مقدمة الطبعة الثانية

يختصرُ هذا الكتابُ مطالعاتي ودراساتي وتدريسي، وما تعلَّمته من تلامذتي وأساتذتي وأبنائي، كما ترتسم في ثنايا كلماته محطاتُ وجروحُ حياتي. إنه شكلٌ من أشكال تدوين السيرة الذاتية. كتابُ «الدين والظمأ الأُنطولوجي» خلاصةُ أسفار الرُّوح والقلب والعقل مدةً تزيد على نصف قرن، لبثتُ فيها أفتش عن ذاتي المختبئة. كنتُ أغور كالغواص في طبقاتها، كلَّما قبضتُ على شيء منها انزلقتْ مثلما ينزلق الزئبقُ بين الأصابع. أدركت ألا باب للنجاة إلا اكتشاف الذات والعمل على بنائها وتربيتها ما دامت الحياة.

هذا كتابٌ يعبِّر عن مفهومي للدين والإيمان. إنه «رسالةٌ في الإيمان»، ووثيقةٌ لإحياء الإيمان، وليس كتابًا أكاديميًّا. الكتبُ من هذا النمط تخاطب الرُّوحَ، والقلبَ، والضميرَ، عبر العقل. الكاتبُ الأصيل يكتبُ ذاتَه، أعمقُ تجلٍّ للكاتب الدقيق أن تكون كتابتُه هو، ويكون هو كتابتَه.

معظمُ الكلام في الدين غامضٌ تختلطُ فيه المسارات. تفسيراتُ الدين تنشأ بمرور الزمن تبعًا لتمثلاته في حياة الإنسان، تمثلاتُ الدين تفرضها احتياجاتُ الإنسان وثقافتُه المحلية، وهي لا تعبِّر بالضرورة عن جوهر الدين، بل تتكيف تبعًا لما يكيفها الواقع ومتطلباته، عندما تخضع لمشروطيات ذلك الواقع وإكراهاته.

يسعى هذا الكتابُ إلى عزل المسارات عن بعضها، إذ إن كلَّ شيء يفتقد غرضَه حين يتمُّ استعمالُه خارجَ سياقه. كثيرًا ما يقع الخلطُ بين مفهوم الدين وبين توظيفه خارجَ مجاله. هكذا يُفرِّغ التوظيفُ الدينَ في خارج حقله من مقاصده ويهدرُ غاياتِه وأهدافَه. غالبًا ما ينقلب استعمالُ الدين خارجَ مقاصده إلى الضد منها، كما يفضي استعمالُ كلِّ شيء خارجَ سياق وظيفته إلى نفي غرضه.

أعرفُ أن كتابَ «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يغرِّد خارجَ السرب، إذ يحاولُ أن يعزفَ لحنَه الخاص. تفاعلُ الكثيرِ من القراء معه نشأ من أنه يسعى للاعتراف بما يتطلبه كلٌّ من الرُّوح والقلب والعقل، فلم يُهدر متطلباتِ أحدها، ولم يختزلها كلَّها بأحدها. الناسُ حيارى بين مَنْ يتبنى العقلَ بلا قلب ورُوح، ومن يتبنى القلبَ والرُّوحَ بلا عقل. موقفُ «داعية العقل» ربما ينتهي إلى جفاف الرُّوح وانطفاء نور القلب، وموقفُ «داعية الرُّوح والقلب» غالبًا ما ينتهي إلى الغرق في الخرافة والضياع في الوهم، ومحو الحدود بين الله من جهة، وبين الآلهة الزائفة وتقديس ما لا يستحق التقديس من جهة أخرى. لم يألف العقلُ النقدي في مجتمعنا إيمانًا حرًّا يجعلُ العقلَ مرجعيةً، مثلما لم يألف معظمُ التدين الشائعِ لدينا مؤمنًا حرًّا يمتلك عقلًا نقديًّا. يفتقدك المتدينُ لأنك لا تُكرِّر تفكيرَه وفهمَه ورؤيتَه للعالم، ولا يجدك العقلانيُّ في موقعه لأنك لا تختزل الكائنَ البشري بالعقل فقط.

ينشد تجديد الفكر الديني الذي أدعو إليه تحريرَ القرآن الكريم من تفسيرات إسلام التاريخ وإكراهاته، ذلك أنه بمرور الزمان تراكمت التفسيراتُ والتأويلات على القرآن، حتى احتَكرت دلالاتِه، وسجنت الإنسانَ المسلم داخل تلك الدلالات في مختلِف العصور.

‏غالبًا ما يُمسي تفسيرُ النص المقدس مقدسًا، يستعصي على النقد، بل يُمسي مفسِّرُ النص مقدسًا أيضًا، لا يخضع للمساءلة فيما يقول ويفعل. تجديد الفكر الديني ضربٌ من الحرية؛ ذلك أنه يمنح الإنسانَ والنصَّ خَلاصًا من تلك السجون. إنه ضوء يبوح بتحْيِين النص عبر قراءة يُصغي فيها للواقع وأسئلته، بعد أن لبث طويلًا لا يقرؤه كثيرون إلا في الظلام.

بعضُ مراهقي التفكير ينشر كتاباتٍ تناهض الدين، وغسيلًا يتهكم على الدين، ويهجو المتدينَ ويسخر منه، بسبب عقد شخصية عاشها في طفولته، أو مواقف ثأرية إثر معاناة واضطهاد وإهمال تعرض له في مدرسة أو معهد أو جماعة دينية. مثلُ هؤلاء يضللون الشباب المفتونين بهم؛ حين يعلنون أن مهمتَهم تجديدُ الفكر الديني، بينما هم أعداء الجهود العلمية في هذا المضمار. كلُّ من يتهكم على الدين ويسخر من التدين لا يصلح لمهمة التجديد. تجديدُ الفكر الديني ينشدُ إيقاظَ الإيمان لا تقويضه، وتجديدَ الصلة بالله لا اجتثاثها، واكتشافَ الحدود بين الدين وتمثلاته البشرية المتنوعة والنص وتأويلاته المتضادة، كما يحاول تفكيكَ ركام التاريخ الذي حجب رسالةَ الدين، وأطفأ جذوةَ النصوص الدينية، ويفضح التفسيراتِ المتعسفة لها، وما طمسته إكراهاتُ إسلام التاريخ.

لا أعني بأدلجة الدين في هذا الكتاب وغيره، حيثما وردت في كتاباتي، «علمَ الأفكار»؛ أي دراسة الأفكار دراسةً علمية، وهو المعنى الذي وَضعَ له المصطلحَ بعد الثورة الفرنسية أنطوان ديستو دو تراسي (١٧٤٥–١٨٣٦م). نابليون استعمل مصطلحَ الأيديولوجيا بعد ذلك بمعنًى سياسي يزدري مفاهيمَ التنوير، وفي كتاب «الأيديولوجيا الألمانية» استعمل هذا المصطلح أنجلز وماركس ١٨٤٥م بمعنى الإدراك المقلوب والوعي الزائف للواقع، وتغلب هذا المفهوم في استعماله لاحقًا. خرج مصطلح الأيديولوجيا عن معناه الأول «علم الأفكار» الذي صاغه أنطوان ديستو دو تراسي وانتقل إلى معنى آخر مغاير له.

أعني بالأيديولوجيا نظامًا لتوليد المعنى يُنتجُ وعيًا زائفًا بالواقع، ويصنعُ نسيجَ سلطة متشعبة وَفقًا لأحلام مسكونة بعالم طُوباوي متخيَّل. الأيديولوجيا تحتكر نظام توليد المعنى، بُغية إنتاج وعي يطمسُ مختلِفَ أبعاد الواقع، ويبتكرُ صورةً متخيَّلة له.

أبدى قراء محترمون لهذا الكتاب امتعاضَهم من نقد أدلجة الدين عند المرحوم علي شريعتي. ولم أجد إلا القليلَ من القراء النابهين التقط ما يهدف إليه نقدُه. اتخذتُ شريعتي نموذجًا لنقد وتفكيك أدبيات الجماعات المسكونة بأدلجة الدين. درستُه هنا بوصفه مثالًا مبهمًا ملتبِسًا يرى أكثرُ مَنْ يقرأ شعاراته الغاضبة المثيرة أنه مجدد، خلافًا للقراءة المتأنية لأفكاره، وما تكشفه من أن خطاباتِه المتنوعةَ وكتاباتِه يوحِّدها قاسمٌ مشترك؛ هو توظيف الدين في الدولة والاقتصاد والعلوم والمعارف المتنوعة وكل مجالات الحياة، وتلك هي خلاصة ما ينشده الإسلام السياسي.

فكرُ شريعتي يتلفع بأقنعة متنوعة، كلماتُه لا تخلو من غواية فاتنة، عباراتُه لا تخلو من سحر الشعر والفن، وكلِّ ما يثير المشاعر. محاضراتُه تُعلِن عن شهامة وغَيرة وشجاعة، أفكارُه يسودُها نقدُ الواقع الذي عاشه هو، وعاشه وطنُه إيران قبل الثورة الإسلامية، لذلك كانت مشبَّعة بالتحريض والعويل والتعبئة للثورة. يتطلب كشفُ المضمون الأيديولوجي لفكر شريعتي مزيدًا من تأمل العقل النقدي. نقدُ شريعتي في هذا الكتاب نموذجٌ لنقد اتجاهٍ واسع في الفكر الديني الحديث الفاعل والمؤثر في عالَم الإسلام.

ربما يقال إن الفكرةَ المجردة لا طاقة فيها لتحريك الجمهور. المهم هو تعبئة وتجييش المجتمع في اللحظات الحاسمة والمنعطفات الكبرى التي يتعرض لها، وذلك لا ينجزه إلا تحويلُ الدين أو أيِّ معتقد آخر إلى أيديولوجيا. هذا الكلام ليس صحيحًا، إذ ليس المهم أن نحرِّكَ الشارعَ بأية وسيلة، حتى إن كانت تزوِّر الواقعَ، وتخدع الوعيَ، وتنوِّم العقل. الدعوات الفوضوية تمتلك طاقةً هائلة لتعبئة الناس، إذ سرعان ما تشعل الغرائز، وتفجِّر مخزونَ الشر، وتبعث العُقَدَ المكبوتة، لكن تلك التعبئة الفوضوية الشريرة التدميرية تهدر كرامةَ الإنسان وتنتهك كلَّ حرياته، وتصادر أبسطَ حقوقه البشرية عندما تُحطِّم كل شيء أمامها. توظيف الدين في الثورة بالطريقة التي فعلها شريعتي، هو ما كان يعمل عليه ويدعو له أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب وكل مؤسسي وكُتَّاب الإسلام السياسي السُّني والشيعي، وكان هو البدايةَ الممهدة لخروج الدين من مجاله الرُّوحي والأخلاقي واستحواذه وتسلطه على كلِّ شيء في حياة الإنسان.

الضرورة تفرض أن يتحول العقلُ إلى مرجعية في الفكر والتعبير والسلوك، وأن تكون أحكامُه هي الأساس، وأعني بالعقل هنا ما هو أعم من العقلَين النظري والعملي. على ألا نختزل كلَّ الكائن البشري بالعقل المجرد، بل من الضروري أن يحضر العقلُ العملي الذي يخرج به هذا الكائنُ من توحشه فيتخلق ويتأنسن ويتدين.

الشجاعةُ والحماسةُ والغَيرة والشهامة والشرف تتصلُ بالأخلاق، والأخلاق على الضد من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا أحيانًا تصيِّر الحُسنَ قُبحًا والقُبحَ حُسنًا. حدودُ الأخلاق الحُسن والقُبح العقليَّان؛ بمعنى ما ينبغي وما لا ينبغي حسب منطق العقل العملي.

أدلجةُ الدين تفسده، وتفسد الإيمان. الإيمانُ ليس فكرةً مجردة أو مفهومًا باردًا أو مومياءَ محنطة، الإيمانُ ضربٌ من الحماسة والجذوة الرُّوحية المتوثبة، والينبوع الأُنطولوجي المتدفق بكل ما يُثري وجودَ الإنسانِ ويكرسه، لحظةَ تنطفئ هذه الجذوةُ يُمسي الإيمانُ رمادًا تذروه الرياح.

حين أتحدثُ عن السلفية في كتاباتي لا أعني بها السلفيةَ الجهادية أو غيرها. أعني بالسلفية ما يشمل كلَّ قراءة سلفية للنصوص الدينية، وكلَّ محاولة لاستدعاء للماضي أيًّا كان، ودسِّه في الحاضر كما هو، مهما كانت الفِرقة أو المذهب أو المعتقَد الذي يدعو لها ويتبناها. ‏أعني بالسلفية ما هو أعم من المعنى المتداول اليوم الذي تنصرف فيه لمن يتبع ابنَ تيمية ومدرستَه. السلفيةُ تتسعُ لكلِّ تفسير تبسيطي للنصوص الدينية؛ قابعٍ في الحَرْف، عاجزٍ عن تذوق مقاصد النص وأهدافه، مهما كانت الفِرقةُ أو المذهب أو المعتقَد الذي ينتمي إليه صاحبُ التفسير، سواء أكان سنيًّا أو شيعيًّا أو إباضيًّا أو زيديًّا، مسلمًا أو غير مسلم.

السلفيةُ اتجاهٌ في الفكر الديني حاضرٌ في كلِّ تفسير حرفي للنصوص الدينية، يتفشى في كل الأديان والفرق والمذاهب، يرسم صورتَه الخاصة لله، وهي صورة يشدِّد على تعميمها وفرضها على الكلِّ بالإكراه. صورة تتصف ملامحُها بالقسوة والشدَّة والعنف ومطاردة الإنسان ومحاربته، لا تحضر في ملامحها الكرامةُ والحريةُ والرحمةُ والمحبة والشفقة والجمال والسلام.

يحسب البعضُ أنه يمتنع اجتماعُ الإيمان مع العقل؛ أي أن تكون مؤمنًا فأنت غير عاقل، وأن تكون عاقلًا فأنت غير مؤمن. أما أن يجتمع فيك العقلُ والإيمان، مثل: ابن سينا وابن رشد وابن عربي، وديكارت وكانط وشلايرماخر وكيركيغورد، فهذا تهافت. كررتُ الإعلانَ أكثر من مرة: أنا مسلم، مؤمن بالله تعالى ورسالة نبيه الكريم «ص». أمضيتُ حياتي في دراسة وتدريس علوم الدين ومعارفه. لستُ ناطقًا باسم الله، ولا باسم أحد. أحترمُ معتقداتِ الآخر، متمنيًا أن يحترمني الآخر.

لعل احتفاء القراء بكتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يعود إلى أنه لا يسعى لتفكيك التفسير السلفي للنصوص الدينية فقط، بل يحاول أن يكشف عن خارطة طريق للوصول إلى الله، بوصفه إلهَ الحبِّ والرحمة والخير والفرح والجمال والإرادة والثقة والحرية والكرامة والسلام، وليس إلهَ الكراهية والشر والحزن والقبح والاسترقاق والخنوع وإهدار الكرامة والحرب.

تمتازُ هذه الطبعة بتصويبات وتقويم لغوي. حرَّضتني الرؤى النقدية للكتاب على التفكر والكتابة مجددًا عن المفاهيم والمصطلحات والآراء التي تبدو غامضة أو مبهمة أو ملتبسة أو غامضة فيه، فأوضحتُها بمزيد من الشرح والتحليل، وحاولت أن أقدم تفسيرات وأدلة إضافية على ما أشار النقاد الكرام إلى غموضه ووَهَنِه.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد، ١ / ٩ / ٢٠١٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤