لكلٍّ من الدِّين والفنِّ والعلمِ حقيقته

عبد الجبار الرفاعي

الصديق العزيز د. ناظم عودة … خالص امتناني لمبادرتك بنقد كتابي: «الدين والظمأ الأُنطولوجي». تسعدني كتابةٌ تختلف معي، هكذا تتكامل وتُصَوَّب الأفكارُ. الكتابةُ الحقيقية هي تلك التي تثير أسئلةً قبل أن تقدم أجوبة، وتتعرَّض للمراجعة نفيًا قبل الإثبات، وتثير الاختلاف أكثر من التشابه، كل تشابه تَكرار. أنا مسكون بالبحث عن الذين يختلفون معي، بل أضدادي. هكذا هم أصدقائي في كل مراحل عمري، بفضلهم يستفيق عقلي، ويترسخ إيماني، وتنبثق تجرِبتي الرُّوحية، وتتكرس قناعتي في أنه بالرغم من تعدد الطرق إلى الله وتنوعها، لكن لا أجمل وأخصب وأثرى من عشق الحق طريقًا إليه. مع الملحدين ينمو إيماني، مع العدميين تتحفز جِديتي، مع العبثيين تتجلَّى أهدافي، مع الشاكِّين يشتدُّ التزامي، مع من يجرحون ضميري الديني يزداد احترامي لمعتقدات الآخر المعاندة لمعتقداتي. ممتنٌّ لمن يختلف معي؛ ذلك أني أتعلم منه أكثر مما أتعلم ممن يتفق معي، أتعلم منه «نفي النفي» فيتجذر إيماني.

تنطلق أنت من وجود منهج واحد تخضع له العلوم الطبيعية والدين وكلُّ شيء، بمعنى أنَّ تعبيرات ووجوه الحقيقة واحدة في كل شيء. أنا أنطلق في فهمي للدين، من أنَّ لكلٍّ من الدين والفن والعلم تجليات وتعبيرات حقيقته على شاكلته وبحسبه. في ضوء ذلك يكون فهم الدين من داخله، وإن كانت تمثُّلاته وتعبيراته في الحياة البشرية تُفهم من خارجه؛ ذلك أنَّ للدِّين حقيقتَه وتجلياتِه وتعبيراتِه، مثلما أنَّ للعلم حقيقتَه وتعبيراتِه، وهكذا للفنِّ حقيقتُه وتجلياته. الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية هي الأفق الذي يتحقق فيه الدين، وهي لا تتطابق مع الأفق المادي الذي تتحقق وتنكشف فيه العلوم وقوانينها.

الفهم البشريُّ سواء أكانَ في حقل الدين أو الفنِّ تحضر فيه الذات، بوصف هذا الفهم يمثل طورًا من أطوار وجودها، كما شرح ذلك غادامير تبعًا لأستاذه هَيدغر. في فهم الدين تتحقق الذات بما يتَّسق مع الدين. وكذلك تتحقق الذاتُ في الفن بما يتسق مع الفن. الدين والفن كل منهما يمثل شكلًا من أشكال تجرِبة الحقيقة.

الإنسان ليس حجَرًا، حتى في العلوم فإن مناهج العلوم الطبيعية لا تتطابق دائمًا مع مناهج العلوم الاجتماعية، كما أوضح ذلك فيلهلم ديلتاي في بيانه للفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية، بوصف الأولى تخضع للتجريب، بينما لا تدرك التجرِبة المحتوى العميق للإنسان. للعلوم الطبيعية حقيقتها وموضوعها وتعبيراتها، وللعلوم الاجتماعية حقيقتها وموضوعها وتعبيراتها. لا معنى للعلوم الاجتماعية إن كانتْ تتوقَّف عند عتبة ما هو مادي محسوس، من دون أن تتبصَّر الحياة الباطنية للطبيعة الإنسانية، ومن دون أن تتوغل فيها هذه العلومُ إلى داخل هذه الطبيعة، كي تكتشف عالمها الجوَّاني. سياق العَلاقات وموضوعاتها في العلوم الاجتماعية لا يتطابق دائمًا مع العلوم الطبيعية، وإن كانت أحيانًا الموضوعاتُ والوقائعُ ذاتُها؛ ذلك أنَّ الأولى ينبغي أن تتوغل في الحياة الباطنية للكائن البشري ولا تتوقف عند المحسوس الماديِّ فقط، خلافًا للعلوم الطبيعية التي مجالها ما هو ماديٌّ صرف.

الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنًى رُوحيٍّ وأخلاقيٍّ وجماليٍّ لحياتِه الفردية والمجتمعيَّة. هذا هو تعريفي للدين، وفي ضوء تعريفي هذا للدين يمكن أن تتميز عدةُ أنماط يتحقق فيها الدين بأشكال مختلفة في الحياة الفردية والاجتماعية، مثل: التديُّن الشعبي، الذي هو تديُّن عفويٌّ بريء بسيط ساذج، لكنَّه طالما وقع ضحيةً للجهل وافترستْه الخرافةُ. والتديُّن الشعبويُّ، وهو تدين تتشوه فيه الرُّوحُ، ولا تتجلَّى فيه عفويةُ وبراءةُ التديُّن الشعبي. إنه ضرب من غياب العقل وحضور الجهلِ المقدس. لا يخلو هذا التديُّن من افتعال يتولَّاه دجالون يضللون الناس لغايات رخيصة. في هذا النمط من التديُّن يلتبس مفهومُ المقدس، فيجري تقديس غير المقدس ونسيان المقدس الحقيقي. إنه تدين كثيرًا ما تفترسه الوثنيةُ، وهو أشبهُ بالشعوذة منه بالتديُّن. وتديُّن الجماعات الدينية، وهو تدين يقترن عادة بالسعي للاستحواذ على السلطة والنفوذ والثروة. ما أتحدَّث عنه هو التديُّن العقلاني الرُّوحاني الأخلاقي، وهو تدين يتجلَّى فيه العقلُ بموازاة تكريس الرُّوح والأخلاق. إنه تدين نراه في ضوء دراسة الدين بوصفه ظاهرة لها حقيقة تقع داخل أفق الدين، وهي حقيقة لا تدرك العلومُ كلَّ مداراتها وآفاقها وأعماقها وجوهرها. هذا التديُّن أقل الأصناف حضورًا في الحياة الفردية والاجتماعية.

عادة ما تصدرُ الأحكام السلبيةُ على الدِّين والتدين بوصفه الأنماط الأولى للتديُّن في الحياة البشرية لا سواها. أما الدين الذي يعبر عن تعريفي للدين عمليًّا فهو النمط الأخير خاصة، وهو الذي أعمل على أن يتجلى في تديني، أي إني أحرص على ألا يتوكَّأ الإيمانُ في حياتي على الخرافة، وأحاولُ ألَّا أكون مهووسًا بالاستحواذ على المال والسلطة، وألا ينفصل في تديني القانون عن المعنى الرُّوحي والأخلاقي والجمالي.

هذا هو التدين العقلاني الرُّوحاني الأخلاقي الذي أنشده في حياتي الشخصية. إنه تدين إنساني يرادف الإيمان فيه الكرامةَ والحرية. تدين يسعى حثيثًا إلى الكشف عن منابع المعنى في الدين، وإنقاذ النزعة الإنسانية فيه، والكشف عن حدود كلٍّ من المقدس والدنيوي، بتحرير ما هو دنيويٌّ مما هو ديني، وما هو ديني مما هو دنيوي، والتوغُّل في عوالم الرُّوح وإشراقاتها، لاستبصار تذوُّقها لمعنى الوصال مع الحق في تجارِبها الرُّوحية وخبراتها الدينية. أنسنة الدين التي أدعو لها هي نمط حضور ﻟ «الإله الرُّوحي الأخلاقي» في حياة الإنسان. أنسنة الدين عندي بمعنى «إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية»، وهي لا تتطابق و«الإنسانية غير الإيمانية» التي يتحدَّث عنها بعضُ المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور على مركزية الإنسان، وتنتهي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان.

مفهوم التدين في «الإنسانية الإيمانيَّة» غير التديُّن المستلبة فيه إنسانية الإنسان. ما أعنيه بالإيمان ﺑ «الإنسانية الإيمانية» هو الإيمان الحر، الذي يقترن فيه الإيمانُ والتدينُ دائمًا بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. في «الإنسانية الإيمانية» يكون إيماني حيث تكون حريتي، أي أنَّ الصلة بالله هنا صلةٌ عضويَّة لا تتأسس على الرضوخ والانسحاق وإهدار الكرامة البشرية، بل تتأسس على الحريات والحقوق البشرية. الإنسانية الإيمانية تعني أيضًا أنَّ «اللهَ واحد والإنسان واحد»، من هنا يكتسبُ الإنسانُ حقوقَه الطبيعيَّة من كونه إنسانًا لا غير. وعلى هذا الأساس يُبتنَى مفهومُ المواطنة التي ينبثق عنها استحقاقُ كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤