح والثناء أو اللعن والهجاء. ليست هناك مراجعات نقدية جدية للأدبيات الدينية التي تربينا وتثقفنا عليها. كتابات المرحوم شريعتي هي نموذج لطيف مؤثر من تلك الأدبيات.»

اللافت أن الرفاعي في كتابه هذا لم ينقد القراءة الأيديولوجية للدين فقط، بل نقد القراءة السلفيَّة لأي فرقة أو مذهب تنتمي إليه، والمثير هو نقده التصوفَ والمتصوفةَ، مع اهتمامه بنصوصهم واستشهاده بها في موارد متعددة من «الدين والظمأ الأُنطولوجي». لكنه شرح موقفه هذا بأنه حين يستشهد بابن عربي وجلال الدين الرومي والنِّفَّري فإنه لم يقلِّدهم، ولم يصبح صوفيًّا؛ بل إنَّه يستفيد من: «التصوف المعرفي، تصوف الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، والبهجة العقلية في وصال الحق» ويرفض التصوُّف الطرقي، تصوف الدروشة، وتعذيب الجسد، والانطواء، والغياب عن العالم. فهو «يقبل من جلال الدين الرومي معظم نصوصه، وتجرِبتَه الرُّوحية البهيجة، لكنه يرفض رقصَه في الأسواق، وعبوديَّة المريدين المَولَوية له. يحترمه، لكن لا يحاكيه، أو يكون نسخة منه.» وأكَّد على «أنَّه يتعاطَى مع جلال الدين التاريخي، ويرفض جلال الدين الميثولوجي المتخيَّل، المفارق للزمان والمكان والواقع، الذي نَحَتَتْ صورتَه مخيلةُ المتصوفة، فتحوَّل إلى صنمٍ يعبدونَه، لا شخصية رُوحية ملهمة يستلهمون ما هو جميل منها.» ويحذِّر من تجاهُل أن موروث التصوف كأي موروث إسلامي آخر، لا يصح تحويلُ نصوصه إلى مطلقات تُعَمَّم لكلِّ عصر، كونه — كما هي كل معرفة وتجرِبة إنسانية — خاضعًا لمشروطيَّات وظروف عصره كافة، من ثقافة، ولغة، وسياسة، واقتصاد، وحروب، وانتصارات، وهزائم … وغيرها.

في الفصل الخامس عالج المؤلف «تكفيرَ المختلف في المعتقد» بوصفه مقدمةً لقتله، وكيف «أننا جميعًا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائِها، ونلجأ لحيل مفضوحة، تتكتم على ما تتضمَّنه المدونةُ الكلاميةُ والفقهية، من أحكام: المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية … إلخ. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب، فقد كفَّر ابنُ تيمية مثلًا من المسلمين: الفلاسفةَ، والمتصوفةَ، والجهميةَ، والباطنيةَ، والإسماعيليةَ، والنصيريةَ، والإماميةَ الاثني عشرية، والقدرية.»

يرى الرفاعي أن مأزقنا يتلخص في أن العقل الإسلامي يكرِّر ذاتَه باستمرار، ولا يني يستنسخ ما قاله الأوائل، ويستأنف قواعدهم وعباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم كما هي. «ولم يخرج من نسَجَ على منوالهم واقتفى آثارهم عن تلك القواعد والآراء في الغالب، إلا بحدود بيان القاعدة وشرح العبارة، وشرح شرحها، والحواشي والتعليق عليها، وتوضيح المراد واستخلاص المضمون؛ ذلك «أن الأول لم يترك للآخِر شيئا» حسب القول الموروث، الذي سمعناه وقرأناه كثيرًا، وأضحى قيدًا على تفكيرنا، لا يسمح لنا أن نفكر كما فكروا، ونتأمل مثلما تأملوا، ونصوغ قواعد بديلة لتفكيرنا الديني في سياق عصرِنا ورِهاناته، والمعارف والعلوم والفنون المستجِدة فيه، كما صاغ السلفُ قواعدَهم، وتشكلت معارفهم بالتدريج في مرحلة بعيدة زمانيًّا عن عصر البعثة الشريفة، واستقتْ من المعطياتِ السائدة في عصرها.»

هذه إشارات لبعض فصول هذا الكتاب، وهو كتاب نجح في تخطي ما هو مكرَّر في الكتابات الإسلامية المماثلة؛ من حيث عنوانه، أو مضامينه، أو عناوين مباحثه، أو جرأته على قول الجديد المفارق، أو تبنِّيه لحدود واضحة لحقل فاعليات الدين وآثاره الإيجابية البناءة، وإدانته لإقحام الدين في حقول أخرى تنقلب فيها وظيفته إلى الضد، فيصير أداةً للهدم لا للبناء، وتنضب كل فاعلياته وآثاره الإيجابية، مستشهدًا بصورته المتوحشة اليوم في تديُّن داعش والسلفية الجهادية، ومستدلًّا بفشل وفساد تجرِبة إسلاميي السلطة في البلاد العربية.

الرفاعي ينبِّهنا إلى أن: «لا حل نهائيًّا ولا جواب نهائيًّا. ففي الأسئلة ليس هناك سؤال أخير. في الفلسفة ليس هناك مفهوم أخير. في الدين ليس هناك اجتهاد أخير. في الفكر ليس هناك رأي أخير. في العلم ليس هناك نظرية أخيرة … بعض ما كان بدعة أمس أضحى سُنَّةً اليوم. بعض ما كان هرطقة أمس أضحى دينًا اليوم. بعض ما كان كفرًا أمس أضحى إيمانًا اليوم. الناس يفتِّشون عن الذي ينوِّمهم، مَنْ يوقظهم يدفع ضريبة موجعة، ذلك أنَّ يقظةَ العقل شقاء، ونوم العقل هدوء ودعة.»

ولعل أفضل إيجاز لما ينشده كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» هو قول المؤلف «نحن بحاجة لأن يعيد التفكير الديني تأسيسَ ذاته من أجلنا، أو نتحمل نحن مهمة ضريبة إعادة تأسيسه لنستعيد امتلاكه، وامتلاك حاضرنا ومستقبلنا، ونظفر بذواتنا.» ذلك ما يجازف كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» بالإبحار باتجاهه. ولو كان لهذا الجهد أن يلخَّص بعبارة، فإنه مشروع إعادة تأسيس الخطاب: خطاب الإنسان/الله … خطاب الإنسان/ذاته … خطاب الإنسان/ الآخر … الخطاب بوصفه فهمًا، ومعنًى، ولغة.

١  كاتبة عراقية، والمدير التنفيذي للمنبر الدولي للحوار الإسلامي في لندن. مَجلة قضايا إسلامية معاصرة، ع٥٣ و٥٤ صيف وخريف ٢٠١٥م.
٢  المثنوي المعنوي، الكتاب الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤