في الحاجة إلى سقراط

عماد الرفاعي ١

لا أرى نفسي أهلًا لتقييم المشروع الفريد الذي تصدَّى العلامةُ عبد الجبار الرفاعي للاشتغال عليه، لكني أتحدث كمتلقٍّ ضمن طبقة المثقف الديني، وأنقل انطباعاتي وتفاعلي وأحاسيسي العفوية المباشرة عند مطالعاتي لما يكتبه الرفاعي أكثر من مرة. أخذ مشروعُ الرفاعي على عاتقه تصحيحَ المسار لرسالة الدين في الحياة بعد أن ضاعت مقاصدُه، وتلاشت رُوحيته، وأغرقته السياسة في ثرثراتها ودهاليزها المظلمة، وأفرغته من الرُّوح والمعنى.

كان المتدين يعيش الرعب من صورةٍ نمطيَّة رسمتها الأفكارُ السائدةُ عن الإله، لتجعل صورتَه الوحيدة صورة لحاكم قاهر يبطش، يبحث عن الزلة لعباده كي يصيبهم بعقابه، لا منبعًا للحب والرحمة والسلام، وصارت العَلاقة معه في الفهم الديني الشائع عَلاقة توجس وقلق وخوف فقط، ولم نفهم أن هناك عَلاقات أخرى مع الله أهمها عَلاقة الحب والرحمة والشفقة. غابت عَلاقة الحب والرحمة والشفقة عن سلوكياتنا رغم أن النصوص تزخر بها.

ونتيجة لتوهم العيش في هذا الكون «البوليسي» المفترض، بدءًا من الإله فما دون، سادت ثقافة القهر والبطش، وشاعت أخلاقية القسوة، وصار المتدين في العادة لا يتعامل مع الواقع إلا بمنطق العقاب والوعيد، وحين رأى تمرد الآخرين، إما لعدم قناعة أو لضعف إرادة، على ما ألزم نفسه به، صار هاجسَه ترقُّب ساعة التشفي بهؤلاء، كي يحصل على ما يراه مكافأة على جلده لذاته، ولفرضه أنواعًا من الحرمان على نفسه. ظل المتدين يبحث عن الساعة التي يناله فيها التكريمُ والثوابُ، وتنال الآخرين العقوبةُ والعذابُ، فماتت مشاعره تجاه معاناة الآخرين، واندثرت نزعتُه الإنسانية.

لذا فقد كانت بنا حاجةٌ إلى كتاب ينقذُ النزعةَ الإنسانية في الدين. وكنا «ظامئين» فعلا لكتاب ينبهنا إلى «ظمئنا» الأُنطولوجي. كنا نبحث عن الرُّوح التي أسرها جمودُ الاستدلالات المعتادة، والقوالب الفكرية العتيقة، وعن المقاصديَّة التي ضيَّعها الانهماكُ في التفاصيل الهامشيةِ وغير الجوهرية، ونعاني من تضخُّم المطالب التي قد تملأ عقل الإنسان، لكنَّها لا تملأ رُوحَه بالنور. كنا متحيِّرين فيما يرفضه الوجدانُ بينما يبرِّره زائفُ البرهان، في جوٍّ من السفسطة المعاصرة، ونشعر بوجود خلل ما في منظومتنا الدينية، لكن تشخيص ذلك الخلل كان عسيرًا، بسبب حُجُب المصادرات العديدة التي نادرًا ما تخضع للتحليل أو يجرؤ أحد على المساس بها. كنا بحاجة ماسَّة إلى «سقراط جديد»، يؤسس طريقةً جديدة في التفكير، ويؤشِّر لنا بهدوءٍ إلى مواضعِ الخلل. المهمة الأولى كما يعلمنا سقراط هي أن تعود الذاتُ لذاتها لتكتشف عوالمها، ذلك أنَّ مِفتاح الفلسفة حسب رأيه هو: «اعرف نفسك». لا بداية عند سقراط إلا باكتشاف عوالم الذات.

مع عبد الجبار الرفاعي نصغي لصوتِ سقراطَ جديدٍ، فقد بدأ كتابه: «الدين والظمأ الأُنطولوجي» بفصل يتحدث فيه عما اصطُلح عليه: «نسيان الذَّات»، في ثقافتا وتربيتنا. شرح في هذا الفصل كيف أن التربية والتعليم والتثقيف في العائلة والجماعات والأحزاب والمنظمات لا تنشد إلا محو الذات، إذ تشدد على صهر الفرد في بوتقة الجماعة، وطمس هويته الشخصية.

استهل الرفاعي فصل نسيان الذات قائلًا: «يولد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألَّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، اليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الرُّوح، وانطفاء القلب، والعدمية، والجنون … إلخ. لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقق من دون الفعل، فالوجود الإنساني لا يصل إلى الامتلاء إلا بالفعل وحده. الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات. الحرية ليست أمرًا ناجزًا قبل أن نشرع بتحقيقها، وجود الحرية يعني ممارستها. الحرية لا تتحقق بعيدًا عن مسئولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتسع وتتكامل إلا بالحرية.»

لقد أعمت الأدلجةُ عقولَنا عن اكتشاف الذات، والانفتاح على الآخَر ومعرفة نقاط قوته، وعن مراجعة أفكارنا ومسلَّماتنا. كنا بحاجة إلى من ينقذنا من التفكير المؤدلج، الذي أفرزته الأدبياتُ الأصولية، التي تربَّى عليها أغلبُ أبناء الأجيال المتدينة، منذ زمن ما يُعرف بالصحوة الإسلامية إلى الآن، وأن نسعى إلى تفسير العالم قبل التفكير في تغييره على حد قول الدكتور الرفاعي.

في مثل هذا الجو المتوتر، كنا نرى الاختلاف المذهبي ضلالًا، والتصوفَ انحرافًا، والعقلانيةَ تجديفًا، والاحتكامَ إلى العلم هرطقةً، والانفتاحَ على بقية الأديان شبهَ ارتداد. كأنَّنا لا نزالُ نعيش في زمن محاكم التفتيش وصكوك الغفران.

كل فئة تنكفئ على نفسها محاولةً الحفاظ على كيانها من الانشقاق والتشظِّي، متفقة على أبلسة الآخر والقطيعة معه، وتغليب منطق المؤامرات والنوايا السيئة، فضاعت بذلك فرصُ الانفتاح والتلاقُح والتواصل.

كنا نتمنى استعادة واستلهام جمال النصوص الأولى التي أَهدرت كرامتَها النصوصُ الثانوية، وقيَّدها تعسُّف التأويلات والشروح والحواشي، الصَّادرة في إطار تاريخيٍّ معيَّن، وبقينا نجترُّها ونكرِّرها، ونحن نحسبها نهاية العلم وخاتمة المعارف.

كنا وما زلنا نعيش صراعًا مع العصر وثقافته، وغربةً عن العالم المعاصر، بسبب التَّقْدِيس المطلق لكلِّ مفردات التراث والاستغراقِ في الماضي. لبث سقفُ المسلَّمات شديدًا جدًّا، وكان عددُها كبيرًا جدًّا، لا يُسمح للتفكير أن يتجاوزها أو أن ينفذ لأعمق منها.

نعم، كنا مع المصلحين أحيانًا، لكن بشرط أن يكون إصلاحُهم حركةً تنتمي إلى الماضي الذي لا يُقلق أحدًا، أو أن يكون ضمن حدود مرسومة تحددها المؤسسة التقليدية، أما الالتحاق بمُصلح لا يزال يعمل فقد أمسى محاصرًا بكثير من هواجسِ الشكِّ، ودعوات التضليل والإقصاء والتسخيف، والتهم الجاهزة، حتى يسارنا كان يمينًا في واقعه، بعد أن تحول اليسار القديم إلى يمين بمقاييس عصرنا، وتجمَّد الإصلاحُ عند لحظة تاريخية محددة.

باختصار، لقد أفلسنا رُوحيًّا وأخلاقيًّا، وأُحرِجنا عقليًّا، وكنا بحاجةٍ إلى من يُضرم فينا جذوةَ العشق، ويعيد للروح حيويتها وبراءتها وعفويتها، ويُرجع للدين رسالتَه وألَقَه، ويعطي للعقل دورَه المنشود في النَّقد والتساؤل والغربلة.

يضع الرفاعيُّ في مشروعَه خارطةَ طريق لحلِّ الكثير من هذه المشكلات، ويقدم محاولة واعدة لتجديد الفكر الديني في الإسلام. كتابه الجديد «الدين والظمأ الأُنطولوجي» نص رؤيوي مكثف، نثر مكتوب بكلمات الشعر. يحتاج إلى شروحات عديدة لا تسعها عدةُ مقالات، لكنه مع ذلك مكتوب بلغة سهلة ممتنعة، الكلمة حساسة، والعبارة في الكثير من مقاطع الكتاب تحيل إلى شذرات كشذرات الحكماء والعرفاء. يتطلب هذا الكتاب أن نتذوقه، لا أن نتعقله فقط. نص الرفاعي يختصر بطرحه مفاهيم وقواعد جديدة للتفكير، والبناء الرُّوحي والأخلاقي والعقلي، لكن ما ينبثق من تطبيقها على المصاديق سيكون كثيرًا وثريًّا. أفكاره مبتكرة عميقة، وتعابيره أدبية رشيقة. لعلي لا أبالغ لو قلت إن كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي»، هو بمثابة مانفستو Manifesto لتحديث التفكير الديني في الإسلام، إن كُتِبَ لهذا النص النجاحُ والاستمرارُ، ربما يصلح أن يصبحَ منعطفًا يؤشِّر لولادةِ نمطٍ آخر في قراءة وتفسير النصوص الدينية، وكأنه يبشِّر بولادةِ مرحلةٍ جديدة في التديُّن وفهم الدين.

لقد أنهك أرواحَنا دينٌ يحترق بماكينة الإله المحارب، أنهك أرواحنا دين يبدو فيه اللهُ عدوًّا للحب والجمال والفرح والسلام، أنهك أرواحنا دين يضعنا في معارك مزمنة مع خالقنا، أنهكت أرواحنا صورةُ الإله المحارب الدموي. ببراعة، يحررنا الرفاعي من هذه الصور المخيفة لله، ويرسم لنا صورةً كلها حب وخير ورحمة وجمال وفرح وسلام.

هذا الكتاب الذي هو «رسالة في الإيمان» حسب تعبير مؤلفه، يشدِّد على أنه: «لا يَعِد بإجابات نهائية، إنما يُعنى بإثارة الأسئلة واستفزاز العقل»، وكما يحدِّثنا التاريخ، فقد انتعشت الفلسفة قديمًا عندما بدأ سقراط يثير المشكلات، رغم أنه — كما يقول أرسطو — لم يضع لها الحلول، لذا فإن ثقافة التساؤل أعظم نفعًا من ثقافة الحلول الجاهزة.

رغم أن الرفاعي قدَّم في أكثر من موضع أجوبته لإشكاليات معينة، إلا إنه نجح أيضًا في الترويج للتساؤل كقيمة مهمة ومحترمة بل وضرورية، وتخليصه من وصمة الاستخفاف التي يصمه بها الدوغمائيون. لذلك يشدد على رعاية حق الاختلاف، وفتح باب مراجعة المسلَّمات وعدم التوقف عن طرح الأسئلة، وعلى التخلي عن المنطق الوثوقي الذي يستهدف قسر الآخر وإكراهه على إيمان معين، ويوضح أنَّ الإيمانَ والتجرِبةَ الرُّوحية هما ما يعيشهما الإنسان فعلًا لا ما يلقَّنه تلقينًا.

يعترض المؤلف على ما يسميه لاهوتَ الفرقة الناجية الذي يُنتج نزعةَ الاستعلاء والتفوق على الآخر، ويرى أن لا خلاص إلا بالتخلِّي عن هذه المقولة، والتأسيس للاهوت جديد هو لاهوت التعددية، الذي سيكفل إمكانية التعايش السلمي بين مختلف الأديان والمذاهبِ والفرق والاتجاهات الفكرية. لاهوت الفرقة الناجية يجعل الطريق إلى الحقِّ طريقًا واحدًا يرثُه المرءُ من أبويه ومجتمعه، ولا يفكر أن يحيد عنه، فيحاول أن يُراكم ما يؤيده، ويتجاهل ما يعارضه. هذا اللاهوتُ لن يسمح لمعتنقيه في الغالب بمراجعة الأفكار وغربلة المواقف والبحث المجرد عن الحقيقة ومعرفة أبعادها ووجوهها المتنوعة. هذا اللاهوت حجاب يحول دون اكتشاف المنجز المعرفي للآخر، أو التفكير في أن لديه منجزًا، بل سيقطع الطريق منذ البداية على كل محاولة من هذا النوع ملوِّنًا العالم بلونين لا ثالث لهما. ويقدم دائمًا أجوبةً جاهزةً وتصنيفًا نهائيًّا، تحددهما رؤيةٌ واحدةٌ للعالَم، ووجهة نظر منفردة وضيِّقة في فهمه وتفسيره.

في الكتاب يقدم المؤلف قراءة نقدية لما يسميه شريعتي ﺑ «البروتستانتية الإسلامية» التي عملت على تديين الدنيوي، ويركز على دور المرحوم الدكتور علي شريعتي في ذلك، وقد نقده بصورة قد تكون قاسية نوعًا ما، حيث يرى أن له الأثر الكبير في «ترحيل وظيفة الدين من الأُنطولوجيا إلى الأيديولوجيا». يناقش الرفاعي شريعتي بوصفه مثالًا مهمًّا ومؤثرًا لأدلجة الدين.

قام الرفاعي أيضًا بتحليل ما يفعله الانتماء الأيديولوجي من «تنميط» للكائن البشري، وما يؤدي إليه ذلك من ضياع لهويته الشخصية، وخلق ما أسماه بالشخصية المستعارة، مضافًا إلى تفشي التعصب لفكر الجماعة، وقتل القدرة على الإبداع لدى الفرد، بسبب ما تمارسه الجماعات الأصولية من محاولة إنتاج نسخ مكررة بلا ملامح للمنتمين لها.

عندما تتحول الثقافة والمعتقدات إلى أيديولوجيا، تُختزَل وظيفة الدماغ في الدفاع عن الدوغماءات، ويتهمش الطلب الموضوعي للحقيقة، وتتكرس الاصطفافات على حساب حيادية البحث، وتسود الحلول الترقيعية للمشاكل الفكرية، والتي تستهدف الحفاظَ على الكيانِ الأيديولوجي بالكامل على حساب الحلول الجذرية، بل تُخفَى بعضُ الحقائق بسبب هواجس الخوف على الهوية، ويصير الإنسان عند تقييمه لفكر معين أمام واحد من طريقين فقط؛ إما القبول المطلق، أو الرفض المطلق، من دون أن يرى منطقةً وُسطى بينهما، ويصير الاستدلالُ تابعًا للإيمان لا العكس.

ربما كان للتفكير الأيديولوجي مبرراته في زمن صراع الحضارات، بسبب ما يؤديه من دور تعبوي تفرضه طبيعة هذا الصراع، لكننا نأمل أن يكون عصر الأيديولوجيا قد ولَّى، بعد أن أتيحت الفرصة لأغلب هذه الاتجاهات، يسارًا أو يمينًا، لأن تأخذ فرصتها في إدارة الحياة واصطدمت بالواقع عند التطبيق، وواجهت إشكالات ليست بسيطة أبدًا.

يختصر المؤلف تشخيصَه لواحد من أهم أسباب شيوع الفهم السلفي للدين، وإنتاج خطاب العنف والتحجر، وغياب النزعة الإنسانية في الخطاب الديني المعاصر، في مفهومين يعبِّر عنهما ﺑ «توثين الحروف، وإهدار المقاصد»، على اختلاف درجاتهما شدَّةً وضعفًا بين المذاهب المختلفة، ويضيف لذلك سببًا آخر: هو الجمود على ما خلَّفه السلف، والخضوع الكامل لأدوات ومناهج الفهم المتوارثة، التي يرى أنها بحكم إنتاجها وصيرورتها في سياق إطار زمني غابر لم تعد مناسِبةً لعصرنا، ويؤكد على مسألة بالغة الأهمية هي أنَّ تجديد المعرفة الدينية يتطلب إعادة النظر في البنى التحتية العميقة المولِّدة لهذه المعرفة، والموجِّهة لدلالات النصوص، والتي تكونت في ظل ظروفها الخاصة التي تختلف عن ظروفنا بالتأكيد، فليس التجديد في نظره مجرد بضعة فتاوى تصدر هنا أو هناك لتُخالِف مشهور الفقهاء، بل التجديد يقتضي إعادة النظر في مناهج التفكير والبحث والنظر والدراسة للنصوص الدينية، والاستعانة في سبيل ذلك بإنجازات العلوم والمعارف الإنسانية الحديثة المختلفة وفتوحاتها، ويشير إلى أن علماء المسلمين قد مارسوا ذلك في الماضي، فاستعانوا بالمنجزات الفكرية والفلسفية للأمم السابقة عليهم، حتى أدخلوها في بنية علوم الدين، ولم يخشوا من الاتهام والحكم عليهم بممالأة الكفار بسبب ذلك، رغم حدوث معارك فكرية بين الحين والآخر، كهجمة الغزالي على الفلاسفة وردِّهم عليه، وذلك على عكس الحال السائدة الآن في دراسة وتدريس الدين، حيث يسود التوجس من كل ما ينتمي للفلسفة والعلوم الحديثة، إلى أن وصل الحال إلى نتائج العلوم التجريبية، التي شنَّ عليها بعض رجال الدين حملات شعواء، مفتشين فقط عن نقاط الضعف ومحاولين ما استطاعوا التقليل من أهميتها ومنجزها الهائل، حتى صار ذلك قاعدةً للتعامل معها عند الكثير من قواعدهم الشعبية.

يخلُص الرفاعي إلى ضرورة تقديم قراءة جديدة للفقه، عن طريق الأخذ بعين الاعتبار السياق الزماني والمكاني التاريخي للأحكام، وعلى أن تغيُّر الزمان يفضي لتغيُّر الحكم، ويضرب أمثلةً على هذه الأحكام، كالرقِّ والإماء وأهل الذمة والجزية والردَّة. وهذه المنهجيةُ الجديدةُ لو طُبِّقَتْ فإنها سوف تغيِّر الكثيرَ من فهمِنا للدِّين، وتجعله أكثر تصالحًا مع متطلَّبات العصر والضرورات التي يفرضها تطورُ العلوم والمعارف البشرية.

رغم أنَّ الرفاعيَّ مفكر ديني وُلِد من رحم المؤسسة الدينية الرسمية (الحوزة)، وخلافًا للنظرة الشائعة السلبية لمعظم رجال هذه المؤسسة عن الفن، لكنه يصرِّح بأن الفن يصنع معنًى للحياة كما يفعل الدين، وإن كان لكل منهما مجاله ودوره المستقل. بل إن للفن دورًا في إحياء البُعد الرُّوحي في الإنسان وإثرائه.

يبادر المؤلف بالرد على شبهةٍ قد ترِد على ذهن القارئ بأنه يدعو لدين لا يناله إلا خواصُّ الناس كالمتصوفة والعرفاء، فيوضح أن تلك الطبقة العميقة للدين — الدين الأُنطولوجي لا الأيديولوجي — تتذوقها حتى العجوز الفلاحة الأمية، وقد سرد هو في الصفحات التي كتبها عن سيرته الذاتية كيف أن: «تديُّن أمِّه الفطري العفوي البريء الشفيف غرس الإيمان في رُوحه، وإليه يعود الفضلُ في ترسخ إيمانه وتجذره» ويستشهد لذلك بقصة جميلة من قصص المثنوي، حول أحد الرعاة الذي كان يناجي الله بعفوية وبراءة وصدق ملهم، لدرجة أن النبي موسى عليه السلام رأى في كلمات مناجاته سوءَ أدب مع الخالق فوبخه لذلك، قبل أن يبين الوحيُ لموسى أن تلك المناجاة مقبولة عنده تعالى، بل ويعاتبه على توبيخه ذلك الراعي المسكين بسبب كلماته العفوية تلك.

في ضوء ذلك يمكننا كذلك التمييز بين نوعين من التشيُّع مثلًا، التشيُّع الفطري المرتكز في الوجدان الشعبي الذي توارثه الناس البسطاءُ جيلًا بعد جيل، والتشيُّع الغنوصي الباطني المتأثر بظاهرة الغلو، والذي يستعير الكثير من مقولاتها ويروِّج لطريقة باطنية في التفكير، تربط كلَّ شيء بأسرار مزعومة لا يعلمها إلا الخواصُّ، والذي انتشر مؤخرًا عن طريق رجال من المؤسسة الدينية والمحسوبين عليها، والذي يثقف أيضًا على الطائفية بحماس شديد، بدعوى الخوف على الهوية التي هي أكبر أولوياته الفكرية.

في الوقت ذاته يشدِّد المؤلف على أن الحاجة للدين والارتباط بالمطلق أصيلة وضرورية، ومن دونها يصاب الإنسانُ بالجدب والإفلاس الرُّوحي، وتُسحَق إنسانيتُه، ويتحول مجتمعُه إلى مجتمعٍ ميكانيكي لا يحسب حسابًا للإنسان بقدر ما يراعي متطلبات الآلة، ويفلسف الرفاعي هذه الحاجة إلى الدين بقوله: «الدين يؤبد الحياة، بعد أن يُنتج تفسيرًا للموت بوصفه طورًا وجوديًّا آخر للحياة.» والدين أيضًا يقدم تفسيرًا لمشكلة الشرور ويجيب عن سؤال: «إن كان هناك إله، فلِمَ يحدث هذا؟»، ربما على طريقة «كانط» في الاستدلال على وجود الله، الذي رغم أنه لم يستدل على وجوده بالعقل النظري، إلا إنه يؤمن به من خلال العقل العملي، فالعقل يحكم بضرورة إثابة من يعمل الخير ومعاقبة من يفعل الشر، وبما أن الطبيعة لا تقوم بذلك، فلا بد من وجود موجود عادل فوق الطبيعة سيقوم بذلك.

باختصار، إن رسالة الكاتب تهدف إلى قبول التعددية، وتفعيل التفكير النقدي، وتخليص العقل من الأدلجة، وإحياء البعد الرُّوحي والأخلاقي والجمالي في التدين. مشروع الرفاعي أثار العديد من النقاشات، وأثار الكثير من الأسئلة والانتقادات التي تنتظر البحث والدراسة والإجابة من مختلف الاتجاهات الفكرية الراهنة في عالم الإسلام، ووفَّر لها فرصة نادرة للقاء والتعرف على بعضها البعض، والوقوف على أرض مشتركة رغم الاستقطاب الذي يسود حياتنا الفكرية منذ زمن طويل.

مفكرون إسلاميون من طراز الرفاعي هم العملة الأندر في عالمنا الثقافي اليوم، ويحس المثقف المتدين أكثر من غيره بقيمتهم الحقيقية، ففيهم يجد هذا المثقف التجسير المنشود للهوة الكبيرة بين التراث الديني والفكر المعاصر، والتفاعل بين هذين العالمين بطريقة التلاقح والانفتاح والتكامل وتبادل الخبرات، لا طريقة الصراع والتضادِّ والتناشز والبحث عن الزَّلَّات، ذلك التجسير الذي حاوله سابقًا مفكرون من خارج المؤسسة الدينية مثل الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور فؤاد زكريا والدكتور علي الوردي في قراءتهم للتراث، لكنهم لم يحققوا أهدافهم كاملة في ذلك، إما بسبب اتهامهم بالتطفل الفكري، أو لعدم اطلاعهم المعمق على هذا التراث بصورة مقنعة للمنتمين إليه، لكن الأمل واعد بهؤلاء الذين وُلدوا من رحم المؤسسة الدينية التقليدية، وقد قرءوا التراث بعمق أكثر من غيرهم، وبمقدورهم غربلته واستلهام مساحاته المضيئة، وتخليصه مما علق به من قباحات يمجُّها الوجدان.

١  شاعر وكاتب عراقي، وطبيب مختص بجراحة الوجه والفكين. نُشر المقال في صحيفة إسلام مغربي ١٢ / ٧ / ٢٠١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤