الأسئلة المشاكسة

محمد جمعة عباس ١

كتاب «الدين والظمأ الأُنطولوجي» للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي مجموعة من النصوص أراد من خلالها الرفاعي الإجابة عن تساؤلات أصدقائه وتلامذته حول ما يعنيه ﺑ «الظمأ الأُنطولوجي»، المصطلح الذي بدأ الرفاعي باستخدامه في سنواته الاخيرة.

برغم أن دافع الرفاعي هو توضيح مصطلح يحاول القبض على ما هو جوهري وفردي في التجرِبة الدينية، إلا إن الكتاب يقدم قراءة بل دعوة إلى إعادة فهم وظيفة الدين الأوسع. هذه القراءة سوف تصطدم بالفهم الذي أصبح شائعًا للدِّين، الفهم الذي يترك المجالَ الفرديَّ والنفسيَّ إلى غزو مجالات الحياة المختلفة، وإلى ما يسميه «تديين الدنيوي». أعتقد أن الإشكاليات الكبرى التي يواجهها الإسلامُ بحاجة ماسَّة إلى محاولاتٍ من هذا النوع، وإلى هذا الاصطدام الذي ينتجه الكتاب. اصطدام ربما يفضي، فيما لو تم اقتناص الطاقة الناتجة منه، إلى «إنقاذ النزعة الإنسانية للدين»؛ الهدف الذي يحدِّد مسارَ الرفاعيِّ الفكريَّ. النزعة الإنسانية التي قلَّصها الإسلامُ السياسيُّ الذي تنتهجه الجماعاتُ الدينيةُ بطوائفِها المتعددة، والتي اعتمدتْ صياغةً أيديولوجيةً للدين؛ يعتقد الرفاعي أنها خفضتْ من طاقة الدين المقدسة، وساهمت في إنتاج فهم تعبويٍّ أيديولوجي، حيث تُفهم النصوص فهمًا «جزميًّا يقينيًّا ومبسطًا»، فهمًا يتجاهل الثروة الفلسفية والعرفانية كما يرى الرفاعي. في محاولة نشر هذا الفهم يتم «تنميط الكائن» في عملية «صهر للذات في المجموع». هذا التنميط وهذا الصهر هو ما يرفضه الرفاعي الذي يدعو إلى إعادة الاعتبار للذات الفردية. يقول الرفاعي في محاولة السيرة الذاتية التي احتواها أحد فصول الكتاب: إنه افتقد ذاتَه في تجرِبته مع حزب الدعوة الإسلامية التي ابتدأتْ في النِّصف الثاني من السبعينيات وانتهتْ في منتصف الثمانينيات. هذا الخروج من الإسلام الأيديولوجي ليس بغريب على شخص يؤمن بمحورية السؤال، ولا يقدم أجوبة مكررة جاهزة للأسئلة المعرفية. شخص يقول عن نفسه: إنه تعلَّم من أبنائه أكثر مما تعلم من آبائه، وأنَّه وُلِد ولادات عديدة ما زالت مستمرة.

يُعرِّف الرفاعي الظمأ الأُنطولوجي بأنه: «افتقار الشخص البشري إلى ما يثري وجوده ويكرس كينونته، ويمنحه وقودًا لحياته» ويقترح: «أن الدينَ، والدين وحده، هو القادر على إغناء هذا الافتقار وسد هذه الحاجة الرُّوحية. ورغم أنه يعترف أن للآداب والفنون والمعارف أدوارًا ربما تكون متشابهة بعض الشيء، إلا إنه يعتقد أنها غير قادرة على إرضاء هذه الحاجة؛ ذلك أنَّ الدين هو «الجواب الوحيد لتحدِّي الموت»، القادر على تقديم التفسير الأخصب لمعنى الحياة والموت.» هذا الإطلاق في الحكم غريب نوعًا ما حين يأتي من الرفاعي الذي يدعو دائما إلى آفاق مفتوحة للتساؤل. أعتقد أن هذا الإطلاق، كما ناقشتُه معه في لقاء مباشر في جامعة الكوفة، إذ التقيته هناك أول مرة بشكل شخصي، في أثناء إحدى زياراتي للعراق للمشاركة في برامج أكاديمية. لعل هذا الإطلاق نتاج لشخصية كان للدين في تشكُّلها دورٌ محوري لا يمكن تحييده، حتى لو توسَّع إطارُ الفَهْمِ أو المقاربة. هل كان الرفاعيُّ سيؤمِن بهذه الفكرة لو هيأتِ الأقدارُ له ولادةً مختلفة وتاريخًا مختلفًا؟ لا أعتقد. لذلك تبدو مقولةُ الرفاعي بأن «الإنسان كائن متدين» فيها إطلاق آخر، ربما لن يوافق عليه الإنسان الغربي الحالي، الذي يصنع تاريخَه ويصنعه التاريخ بعيدًا عن الدين وقريبًا من العلم بشكل يكبر يومًا بعد آخر، إذ إن هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يمثِّل الدينُ محورًا أساسيًّا في تكوينهم وحياتهم ولكنهم مع ذلك يمتلكون حياةً غنيَّةً بالمعنى، وإجابات مختلفة لأسئلة الموت.

يقول الرفاعي: إن «الدين هو سُلَّمُ الكمال»، وإن هذا السلم المفضي إلى ارتواء الظمأ الأُنطولوجي هو سُلَّم من الطقوس. يقول الرفاعي: إنه لا يتلذذ حلاوة الإيمان دون التمسك بتدين يلتزم بالصلاة والعبادة، مستعيرًا المقولة العرفانية: «الشريعة توصلنا إلى الطريقة، والطريقة توصلنا إلى الحقيقة». بل إن الرفاعي يدعو إلى الالتزام بالتعبير التقليديِّ للطقوس وألا تتم «شخصنتُها بمعنى جعلها فرديةً تختلف باختلاف الأشخاص.» هذا الرفض أجده غريبًا بعض الشيء، بل وربما متناقضًا مع دعوة الرفاعي الواضحة إلى إعادةِ الاعتبار للذَّات الفردية ورفضه لتنميط الأشخاص الذي ينتجه الفهمُ الأيديولوجي للدين. ربما يكون أحد أسباب موقف الرفاعي هذا هو أن للدين وظيفة رئيسية وكبرى لم يعالجها الرفاعي في كتابه هذا إلا بشكل غير مباشر، وهي الوظيفة الاجتماعية. الدين هو إحدى الطرق التي تمكن الإنسان من الانتماء إلى جماعة، هذا الانتماء إلى جماعةٍ هو ضرورة نفسيَّةٌ مشفَّرة في جينات الكائن البشري، وعبرها يتم إرضاء جزء كبير من الحاجة النفسية؛ ذلك أنَّ الهوية الاجتماعية ضرورية جدًّا للهوية الذاتية. وإحدى الطرق التي يتم من خلالها تعزيزُ هذه الهوية الاجتماعية هي الطقوس، ومنها الطقوس الدينية التي يشترك فيها أعضاءُ الجماعة، وفي أحيان كثيرة يؤدُّونها بشكل جماعي. لذلك أفهم حين يتحدث الرفاعي عن أن شخصنة الطقوس سيؤدي إلى تحوُّلها إلى نسبية وفوضوية.

المهم في كتاب الرفاعي هو تلك النفحةُ من الهواء المنعش في جو الإسلام المختنق، بسبب الأبواب المغلقة التي تزداد يومًا بعد آخر نتيجة الفهم الأيديولوجي الشائع. هذه النفحة هي ما يحتاجه المشهدُ الإسلامي الملتبس، نفحة ينتجها «فهم مختلف للدين، وتأويل مختلف للنصوص»، كما يدعو الرفاعي، وكما يفعل عبر مشروعه المعرفي الضخم. نفحة إن قُيِّضَ لها أن تكبر وتفتح الأبواب المغلقة، فإنها ستُحِيل القبحَ إلى جمال عبر إعادة الدين إلى حقله الأُنطولوجي الأساسي؛ ذلك «ألا جمال كجمال القلب»، القلب الذي يقول الرفاعي إن مساره لديه لا يتطابق بالضرورة مع مسار العقل، مما حرر عقله من سطوة قلبه، فتمكن من أن يُطلق أجرأ الأسئلة غير المتداولة في الدراسات التقليدية للدين.

أعتقد أنها محاولة محورية وشجاعة وضرورية، لكني لا أعتقد أنه قدَّم إجابة كاملة وواضحة؛ ذلك أن الرفاعي شخص «لا يعد بأجوبة» كما يقول هو عن نفسه، بل يهمه «طرح الأسئلة» حتى «ضجَّت حياتُه بمشاكسة الأيام.»

١  طبيب نفساني عراقي مقيم في لندن. استشاري الطب النفسي في جامعة لندن. نُشر هذا النقد على صفحته في الفيسبوك، في شُباط «فبراير» ٢٠١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤