استغلال الأيديولوجيا للدين

عبد الجبار الرفاعي

كتب الصديقُ د. فالح مهدي مراجعةً نقديَّةً لكتابي «الدين والظمأ الأُنطولوجي» من منظور مختلف عن المنظور الذي أتبناه في كتابي هذا. فكتبت له: كتابتك أعتزُّ بها؛ ذلك أنها كانت أقرب للمنهج الغربي الحديث في البحث والنقد العلمي، وهو منهج يفتقر إليه الكثير من الكتابات في شرقنا العربي، التي تبتعد عن النص، وتنشغل بالكاتب أحيانًا، وتنزع للمدح والثناء أو الذمِّ والهجاء. كل كتابةٍ تكشف لي ثغرات كتابتي، وتحيل إلى مرجعيَّات غير مرجعياتي، وتحاكم أفكاري من منظور مختلف، تمنحني فرصةً لمراجعة مرجعياتي، وفحص أفكاري، وترشدني لنقد وثوقِيَّاتي وقناعاتي في التفكير والتعبير. فالح مهدي حرَّض عقلي على التفكير في الإيمان خارج الإيمان، والتفكير في الدين خارج الدين، والتفكير في التدين خارج التدين، والتفكير في التراث خارج التراث، والتفكير في أفكاري خارج أفكاري.

لا أزعم أني نجحت في التحرر من ذاتي، ليس هناك تفكير خارج الذات، كل تفكير مرآة للذات. تداخل تفكيرنا بذواتنا حتمي، يصعب عليَّ وعليك الفرار من أحكامنا المسبقة القابعة في أعماق عقلينا، ويتعذر علينا فهم العالم خارج رؤيتنا للعالم التي تشكَّلت في سياق تربيتنا وبيئتنا وثقافتنا وديانتنا، ويشق التفكير بأفكار خارج الأفكار المترسبة في الذهن والمولودة في فضاء الدراسة والتدريس والمطالعات وخبرات الحياة، ويصعب على كل مَنْ يُفكِّر عبور آفاق انتظاره.

هذه هوامش مختصرة لتوضيح أفكاري:
  • (١)

    كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يشدو لحنَه الخاص، خطيئتُه أنه لم يكرِّر الأصوات المكررة في أدبيات الجماعات أو غيرها من أدبيات الجماعات اليسارية والقومية، التي يَغرَق الفضاء السياسي، منذ أكثر من قرن، في مجتمعاتنا، بشعاراتها ومقولاتها ودعواتها وأحلامها وأوهامها.

    «غيرُ الإسلاميين» من بعض القراء أزعجهم دفاعي الشديد عن الإيمان والدين والوحي والنبي الكريم «ص»، ودعوتي لتديُّن ينشد إغناءَ الرُّوح والأخلاق وتذوق الجمال. كذلك أزعج بعضَهم اكتشافُهم أني كائن رُوحاني أخلاقي ميتافيزيقي مؤمن، وامتعض البعضُ الآخرُ من تمسُّكي بالصلاة والفرائض العبادية وتديُّني التقليدي، إذ فوجئوا بأني ما زلت حتى اليوم، وسأبقى، ألجأ لصلاةِ وعبادات أمِّي ونمط تديُّنها. كما أن «معظمَ الإسلاميين» أزعجهم إيماني وتفكيري الحر، ونقدي لإحراقهم الدين في قاطرة الأيديولوجيا، والصراعات على السلطة والمال والنفوذ.

    لا أستطيع حين أكتب أنْ أُزيِّفَ تفكيري، أو أكذب، أو أتملق أحدًا. لا قيمةَ لكتابة تتملَّق القُرَّاءَ. ما قيمة صوتي حين يصبح صدى ببغاء تكرِّر أصواتًا لا تفقهها. الكتابةُ هي الكاتب، كلُّ كاتب أصيل يكتب ذاتَه، وينسج من ألوان حروفه لوحةً تحيل إلى: مسبقاته ومعتقداته وفكره وأفق انتظاره وأحلامه.

  • (٢)

    الدين في مفهومي يمكن أن تستغلَّه الأيديولوجيا فينقلب إلى سُمٍّ يدمِّر الحياةَ، ويحطِّم الحضارةَ والتمدُّن البشري، مثلما تستثمره بعضُ الجماعاتِ الدينيَّة اليوم. ويمكن أن يكون الدينُ مفارقًا للأيديولوجيا، كما هو دين الأمهات والآباء، ودين محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وإيكهارت … وغيرهم. يكون الدينُ عذبًا خلَّاقًا، يمنحُ الحياةَ معناها، وطاقتَها الحيوية الإيجابية، عبر تكريس الحياة الرُّوحية، وإثراء الحياة الأخلاقية والجماليَّة. لا يستطيع غيرُ المؤمن تذوُّق حالاتِ الرُّوح، ويصعب عليه إدراك فضاء إشراقها وتجرِبة تساميها؛ عبر وصالها بالحقِّ خارج سياق الأيديولوجيا؛ ذلك أنَّ تذوقَ الحالات طريقُه القلب، وما كان طريقُه القلب لا يتذوقه العقل.

    إن اختزال الكائن البشريِّ في العقل ينطوي على تبسيط تكذِّبه علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة. نعرف المواقفَ النقديَّة الجذرية لعلم النفس التحليلي، وفلاسفة ومفكري «معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت»، وغيرهم لمنطق العقل الوضعي، وفضحهم العقل الأداتي، الذي يتجاهل اللاشعور والمتخيَّل والأسطورة والرمز، ويتعاطى مع الإنسان بوصفه كائنًا يسيِّره العقلُ فقط.

  • (٣)

    تحدث الفلاسفةُ والمفكرون في القرن العشرين أنَّ كارل ماركس وفريدريك إنجلز فَضَحَا تزييفَ الأيديولوجيا للوعي البشري في كتاب «الأيديولوجيا الألمانية»، وإن كانت كتاباتُ ماركس لم تتحرَّر من بصمة أيديولوجية، بل أضحتْ آثارُه لاحقًا ضحيةَ استغلالٍ أيديولوجيٍّ أيضًا، وَاكَبْنَا بعضَ تطبيقاتها المتعسِّفة بل المتوحشة على المجتمعات البشرية في سنوات طويلة من القرن العشرين، كما فعل جوزيف ستالين، وجماعة «الثورة الثقافية» في الصين، وبول بوت في كمبوديا، الذين برَّروا في إطار المنطقِ الأيديولوجي الماركسيِّ كلَّ انتهاكاتِ الكرامة البشرية، والمجازِر الشَّنيعة التي ارتكبوها.

    ليس من الصواب تعميمُ منطق «الأيديولوجيا» على النبوَّات والأديان قبل العصر الحديث، الذي وُلِدَ فيه هذا المفهومُ، كما أشرتُ لذلك في مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب، فقد تمَّتْ صياغةُ مصطلح «الأيديولوجيا» متأخِّرًا بالفرنسية، وكان استعمالُه لأول مرة بمعنى «علم الأفكار»، وهو المعنى الذي وضعَ له المصطلحَ بعد الثورة الفرنسية أنطوان ديستو دو تراسي، لكنَّ نابليون سكبه في قالب دلاليٍّ آخر، فجرى ترحيلُ معناه منذ ذلك الحين، واستعملَه بعض الفلاسفة والمفكرين والباحثين من بعده بمعنى الإدراك المقلوب والزائف للواقع. أوضحتُ أن ما أقصده ﺑ «الأيديولوجيا» في كتابي هذا هو نظامٌ لإنتاج المعنى يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبة لإنتاج حقيقةٍ متخيَّلة، تبعًا لأحلام تخيُّلِيَّة مسكونة بعالم طوباوي موهوم. إنها عملية تزييف للحقيقة وطمس لمعناها عبر حجب الواقع، واحتكار نظام إنتاج المعنى.

  • (٤)

    لو بطل التعميمُ تبطل العلوم، العلوم تنشد التعميمَ والارتقاءَ من الجزئيِّ إلى الكليِّ، ومن الجزءِ إلى الكلِّ، ومن الخاصِّ إلى العام. لو بطل التعميمُ لاندثر التقدُّمُ في كلِّ معارف وفنون وخبرات ومهارات البشر، ولم تتطورْ ويهتدي الإنسان من خلالها كلَّ يوم لاكتشاف القوانين العامة للطبيعة ومعادلات النفس والمجتمع. حين يتعطل منطق التعميم لا تتعطل علوم الطبيعة فحسب، بل علوم النفس والمجتمع. في ضوء هذا يصح حديثي عن الدين وتعبيراته، بوصفه ظاهرة أصيلة عامة كلية مشتركة في الحياة البشرية.

  • (٥)

    الإشارة إلى عدم تمييز الكتاب بين «الذات الفردية» و«الهوية المجتمعية»، والذي ورد في سياق تعليق على حديثي عن «الأنا الشخصية»، وبيان أني أعني بها: «الذات الفردية والهوية الشخصية، والتي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته، ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفًا.»

    من الواضح أن «الهوية» لا ترادف «الذات». سياق الحديث يدل على أني استعملتُ الهوية هنا وفي هذا المورد فقط بمعناها اللغوي لا الاصطلاحي، لذلك خصصتها بالقول بأني أعني بها «الذات الفردية والهوية الشخصية» بغية تفسير ما أقصده. ما ورد في الفصل الأول من الكتاب يؤشر بوضوح في عباراتي للتمييز الذي أقمته بين الذات الخاصَّة «الأنا»، واﻟ «هوية» المجتمعية المشتركة، كما تشي بذلك هذه النماذجُ من عبارتي: «فائضُ هويتي يسجنُ ذاتي، ويصادرُ حريتي.. أنا لست أنا، يفرض عليَّ انتمائي لهويتي ألا أكون أنا؛ كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هويتي.»

  • (٦)

    نقدكم لكتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» يستقي من رؤيتكم للعالم، وللدين؛ بوصف الدين الإسلامي كما ترون منتجًا بشريًّا، وهي رؤية لا أتبناها. لا أنكر أنَّ فهم وتأويلات وتمثُّلات الدين بشرية. رؤيتكم للعالم والدين من الطبيعي أن تختلف عن رؤيتي للعالم وللدين، رؤية المؤمن يشرق بها قلبُه بحب الله وتجليات جماله. أتذوق تجليات جمال الله في كل شيء، أتذوقها عبر تديني وإيماني. هذه الرؤية خلاصة عمر تجاوز الستين عامًا، تكرس في دراسة الدين وعلومه والفلسفة والعلوم الإنسانية، وحياة أعيشها بنمط إيمان وتديُّن اقترن بسياحة وأسفار مزمنة لإنسان لن يكفَّ شغفُه الأبديُّ عن متعة أسفار الرُّوح والقلب والعقل. متعة الطريق لدى هذا الإنسان على الدوام تُنسيه متعةَ الوصول، إنه لن يبلغ محطَّةً إلا ليرحل منها إلى ما هو أسمى وأثرى منها. إنها أسفار لن تبلغ مَدَياتها النهائية مهما امتدَّ به العمر؛ ذلك أنها مسكونةٌ بغبطة السَّير التي تشغلها عن الوصول.

    هذه هي خلاصة شديدة لتجرِبة دينية أعيشها، ورؤية للعالم أدركها، وفهم للإيمان والدين يضيء بصيرتي. لا أريد فرضَها على أي أحد في هذا العالم، ولا أحسب أنها خشبة الخلاص الحصرية لكل البشر.

  • (٧)
    كان عبد القاهر الجرجاني «ت ٤٧١ﻫ» أولَ من استعملَ مصطلحَ «معنى المعنى» في كتابِه «دلائل الإعجاز».١ يقول الجرجاني: ««المعنى»، و«معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تَصِلُ إليه بغير واسطة، و«بمعنى المعنى» أن تَعْقِل من اللفظِ معنًى، ثم يُفضي بكَ ذلكَ المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسَّرْتُ لك.. فاعلمْ أنهم يضعون كلامًا قد أعطاكَ المتكلمُ أغراضَه فيهِ مِنْ طريقِ معنى المعنى، فكنَّى وعرَّضَ، ومثَّلَ واستعارَ.» كما ورد هذا المصطلح من بعده في أكثر من كتاب، مثل «دستور العلماء». ما يقصده الجرجاني والبلاغيون وصاحبُ «دستور العلماء» من «معنى المعنى» هو: المجاز والكناية والاستعارة والتمثيل، كما أوضح ذلك الجرجاني الذي دشَّن تداولَ المصطلح. وشرحه أحد الباحثين بقوله: «معنى المعنى باب جليل في بيان العربيَّة … [وهو] أظهر ما يظهر في الكناية، ثم هو قائم في الاستعارة والتمثيل قيامَه في الكناية، ولكن من وجه خفيٍّ؛ وذلك لأنَّ قولك «رأيتُ غيثًا»، وأنت تريد «الجَوَّادَ»، إنما دلَّكَ لفظُ «الغيثِ» فيه على معناه الموضوع له في اللغة؛ وهو «ماء السماء»؛ وهذا المعنى يدلُّكُ على مراد القائل الذي هو «الجُودُ»، والدَّلالات هنا من بنات الفِكْرِ الذي يتلبَّسُ بالسِّياقِ، والقرائن، ويتيقَّظُ للمعاني والمقاصد، لأنه لا معنى لإطلاق لفظ «الغيث» الذي هو «ماء السماء» على فلان، إلا إذا أُريدَ من الغيث معنًى من معانيه؛ يقترب من المُشَبَّهِ مثل الوفرة، وأنه غامِرٌ لكلِّ ما حوله لا يخصُّ أحدًا، وأن عطاءه حياة ونضارة، وأنه يعيش الناسُ به … باب التشبيه والاستعارة وهما أخوان يتفقان مع الكناية في أن الدلالة فيهما من باب معنى المعنى.»٢

    ما أقصده في سياق هذا الكتاب من «معنى المعنى» هو: ذروة المعنى، أو كثافة المعنى، أو فائض المعنى، أو ما وراء المعنى، أو ما هو أبعد مدًى من المعنى، أو ما هو أعمق منه. يمكن أن نتعرف على «معنى المعنى» في آثار الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين والمتصوفة والعرفاء الذين تناولوا دلالات المعنى في اللغة والدلالة والعلامة والإشارة والرمز، وتجلياته في العقل والرُّوح والعاطفة. في مطالعة كتابات شلايرماخر ودلتاي ونيتشه وهوسرل وهيدغر وغادامير وبولتمان وتيليش وريكور ورولان بارت وأمبرتو إيكو وغيرهم ما يضيء ذلك. كذلك يمكننا اكتشافُ مضمون «معنى المعنى» في آثار فلاسفة الإشراق والحكمة المتعالية، ونصوص التصوُّف والعرفان في الإسلام.

بغداد، ٢٦ / ٧ / ٢٠١٦م
١  الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، القاهرة، مطبعة المدني، ط٣، ١٩٩٢م، ص٢٦٣-٢٦٤.
قال عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (ق١٢ﻫ): «معنى الْمَعْنى إِذا كان ظاهرًا كان كالمعنى الَّذِي هُوَ فِي بطن اللَّفْظ.» دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون. عرب عباراته الفارسية: حسن هاني فحص. بيروت، دار الكتب العلمية، ٢٠٠٠م، ج٢، ص٣.
٢  محمد محمد أبو موسى، مدخل إلى كِتَابَي عبد القاهر الجرجاني، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، ٢٠١٨م، ص٧٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤