نسيان الإنسان (١)١ الأقدامُ الحافية لا يرهقها ترابُ الأزقة
(١) صعوبة الاعتراف
أن يقدم إنسانٌ شهادةً عن نفسه فإنها بالضرورة تكون متحيزة، فما من إنسان إلا وهو عاشق لنفسه، لذلك ينزِع كلٌّ منا لتنزيه الذات، ويعمل على رسم صورة زاهية مشرقة لها، من أجل أن ترمُقه العيون بكثافة، ويمتدحه الناسُ ويعلنون اعترافهم بكلِّ ما يفعله ويقوله، ويُحدِث اهتمامًا وضجيجًا من حوله، يُشبِع غروره ونرجسيته.
يتعذر الحيادُ والموضوعية في كتابة الذات عن الذات، ورواية الذات لسيرة الذات. أحاول أن أتحدث بشيء من الحياد، أعرفُ مسبقًا أنه متعذِّر، إذ لا إنسانَ متحرر بشكل تام من ترسُّباتِ تربيته وبصمةِ بيئته الغاطسة في أعماقه. الإنسانُ تختفي عنه دوافعُ بعض مواقفه، وأحيانًا لن يكتشفها مهما فتش عنها، إلا أن يعود لخبير نفساني. أسعى لأن أكون أشدَّ جرأة في الاعتراف والبوح، وإن كنت أشك في قدرتي على التغلب على تحيزاتي اللاواعية. أنتمي لمحيط يتغلبُ فيه التَّكَتُّم، والإضرابُ عن الاعتراف، والكشف عن الحياة والتفكير الشخصي. قلَّما كتبَ شخص في المحيط الذي عشت وتعلمت فيه سيرةً ذاتية تبوح باعترافاتٍ وأسرار خاصة، أو تتحرر من التبجيل والتمجيد والثناء على الذات.
تنقَّلتُ في محطات متنوعة، وعشتُ في مدن متعددة، وعاشرتُ مختلِفَ البشر، وأمضيتُ قُرابة أربعة عقود من حياتي في الحَوزة العلمية، وانخرطتُ في عمر مبكر في الإسلام السياسي، كنت صادقًا مع نفسي، لذلك حرصت في كافة محطَّات حياتي على الجدِّية والمثابرة، وبذل أقصى جهودي بُغية النجاح والإنجاز والتميز.
منذ بداية دراستي الثانوية حاولت تدوين مذكِّرات وخواطر يومية، غير أني فشلت في المواظبة والاستمرار لأكثر من ستة أشهر، ذلك أني أنفر من الانصياع والخضوع لواجبات نمطية تتكرر كلَّ يوم، وإن كنت أنا الذي أفرضها على نفسي، إذ سرعان ما تنضب طاقتي النفسية، فأهرب من رتابتها المملة. لا أعرف مصير تلك اليوميات، بعد مضي نحو نصف قرن على تدوينها، وترحالي المتواصل بين الوطن والمنفَى.
افتقاري للأرشيف المدوَّن لمسيرتي وتجارِبي الشخصية، يمنعني من الحديث التفصيلي عن جميع الظروف والملابسات والمواقف التي عشتُها، وتخذُلني ذاكرتي أحيانًا. تقاليدُ التكتم والسرية في محطات حياتي تُحرِّم وتستهجن البوحَ والكشف عن الحياة الخاصة، لذلك غاب النقدُ والمراجعة في تقاليد الإسلام السياسي والحوزة، مضافًا إلى عدم شيوع ثقافة الاعتراف في مجتمعاتنا، ومزاجي الشخصي الذي يحرص بطبيعته على أن أعيش بهدوء، بعيدًا عن ضجيج الحياة الاجتماعية وصخبها، والهروب من البشر الذين يحترفون تشويه الغير وانتهاكَ خصوصياتهم، وتشديدي على سلوكي الذي أنزع فيه إلى الحياد ما أمكنني ذلك، والابتعاد عن التحيز لأي شخص أو جماعة أو حزب، والسعي للاحتفاظ بعَلاقاتٍ على مسافة واحدة من الكل، مع اعتزازي برؤيتي وتفكيري واجتهادي المستقل، فأنا أتفق مع الجميع وأختلف مع الجميع، بنحو يجعلني «أسير مع الجميع وخطوتي وحدي.»
كذلك لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من رُوح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في مجتمعنا، خاصة وأني ما زلت منتميًا للحوزة، ومتساكنًا مع الجميع بشتى ألوانهم واتجاهاتهم، وحريصًا على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعَلاقاتي التاريخية. أعمل على تعزيز وإثراء صداقاتي الصادقة على الرغم من ندرتها، وأعجز عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أن من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هُويته، ويكون الطردُ والنفيُ واللَّعنُ مصيرَ كلِّ من ينتقد قبيلتَه وطائفتَه وحزبَه ومجتمعَه.
كلُّ ذلك وغيره يمنعني من البوح والكتابة المكشوفة عن أي شيء لا يدعو للتمجيد والمديح في حياتي. مع كل هذه الممنوعات والاحترازات والخشية، هل أختصر حياتي بما هو مضيء، فأكتب النجاحاتِ والمنجزات والمكاسبَ والانتصارات، وأُهمل الخيباتِ والإخفاقاتِ والفشلَ والخسائرَ والهزائمَ والأخطاءَ والمراراتِ. أليستْ مثل هذه الكتابة تقدِّم صورةً مخاتِلة مراوِغة مضلِّلة للقراء، تُخفي أكثر مما تُظهر، وتتكتم أكثر مما تُعلن، وتحجب أكثر مما تُظهر، وتطمس أكثر مما تكشف، كما أراه في مذكرات بعض المشاهير، الذين رسموا لأنفسهم وعائلاتهم وماضيهم صورة مشرقة ساطعة، كأنها لوحة فنية بريشة دافنشي، وقصيدة غزل قالها امرؤ القيس؟
هل يستطيع شخصٌ التغلبَ على تمركزِه حول ذاته، ويحكي إخفاقاتِه قبل نجاحاته، ويجرؤ على إعلان أخطائه، بالرغم من أن أهمَّ حافز بشريٍّ في حركة التاريخ هو طلب اعتراف الآخرين وثنائهم؟
لا أشك في أن كتاباتي المنشورة، بل ما أقوله هنا أيضًا، محكوم أيضًا بهذا الحافز، ولولا ذلك لما واصلتُ التأليفَ والكتابةَ. مع كل ذلك هل تبقى قيمة لمثل هذه الكتابة؟
ليست هناك كتابة متحرِّرَة من كافة القيودِ والممنوعات في مجتمعنا. تربيتنا في الطفولة، وتعليمنا بدءًا بالمراحل الابتدائية حتى الدراسات العليا، وتقاليدنا وقيمنا وأعرافنا، تدجِّننا على تمويه وإخفاء وتغييب ما نحسب أنه يشوِّه صورتَنا، أو يحطُّ من مكانتنا، وتحظر علينا البوح بما ينجم عنه الإساءة للعشيرة والجماعة والطائفة.
الاعترافُ ثقافةٌ غريبة على مجتمعاتنا. ألَّفَ القديسُ أوغسطينوس كتابه «الاعترافات»، في القرن الرابع الميلادي «٣٥٤–٤٣٠م»، مدشِّنًا باعترافاته هذا النمطَ من التأليف. لم يعرف تراثُنا شيئًا من ذلك، إلا محاولات شاذة منبوذة، لمن اعتُبروا مارقين مبتدِعين ضالِّين، ولا نزال حتى اليوم نخضع لمفاهيم الموروث وأحكامه.
هذا يعني أنني أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أمتلك شيئًا من الشجاعة فأتحدث عن شيء من فصول حياتي بمهارة وحذر، بالحدود التي لا أتجاهل فيها ما مضى من عوائق وممنوعات، أو أصمت كما صمت كثيرون من قبلي، وغادروا الحياة، فدُفِنَتْ معهم حقائقُ وأحداثٌ ومواقفُ وتجارِبُ هامَّة. فضَّلتُ الخيار الأول، وحاولت أن أكتب، مستحضرًا بعض جروح طفولتي وفتوتي وشبابي وكهولتي، ووشم ذاكرتي بالمدن والمجتمعات والمهام والمشاغل والوقائع والكتب والأفكار والمفاهيم والشعارات … وغير ذلك. أعترف بأن هذه سيرة مختصرة جدًّا، لم أتحدَّث عن محطَّة مهمة عشتُها في الإسلام السياسي في شبابي، ومحطة أخرى غنية في الحوزة. أعِد القراء الكرام بالكتابة عن هاتين المحطَّتين لاحقًا.
(٢) الأقدام الحافية لا يرهقها ترابُ الأزِقَّة
أمضيت أكثر من ٤٠ عامًا من حياتي في حوزة النجف ثم حوزة قُم. مكثتُ في الحوزة منذ ١٩٧٨م حتى اليوم، تلميذًا ثم مدرِّسًا ومؤلفًا. مسيرة حياتي تحرَّكت عبر محطات ثلاث حتى اليوم: القرية، الإسلام السياسي، الحوزة. كلُّ واحدة من هذه المحطات أنفقتُ فيها سنواتٍ عديدة.
في ١ / ٧ / ١٩٥٤م ولدتُ في قرية «آل حوَّاس»، التي ترتبط إداريًّا بقضاء الرفاعي، في محافظة ذي قار جنوب العراق، حسبما يفيد سجل النفوس المدون عام ١٩٥٧م، وهو تاريخ لا يمكنني التحقق منه وتوكيده؛ ذلك أن أهل الريف يومذاك لم يدركوا الكتابة، ولعلهم ما زالوا في وطني يعيشون المرحلة الشِّفاهية، وعادة ما يعتمدون على تقويم محلِّيٍّ وعائلي وشخصي، تتحدد السنواتُ فيه طبقًا لما يحدث فيها من: فيضانات، أو أمراض وبائية، أو مجاعات، أو نكبات عائلية، أو زراعة وحصاد محاصيل نوعية، أو إنتاج حيواني غير متعارف، أو حوادث طبيعية مباغتة، أو وقائع شخصية، وغير ذلك. في مثل هذا التقويم يتركز الاهتمام على السنوات ومواسم الزراعة، بينما يتقلص رصدُ الأشهر فضلًا عن الأيام، إلا في حالات استثنائية.
والدتي تقول إن سنة ولادتي هي: «مُوحان الثاني»، ومُوحان تسمية شائعة لفيضان نهر دِجلة، وتبعًا له نهر «الغَرَّاف» المتفرع عن دجلة في مدينة الكُوت، الذي يسقي سهول الحضارة السُّومرية. الفيضان الأول حدث عام ١٩٤٨م، والثاني ١٩٥٤م كما تشير إلى ذلك تواريخ فيضانات دجلة.
أما يوم ولادتي فهو ١ يوليو «تَمُّوز». اليوم الأول من يوليو «تموز» أشترك فيه مع العراقيين كافة، من جيلي والأجيال الماضية، ممن يجهل آباؤهم تواريخَ ولاداتهم. يبدو أن الجهات المسئولة عن تنظيم الإحصاء السكاني اقترحت اليوم الأول لمنتصف السنة، كموعد شامل للمواليد المجهولة كافة. وهذا ما حرمني معرفة برجي الخاص، وتفاؤلي أو تشاؤمي، مما يتوقعه قراء الطالع من المنجمين، وحرمني من الاحتفال بعيد ميلادي غير المتعارف في مجتمعي.
يقول خبير آثار عراقي: «لدينا في بلاد حضارات بين النهرين: السُّومرية والأَكَّدِية والبابلية والأَشُورية، أكثر من ١٢٠٠٠ موقع أثري لم يُنقَّب، إلا في حدود ٣٪ منها تنقيبات أولية». تقع قريتنا على بعد ١٥كم تقريبًا شمال شرقي دولة المدينة السُّومرية المعروفة «جَوخة أو أُوما»، و١٠كم عن الضفة الغربية للغرَّاف، و١٥كم عن مدينتي الرفاعي وقلعة سكر في محافظة «ذي قار». «آل حوَّاس» قريةٌ صغيرة ولدتُ وعشتُ فيها طفولتي وفُتُوَّتي، لا يتجاوز عدد العوائل القاطنة فيها العشرين عائلة. تقع على بعد ٢كم تقريبًا، جنوب تل أثري سُومري قديم، يسمى محليًّا «أم الطَّحيم» لم تدركه التنقيباتُ الأثريَّةُ حتى اليوم.
يمتهن أهلُ القرية الزراعة والرعي، وينحدرون من قبيلة بني «ركاب»، ما خلا عائلتنا، فقد توطن جدُّ أبي البدوي «ناصر» في الريف. تعود أصول عائلتنا إلى قبيلة قحطان في الجزيرة العربية. هجر والِدَي جدِّي حياةَ التَّرحال في البادية للمرة الأولى، بعد مصاهرته أحد شيوخ عشيرة البوحمزة، وواصل جدي المباشر «تميم» العيشَ في القرية، وفيما بعد والدي وأمي وأخواتي وإخواني. الرواية الشِّفاهية لنسب العائلة، حسب معلومات أبي عن آبائه، تقول: إن جدي ناصر كان بدويًّا، ينحدر من قبيلة «قحطان» المعروفة في الجزيرة العربية، هذه القبيلة تمتهن الرعي وتربية الجمال.
كانت الأُسر الأقدم في القرية قد امتلكت حقَّ زراعة الأرض، بالتعاقد مع «آل سعدون»، الذين منحهم العثمانيون حقَّ استغلال واستثمار مقاطعات شاسعة من الأراضي المعروفة بالأميرية، المملوكة للدولة في سهل الغرَّاف. اضطُر والدي إلى فلاحة أرض أحد الأشخاص، وفق تعاقدٍ يحصل بموجبه والدي على نصف الريع فقط، مقابل توفير البذور واستصلاح التربة والحراثة والري والحصاد، وكافة المهام المرتبطة بفلاحة الأرض، بينما يحصل ذلك الشخص على النصف الآخر، من دون أي جهدٍ أو نفقاتٍ على الأرض أو المحاصيل، لأنه ظفِر بالحصول على حق استثمارها من «آل سعدون».
في طفولتي كنت أعيش مرارات التعسف والاستغلال الذي يتعرض له أبي، وأتساءل: لماذا نقدِّم نصفَ الريع لذلك الرجل الكسول الذي يُمضي أيامه متسكعًا في القرية، بينما يكدح أبي ليلًا ونهارًا للنهوض بأعباء فلاحة الأرض المنهكة. ما زلت أتذكر استيقاظه منتصف ليل الشتاء الشديد البرودة، وذَهابه لمسافة خمسة كيلومترات في الظلام حافيًا، بُغية الظفر بساعتين أو ثلاث لسقي محاصيله، وصراعَه المرهِق مع انهيار السدود الترابية على «الرحماني»، أو «ليهوب»، وهما جدولان يرويان أراضي «آل حوَّاس»، يتفرعان عن «كريمة»؛ الجدول الرئيسي الذي ينهل من الغرَّاف.
كنا نشعر بتمييز وغربة في القرية، لأننا لا ننتمي إلى العشيرة نفسها، إذ إنه على الرغم من عفوية سلوكيات النساء والرجال وبساطة عيشهم، وفطرية أخلاقياتهم في الأرياف، غير أن رابطة القرابة والدم هي المعيارُ الحاكمُ على منظومةِ القِيَمِ والأفعالِ في حياتهم.
كان أبي معروفًا بشجاعته وخشونته وشراسته، يتسلح على الدوام ببندقية، مضافًا إلى انتطاقه خنجرًا، وحملِه لعصًا في طرفها العلوي كرة صُلبة جدًّا من القِير تسمى «مقوار»، وكأنه في حالة إنذار مزمن استعدادًا لمعركة متوقعة، باعتبارنا نقع خارج إطار القرابة السائد في القرية، وشعورنا المرير بالغربة.
طفِقتُ أفتش عن إطار يحميني خارج العشيرة، فوجدت في فُتُوَّتي شعارات ووعود أدبيات الإسلام السياسي كهفًا وملاذًا، خلتُ أنها تحررني من الغربة، وتُلغي كافة ألوان التمييز بين بني البشر، لكني أدركت متأخرًا أنها أضافت غربةً أخرى إلى غربتي، تمثلت في اغترابي عن الواقع، واغترابي عن ذاتي، ونسياني لحياتي الخاصة.
أظن تشكَّلت النواةُ الجنينية لتحيُّزي الأبدي لهموم وآلام المضطهدين والمهمشين والمنبوذين والضحايا من هاتين المحطتين القاسيتين في بداية حياتي؛ أي غربة الطفولة الاجتماعية، واغترابي عن ذاتي في الإسلام السياسي.
(٣) الاحتماء بأسماء غريبة للأبناء
عائلتنا تتألف من أم وأب، مع ابنتين، وثلاثة أولاد. تَسَلْسُلِي هو الأخير بين أخواتي وإخوتي. فقدتْ أمي ستة أطفال بعد ولادتهم مباشرة، أو بعد عدة أشهر من طفولتهم، إثر تفشي أوبئة الطفولة، وعدم توفُّر تلقيح ضد تلك الأوبئة المتوطِّنة، وغياب الوعي الصحي.
كانت أختي التي تكبرني بعامين «بَسْهِن» آخر من دفنتْهم أمي بعد ولادتي. وهي كما يشي اسمها تدلل على تعب والدتي من الحمل والولادة، فحاولت أن تلوذ بالاسم لتقول: «بس»، بمعنى كافٍ، خلاص، تعبت، أرهقني الحملُ والولادةُ والرضاعةُ وحضانةُ الأطفال. مثلما توسل أبي وأمي بأسماء خاصة لأخوَيَّ من قبل، إثر اختطاف الموت لمجموعة من مواليدهم. وكأنهم أدركوا بحاسَّتهم الفطرية، قيمةَ الكلمات، والعَلاقة الذاتية بين الاسم والمُسَمَّى، حسبما يذهب بعضُ علماء اللغة. أخي الأكبر أسموه: «حنظل»، ولاحقًا تبدَّل إلى «علي»، وأخي الأوسط: «شري»، ولاحقًا تبدَّل إلى «شريف».
الناس في القرية يحتمون بأسماء غريبة للأبناء، كي ينقذوهم من الوفَيَات المبكرة. يعلنون معنًى في الاسم، لكنهم يتكتمون على ما يضادُّه، ذلك أن ما يُخفونه في التسميات تحكيه حيلة مفضوحة، كأنهم يعلنون زهدهم في هؤلاء الأولاد، بتسميتهم بأسماء مُنَفِّرَة، وإن كانوا يضمرون في وجدانهم التلهُّف لولادتهم، والشغف بمجيئهم، ونجاتهم فيما بعد من وفَيَات الأطفال الوبائية المتوطنة في الأرياف وقتئذٍ.
(٤) تَدَيُّن أمِّي غرس الإيمانَ في رُوحي
في ستينيات القرن الماضي كان بيتنا يتشكل من صريفتين مشيدتين من القصب وحُصرانه «البواري»، وهي نمط شائع لبناء المساكن في الأهوار والمناطق المتاخمة لها، يبدو أنها متوارثة من العصور السومرية، كما نرى رسوماتها على ألواحهم ومنحوتاتهم.
الصريفةُ هي محلُّ المعيشة والجلوس والنوم، وعادة ما تستخدمها أمي مطبخًا في الشتاء، ففي كلِّ صباح أختنق بدخان «المطَّال» الكثيف المحبوس في الصريفة. و«المطَّال» وقود معروف في قرى جنوب العراق، مادتُه فضلات الحيوانات المجففة. حين تشعله أمي تحت «الطابق»، وهو قرص طيني يسخَّن جيدًا، لغرض إعداد رغيف دائري، قطره لا يقل عن نصف متر، وسمكه لا يقل عن ٣سم، يتطلب إعداده جهدًا كبيرًا. كأني أتذوق نكهته ورائحته وطعمه لحظة يكون ساخنًا، انتزعتْه أمِّي للتو من «الطابق».
منتصف القرن الماضي كان العيشُ في قريتنا بالغَ القسوة، كلُّ شيء في حياتنا بُدائي، الإملاق متاعنا، طعامنا شحيح يفتقر إلى أي شيء سوى خبز القمح وأحيانًا الشعير، لا شيء سواه. تبتكر أمي كزميلاتها من نساء القرية بعضَ الأكلات في فترات متباعدة، لو توفر لديها شيءٌ من مكوناتها البدائية، مثل «الحُميض»، وهو قليل من الرزِّ الرديء مطبوخ باللبن، مشتقة تسميته من شدة حموضته، يصيبني الغثيان حين أُضطر لتناوله، مع عدم توفر أي غذاء سواه. أو «البحت»، وهو الرز المطبوخ بالحليب، الذي كنت أترقبه فترات الربيع، حينما تلد الأغنام والأبقار، فيتوفر الحليب. في فصل الربيع تضاف إلى طعامنا «التولة» وهي نبات بري مسلوق، غالبًا ما يكون من نبتة «الخُبَّاز».
نبدأ يومنا باستيقاظ أمي فجرًا، وهي تتلو ترنيمتها اليوميَّة: «اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، أصبحنا وأصبح الملك لله، سبحان الله، لا إله إلا الله، الحمد لله رب العالمين …». أرضعت أمي طفولتي بتغريداتها الصباحية إيمانَها العذب اليقظ، مثلما أرضعتني حليبَها. تكوَّن لحمي ودمي من حليبها، وإيماني من حياتها الرُّوحية، وأخلاقي من أخلاقية العطاء السخي بكلِّ ما تمتلك. منذ طفولتي أغفو بجوارها، أستفيق على نغم تهليلها وتسبيحها وتمجيدها. استلهمتُ دروسي الرُّوحية منها، لم تكن أنشودتها كلمات، إنها من جنس الحالات الوجودية، كلماتها تضيء رُوحي، إنها صور وحقائق نورانية، يتذوقها كل كِياني، تشع على فؤادي، تأسر عواطفي، وتشرق في رُوحي، وتبعث في كِياني السكينةَ والسلام. أبدأ صباحي مبتهجًا، وأحيانًا ينتابني شيء من الدهشة أمام المشهد الذي ترسمه كلماتُها، إنها ليست كلماتٍ متخشبة، إنها شموع تبث الانشراح بقلبي. هذا هو الدينُ الذي ارتضعتُه من قلبِ أمي، وهذه هي صورةُ الله المشرقة بالأنوار كما رسمتها أمي، وهذه رحمة الله كما تذوقتها في مواجع حياتي.
ظلَّت الحياة الرُّوحية والأخلاقية لأمي منبعًا لا ينضب يغذِّي تديني. هي مَنْ غرست المنحى الرُّوحي والأخلاقيَّ في حياتي. وإلى نمط تدينها الفطري العفوي البريء الشفيف يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذُّره، ومقاومته لأية مجادلات، أو مناقشات، أو تساؤلات، أو مشاكسات، أو قراءات تشكيكية. إلى تدين أمي يعود الفضل في تجذُّر الإيمان والمحبة والأخلاق في ضميري.
إيماني مُطْمَئِنٌّ في فؤادي، في فضاء مُحَصَّن منيع، بعيدًا عن شطحات عقلي، ومشاكساته الفلسفية، واستفهاماته اللاهوتية القلقة والحائرة. فشلَ عقلي في أن يطيح بإيماني، أو يقوِّضَه، أو يزلزلَه. ما زالت أطيافُ كلمات أمي حاضرةً لحظة استيقاظي، بالرغم من مُضِيِّ أكثر من خمسين عامًا عليها.
يتجلى بأذكار أمي ومناجاتها جمالُ الله؛ وهو يضيء لي الوجود. تتحدث إلى الله بوصفه معشوقًا تقيم في حضرته. الطمأنينةُ تسكن قلبي حين أتحسَّس أسرارَ قلبها الذي يتقن لغةَ العشق الإلهي. لغةُ هذا النوع من العشق أعذبُ لغات العالَم. العاشقُ لا يحتاج طريقًا، العشق هو الطريق، إذا تكلم العشقُ يحتجبُ الطريق.
لم أتذوق الأخلاقَ من المعلمين الذين يعتاشون على الكلامِ في الأخلاق. أكثرُ مَن يتخذون الكلامَ بالأخلاق مهنةً لا أخلاقَ لهم. تذوقتُ الأخلاقَ من أمي وأبي الأميَّين، ومن معلِّمي الأخلاق الصامتِين، الذين تنطقُ بنبلهم مواقفُهم نيابةً عن كلماتِهم. الحياةُ الأخلاقية نمطُ وجودٍ أخلاقي، الحياةُ الأخلاقية حقيقةٌ نتذوقُها لا فكرة نتعلمُها.
(٥) لا ذاكرة مكان في وجداني
بعد أن تتوضأ وتصلي الفجر، تمارس مهمات عديدة، تبدأ بحلب الأغنام والأبقار، بمساعدة أختي «أم ناصر»، وبعد زواج أختي نهضتُ أنا بوظيفة مسك النعجة لها لحظة حلبها، وهي عملية مزعجة، خاصة حينما تكون ليالي الشتاء ممطرة، والنعاج تغرَق أصوافُها بالمطر، وتخوض في بركة المطر بالبيت، تختلط فيها مياه المطر بفضلات الأغنام والأبقار والحمير، فتتحول إلى مستنقع آسن. بعد الحلب نفتح أبواب حظائر المواليد الصغيرة للأغنام «الطليان»، لترتضع ما تبقَّى لها بعد حلب أمهاتها. هكذا تفعل أمي عندما تحلب الأبقار، فتطلق العجولَ من حظائرها. بعد ذلك تسرع إلى إيقادِ التنُّور، وخَبْزِ العجين المعد في الليل.
يستيقظ أبي أثناء الحلب، وبعد أن يصلي نشترك في الإفطار، وهو يتكرر كل يوم: «خبز وشاي» لا غير. عادةً ما ينامُ والدي بعد صلاة الفجر؛ ذلك أنه يُمضي معظم الليل، إما في الري، واستغلال حصة محاصيلنا من مياه الجدول، وهو المسمى ﺑ «الرَّشَن»، ومتابعة سقي الأرض، وإما ناطورًا على ما لدينا من حيوانات، خشية السرقة. فاﻟ «حرامية» وقتئذٍ كثيرون، والسرقة مهنة يحترفها رجالٌ معروفون في مختلِف القرى والأرياف، يؤمِّن لهم رجالٌ آخرون ملاذًا آمنًا. يتفاوضون نهارًا على إعادة ما سرقوه ليلًا، مقابل مبالغ فاحشة تكاد تضاهي قيمة السرقة، كأنها مكافأة للسارق تفرضها على الفلاح الفقير تلك العصابة المتوحشة من اللصوص والشخصيات المنحطة التي توفر لهم ملاذات آمنة يُودِعُون فيها ما سرقوه.
تلك واحدة من حكايات القرية المريرة قبل أكثر من نصف قرن. لا أتذكر أني نمت ليلة من دون ضجيج نُباح كلاب الحراسة المتواصل، الكلاب تزعج «الحرامية» حين تتحسَّس حضورهم، وتنبِّه أصحابها إلى الكمائن التي يختبئون فيها. اللصوص يخاتِلون كلاب الحراسة، بصمْتهم وسكونهم لساعات، يترقبون غفوة بعض الرجال، بعد إنهاك السهر، واستسلامهم للنوم، لينقضُّوا على حيواناتهم أو بنادقهم، وربما حلي فضية أو ذهبية متواضعة القيمة لنسائهم، وليس مدخراتهم، إذ لا يمتلك هؤلاء الفقراء مدخرات أو أموالًا سائلة.
كنت أنا وغيري من أطفال القرية نعيش حالة من الذعر لحظة نشعر بمجيء «الحرامية». سرعان ما نرضخ لأوامر الأمهات في تنويمنا أول الليل مبكرًا، تحت طائلة التهديد ﺑ «الحرامي»، إذ تكرر الأمهات على الدوام مع أطفالهن: «نام لا يجيك الحرامي.»
بعد شروق الشمس مباشرة في الصيف، أو بعد مضي ساعة في الشتاء، تخرج الغنم للرعي، تليها الأبقار والحمير. يتولى الرعيَ أختي، وفيما بعدُ إحدى زوجتَي أخويَّ، أو رعاةٌ فتيان، اضطَرَّت أهليهم قسوةُ العيش والفاقةُ على زجهم بهذه الحرفة القاسية، بُغية تأمين طعامهم وثيابهم لا غير.
تتفرغ أمي لمهمات أخرى، بعد خروج الحيوانات للرعي، تكنُس فضاء البيت المكشوف «الحَوْش» من فضلات الحيوانات، وتمزجها معًا لعمل «المطَّال»، ومن أجل إنجاز ذلك تلبث لساعتين أو أكثر، وتعود لتحضير عجين خبز الغداء، ثم تحضير اللبن والزُّبد من الحليب الرائب، بخضِّ جلد شاة مدبوغ يسمى: «شَكْوة»، لمدة لا تقل عن نصف ساعة. تتيح لنا اللبن للشرب، بينما تحتفظ بالزُّبدة، كيما تراكمها كل يوم، وتعمل منها الدُّهن الحيواني «الحر»، الذي يباع نهاية الموسم في المدينة بأثمان زهيدة، تساعد في تسوُّق الثياب والتبغ والشاي والسكر.
قلَّما يجتمع أفرادُ الأسرة في الظهيرة معًا في المنزل، لانشغالهم في المزارع والرَّعي، لا تُستثنى من ذلك أيامُ الجمعة أو غيرها من العطل، ذلك إلا عطلة للزراعة أو الرَّعي.
قبيل الغروب تعود الحيواناتُ إلى حظائرها في باحة البيت، بالتدريج يجتمع أفراد الأسرة، بعد نهارات مضنية بالكدح. تبدأ الفترة المسائية بمشاغل تدبير الحيوانات، يتكرر الحلب عند الغروب مثلما نفعله صباحًا، وفصل الأغنام عن الأبقار والحمير؛ الأولى في باحة البيت «الحَوْش»، والثانية والثالثة عادةً ما تُربط في زوايا «الحوش»، وهكذا تُحبس الحِملان والعجول الرضيعة في حظائرها المكتظة.
لا جديد يضاف إلى طعام العَشاء، سوى «التولة» في موسم الربيع أحيانًا، وهي نبات الخُبَّاز البري مسلوقًا، نأكله مع الخبز، يليه الشاي، الذي كانتْ تهتم به أمي في كل الأوقات. أغتنم لحظة تقديم الشاي لأغترف كميةً أكبر من السكر في الظلام، يستحيل مذاقه معها إلى شديد الحلاوة، في غفلة من أهلي. الأطفال لا يحصلون على أية حلويات في القرية، ما خلا شيئًا من التمر في بعض الفصول. أتذكر وأنا طفل أَوْدَعَ لدينا خالي حسن، عندما ذهب مكلَّفًا بالجندية، صندوقًا خشبيًّا وضعته أمي في الصريفة يحتوي كلَّ ما يملك، وهي أشياء زهيدة، منها علبة عسل. سطوت على الصندوق وأكلتُ العسلَ إلى حدِّ القَرَفِ، ومنذ ذلك الوقت وأنا لا أشتهي العسل.
ليست هناك إنارة في ليالي الصيف، حتى في الليالي الحالكة الظلمة، حين يُفتقد القمر، ذلك أنَّ أي مصدر للنور في العراء تتهافت عليه الحشرات من فراشات وغيرها، فنُضطر للاختباء في الظلام للتخلص منها. في الشتاء هناك وسيلة محلِّية للإنارة، هي قارورة زجاجية؛ «بطل» مملوء بالنفط الأبيض، تمتد من فتحته إلى أسفله عموديًّا، في داخله، بردية مقشرة تُثبت من الأعلى في فتحته بعجين أو ثمرة تمر. عندما نشعل الطرف الأعلى الظاهر للبردية، تنبعث إضاءةٌ مصحوبة بخيط غليظ من دخان يتواصل ما دامتْ تشتعل، مما يفضي إلى تغليف الجدران الداخلية للصريفة بطبقات كثيفة من الكربون الفاحم. سرعان ما ينضب النفط، مع أن البردية لا تمكث مضيئة أكثر من ثلاث ساعات، حتى نطفئها وننام.
عند النوم، الفراش والغطاء والوسادة، كلُّ شيء من الصوف الخشن، الذي لم يُعالَج ويُنظَّف جيدًا، ولم يُنسَج بماكنات الحياكة الحديثة. يؤخذ وهو خامٌ، ويُغزل ويُنسج بآلات حياكة بُدائية يدوية. لا تتسع الصريفة لفراشٍ مستقلٍّ لكل واحد من العائلة، ولا يتوافر فيها ما يكفي من الأفرشة والأغطية، مما يَضطر الأم والأبناء لاستعمال الفراش والغطاء معًا.
في الليالي الممطرة يخترق المطر الصريفةَ، تتساقط قطراتُه باستمرار طيلة الليل، ممتزجةً بما يغلفها من الدخان الفاحم. لا يقينا الغطاء — «الإزار الصوفي» المحاك بطريقة هشة مهلهلة — من القطرات المتساقطة من سقف الصريفة. لا أنسى فزعي واستفاقتي فجأة من النوم، وأنا أرتعش وتصطك أسناني، إثر تبلل الغطاء، أشعر بالبرد ينهش عظامي.
كنت أشعر في مرحلة طفولتي بجزعٍ وسأمٍ وقرفٍ، وبصراحة حياتي كانت أقسى، لكنِّي تكتَّمتُ على جروحها الأعمق، لعلِّي أتسلَّح بشجاعةٍ أكثر يومًا ما، لأبوح بشيء من أنماط عنف الاضطهاد في العائلة الريفية، وازدواجية المعايير وتضادِّ الأحكام في المجتمع القروي.
لا ذاكرة مكان في وجداني؛ ذلك أن حياتي تَشَرُّدٌ مزمن منذ عمر ١٢ عامًا، حتى الأماكن التي عشتُ فيها المحطةَ الأطول والأثرى في تكويني، ولعلها الأجدى والأهم في حياتي، لا أجد وشيجة عضوية تربطني بها، وليس في مشاعري انشداد إليها. أظن جروحَ ذاكرة الطفولة لا تَفتأ تنهش أيَّ نمط من تراكم ذاكرة المكان في المحطات اللاحقة من حياتي.
المكان الأول ليس شيئًا ميتًا صامتًا، إنه بصمة الهوية الأبدية، إنه صوت الكائن اللامسموع، إنه صورته اللامرئية. المكان الجميل، هو الوطن في صورته البهية، إنه نداء الكينونة، لحن تجارِب الكائن البشري الموحية، إنه الاحتفاء بالإنسان، إنه صوت أنشودة الحياة.
المكان الشقيُّ، هو الوطن اللاوطن، إنه التعبير البشع لقبح العالم، إنه شكل من سجن الرُّوح والقلب والعقل والضمير، إنه المحل المسكون بضجيج العنف والموت بأشنع تعبيراته، إنه المكان اللامكان، الذي لا يعرف الأمن، ويهرب منه على الدوام السلامُ.
لعل ذلك هو ما يملي عليَّ ويقودني لأن أكون في الحاضر لا الماضي، أفتش عن كل ما يحرِّرني من سطوة الماضي، ويضعني دائمًا على أعتاب المستقبل عساني أعثر فيه على دروب الخلاص.
(٦) طفل بلا طفولة
في حالة تعرُّض شخص منا لمرض، تلجأ أمي لأساليب تَلَقَّتْهَا من الموروث الشعبي والفلكلور المحلي، واهتمَّتْ بتطويرها في ضوء معلوماتها المحدودة ووعيها المبسَّط عن الكون والإنسان والطبيعة، خاصة أمراض الأطفال شبه المتوطِّنة. كثيرًا ما يقع الصغار ضحية لهذه الطرق البدائية في المعالجة، مثلًا حينما يُصاب بالحمَّى، أو الإسهال، أو الرمد أحدُ الأطفال، تأتي به والدته إلى أمي، لتتولَّى تطبيبه. عيني اليمنى تمزقت فيها الشبكية في صغري، إثر إصابتي بالرمد، فعملت أمي على تمريضها بطريقتها الخاصة، إذ قامت بحكها، بوسائل غير معقمة، وحاولتْ أن تزيل التقرحات والاحتقان من الجفون؛ بدلكها حتى نزفت. إنها تخال الدمَ المسفوح من العين فاسدًا، وما لم يُستخرج هذا الدمُ تبقى العينُ مريضة. الشفاء في المفهوم الشعبي يعني طرد ما هو فاسد من البدن.
الحكايات والتفسيرات الغريبة شائعة في حياة الناس في قريتنا، يحترفها نساء ورجال أكثر نباهة وحضورًا مجتمعيًّا، يمثلون مرجعيات لسواهم. تعتمد التفسيرات الغريبة على ملاحم وقصص خيالية وخرافات، تتحدث عن عصور تبدو كأنها عصور ما قبل التاريخ، وكيف كانت البداياتُ والنهاياتُ فيها، وكيف تتكرر المآلاتُ والنتائجُ، وما تُفضي إليه الحوادثُ الطبيعيةُ، والظواهرُ والمواقفُ الاجتماعية. كأنَّ هذا النمط من تفسير التاريخ يحاكي «العود الأبدي»، كلُّ شيء ينتهي إلى قدره الحتمي، ليعود فيتكرر مجددًا، بغض النظر عن الصياغات المعروفة لمفهوم العود الأبدي. علمًا أنَّ أهل القرية لا يعرفون شيئًا عن ذلك التفسير.
تمتلك أمي خبرة جيدة في رواية الحكايات والملاحم، وتحاول تطبيقها على ما يسود حياة مجتمع القرية المحدود. أستمع إليها أحيانًا، وهي تتحدث بإسهاب مع صديقاتها: «لوية، بلعوطة، رمانة، عذيبة، نجيبة، …». يصغين باهتمام لما تتحدث به من حكايات عتيقة، وقصص غابرة، وتهتم بمقارنتها بما يسود حياة مجتمعنا الصغير.
حين أعود إلى بعض الحكايات التي لم تسقط من ذاكرتي، أجدها غنية بالرموز والعلامات والإشارات، ذات كثافة دلالية. تأويلها يتيح لنا التعرفَ على الأنساق العميقةِ المتحكمةِ في الثقافةِ الشعبية، ويكشف لنا عن طبقات المعنى المحورية الخفية في البنى التحتية العميقة للمجتمع الريفي. البنية الرمزية تشي بالمغزى والمعنى والدوافع اللاشعورية لأفعال وسلوكيات الناس في المجتمع الريفي، وتتيح لنا فهمَ وتحليلَ ما لا تقوله مباشرة تلك الحكايات.
أمضيتُ طفولتي في القرية، كانت طفولةً مفرغةً من كل طفولة، طفولة مُحِيَتْ فيها صورةُ الطفل، ونُفِيَ من مرحلتِه العمرية، كأنَّ الطفل فيها ميِّت، طفولة لم تعرف لعبًا وعبثًا. لم أجد فيها حتى الأشياء البسيطة للعب الأطفال، وما تتطلبه مرحلتُهم العمريةُ من أشياء يراها أهلُنا تافهةً. يظنون أن الطفل يعبث بها، وهم لا يعلمون أن لكلِّ مرحلة من عمر الإنسان ألعابَها. هذا الذي يرونه عبثًا ضروري جدًّا لإيقاظ قدرات الطفل على الخلق والابتكار والإبداع، وتنمية فضاء المتخيَّل في ذهنه. كنا أحيانًا بغفلة من أهلنا نلعب في الطين نصنع منه تماثيل صغيرة أو بنايات أو نغيِّر صورة وجوهنا به، فيطاردنا أهلونا لو أدركونا، وهم لا يدركون أن الأشياء البسيطة المصنوعة من هذا الطين بداية صحيحة لانبعاث مواهبنا، وبناء تفكيرنا، واتساع متخيَّلنا.
كان أهلي يحسبون أني أَنْضَجُ عَقْلًا وأكثر رشدًا من أن أنخرط في لعب وعبث ونزق الصبيان. وتلك واحدة من الأخطاء التربوية الخطيرة، ما زال يرتكبها آباء وأمهات ومربون، وعادة ما يدفع الأطفالُ فاتورتها مع تقدم عمرهم مستقبلًا. هذا نوع من الاضطهاد يرسِّخ قناعات زائفة عند الناشئة، عبر خداعهم بأنهم أكبر دائمًا من مرحلتهم العمرية، ويعمل على ترويضهم باستمرار على فكرة أن سلوك جيلهم هو عبث وطيش صبية صغار، لا يليق بعقلهم ومكانتهم وشخصيتهم الرشيدة. ويجد ذلك تعبيره بوضوح في: حرمانهم من اللعب، ومنعهم من العبث البريء في طفولتهم مع أقرانهم، وإنهاكهم بحملهم على التلبس بدور أجيال أخرى تفوق أعمارهم بكثير.
ربما يعود موقف الأبوين هذا إلى شغفهم في رؤية صورتهم الكاملة في الابن، هكذا كنت ألاحظ ما ينشده أبويَّ لي. لا أعرف كيف، ومن أي منبع ينبعث كلُّ ذلك.
تساءلت: لماذا كل هذا الحُبِّ والشغف اللامفهوم بالأبناء، وأبناء الأبناء؟ حُبُّ الأبناء والشغف بهم حُبٌّ نرجسي لأنفسنا، أظنه يعود إلى أن الإنسان لا يكفُّ عن التوق للخلود، وفي الأبناء ما ينبئ بديمومة حياته، عبر امتداده هو في حياتهم ومن يليهم، وهكذا.
الأطفال حلم جميل، إنهم مرآة لصورة الكائن البشري يوم كان صغيرًا، كأنهم يستأنفون للكبار مرحلة طفولتهم، وكل ما تحفل به ذاكرة الطفولة من براءة وتدفق الحيوية والجمال. كلُّ إنسان في شوق مزمن لتأبيد الطفولة، كلما تقدم عمر الإنسان هاج هذا الشوق، الكلُّ يعشقون أن تتكرر طفولتهم، ليعيشوها مرة أخرى. الأبناء يُشبعون حاجةَ الكائن البشري العميقة للكمال، فكلُّ ما فشل الآباءُ في إنجازه أمس، يحلمون بأن يُحقِّقه الأبناء غدًا. وهكذا يمكن أن يُشبعوا ولعَ الإنسان الذي لا يخبو للاعتراف، بوصفه الحافز الأعمق للإنجاز، وعادة ما يحلم الآباء بأن ما خسروه من اعتراف الغير بمواهبهم ومنجزهم، يمكنهم استيفاء هذا الدَّيْن باعتراف الغير بمنجز الأبناء. لا يعرف الكثير من الآباء أنه لن يتكرر الآباءُ في الأبناء، عندما يختلف سياق التكوين والمحيط والزمان يختلف الإنسان. الابن ربما لديه شيء من أبيه، لكنهما مختلفان في كينونة كل منهما الوجودية وسياقات صيرورتهما.
(٧) الأُفق الرحب: مدرسة المتنبي
في قرية مجاورة أكملت الابتدائية، كنت وأبناء جيلي من الفتيان محظوظين، بتأسيس مدرسة ابتدائية في العام الدراسي ١٩٥٩-١٩٦٠م في قرية تقع على بعد ٥كم تقريبًا، شمال شرق قريتنا، سجَّلني أهلي في الصف الأول الابتدائي، انخرطت مع الدفعة الجديدة، مطلع العام الدراسي الثاني لافتتاح المدرسة.
«المتنبي» اسم مدرستي، هذا الاسم محفور في أعماق ذاكرتي، لولا «المتنبي» لمكثتُ راعيًا، ثم فلَّاحًا أُمِّيًّا، وأخيرًا جنديًّا مُكْرَهًا في حروب صدام العبثيَّة المزمنة لاحقًا. «المتنبي» أول اسم للمشاهير أسمع به، بعد أسماء الشخصيات المقدسة للأنبياء والأئمة والأولياء ومراجع الدين، لا سيما السيد أبو الحسن الاصفهاني (المرجع الشيعي الأعلى في النجف، توفي عام ١٩٤٦م)، الذي ظل أبي يتحدث عنه حتى آخر يوم من حياته، بوصفه مرجعًا عظيمًا «اهتزت الأرضُ لحظة وفاته»، حسب اعتقاد الناس في قريتنا.
ما لبث «المتنبي» يعني لي أكثر من كونه «حكيم الشعراء وشاعر الحكماء». إنه صديق فُتُوَّتي، ما زالت لاسمه نكهةٌ وحساسية بالغة في مشاعري. حين يردُ اسمُه في كتاب، أو يذكره أحد، أشعر بقرابة وعَلاقة حميمة خاصة تربطني به، إنها بمثابة عَلاقتي بأهلي.
مدرسة المتنبي صريفتان، داخل فناء جدار طيني مغلق، ندخله من باب صغير، تشتمل على صفَّين دراسيين، في الثاني الابتدائي مجموعة من الأولاد من محور قرى «البوحمزة»، الذي تقع في محيطه قريتُنا «آل حوَّاس». في الأول الابتدائي كنا مجموعة فتيان في مرحلة عمرية واحدة، أصغرنا لا يقلُّ عمرُه عنا سوى سنة واحدة. من قريتنا: كاطع نجمان، عبد الحسن جياد، عطشان حيذور، عبد الخضر ذياب، قاسم شمخي، مجيد رسن، كاظم هدهود، قاسم خليف، فضالة مطير … وغيرهم.
«كاطع نجمان» ابن أختي وصديق العمر، وُلدنا في الصريفة ذاتها، كما تحدثني أمي، يكبرني بأربعين يومًا. كنا معًا حتى السنة الأخيرة في الابتدائية. نستيقظ في الصباح الباكر، يتجمَّع الفتيان في محلٍّ محدَّد من القرية، نبادر للذَّهاب يوميًّا في رحلة جماعية تستغرق ما يقارب الساعة. نمشي حفاةً، لا نرتدي سوى ثوبٍ، يعبث فيه الهواء البارد، ربما كوَّرت العواصف أذياله على أكتافنا، في مشهد يتعرَّى فيه الجزءُ الأسفلُ من أجسادنا.
يضاعف معاناتنا اليومية عدم وجود قنطرة على جدول «كريمة»، الذي نضطر لعبوره في الذَّهاب والمجيء، فمدرستنا تقع في ضفته المقابلة. مع أن متطلبات القنطرة لا تتجاوز عمودين من الخشب، إلا إن فاقة الأهالي، وضعف رُوح المبادرة والمسئولية لدى بعضهم، أقعدتْهم عن الإسراع بالتعاون في إنجازها. حتى بعد إنشائها ربما تعرضتْ للانهيار أكثر من مرة، فنلبث عدة شهور نكابد الخوض بالماء القارص البرودة عند العبور. تتطوع بعضُ الأمهات لحملنا من هذه الضفة لجدول «كريمة» إلى ضفة المدرسة. أختي «أم كاطع» تنوب عن أمي بمرافقة الأمهات في تنفيذ المهمة، لتخوض في مياه النهر، وقاية لنا «أنا وابنها». لا يقتصر دورُ المرأة في الريف على إدارة المنزل، وتدبير الحيوانات بعد العودة من المراعي، بل تُنَاطُ بها المهام الصعبة كافة، ويُزجُّ بها في الأعمال البالغة القساوة.
لم تتوافر في السنة الأولى رحلات أو كراسيُّ في صريفة الصف المدرسي، كنا نجلس على أرض مفروشة بالبواري (حصران القصب). في أيام المطر تتحول أرضية الصف إلى بركة، تغرق البواري في الماء، فنحتشد بتوجيه المعلم لتفريغها وتجفيفها.
للمرة الأولى أرى زيًّا مغايرًا لنمط الزي المألوف في الأرياف، الدِّشداشة والسُّترة واليَشْماغ، أو الغُترة والعِقال والعَباءة، الذي يرتديه الرجال. في المدرسة معلمان يرتديان الزي الإفرنجي «البنطلون والقميص والسترة»، شكله مختلف، ألوانه زاهية جذابة، لا ينقشع للأعلى أو يلتف وينطوي على الأجساد، بالرياح العاتية والعواصف، مثل أثوابنا. لهجتهم لا تتطابق مع لهجتنا، كلانا يتحدث العربية باللهجة العراقية، غير أن أهل المدن، قبل ترييف المدينة العراقية، توارثوا لهجة مشتقة من ثقافتهم ومجتمعهم المدني، لغة غريبة علينا بأصواتها ونطقها ومخارج حروفها، وبعض ألفاظها. تجذرت لدينا عقدة الشعور بالنقص، بسبب تفوق معلمينا بلغتهم وملابسهم. ولم يرحمنا بعض المعلمين، الذين أمعنوا بغطرسة باحتقارنا لغويًّا ورمزيًّا وترسيخ شعورنا بالدونية.
في لهجتنا نتلفظ أحيانًا «الياء» بدلًا عن «الجيم»، فنقول: «دياية، ريَّال، يابر، يبَّار، ييبر، يوعان …»، بدلًا من: «دجاجة، رجَّال، جابر، جبَّار، يجبر، جوعان …» إن نُطْقنا هذا يعود إلى لهجة عربية لبعض القبائل، في عصر تشكُّل اللغة. من الطريف أن «فرحان جازع»، وهو أحد زملائنا من أبناء القرية، لفرط دهشته مما سمعه من لهجة المعلم، قاس على ذلك، فاستنبط قاعدة يقلب فيها كل «ياء» إلى «جيم»، فخاطب والده: «بُوجَه جازع جَوعان» بدلًا من تلفُّظها في لهجتنا: «بُويَه يازع يَوعان.»
ما يطبع لهجة أرياف المنطقة الجنوبية في العراق جذورٌ تعود بها إلى لهجات القبائل العربية القديمة المستوطنة في شبه الجزيرة العربية، تنسبها المصادر العربية إلى قبيلة بني تميم، وهي جزء من ظاهرة لهجية أوسع، ربما يميل بها البدوي إلى التشديد والتفخيم والغلظة الصوتية، بإبدال الأصوات الشديدة الغليظة بتلك الرخوة التي تقاربها في المخرج أو العكس؛ أي إبدال الأصوات الرخوة بدل تلك الشديدة، إذ يبدل التميمي الجيم ياءً، ورغم أن الصوتين شجريان، ومخرجهما من وسط الحنك مع وسط اللسان، إلا إن الجيم أشدُّ من الياء. يروي القالي في أمالِيه عن أم الهيثم المِنقَرية التميمية:
أي: شَجَرات، يقول أبو الهيثم: ليس بين الأزْيم والأزْجم إلا تحويلة الجيم ياءً، وهي لغة في تميم.
تعرفت في المدرسة على أشياءَ أخرى: «السَّبورة، الطباشير، القلم الذي يكتب بالأزرق والأحمر معًا، دفاتر للكتابة أو الرسم، كتب مطبوعة بصور وحروف ملونة، دراجة هوائية». كم هي ضيقة آفاق عالمي الخاص في قريتي، أية معرفة بالحياة يتيحها لي ذلك الأفق الصغير جدًّا بأشيائه، المغلق بمكوناته، بنحو تغدو «لوحة الكتابة، وغيرُها»، البسيطةُ المتواضعة أشياءَ جديدة، أكتشفها لأول مرة في المدرسة. أفكارُ كل بيئة تشبهها. في البيئة الفقيرة عقليًّا، تسود الأفكارُ المبسطة الهشة. في البيئة الغنية عقليًّا، تزدهر الأفكارُ العميقة المركبةُ.
مجتمع قريتي فقير بأشيائه، يمتلك رؤيتَه الخاصة للعالم، ومفهوماته ومقولاته المشتقة من حياته، إلا إنها تبدو مُسَطَّحةً، لا تعرف العُمْقَ والتركيب غالبًا، إلا حين نتوغل في التنقيب فيما يحتجب في طبقاتها التحتية، ونحلِّل الطاقة الدلاليَّة لرموزها، وهو ما لا يدركه أهلها.
لا أستطيع المقارنةَ بين عالَمي وعالَم ولَدِي عَلِيٍّ مثلًا اليوم، ومهاراته المبكِّرة، واطلاعِه على الكثير من مبتكَرات العصر، المكتظ بكل ما وهبته تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الراهنة، ودورها في نشر وتعميم المعرفة بكافة ألوان العلوم والفنون والآداب، وما راكمته الاكتشافاتُ والتجارِبُ البشرية. عَلِيٌّ منذ فُتُوَّته يشاهد يوميًّا ما لا يقلُّ عن ٤ ساعات أفلام هوليود السينمائية.
«مدرسة المتنبي» نقلتْنِي إلى أفق رحب في الحياة مقارنة بأفق قريتي، حين أتاحت لي نافذةً صغيرة، وإن كانت ضيقة، لكنَّها مدهشة مضيئة، إنها سياحة الاكتشاف الأولى في حياتي، سياحةٌ انتقلتْ بي فأرَتْني أفقًا أوسع وأشمل وأغنى من أفق مجتمعي الريفي، ومفهوماته عن الكون والحياة.
(٨) المعلم المُعنَّف يمسي مُعنِّفًا
يتنبه المعلم للمتميزين في اللقاء الأول غالبًا، ويحظى التلامذة الأذكياء باهتمام المعلم وثنائه وتمجيده أمام زملائه وأهله وأولياء أمره، وبقدر ما يؤكِّد التلامذة ذاتهم بهذا التبجيل والتفوق، فإن ذلك يفتح عليهم نوافذ متاعب وإزعاجات في دراستهم، لأنه يثير حَنَق زملائهم، بل إن بعض هؤلاء يحترقون حسدًا وغَيرة، ويغدو المتميز المتفوق عرضةً للسهام الطائشة.
ليست الغَيرة والحَنَق والحزن من تفوق الشريك ونجاحه في المهنة والحرفة والعمل والدراسة ظاهرةً استثنائية أو شاذة، بل تلك طبائع البشر، وهو يحدث لاشعوريًّا عادة؛ ذلك أنه ينبعث مما هو غاطس في شخصياتهم، ويلازم الكائن البشري منذ فترة مبكرة في حياته. ذلك ضرورة لنشأة وتوالُد التدافع والصراع، الذي لولاه لصمتت الحياة وتعطلت. الأديان والثقافات تسعى لخفض وتيرة عنف هذا التدافع، وإدارة الصراعات بلا حروب، وفضِّ النزاعات سلميًا.
في الصف الأول الابتدائي كان تسلسلي الأول على الطلاب الناجحين، وهكذا في الصف الثاني وما يليه، إلى الصف السادس والنهائي. مما خلق لي مجموعة من الساخطين والأعداء المتطوعين، إذ كان تفوقي المتلاحق يضايقهم ويستفزهم ويثير أحقادهم.
أتذكَّر في الامتحانات النهائية للابتدائية «البكلوريا»، أخذتنا إدارة المدرسة إلى مدينة قلعة سكر لإجراء الامتحان الوزاري هناك، وأسكنونا مدة الامتحانات في مدرسة. ولفرط تراكم الحقد في صدور بعض زملائي، كنت كلما خرجت وجدت فراشي وكتبي مبعثرة، وفي اليوم الأخير تعرضت كل كتبي ودفاتري إلى مجزرةٍ أتلفتْها جميعًا، الفاعل مجهول حتى هذه اللحظة.
لا أريد هنا أن أتحدث عن السخرية والازدراء، والحجارة وبقايا الطماطم والبيض الفاسد، الذي كان يمطرنا به أبناءُ المدينة، ونحن نتكتل في مجموعات مذعورة، خشية أن يتعرض أحدنا للمطاردة والضرب لو تجوَّل منفردًا. حين كنا نسير، يثير فضولنا، وربما دهشتنا، كلُّ شيء نراه أثناء تجوالنا في أزقة قلعة سكر وشوارعها وسوقها.
تكوين معلمينا هش، غير أننا كنا نحتفي بهم، وننظر إليهم بهيبة، نشعر بهالة تحيطهم، توحي لنا بتفوقهم ومعرفتهم بكل شيء. رغم أن معلمينا كانوا بسطاء، لم يدركوا أن التربية والتعليم العلمية هي التربية والتعليم التي توقظ عقل التلميذ، وتدربه على التفكير المستقل. التربية والتعليم ينبغي أن تكشف للتلميذ المساحات الشاسعة لجهله، وتحرره باستمرار من جهله بجهله. ليست مهمة التربية والتعليم حشو الرأس بأكداس المعلومات المشتتة. تربيتنا وتعليمنا تبدأ بالتلقين وتنتهي بالتلقين. لا يُنتج التلقين إلا تعطيل العقل، والكف عن التفكير، والانقياد الأعمى.
لا يدري معلمونا أن التربية والتعليم الحديث تهتم بحماية الناشئة من الإصابة بداء الكلام والثرثرة المبتلى به زعماؤنا، والمتفشي في مجتمعنا، وإعادة الاعتبار للصمت والتأمل والتفكير.
بعض المعلمين كان جافًّا خشنًا قاسيًا، مثل معلمنا في المرحلة الثانية الابتدائية: «عبد الرحيم» الذي اعتمد أسلوبًا متوحِّشًا لتمكين مشاعر العداء من افتراسنا. خلق عبد الرحيم محيطًا عِدائيًّا في داخل الفصل الدراسي، يرسخ الكراهية، ويغذي نزعة العنف لدينا. كان يدعو تلميذًا لحلِّ مسألة أو تمرين أو كتابة على اللوحة (السَّبُّورة)، حين يفشل يبقيه واقفًا، ويطلب من تلميذ آخر التصدِّي لحلِّ ذلك، إذا نجح الثاني في الاختبار يدعوه لضرب زميله الواقف بجواره الذي أخفق في الجواب. كثيرًا ما وقعْتُ ضحية هذا الامتحان الهمجي، بإكراهي على الامتهان المتوحش لزملائي، حين أمتنع عن ضربهم يوبخني بشدة «أستاذ عبد الرحيم»، وربما يضربني، فأُضطر أحيانًا للتمثيل وإيهامه بأني نفَّذتُ ما يريد، رغم أني أمقت العنف واستعداء البشر بعضهم على بعض منذ صغري.
كان معلمُنا مولَعًا بخلق هذا المحيط العِدائي، يتلذَّذُ بهذا النوع من الإهانة والتنكيل بنا، عندما يحرِّض بعضَنا ضدَّ بعض، ليشاهد الشناعات التي تجرح أرواحَنا. يحرص عبد الرحيم على اغتيال براءة طفولتنا بتجذير عدوانية مَقيتة، كأنه محترف بإنتاج هذا اللون من العنف البائس الذي يجرح أرواحَنا، لم أجدْه يومًا يحرص على غرس قِيَمِ المحبَّةِ والتضامن الإنساني بيننا.
الخلطةُ السحرية لمعادلة التربية والتعليم تغذِّيها العواطفُ قبل العقل. متى ازدادت العواطفُ ازدادَ تحفيزُ المواهب وإثراءُ المهارات وإيقاظُ الوعي. الاعترافُ بمنجَز التلميذ والإعجابُ بجهوده وتشجيعُه إكسيرُ التربية والتعليم. التاريخُ البشري صنعته العواطفُ مثلما صنعه العقل.
أظن معلمَنا يستوفي ديونًا متراكمة، اضطهادًا تعرض له في طفولته من الأبوين وغيرهما في العائلة، أو في بيئته الأولى، أو في مدرسته، أو في كل ذلك، فيُسقط علينا كل ما يختزنه اللاوعي من تعذيب وتنكيل وقمع فاشيٍّ تلقاه في حياته، سواء من أبويه وعائلته، أو من السلطة والمجتمع.
المقموع يمسي قامعًا، والمُعنَّف يصير مُعنِّفًا. هكذا هم المعلمون المقموعون، ممن يتعرضون لتربية عنيفة، وتضطهدهم سلطةٌ فاشيَّة، ويعيشون في مجتمعات مغلقة. مشكلة مجتمعاتنا أنَّ منظومة الثقافة المغلقة لدينا تعيد إنتاج نفسها، فيتحول المقموعُ قامعًا، والمظلوم ظالمًا، والسجين سجَّانًا، والضحية جلادًا، والمناضل بعد ظفَره بالسلطة دكتاتورًا، ولصًّا محترفًا، وخائنًا لله والإنسان والأوطان.
أحسب أن هذه الوحشية المتفشية في مدارسنا هي أحد المنابع الأساسية، التي شكَّلت النسيج المعقد للعنف والنزعات العدوانية في مجتمعنا. هي البنية الراسخة للعنف الذي ساق وطننا لحروب مجنونة منذ أربعين عامًا، قطَّعت أوصال مجتمعنا، وقتلتْ أحلامَنَا الجميلة.
يولد المرءُ مُسْتَعِدًّا للحرب والسلام. المجتمع العنيفُ يصيِّره عدوانيًّا، حين يغذِّيه ﺑ: تعصباته القبلية، وعدوانياته الإثنية، وكراهياته الطائفية، ومعتقداته المغلقة.
الإنسان أثمن رأسمال، وأثرى أنماطِ الاستثمارِ الاستثمارُ في بناء الإنسان، رأس المال البشري لا يضاهيه أيُّ رأسمال، لا رأسمال يتفوق عليه أبدًا. ما لم يصبح هذا النمط من الاستثمار مقدمة ومادة لكل استثمار، لن تُنجِز أية تنمية ما تَنشده من وعود في بناء الأوطان. مأزق أوطاننا هو فشل الاستثمار في الإنسان. لا يمكن إنجاز هذا الاستثمار إلا ببناءٍ تربوي وتكوينٍ تعليمي يواكب ما يستجدُّ من علوم وخبرات وتطورات تربوية تعليمية في آفاق العصر ورِهاناته، ومن دون ذلك لن نخرج من تخلُّفنا ومأزقنا المزمن.
لم نتنبه حتى اليوم إلى أنه سيلبث الأبناءُ في متاهاتٍ ما دامتِ التربيةُ الرُّوحيةُ والأخلاقيةُ والجماليةُ والذوقيةُ غائبةً عن المقررات الدراسية. هناك ضرورة عاجلة لتبني مقرر دراسي حديث في كافة مراحل التعليم الأساسي للناشئة في بلادنا، يستقي من الموروث الرُّوحي والأخلاقي والجمالي لديننا وتراثنا، ومما هو مشترك إنساني في ميراث الأديان والثقافات البشرية، وفلسفات الدين والأخلاق والجمال الحديثة.
لم يلبث معلمونا أكثرَ من سنتين في مدرستنا النائية، لينتقلوا إلى مدارس في المدينة أو أقرب إليها، قلما مكث في «المتنبي» معلمون سنواتٍ عديدة. توافُد معلمين جُددٍ فرصةٌ ثمينة لنا؛ ذلك أنهم يصدرون عن مرجعياتٍ أيديولوجية وثقافية مختلفة، ولا يعبِّرون عن تكوين مدرسيٍّ أو لون سياسي وثقافي واحد. يجيئون من البصرة وكربلاء والناصرية وقلعة سكر … وغيرها. بعضهم منخرطون في حركات يسارية، أو قومية، أو إسلامية. كل منهم يسعى لتوجيهنا بهدوء نحو معتقداته ورؤيته. لأول مرة نواجه تنوعًا في الآراء، وإن كان ضحلًا، إلا إنه وضع عقولنا في أفق يختلف عن الأفق الأحادي المغلق في القرية. رفَدنا معلمونا بأسماءِ خلفاءَ وسلاطين وعلماءَ وأدباءَ وشعراءَ وكتَّاب، وأماكنَ ومدنٍ ودولٍ وشعوب … وغير ذلك.
أول كتاب ندرسه هو «القراءة الخلدونية». نتعرف على مؤلفه: أبو خلدون «ساطع الحصري». علمتُ فيما بعد أن «أبو خلدون» هو الذي صاغ ووجَّه استراتيجيات التربية والتعليم في بلدنا، بعد تشكيل الدولة العراقية، وهو الذي اختزل الوطن والاختلاف الإثني والتنوع الديني والمذهبي للمجتمع العراقي برؤية أيديولوجية قومية عروبية، لا تخلو من بصمة طائفية وعنصرية، يصبح فيها العربي هو المنتمي للأقلية السنية، بينما تُصنَّف الأكثرية الشيعية على العجم. قومية تتمحور على نفي الوطن من أجل الأمة «العربية»، ونفي متطلبات وهموم وآمال المواطن في شعارات رومانسية ومقولات زائفة، تستبعد مشكلاتنا وآلامنا وأحلامنا الحقيقية.
أفضت البنية التربوية والتعليمية والثقافية التي أشادها الحصري في بلدنا إلى بناء الأرضيات اللازمة لهيمنة أدبيات ميشيل عفلق وأفكار حزب البعث وصدام حسين، على السلطة والدولة والمجتمع.
في الصف الثاني الابتدائي، وفي طريق عودتنا من المدرسة، كنت بمعية زميلي «قاسم شمخي»، الذي تميز بطول قامته بين الطلاب، وعندما أردنا عبور جدول «كريمة» لم نجد القنطرة، لأنها سرعان ما تنهار لأي طارئ، لفرط هشاشة بنائها، فاضطُررنا للخوض في الماء، كان الجدولُ يجري بتيار يتطلب التماسكَ والثباتَ أثناء العبور، فتقدم زميلي حاملًا كتبي وكتبه، وعبر إلى الضفة الثانية، ثم اقتفيت أثره، وبعد خطوات جرفني التيار، فغطستُ في الماء وغرقتُ. كان «قاسم شمخي» يراقبني بحذر، لحظة غرقي وثب إلى النهر بثيابه، وأمسكني بشدة من شعر رأسي وأنجاني. تلاشتْ قُوَاي، ارتجف جسدي، سقطت على الأرض، من فرط الإعياء ورهبة الذعر، لبثتُ فترة مستلقيًا مضطربًا، حتى استعدتُ طاقتي بالتدريج.
ما برحنا نكابد معاناة طريق الذهاب والإياب إلى المدرسة، ففي الخريف والشتاء والربيع، تُرْوى المزارع التي يخترقها طريق مشينا، مما يضطرنا للخوض في برك الأماكن المنخفضة في الطريق حفاة في الطين والوحل. لكن في المدرسة ينبغي أن نغسل كلَّ أثر للطين أو الوحل، وننظف ما تلطخت به ثيابُنا.
نخضع في المدرسة لتفتيش صباحي يتفقد ثيابنا، وأيدينا، وأظافرنا، وكتبنا. في حالة اكتشاف المدير لما يعتقد أنه مخالفة لتقاليد الانضباط المدرسي، يسوقنا لعقابٍ قاسٍ، بضرب العصا على أكفنا، أحيانًا يضربنا بحافة المِسطرة الحادة على ظهر كفينا. المؤلم أن أكثرنا يجف ظهرُ كفه ويتقلص، فيتشقق وينضح دمًا بسبب البرد. مع ذلك يتعرض لهذا العقاب الأليم، من دون أن تأخذ المديرَ أو المعلم رأفةٌ أو رحمة، كأنهم يبتهجون بوليمة عذاب الأطفال الصباحية وبكائهم وهلعهم.
صورة المعلم في وجداننا تساوي الجلاد، تشي بالغلظة والفظاظة والذعر، نادرًا ما يشذ أحد منهم عن هذه القاعدة. المعلمون شباب، في مطلع العقد الثالث من أعمارهم، تخرجوا حديثًا من «دار المعلمين الابتدائية»، ثقافتهم متواضعة، بلا خبرات طويلة متراكمة، ينحدرون من مدن صغيرة، بعيدة عن العاصمة، يتصرَّفون بما يحلو لهم، بلا تفتيش أو محاسبة تراقبهم في مدرستنا النائية، لذلك تتفجر كلُّ عاهاتهم وتشوهاتهم وخشونتهم أثناء تعليمهم لنا. أكثرهم خبراء في الذم واللوم والتقريع والتوبيخ والهجاء. يلاحقوننا بالهجاء، بنعتنا ﺑ «القرويين، المعدان، المتخلفين، الوسخين، الأغبياء …». يوصف كلُّ قرويٍّ من منظورهم تافهًا متخلفًا همجيًّا. لا يدركون قيمة الرعاية والدعم النفسي والتشجيع في تحفيز الناشئة وتنمية مواهبهم. لم يدرك معلمونا أن الكلماتِ المريضة تمرض الرُّوح، الكلماتِ الجارحة تجرح الرُّوح، الكلماتِ الميتة تميت الرُّوح، الكلماتِ الحية تحيي الرُّوح، الكلماتِ المضيئة تضيء الرُّوح، الكلماتِ المبتسمة نكهة الرُّوح، الكلماتِ الجميلة جمال الرُّوح.
يجهل معلمونا علم النفس التربوي، وعلم نفس الطفولة، كأنهم يتضامنون مع حكامنا الجلادين على ترويضنا منذ الصغر على الخضوع والخنوع والمسكنة. يكرسون جهودهم لتربيتنا على ذهنية القطيع، وغرس نفسية العبيد لدينا، يحرصون على كسر شخصياتنا، وتدريبنا على استمراء الذل والهوان في الحياة. لا يمكن أن ينهض مجتمع مُهَانٌ مستلب مستباح مدجَّن على الرضوخ والانقياد. لا يدري معلمونا أن حق الخطأ ضرورة تربوية في المجتمعات الحية. لا يمكن أن ننهض إذا كان المعلمُ يُدَجِّنُ طفولتَنا ويُنَمِّطُها، بنحوٍ نغدو كأننا نسخة واحدة يتشابه فيها كل شيء، بينما يتجاهل حق الاختلاف، الذي يفضي غيابُه إلى سُبات المجتمع، وتحول البشر إلى كائنات محنطة بلا ملامح شخصية.
(٩) الولع بالطوابع وصور المشاهير
في المرحلة المتوسطة التحقت بمتوسطة قلعة سكر، وبدأت أتعرف على المراسلات البريدية وطوابع البريد، وبعض الكتب في هذه المدينة. حرصت على نزع الطوابع البريدية من أغلفة الرسائل التي تصلني من أخي الذي كان يعمل في الكويت، وما أعثر عليه من طوابع رسائل ممزقة ومهملة أغلفتها في مكب النفايات.
طابع البريد هو أول رصيد بدأ يتراكم لأرشيفي البُدائي البسيط، كان طابع البريد نافذة ضوء تمدني صورها بشيء من معرفة مناسبات وأعلام ورموز بلدي، بل كان نافذة اكتشاف لبعض البلدان التي لم أكن من قبل أعرف حتى اسمها. وبمرور الأيام تملكتني رغبة الاحتفاظ بما يصلني من رسائل، وبعض صور المفكرين والفلاسفة المنشورة في الصحافة. أتذكر في ذلك الوقت أني قمت بإلصاق صور فلاسفة ومفكرين غربيين، اقتطعتها بمرور الأيام من صحف قديمة، على «كارتونة» أصبحت لوحة، وعلقتها في غرفة الطين بمنزلنا الريفي. طالما أثارت هذه اللوحة فضول الفلاحين في القرية الذين يزوروننا، فيتساءلون بدهشة واستغراب: من هؤلاء؟! خاصة وأن صورًا لأمثال هيغل وماركس وكانط وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة لم تكن ملامحهم مألوفة في مجتمع صغير مغلق كقريتنا، مجتمع شِفاهي صِلاتُه مع ما حوله هامشية ومحدودة جدًّا، لا يرى من الألوان سوى ألوان السماء والمحاصيل الزراعية والحيوانات. كانت تثير الفلاحين نظرات أعين الفلاسفة الحادة، شعورهم الطويلة، وجوههم الصارمة، لا توحي وجوههم بهدوء وابتسامة واسترخاء ودَعَة وراحة ودفء. أُضطر أحيانًا إلى التحدث للفلاحين عن أن هؤلاء رجال كبار، وأحاول أن أقارن بينهم وما يختبئ في ذاكرتهم من رجال مقدسين وفرسان وزعماء تاريخيين، نسج لهم متخيَّلهم الجماعي صورًا شديدة الإثارة، عابرة للزمان والمكان. رسمها ذلك المتخيَّل الذي أضحى منبعًا يصوغ رؤيتهم لله والمقدس والإنسان والعالم، ويحدد مفهومهم للحقيقة، وكيفية إدراكها.
كانوا يعربون عن دهشتهم من هذه اللوحة النابتة في غرفة طينٍ، غريب كل شيء فيها على ما تتحدث به صورها، إذ لا ديكور أو أثاث أو ترتيب متسق فيها. إنها صور لا معنى تبوح به إليهم، إلا ما يحيل إلى متخيَّلهم الميثولوجي للمقدس، المفارق للصور الدنيوية الحسية. أكثر من مرة ازدرى بعضُهم أصحابَ هذه الصور، فوصفوهم بالجنون أو الهبل، وأسمعوني عبثية هذه اللوحة الغرائبية التي صنعتها لمخلوقات تثير الاشمئزاز والقرف، بوصفها لا تشبه مفهومهم للكائن البشري. مفهوم البشر في قريتي هو الفلاح والراعي ابن الأرض، المألوف والمعروف، وكل إنسان غيره من الصعب منحه صفة الآدمية لدى هؤلاء الناس الذين لا يعرفون إلا أساطير عن الأجناس البشرية خارج محيطهم.
(١٠) السأم السريع من تدوين اليوميات
في مرحلة دراستي الثانوية في مدينة الشَّطرة جنوب العراق بدأتُ بتدوين يوميات في صفحاتِ مفكرة صغيرة جدًّا، أكتب كل يومٍ مساءً عدةَ جمل، تشير إلى أهم الحوادث والمواقف الشخصية في ذلك اليوم. وهي عدوى استبدت بي من بعض زملائي في الإعدادية التي درست فيها، إذ كان التلامذة من جيلي يُغرَمون بهوايات متنوعة، منها كتابة الشعر الشعبي العراقي في دفاتر صغيرة، والحرص على استظهاره وإنشاده وغنائه عند سهراتهم ليالي العُطَل في السكن الطلابي، ومنها الشغف بصور المطربات ونجوم الفن، التي يتصيدونها من مجلات الفن اللبنانية والمصرية. وجدت نفسي خارج غواياتهم وهواياتهم، ما خلا تدوين يومياتٍ قُبيل النوم كل ليلة، وهي تسجيل رديء لحوادث شخصية رتيبة، لا تشي برؤيا لما تبوح به تلك المواقف والحوادث. لم تتواصل هذه العملية طويلًا، إذ سرعان ما شعرت بتفاهة ما أقوم به وعدم أهميته، لذلك أعرضت عن ذلك، وأهملت تلك اليوميات. ربما لو استمرت كتابتي لليوميات مدة طويلة لتطورت عموديًّا وأفقيًّا عبر انفتاحها بمرور الزمن على فضاء بديل، يمنحها طاقة تجدد حيويتها وتكرس ديمومتها. حتى اليوم أعجز عن أن تصير الكتابة مهنتي اليومية.
اكتشفت لاحقًا أن مزاجي الشخصي لا يُطيق الرتابة، وسرعان ما يسقط في السأم والضجر. لحظة يكرر اليومُ صورةَ الغد، وينسخها كما هي بكل تفاصيلها وألوانها، أشعرُ بكوابيس مُرَّة. في التكرار يتوقف الزمن الشخصي الباطني، لذلك لا أطيقه. لعل ذلك هو سر أسفاري وهجراتي في عوالم المدن والبلدان والكتب والأفكار والأشخاص والأشياء. لا تغويني هوايات وموضات جيلي، وحتى لو هرولت بُغية محاكاتهم سرعان ما أهرب، كي أسكن لما تسكن إليه رُوحي.
(١١) الصورة الأولى في الكاميرا الشمسية
أول صورة فوتوغرافية طلبَتْها مني المدرسة الابتدائية، كي يُلصقوها على صفحتي في سجل تلامذة المدرسة، هي صورة شمسية التقطها مصور بكاميرته الخشبية في مدينة الرفاعي. لا أتذكر صورة سبقتها. أدهشتني العبقرية الفذة لمخترع الكاميرا الشمسية، ففي زيارة لمعرض الفنان والمخترع ليوناردو دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩م) في مدينة فلورنسا الإيطالية عام ٢٠٠٧م، شاهدت نموذجًا خشبيًّا ابتكره للكاميرا التي كان يحلم بصناعتها، بموازاة ما أنجزه من اختراعاته الكثيرة، أو ما اقترح فكرته ورسم خارطة لصناعته تترقب من ينتجها في زمان لاحق. أدركت أن عقل الإنسان يمكنه أن ينجز الكثير من وعوده وأحلامه، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستحيلة.
لاحظت أن الصورة تنطبع ابتداء بشكل مقلوب على رقاقة بلاستيكية تسمى «جامة»، ربما لأنها شفافة كالزجاج الذي نسميه باللهجة العراقية «الجام». «الجامة» صورة لا تشي إلا بملامح باهتة، كأنها ملامح موتى. ثم يقوم المصور بعد ذلك بغسلها بمحلول كيمياوي داخل صندوق أسود، وبعد أن تجف يصوِّرها من جديد، لينتج عدة صور منها.
عثرت في صورتي على شبح يحاكي بعض تعبيرات وجهي، ابتهجت كثيرًا حين شاهدت صورتي للمرة الأولى في حياتي، وكأني عثرت في صورتي على شيء من ذاتي، وكل ذات عاشقة بطبيعتها لذاتها. لا نمتلك في بيتنا «مرآة» نرى فيها وجوهنا صباحًا ومساءً، إلا مرآة صغيرة جدًّا يستعملها المرحوم أبي فقط عند حلاقة ذقنه، وبعد أن يفرغ من الحلاقة يحتفظ بها في صندوق صغير مع ماكينة الحلاقة. المرآة أول نافذة ضوء للكائن البشري يكتشف فيها صورة وجهه وبعض ثِيمات جسده، وتُبدد شيئًا من عتَمة الطبقات المبهمة لعوالم الذات.
كم أسعدني هذا المنجز البشري الذي منح الإنسان فرصة لرسم صورته بلا ريشةِ رسام وألوان، وكأن الكاميرا تحمل بُشرى يشرق من نافذتها ضوء على دنيا الغد. أثارني شكل الكاميرا الشمسية وصندوقها المغطى بقماش كثيف أسود، وكيف يُدخل المصور رأسه فيه لإنتاج الصورة عبر سلسلة عمليات بطيئة رتيبة.
كلما رأيت اختراعًا ومنجزًا جديدًا للعلم أفرح، لبثت هذه الحالة معي إلى اليوم، وإن بتوتر أخف. كثيرًا ما أشعر أن كل اختراع يزف بُشرى للعيش في غد أجمل، يهديها أولئك المخترعون الأفذاذ لكل إنسان في الأرض، وإن كان ذلك الإنسان لا يعرف قيمة منجز العلم، أو يناهضه كما هي الجماعات المتوحشة عدوة العلم والمعرفة والتكنولوجيا، غير أنها لا تني توظفها في إدارة وإنتاج فاشيتها الدموية.
مكاسب العلم عندي هي مرايا الغد التي تصوِّر أحلام البشر وما يرتسم فيها على الدوام من انتصارات عقله على توحش الطبيعة، وتحطيم قسوتها، وقدرته على ترويضها، وظفَره باستثمار ثرواتها، من أجل أن تصير حياته أسهل وأجمل. هكذا كان شعوري مع أول سيارة ركبتها، تنتمي صناعتها إلى خمسينيات القرن الماضي، هيكلها مصنوع من الخشب، ما خلا محركها الذي كان يعمل بالنفط الأبيض «الكيروسين»، ولا يدور إلا ﺑ «الهَندر».
لا أتذكر التقاط صور أخرى لي بعد هذه الصورة، إلا بضع صور لمعاملات إصدار الجنسية ودفتر الخدمة العسكرية ووثيقة التخرج من الابتدائية، نهاية الستينيات من القرن الماضي.
(١٢) الشَّطرة مدينة السياسة والثقافة
بعد تخرجي من المدرسة المتوسطة في مدينة «قلعة سكر» جنوب العراق، انتقلت إلى مدينة الشَّطرة، التي أقمت فيها ثلاث سنوات، حتى تخرجت من الدراسة الثانوية. تمتلك الشطرة منذ أكثر من نصف قرن شخصية مدينة، لا تخلو من فرادة في محيطها الإقليمي. مدينة تشهد عروضًا سينمائية ليلية، فيها استوديو حديث للتصوير أسسه رجل محترف، ومكتبة عامة ثرية قرأت فيها الجزء الأول من كتاب «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث» لعلي الوردي، وكتبت تعليقات على حواشي صفحاته، لا أعرف مدى أهميتها، وإن كنت أتمنى أن أعثر عليها الآن، كي أكتشف منطق التفكير الذي تملك عقلي ذلك الحين. الافتقار للأرشيف الشخصي افتقار لأهم أداة نكتشف فيها تاريخ تطور الوعي الشخصي ومحطات عملية التفكير، والمنعطفات التي عبرها العقل.
مطلع سبعينيات القرن الماضي كانت «الشطرة» أكثر تحضرًا من المدن الصغيرة بجوارها، تنفرد هذه المدينة بوجود مكتبة لبيع الصحف والمَجلات، المعروف عن صاحبها الكهل وقتئذٍ أنه يساري، لذلك كان يعرض للبيع مَجلات العربي الكويتية وغيرها والصحف العراقية. في الشطرة مطاعم تقدم أكلات شهية لم أذقها من قبل. وصالة لعرض الأفلام السينمائية، فيها دخلت لأول مرة السينما، وشُغِفتُ برومانسية الأفلام الهندية، كنت أغرَق في انفعالات حارة، عندما يتصاعد التمثيل ليصل إلى ذروة المواقف العاطفية التراجيدية، والكلمات الحارقة. أكثر من مرة تباغتني دموعي لحظة الغرق في مشاهدها بحزن وألم. الأفلام الهندية تتحدث بكلمات وتعرض مشاهد عن بؤساء الهند، تحكي شيئًا من مرارات ومواجع وجروح طفولتي وفتوتي.
بعد أقل من عامين امتنعت عن دخول السينما، وهجرت مشاهدة أي فيلم، كذلك هربت من استماع أية موسيقى، ولم أعد أتذوق فتنة ألوان الصور الجذابة، حدث ذلك بعد أن طالعت كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب في الصف الخامس الثانوي. جرحتْ رُوحي غوايةُ شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفتْ مشاعري النصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الدينية. إنها نصوص كلما غرِقت في مطالعتها، أسجل غيابًا إضافيًّا عن عوالم الفنون الجميلة، بل إن مطالعتي للمزيد من تلك النصوص تغيبني عن تذوق صور الله الجميلة، وتجليات جماله في الوجود.
في هذه المدينة شباب يهتمون بمطالعة الكتب والصحف والمَجلات، يحاولون الانفتاح على عصرهم، ومواكبة كل ما هو جديد بحدود إمكاناتهم الضيقة. تتردد في كلماتهم أسماء بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء والكتَّاب، ويؤشرون لبعض مؤلفاتهم المعرَّبة في أحاديثهم. وصف البعض «الشطرة» وقتئذٍ ﺑ «موسكو الصغرى»، لأن الحزب الشيوعي العراقي يمتلك قاعدة شبابية واسعة فيها.
في الشطرة بدأت تتراكم الصور في أرشيفي الشخصي، إذ كان بعض زملائي يمتلكون كاميرات تصوير عادية، مضافًا إلى وجود مصور يحتكر هذه الحرفة في المدينة، ولا يكفُّ عن التفنن في تلوين الصور وتجميلها. بالتدريج اجتمعت لدي مجموعة صور شكَّلت أول ألبوم اقتنيته مطلع سبعينيات القرن الماضي وأنا بعمر ١٦ عامًا، ثم أضفت له ألبومًا آخر بعد مضي عدة سنوات.
بعد عودتي من المنفى الذي أمضيت فيه ربع قرن تقريبًا، زرت هذه المدينة وذهبت إلى محل ذلك المصور فوجدت أحد أبنائه، وحدثته عن أني كنت زبونًا لأبيه، وأتمنى أن أحصل على نماذج من صوري القديمة لديهم التي لا أمتلك أيًّا منها اليوم. لم أعثر من صوري في السبعينيات إلا على ثلاث صور: الأولى تعود للعام الدراسي ١٩٧١م. والثانية مع زميلي في الثانوية ابن الفهود جبار هزل في الشطرة عام ١٩٧٢م، هو قدمها لي بعد عودتي للوطن. وثالثة مع صديق العمر المرحوم صالح هادي عودة السعيدي، عندما زرته في الموصل، حين كان جنديًّا مكلفًا خريف عام ١٩٧٣م.
(١٣) انطفاء لهيب الشغف بالذاكرة
رغم حاجتي العميقة لأرشفة وتوثيق ذاكرتي، كما هي حاجة كل إنسان الأبدية لتخليد ذاكرته، لكن انخراطي في الجماعات الدينية في مرحلة مبكرة من حياتي أطفأ لهيب الشغف بالذاكرة، إثر تدجين متواصل، لا ينشد إلا تنميط الذات عبر إذابتها في الجماعة، والتنكر لحاجات جسد الإنسان ومشاعره، وتجاهل ظمأ رُوحه، وإطفاء منابع الفرح والمرح في شخصيته. في هذه المرحلة لم تعد للصور وكل وثيقة تتصل بالأرشيف الشخصي أهمية عندي؛ ذلك أن لدي مهمة «رسولية» أعظم وأسمى من كل هذه الهوايات الرخيصة. كما تشدد على ذلك رؤيتي الجديدة للعالم، المستقاة من أدبيات هذه الجماعات.
طالما عشت صراعًا عنيفًا في مشاعري وحواسي الظاهرة والباطنة التواقة لكل ما هو جميل، وبين ما تمليه عليَّ مفاهيم وتقاليد الانتماء لهذه الجماعات، التي تقول تعاليمها إن كل شيء جميل في حياتك مؤجل، أي إنك سوف تستوفيه نسيئة غدًا، لا نقدًا هذا اليوم. وكأن ما في الحياة من ضوء ومسرات كله لا يليق بمن يؤمن بالله ورسوله الكريم «ص». الغريب أن أدبيات هذه الجماعات لا تكترث بالاستفهام الإنكاري للقرآن، وإشارته في أكثر من آية لعدم تحريم زينة الله والطيبات، مثل: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (الأعراف: ٣٢). ما أفهمه أن «زينة الله والطيبات» تؤشر لجماليات الوجود، وكل ما يضيء ظلام العالم ويبدد عتَمة أيامه.
تشدد تلك الأدبيات على أن مهمتها في هذا العالم هي التمهيد لإقامة دولة دينية، حتى لو تطلب ذلك الموت، لأن «الموت — وليس الحياة — هو أسمى أمانيها»، كما يشدد شعار «الإخوان المسلمون». في سياق التثقيف على هذه المقولات لم تعد لأية صورة أو وثيقة شخصية أهمية تذكر لدي مهما كانت قيمتها.
ذبل اهتمامي بالصور والطوابع، ومسودات تمارين كتاباتي الأولى، وغيرها من أوراقي وأشيائي الخاصة. حتى في زواجي سنة ١٩٧٧م، ومن قبله عقد القران، أهملت عمدًا تصوير هذه المناسبة، إلا إن زوجتي وعائلتها كانوا حريصين على التقاط بعض الصور. مع العلم أن إخوتها لم يكونوا بعيدين عن ثقافة هذه الجماعات، لكن تربيتهم المدينية احتفظت بشيء من الحس الجمالي، لذلك فشلت تقاليد هذه الجماعات بإطفاء ذلك الحس، بخلاف تربيتي الريفية وتقاليد القرية التي شكلت أرضية خِصبة للتشبث بتقاليد الجماعات الدينية.
في آذار/مارس عام ١٩٨٠م أصدرت مديرية الأمن العامة ببغداد أوامر مشددة بمطاردتي وإلقاء القبض عليَّ عاجلًا، بسبب اعترافات انتُزعت تحت التعذيب لبعض الشباب من رفاقي، وأصدرت عليَّ — فيما بعدُ — «محكمة الثورة» حكمًا غيابيًّا بالإعدام حتى الموت عام ١٩٨١م. اختنقت يومذاك، بعد أن ضاقت عليَّ جغرافيا وطني العراق الواسعة، بادرت إلى جملة تدابير وقائية، أولها التخلص من كل أرشيف الصور الشخصية والعائلية، فأحرقتها كلها. وقتها رغبت زوجتي أن تحتفظ ببعض صور العقد والزواج، لكني مزقتها، وأحالتها محرقتي جميعًا إلى رماد. كذلك عمَدت لإحراق كل ما في خزانتي من مقالات الجريدة السرية لحزب الدعوة الإسلامية، الذي كنت منتظمًا فيه، ولم أحتفظ إلا بمقالة مخطوطة مطولة، كتبها مسئولي في الحزب المرحوم الشيخ حسين معن، بعنوان: «فقه الدعوة»، كانت خلاصة نقاش بيننا حول المشروعية الفقهية للحزب، ومصادر الإلزام والتكييف الفقهي لطاعة وانضباط الأعضاء المنخرطين فيه بما يصدر لهم من أوامر. لم أجد أفضل من ساحة المنزل الصغير المتداعي، الذي أسكنه على حافة «بحر النجف»، في حزام البؤس والحرمان، كي أضع هذا النص في عدة أكياس بلاستيكية محكمة وأدفنها بعمق أكثر من متر، لا أدري ساعتها أن دفني لهذا النص سيغيبه عن عالمنا إلى الأبد، مثلما يُغيِّب الدفن الموتى في مقبرة النجف إلى الأبد.
(١٤) فوبيا الكاميرا
بعد هجرتي من العراق استبدت بي رغبة التخلص من كل ورقة أو صورة أو أي أثر مادي يحيل الشرطة السرية إلى نشاطاتي واجتماعاتي، لذلك لم أهتم بالصور أو الأوراق الخاصة، وأتحاشى على الدوام التصوير مع الشباب المنتمين إلى حلقاتي الحزبية، بل أمتنع من التصوير مع من يحضر دروسي غير المعلنة أيضًا التي أقدمها لتلامذة جامعيين في بيوت أصدقاء.
لبثت في الكويت أربع سنوات، لم أشعر يومًا فيها بالأمان، رغم أني وجماعتي التي أنتمي إليها لم نكن نستهدف تغيير نظام الحكم في هذه الدولة، ولم نشكل تهديدًا للأمن فيها، لأن جهودنا مكرسة لمقاومة نظام صدام الفاشيِّ فقط. كنت مستعدًا في أية لحظة لمداهمة الشرطة السرية والاعتقال، لذلك أمزق وأحرق كل ما يمكن أن يُظن أنه رأس خيط يدل جهاز الأمن على شبكات عَلاقاتي، ونسيج تنظيماتي، وحلقاتي المتعددة، إذ كنت كل أسبوع أدير ٢٤ من الحلقات التنظيمية، والدروس والندوات الدينية والتثقيفية.
في ديسمبر عام ١٩٨٣م باغتتنا سلسلة تفجيرات في الكويت، لا نعرف مَنْ نفذها ذلك اليوم، حدثت إثرها سلسلة اعتقالات ومطاردات، اضطُررت بعدها بأسبوع لمغادرة الكويت، بعد أن عرَفتُ بوشاية كاذبة للمباحث من أحد الأشخاص المعتقلين المتورطين في التفجيرات ضدي. وكموقف احترازي اعتقلت المباحث صاحب الشقة التي كنت أستأجرها، بوشاية كاذبة أيضًا لشخص عابث، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام قليلة. من المفارقات أن هذا الرجل الطيب صاحب الشقة رحمه الله (توفي قبل سنوات قريبة)، غرِق في هلع وكوابيس مزقته بعد اعتقاله، ولفرط رعبه قام بنقل مكتبتي إلى الصحراء، وأحرق كل الكتب فيها، حتى تفاسير القرآن. وهي مكتبة تضم كتبًا ليست محظورة، إذ اشتريتها كلَّها من مكتبات الكويت، تجاوز ثمنها بمجموعها ٢٠٠٠ دولار.
قبل مغادرتي الكويت اتخذت إجراءً وقائيًّا أحرقتُ فيه ما اجتمع لدي من صور، ادخرتها كذكرى عطرة من رحلات أداء مناسك الحج والعمرة، خشية تسربها للمباحث، وكي لا يُتهم بعض الأشخاص الأبرياء من الأصدقاء بتهم باطلة فيقع ضحية، كما يحدث في كل موجات الاعتقال في بلادنا. هكذا بعد أربع سنوات يَحِل وعد المجزرة الثانية لبقايا ذاكرتي الموشومة، وبقايا أرشيفي الصغير جدًّا.
باتت هذه الحالة من عاداتي المزمنة، إذ طالما سارعت بتمزيق وحرق رسائل أو أوراق، حيثما كنت وكانت. وأحيانًا بعد مضي سنوات في مناسبة ما أتذكر قضية هامة أوردتها رسالة من صديق، أو بعض الأوراق التي تتضمن موضوعًا يهمني اليوم، وأحتاج الاستناد إليها كوثيقة، فأفتش عنها لكن دون جدوى. يبدو أن أرشيفي كان وما زال ضحية كوابيس مدفونة في أعماقي، يعلنها صوتٌ خائفٌ مخيف، كأنه يخيرني: «بين أن أُعدَمَ أو أن أَعدِمَ أرشيفي.»
بعد هذه المجزرة لبثت سنوات طويلة في المنفى أمتنع عن التصوير. ذاكرتي الجريحة تنزف حينما يدعوني أي شخص للتصوير، لا أبالغ إن قلت إني مكثت عدة سنوات تنتابني حالة يمكن أن أنعتها ﺑ «فوبيا الكاميرا»، حتى انتقلت حياتي رغمًا عني إلى طورها الجديد تبعًا للطور الوجودي الجديد للعالم، الذي أنجزه الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، وإنتاج هذه التكنولوجيا لعالم بديل، انهارت معه الكثير من الخصوصيات الشخصية، وأمست أكثر الأسرار سريةً مفضوحةً شئنا أم أبينا، ولم يعد منطق الحدود الحسية المادية فاعلًا، وإن ولدتْ في سياق عالمنا البديل حدود تشبهه، هي حدود رمزية لا مادية، ربما هي أقسى من الحدود المادية.