مقدمة الطبعة الثالثة

فوجئ مؤلفُ هذا الكتاب باحتفاءِ القراء الشباب به، واهتمامِهم بما أثاره من أسئلة، وما خلَص إليه من رؤًى حيال الدين، وبواعث حضور الدين المزمنِ أمسِ واليومَ في الحياة الإنسانية، وكيف أنه كان وما زال أحدَ العوامل الفاعلة في تاريخ المجتمعات، بكلِّ ما يحفِل به التاريخُ من تقدُّم وتخلُّف، ويقَظة وسُبات، ونهوض وكبوة، وحرب وسلام، وانتصار وهزيمة.

تباينت آراءُ القراء في مضامين هذا الكتاب، فرأى بعضُ القراء أنه دعوةٌ ﻟ «تصوف مُقَنَّع»، ووصفه آخرون بأنه دعوةٌ مغريةٌ للإيمان، ودفاعٌ ﻟ «محامٍ بارع» عن الدين، ورأى فريقٌ ثالثٌ أنه يبتعد كثيرًا عن مفهوم الدين المهيمن على حياة الناس، الذي يتحدث عنه معظمُ الكتَّاب الإسلاميين. وتسلَّم الكاتبُ رسائلَ كثيرةً تبدي انزعاجَها وألمَها من نقده ﻟ «أدلجة الدين في فكر علي شريعتي»، وأقلق غيرَ واحد من القراء أن النقدَ الذي يطال شريعتي ينطبق على مفكرين إسلاميين كبار من معاصريه تحولت كتاباتُهم إلى ملهمةٍ لعدَّة أجيال، إذ تنبهوا إلى أن نقدَ فكر شريعتي إنما جاء بوصفه مثالًا لنمط تفكيرٍ أيديولوجي تغلغل في أدبيات الجماعات الدينية كلِّها في النصف الثاني من القرن العشرين.

لعل تنوعَ مواقف قراء الكتاب، واختلافَ آرائهم فيه يعود إلى كثافةِ حضور الحياة الذاتية للكاتب في موضوعاته، وتداخلِ تنويعات العقل والقلب والرُّوح فيها، هي تجرِبةٌ ألقتْ بثقلها على موضوعات الكتاب. لم ينفرد فيها صوتُ العقل فقط، بل إن القارئَ يستمع فيها للعقل يتحدث للقلب والرُّوح، كما يستمع فيها للقلب والرُّوح يتحدثان للعقل.

يعترف الكاتبُ أنه أفاد من آثار فلاسفةٍ ورُوحانيين كبار ملهمين للمعنى، لكن القارئَ الخبيرَ يتحسَّس صوتَ مؤلفه الذي حرص على ألا يكرِّر غيرَه أو يستنسخه. فعندما كان المؤلفُ يُحيل إلى التراث الرُّوحاني في الإسلام لم يكن داعيةً ﻟ «تصوف مقنع»، لأنه لا يُعْوزه الحسُّ التاريخي، لذلك تعاطى مع ذلك التراث بوصفه فهمًا مرحليًّا للدين، وتأويلًا للقرآن الكريم، ينتميان للأفق التاريخي الذي وُلدا فيه. ومع ثنائِه على ما يتميز به التصوُّفُ الفلسفي من الخروج عن الأنساق المغلقة لعلم الكلام التي انطفأت فيها أشواقُ الرُّوح وذبلت فيها جذوةُ الأخلاق، وإعجابِه بطاقة المعنى الخلَّاقة في التراث الرُّوحاني الذي منح رُوحَ وقلبَ المسلم فضاءً فسيحًا يمكِّنه من بناء صلة وجودية يقِظة بالله، وإدراكِه لقدرة النظام المعرفي للتصوف الفلسفي على تحرير العقل من الأسوار المغلقة للرؤية التوحيدية للمتكلمين، وتخطي الفهم المتصلب للدين والتفسير الحرفي لنصوصه. لكن مع كلِّ تلك الميزات الباهرة في التراث الرُّوحاني فإنه كغيره من تراث الإسلام يتسع لاتجاهات متضادَّة ومقولات متنازعة، اصطبغت بألوان عديدة، من خلال تشكُّلها في أزمنة وأمكنة مختلفة، واتخذت صياغاتٍ متباينةً على وَفق السياقاتِ المتنوعة التي تموضعت في مناخاتها، وأنماطِ التجارِب الرُّوحية لأصحابها، لذلك ترى في آثار المتصوفة والعُرَفاء أحيانًا ما هو أشدُّ فتكًا من الشعوذة والوثنية، مما يُعطِّل العقلَ ويُهشِّم القلبَ ويُشوِّه الرُّوحَ، وترى فيها، بعد تمحيصٍ واختبار، كما يرى فيها كلُّ قارئ محترف، دررًا ولآلئَ نادرة، توقظ العقلَ من سُباته، وتنقذ الرُّوحَ من متاهاتها، وتُغيث القلبَ عند فزعه.

أما القراءُ الذين رأَوا المؤلفَ داعيةً للإيمان و«محاميًا بارعًا» في الدفاع عن الدين، فقد تنبهوا بذكاء لرسالة هذا الكتاب وكتاباتي الأخرى، إذ كنتُ وما زلتُ مؤمنًا بالدين، ومدركًا لحضوره الأبدي، ودارسًا لتنوُّع تمثلاته في حياة الفرد والجماعة. قلتُ أكثر من مرة: «أنا كائن ميتافيزيقي، لا تتحقق ذاتي إلا حيث يتحقق إيماني.»

أما أولئك المنزعجون من هذا الكتابِ وغيرِه من كتاباتي فإني أتفهَّم مشاعرَهم، وأظن أن الكثيرَ منهم يشعر بالخذلان عندما يجدني في موقعٍ فكري غيرِ الموقع الذي كنتُه في شبابي. حين كان صوتي مجردَ صدًى لأصوات كتابات مليئة بالشعاراتِ التعبوية، والأحكامِ الوثوقية الجاهزة. كتاباتٌ تفتقرُ للتحليل والغربلة والتمحيص والنقد، ولا تعرف شيئًا عن المكاسب الحديثة للفلسفة والعلوم والمعارف، وتفشل في توظيف أدواتها في دراسة التراث، وفهم الظواهر المجتمعية واكتشاف أسبابها.

بعد سنوات طويلة أمضيتها في دراسة وتدريس علوم الدين بدأت بالتدريج أكتشف قصورَ فهمي للدين، وهشاشةَ تفسيري لنصوصه. بعد أن اختنق تفكيري في مدارات التراث المسدودة، حاولتُ أن أعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع الحديثةَ في فهمِ الدين، بوصفه ظاهرةً عميقةً أبدية في حياة الإنسان، وتحليلِ كيفية نشأة وتطوُّر معارفه، وتراكمِ التراث الذي تكوَّن في فضائه، وتنوُّعِه عبر العصور، فرأيتُ طبقاتٍ للدين والتراث لم أَرَها من قبل، وأضاءتْ لي أعماقًا لم أكن أدركها. رأيتُ كيف تتشكل معارفُ الدين عبر التاريخ، وكيف يُنتج كلُّ عصر فهمَه للنصِّ، وتعلَّمتُ كيف يؤثِّر النصُّ الديني في الواقع، وكيف يتوالد تفسيرُ النصِّ من الواقع، ورأيتُ نسيجَ العَلاقات المجتمعية المعقَّدة وأثرَها المباشر في إنتاج أشكال المعارف الدينية المختلفة.

تتلخص مهمتي في بناء الحب إيمانًا والإيمان حبًّا، واكتشافِ صورة الله الرحمن الرحيم، وتطهيرها مما تراكم عليها من ظلام وتوحُّش، فرحمة الله وطن حيث تُفتقَد الأوطان. أحاول أن أتحدثَ عن سيرة رُوحية أخلاقية فكرية حيَّة في هذا الكتاب. لا أكتبُ للأكاديميين، أكتبُ أشواقَ رُوحي، وسيرةَ قلبي، وأسئلةَ عقلي. أنشدُ إحياءَ إيمان المحبة والرحمة والجمال والخير والإرادة والثقة والحرية والعدل والسلام.

يبقى مؤلفُ هذا الكتاب مدينًا للقراء الذين منحوه ثقتَهم، ولم ينقطع تواصلُهم المباشر معه بوسائل الاتصال المختلفة حتى اليوم، كلٌّ منهم يبدي وجهةَ نظره ورأيَه في القضايا التي أثارها الكتابُ إثباتًا ونفيًا. آراءُ القراء وأسئلتُهم ومناقشاتُهم حثتني على التفكير مجددًا في قضايا لازمتْ تفكيري منذ بداية مطالعاتي ودراستي لعلوم الدين، كنتُ فيما مضى أغلق التفكيرَ فيها بإجاباتٍ لم أجد الكثيرَ منها منطقيًّا اليوم، هنا حاولتُ إثارتَها بشكل أدق، والسعيَ لتقديم إجابات لها، تتخذ القرآنَ مرجعيةً، والمناهجَ الحديثةَ في التأويل أدواتِ تبصُّرٍ فيما ترمي إليه مدلولاتُه. يتضمن شيئًا من هذه الإجابات كتابي الجديدُ «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، الذي يتزامن صدورُ طبعته الأولى مع الطبعةِ الثالثة لهذا الكتاب، والطبعةِ الثالثة من كتابي «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، الصادر عام ٢٠١٠م، والذي كان يمثِّل الحلقةَ الأولى في مسعًى لإرساءِ لَبِناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترسم منطقَ فهمِ آيات الكتاب، من أجل بناء رؤية «إنسانية إيمانية»، عساها تُطلُّ بنا على أفق مضيء نرى فيه الدينَ من منظور مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّرًا لا مستعبِدًا، والتديُّنُ حالةً رُوحانيةً أخلاقية جمالية تتجلى فيها أجملُ صورة لله والإنسان والعالَم.

آمُل أن تظلَّ كتاباتي القادمةُ وفيةً لهذا النهج الذي خلَصت إليه بعد رحلة تفكير وتأمل تواصلت لأكثر من أربعين عامًا من حياتي، واكَبْتُ فيها دراسةَ وتدريسَ علوم الدين، وعشتُ حياةً رُوحية وأخلاقية تكرَّستْ إثر مكابداتِ صور مضادَّة لها، تبدَّتْ في سلوك بعض المتدينين، ممن تتخذُ شخصياتُهم أقنعةً دينيةً زائفة، تلتبسُ فيها القيمُ الرديئةُ بالأمراض الأخلاقية والنفسية، وتختبئ أحيانًا خلف طقوس وشعائر صاخبة.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد، ٥ / ٥ / ٢٠١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤