الفصل الثالث

نسيان الإنسان (٢) مرايا الذات

(١) أُولَد كل يوم عبر أخطائي

يُبهرني الحماسُ والتدفُّقُ والمثابرةُ والتألُّق عند الشباب. لا شك أن الشباب أثمنُ رأسمال بشري في كافة المجتمعات، يحلمون بما لا نحلم به، يغامرون بما لا نغامر به، يكتشفون ما لا نعلم به، يقتحمون ما لا نفكر فيه، بل يجازفون في اقتحام ما هو محظورٌ التفكير فيه. نموذجهم المستقبل لا الماضي، رؤيتهم تتحرر على الدوام من كوابح الموروث، وتجازف بمغادرة الراهن. يَنشدون عالمًا جميلًا، لا ترهقه أغلالُ المفاهيم الميتة، ولا تفتك فيه سموم المقولات القاتلة.

يلد الأبناءُ الآباءَ، كما يلد الآباءُ الأبناءَ. ما يتعلمه الآباءُ من الأبناء اليوم، أشمل وأغنى وأكثف مما تعلمه الأبناءُ من الآباء أمس. تعلمتُ من أبنائي أكثر من آبائي، ومن تلامذتي أكثر من أساتذتي، ومن الشباب أكثر من الشيوخ، ومن اليوم أكثر من أمس، ومن الحاضر أكثر من الماضي، ومن أخطائي أكثر من صوابي، ومن البؤساء أكثر من السعداء، ومن الفقراء أكثر من الأغنياء، ومن المهمَّشين أكثر من الأسوياء.

تعرَّفت عبر تلامذتي وأبنائي على شيء من: آراء فلاسفة حطموا أصنام الذهن التي لم يتنبه لها المتفلسفون إلا بعد عشرات السنين، ومفاهيم مفكرين مغمورين لم يهتم بهم كثيرون، ومنجز أدباء مجهولين لم تتداول نصوصَهم شِللُ المهرجين، ورؤيا فنانين منسيِّين مدهشين لم يدرك إبداعَهم المعاصرون.

أوصلني أبنائي وتلامذتي معهم إلى قارَّاتٍ عميقةٍ، كثيفةٍ، متنوعةٍ، خِصبةٍ، لم أكتشفها من قبل، بالرغم من أني أنفقت عمري بالمطالعة قبل كل شيء، منذ المرحلة الابتدائية لم أبرح الكتاب والورقة والقلم، في حضر أو سفر، في صحة أو مرض، في فراغ أو زحمة أعمال.

أدركتُ مبكرًا أن الأفكار كائناتٌ حيَّة، تظل تنمو وتتجدد ما دام الإنسانُ يقرأ بتأمل، ويفكر بهدوء، ويتعلم من نقد القراء الأذكياء، ويمتلك شجاعةَ الاعتراف بخطأ شيء من أفكاره السابقة، ولا يراها حقائقَ نهائية.

وُلدتُ ولاداتٍ عديدة في حياتي، وما زلتُ أُولَد كلَّ يوم من جديد. أُولَد كل يوم من جديد عبر أخطائي، أُولَد كل يوم من جديد عبر تجارِبي، أُولَد كل يوم من جديد عبر مطالعاتي، أُولَد كل يوم من جديد عبر مجازفتي باستئناف النظر في أفكاري، أُولَد كل يوم من جديد عبر تهوُّري في عبور ما هو قارٌّ ومغلق في هويتي، أُولَد كل يوم من جديد عبر مقدرتي على تجاوز ذاتي، أُولَد كل يوم من جديد عبر إدراكي لتناقضاتي، أُولَد كل يوم من جديد عبر اكتشافي لعجزي وجهلي وضعفي، أُولَد كل يوم من جديد عبر توطُّني التراث وتشبُّعي بمناخاته أكثر من خمسة وأربعين عامًا، أُولَد كل يوم من جديد عبر قراءاتي وهرولتي المزمنة وراء كل فكرة ومفكر وكتاب ومقال جديد، أُولَد كل يوم من جديد عبر أسفاري الرُّوحية القلبية العقلية، أُولَد كل يوم من جديد عبر تنوع وتعدد صداقاتي مع المختلفين عقائديًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا، أُولَد كل يوم من جديد عبر رحلاتي بين البلدان.

الولادة الأَثْرَى تتجلى في أني أُولَد كل يوم من جديد عبر تلامذتي وأبنائي، بعد أن حررتهم من كافة أنماط التبعيات والعبوديات، ومنها: العبودية لي؛ فحرروني هم فيما بعد من عبودياتي. أصبحت أستفيق كل يوم، وأنا ألمح أفقًا يبوح بالهموم الحارقة والرؤى المشتعلة، لحظة صارت عقولهم تقصفني بأسئلة مشاغبة مثيرة على الدوام، أرى ضمائرهم تكتوي بالغيرة على الضحايا، وقلوبهم تتطلع إلى كل ما هو جميل في هذا العالم، وأرواحهم تشتعل بجذوة أبدية لا تنطفئ، تنشد الخير والسلام في العالم. وهم يزعزعون الأساسات، وينتهكون ما أدمنتُ عليه، بوصفه أخلاقًا، فيثيرون فيَّ الرعب والفزع، غير أني أستفيق وأهدأ لحظةَ أستحضر الوصية التربوية الفائقة الأهمية، المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا تُكرهوا أولادَكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم.»١

(٢) الأقدار ترسم خارطة الحياة ومصائرها

التاريخُ يصنعُ الإنسانَ أكثر مما يصنعُ الإنسانُ التاريخ. أقدارُ كل واحد من البشر، والمحطاتُ التي تمر فيها مسيرةُ حياة كل فرد، هي ما يصنعُ شخصيته ويرسم ويلوِّن صورته. ما ينتجه الإنسانُ يعود ليمتلك الإنسانَ؛ التقنيةُ أنتجها الإنسانُ فعادت لتمتلكه، حتى ما لم يكن ماديًّا من أفكار ومعتقدات وأيديولوجيات تعود لتمتلك الإنسان.

عشتُ طفولتي وفتوتي في القرية، ثم تنقلتُ منذ شبابي في مدن وبلدان عديدة. انخرطتُ في التعليم الحديث، الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، وانتقلتُ إلى الحوزة في النجف ثم حوزة قُم. أكثرُ البلاد التي عشتُ فيها سنواتٍ طويلة لم أذهب إليها باختيار وتخطيط مسبق، فجأة أجدُ نفسي في أماكن قادتني إليها أقداري. اضطُررتُ للفرار من وطني العراق إلى الكويت نهاية شهر مارس سنة ١٩٨٠م. في ديسمبر ١٩٨٣م اضطُررتُ للفرار مجددًا من الكويت إلى سوريا، ثم منها إلى إيران، بعد أن مكثتُ في دمشق ثلاثة أشهر. في إيران كانت حوزةُ قُم هي المقام الذي أمضيت فيه أطول مدة في حياتي.

انتميت لحزب الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، في ظروف هي الأشرس والأعنف في ملاحقة البعث الصدَّامي للدعاة، نهضت بمسئولية الحزب في مدينة الرفاعي وقتئذٍ، ثم أصبحت عضوًا في اللجنة المركزية للحزب بالكويت مدة إقامتي هناك، إلى مغادرتي الكويت نهاية سنة ١٩٨٣م، ثم أصبحت عضوًا في لجنة الدعوة في سوريا حتى مغادرتها، للالتحاق بالحوزة مجدَّدًا في قُم، سنة ١٩٨٤م. ابتعدت تدريجيًّا عن التنظيم، إلى أن أعلنت انقطاعي التام عن الحزب بداية سنة ١٩٨٥م، حين بدأتْ أدلجة الدين والتراث تضمحل في وعيي، من دون الدخول في صراع أو معارك، أو انشقاق يفتش عما هو أصيل، ويندد بما هو دخيل، مثلما فعل بعض رفاقي، وبالتدريج نأيت عن العمل السياسي، وانصرفت للمشاغل الفكرية. كان وما زال يهمني الاحتفاظ بما هو إنساني في عَلاقاتي الاجتماعية وصداقاتي التاريخية مع أولئك الناس الذين أمضيت معهم تجرِبة من أخصب تجارِب حياتي.

أحاول في عمل لاحق التحدث بإسهاب عن محطة حياتي المثيرة هذه، وهي محطة بالغة الأهمية، أضافت لحياتي الكثير، وأغنتها بنمط آخر من العَلاقات الاجتماعية، وتفكير وفهم مختلف لرسالة الدين ووظيفته في الحياة، لا يتطابق مع مضمون الدين الذي ارتضعته من أمي، وبيئتي الريفية الإيمانية الفطرية البسيطة. إنه فهم تعبوي أيديولوجي تحريضي، يطغى فيه الخطاب المناهض للظلم والاستبداد السياسي، ويتقن إيقاد العاطفة والمشاعر على حساب متطلبات الرُّوح.

تدربت على العمل السياسي السري، والترويض على الطاعة والانقياد والولاء، والتعاطي مع الأدبيات الحزبية كنصوص جزمية يقينية، لا يمكن التفكير بنقدها فضلًا عن نقضها ورفضها. وهي أدبيات معظمها: وعظية، تبجيلية، تعاليمها مبسطة، بمستوًى لا يتفوق على مستوى تلامذة الإعدادية، لا تتضمن رؤية فسيحة للحياة، ولا تغور في عوالم الكائن البشري الجوانية الغاطسة، ولا تشي بفهم دقيق للحقوق والحريات والمواطنة والدولة الحديثة. الكثير منها كتابات يُنهكها فائض لفظي، لا تخلو من طوباوية خيالية في تفسير الواقع، تستغرق في الحديث عن أحلام تبلغ حد أوهام، تغذي خيال الضحايا المعذبين، وأشواق أرواحهم للأمن والعدالة والسلام والسعادة المتخيلة في وطن يحكمه صدَّام، وطن يضج بالعنف والظلم والاضطهاد.

في العمل الحزبي افتقدتُ ذاتي، كنت أرى بعض رفاقي كما أنا، كلنا تائهون، لم يعبأ أحد منا بذاته، وحياته الرُّوحية الأخلاقية، كأننا في سكرة يتعذر علينا الاستفاقة منها. التربية في الأحزاب والجماعات تتمحور عادة على تنميط الذات، وتحويل كل الأعضاء إلى نسخ متماثلة، رؤيتهم للعالم واحدة، آراؤهم واحدة، مفاهيمهم واحدة، مواقفهم واحدة، أحلامهم واحدة، مشاعرهم واحدة، حساسياتهم واحدة، مِزاجهم واحد. بنحوٍ تضيع معه لديهم كافة الملامح والسمات الشخصية للذات. الموهوبون الشجعان سرعان ما يحطمون الأغلال، فيتمردون على ضياع الذات. لكن الخائفين يلبثون داخل الأسوار، لذلك نجدهم يتهافتون على كل صوت يتكلم نيابة عن جروحهم العميقة الدفينة، ويبوح بأنينهم الصامت.

لم أعثرْ على ذاتي، وأرَ ضوءًا يكشف لي الأشواك في دروب حياتي، وأعِشْ سلامًا تبتهج به رُوحي، إلا بعد مغادرة السياسة، والابتعاد عن العمل في هذه الجماعات، والخلاص من مسالكها الوعرة المتعرجة الموحشة.

أعود لهذه المحطة في كتابات لاحقة، لتحليل خطاب أدبياتٍ سرقتْ سنوات الحيوية والتوقد من حياتي، وأغرقتني بأوهام متخيَّلة، كنت أحسبها حقائق نهائية، وكرستْ لدي نرجسية طاغية، غذَّتني والشباب مثلي بتنزيه الذات والشعور الزائف بالاصطفاء والتفوق على غيري. أحاول الإشارة إلى شيء من خفايا الحياة الداخلية للحزب التي عشتها، وما ظل مترسخًا منها لدي من سرية وتكتُّم.

امتدتْ صداقاتي مع مختلِف الناس. كان وما زال هاجسي في بناء العَلاقة التقارب في المشاعر، واحترام الخصوصية، من دون اشتراط وحدة الرؤية للعالم، أو المعتقَد، أو المفاهيم. العدالة بمفهومها الفقهي ليست شرطًا في صداقاتي، التديُّن ليس شرطًا، الإيمان ليس شرطًا. ربما انجذبت بشدة لمن يختلف معي أكثر ممن يشبهني، تعلمت من المختلِف الذي طالما استفز عقلي، وحرَّضني على التفكير، وإعادة النظر في بداهاتي وجَزْمياتي ومسلَّماتي. أحاول ألا أعامل الناس كما هم أو مثلما يعاملونني، لأني لو عاملتهم كذلك ستجتمع في شخصيتي كل صفاتهم المتضادة، أحرص أن أعاملهم بما أُحب أن يعاملونني به.

احتجت إلى التضحية بسنوات طويلة من عمري، وتجارِب مريرة، وتمارين موجعة، ومراجعات نقدية متواصلة لسلوكي، حتى شُفيت من كثير من أخطائي وتشوهاتي وعاهاتي. ذلك ما يدعوني لتفهم مواقف الناس وردود أفعالهم وسلوكهم المزعج، أحاول التماس الأعذار للغير، والبحث عن الدوافع الكامنة لمواقفه وسلوكه، لأتفهم بواعث ما يصدر عنه من سلوك شرير، قبل إدانته والحكم عليه وتجريمه. وإن كنت لا أمنحه شهادة براءة على جرائمه، وانتهاكاته لحقوق البشر، وعدوانه عليهم، مهتديًا بما ورد في نهج البلاغة عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه.»٢

أنا قارئ قبل أي شيء آخر، الكتب التي تُغويني وأستمتع بمطالعتها من ذلك النوع الذي يحدث مفرقعات وانفجارات في ذهني، أشد الكتب إغواءً أشد الكتب إثارة. سرقتني المطالعة من الحياة، حرمتني من ملاعب الطفولة والصبا، غيبتني عن الرياضة وانخراط الناشئة والشباب في ملاعب كرة القدم ومسابقاتها. لا أعرف حتى هذه اللحظة التعاطي مع أية لعبة رياضية، لم أنفق أي وقت للكرة، حينما كان يلح عليَّ زملائي في المدرسة مشاركتهم اللعب، كنت أفشل أكثر من مرة في مسك الكرة باحتراف واللعب بها، هكذا كنت مع كرة: السلة، الطائرة، المنضدة، فضلًا عن كرة القدم. أنا أميٌّ في ثقافتي الرياضية، أجهل بداهات الرياضة وفنونها، وطالما كنت موردًا للتهكم من أبنائي، حين أستفهم عن تلك البداهات.

(٣) ملَّكتني الحوزةُ مفاتيحَ التراث

الحوزة هي المحطة الثالثة، أعتز بهذه التجرِبة، التي بدأت عام ١٩٧٨م وما زالت متواصلة، على مدى أكثر من أربعين عامًا. تَلمذْتُ على يد علماء وفقهاء معروفين، وتتلمذ على يدي المئات من طلاب الحوزة. وبموازاة ذلك واصلت تعليمي الأكاديمي، حتى ناقشت الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية سنة ٢٠٠٥م. اكتشفت في الحوزة مسالك التراث ودروبه المتشعبة، وتذوقت فيها لذة النصوص الفلسفية والعرفانية، وغموض وتلغيز بعض مدونات أصول الفقه والفقه الاستدلالي … وغيرها.

نمتلك في الحوزة مفاتيح التعاطي مع المعارف التراثية، في مراحل ثلاث، هي: المقدمات، السطوح، البحث الخارج. تستوعب هذه المراحل دراسة النحو والصرف والبلاغة، والفقه والأصول، وعلوم الحديث والتفسير، والمنطق والفلسفة، والعرفان، وعلم الكلام.

ندرس كلاسيكيات النصوص، ونتمرن سنوات طويلة على تفسيرها، وتفكيك ألغازها، وإعادة ضمائرها إلى ما تشير إليه؛ ربما يعود الضمير فيها إلى صفحة أو أكثر تقدمت، ونغور فيما تحيل إليه من مضمرات ومعان حافلة يتسع لها فضاؤها الدلالي. عادة ما نعود إلى الحواشي والتعليقات والشروح كي نفهم المتون. ظلت أكثر تلك الحواشي والتعليقات والشروح مرسومة بأشكال هندسية بارعة، على حافات صفحات الكتب المطبوعة على الحجر، منذ بداية ظهور الطباعة في بلادنا حتى منتصف القرن العشرين.

الحوزة بنية عميقة لاهوتيًّا وروحيًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، تتشكل فيها سلطة ذاتية، تضبط إيقاع وانسجام مكوناتها، وتردع كلَّ مسعًى يهدد هذه البنية أو يتحرش بها.

في الحوزة سلسلة من البيوتات والعوائل الدينية، تتشابك في نسيج قرابات منذ عشرات السنين، وبعضها منذ مئات السنين، يضاف لها على الدوام روابط جديدة، عبر زواجات ومصاهرات بين الأجيال الجديدة لتلك العوائل. تمتلك هذه العائلات الرصيد الأغنى لرأسمال الحوزة الرمزي.

أغنت الحوزة حياتي بتجارِب ثرية متميزة، في مجتمع نسيجه متشابك، تُصنع فيه الألقاب الدينية، وتُمنح فيه المراتب العلمية، وتُخلع فيه العناوين الدينية، في سياق تقاليد ترتبط عضويًّا برأسمال رمزي، ومخزون ثقافي رُوحي متراكم منذ مئات السنين. لاحظت أن من كتبوا عن الحوزة من خارجها فشل أكثرهم في التوغل في بنيتها التحتية الراسخة، ليكتشفوا نسيج العوامل الراقدة فيها، التي تساهم في توليد ما يحكمها من قيم وتقاليد متجذرة، ونوع الروافد التي تستقي وتتغذى منها استمراريتها.

لم يكن سهلًا على ابن فلاح مثلي، جاء من تقاليد مجتمع القرية البسيط، ومن طبقة فقيرة مهمشة، أن يندمج في نسيج الحوزة، لينتزع اعترافًا، ويصبح عنصرًا فاعلًا مؤثِّرًا في هذا المحيط العميق، خاصة وأن الإنسان مشدود في اللاشعور لبيئته الأولى. الحوزة بيئة مجتمعية لا تشبه في تقاليدها حياتي الماضية الأخرى في القرية، أو التعليم الحديث الذي تدرجتُ في مراحله، أو العمل الحزبي السري الذي استنزف سنوات العنفوان والحيوية في شبابي.

دراستي في الحوزة أضاءتْ آفاق رؤيتي للماضي والحاضر والمستقبل. طالما اشتكى بعض تلامذتي، من أبناء عمال وفلاحين وموظفين فقراء مثلي، إثر صدمتهم ببعض ما يتفاجئون به في الحوزة، ودهشتهم من غرابة مواقف وممارسات بعض أساتذتهم، وبعض زملائهم من أبناء الأسر الدينية، التي تتوارث المقامات فيها والألقاب. كنت أشدِّد على ضرورة مكوثهم واستمرارهم في التعليم الديني، من أجل مستقبل أهلنا في العراق ومجتمعنا، الذي لا يصغي وينقاد إلا لرجل الدين أو شيخ العشيرة.

الوفاءُ للموروث والارتهانُ في مداراته، بكلِّ ما يكتنفه ويحتويه، هو السمة الطاغية في كلِّ ما تهتم به الحوزة، وما يسود مشاغلَها. إنها تحرص على صيانة وحراسة التراث، وتناهض المساعي للتَّفلُّت من شباكه، والتحرر من مداراته المغلقة. معاهدُ التعليم الديني والحواضر العلمية الأخرى كالأزهر تتحكمُ فيها تقاليدُ الوفاء للموروث ذاتها المعروفة في الحوزة، تطلق أحكامًا قاسية، قد تصل للاتهام بالإلحاد، على الاجتهادات الشجاعة الخارجة على ما ورثته. ‏يتذكرُ الشيخُ مصطفى عبد الرازق موقفَ الأزهر من دروس أستاذه الشيخ محمد عبده، فيقول: «كنتُ طالبًا من صغار الطُّلاب أيام جاء الشيخُ محمد عبده إلى الأزهر، وكان أساتذتُنا — عفا الله عنهم — لا يفتئُون يذمُّون لنا الشيخ، ويمثلونه خطرًا على الدين دائمًا، فتتأثر بذلك عقولنا الطِّفلة، وكنتُ أفرُّ بديني من أن ألقى الأستاذ، أو أستمع إلى دروسه، مع أنه صديقٌ لوالدي، وحضرتُ درسَه مرة، لأشهد كيف تشبه دروس الملحدين، وتشبه معها عقولهم وقلوبهم، فلما رأيت الرجلَ بالرُّواق العباسي، وسمعته يفسِّر كتابَ الله، قلتُ منذ ذلك اليوم: اللهم إن كان هذا إلحادًا فأنا أول الملحدين.»٣ مَنْ يجتهد في تعريف الدين ويقرأ نصوصه خارج ما هو مكرر في التراث، يُتهم بما كانوا يتهمون به الشيخ محمد عبده في الأزهر، وإن كان من أطهر الناس وأصدقهم إيمانًا.

تحذر الحوزة وتقلق من توظيف المعارف والعلوم الحديثة في نقد وغربلة وتشريح التراث، أو استخدام مناهجها ومفاهيمها في قراءة النصوص الدينية، ذلك أن هذا النمط من المناهج والمفاهيم ينتج مفاهيم ومقولات وآراء، لا تتطابق مع ما تقود إليه المناهج والمفاهيم التراثية، في: علوم القرآن والتفسير، والحديث، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والفلسفة، والتصوف، والعرفان.

الفكر لا يغيِّره إلا فكر من الخميرة ذاتها، تجديد علوم الدين يعتمد على استكشاف المنطق الذاتي لها واستيعابه، غير أن هذا الاستيعاب لا يعني الغرق في أنفاقه، بل العمل على الالتحاق بالعصر، والسعي لعبور التراث وتخطيه، وذلك لا يتحقق إلا باستيعاب الخبرات والمكاسب الراهنة للعقل البشري، وما أنجزتْه المعارفُ والعلومُ الحديثةُ، والإفادة منها في فهم وتفسير النصوص، وإعادة بناء المعرفة الدينية، في سياق متطلبات العصر ورهاناته.

المعرفة الدينية حقل من حقول المعرفة، تخضع لشروط الإنتاج العامة المولِّدة للمعرفة البشرية، وتحكمها القوانين والمشروطيةُ التاريخيةُ واللغويةُ نفسُها، وليستْ هي الاستثناء الوحيد في عملية التفكير وإنتاج المعرفة. تشملها مناهج البحث في سياق المعارف البشرية كافة، ولا يصح علميًّا أن نَعدَّها الاستثناء الوحيد الذي لا يخضع لأية مناهج ومفاهيم يكتشفها ويطورها الإنسان باستمرار. علوم الدين في الإسلام؛ من تفسير وعلوم قرآن، وعلوم حديث، وأصول فقه وفقه، وعلم كلام، وفلسفة وتصوف، وُلِدَتْ وتطوَّرت في فضاء المعارف البشرية السائدة في عصرها، حتى أضحت قواعدُ المنطق الأرسطي قوالبَ يصاغ فيها العقلُ الديني، وتتحدد في سياق هذه القواعد وجهته، ويرتسم فيها اتجاه بوصلته، وما زالت علوم الدين مرتهنة لقواعده وطرق استدلاله وبرهانه حتى اليوم.

أحاول أنْ أتحدث عن هذه المحطة بتفصيل أوسع، يشي بما أضافته لي الحوزة، مثلما يشي بمعاناتي وجيلي في سنوات مكوثنا فيها، تلامذة وأساتذة. أترك ذلك للمستقبل، عساني أتجرأ على تضمين مذكراتي اعترافات شجاعة يومًا ما. لو لم أُمضِ كل هذه السنوات في فضاء تلك التجارِب لا يمكن أن أتحرر من سطوة التراث وسلطته وقيوده، ومقاومته الشديدة لأي فعل للتغيير.

(٤) حياتي الرُّوحية والأخلاقية

مشكلة مجتمعنا أن من يتشبثون بالماضي من أتباع الجماعات الدينية لم يعرفوا أنفاق التراث، ولم يكتشفوا مسالكه الوعرة. رؤيتهم صاغتها أدبيات الكثير منها: رومانسية، لا تقول معنًى، بقدر ما تُنشد شعرًا يثير المشاعر ويحرضها، يطرب له الحالمون بعالم متخيَّل سعيد، و«جيل قرآني فريد»، حسب تعبير سيد قطب.

خلاصي من سطوة التراث ليس بمعنى الخروج على الدين، أو الخروج من الدين، أو التحلل من التدين، والتبجح الزائف بما يجرح الضمير الديني للناس، مثلما يفعل بعض المتنطِّعين المراهقين.

تعلمت من الإنسان والتاريخ والواقع أن الدين أبدي في الحياة البشرية. الإنسان كائن متدين، وإن اختلفت تجليات التدين، وتباينت التعبيرات الدينية في حياته، تبعًا للزمان والمكان والثقافة، وتنوع البشر واختلافهم. الحياة لا تطاق من دون إيمان وحياة رُوحية. التدين كما أعيشه يمثل لديَّ ظمأً أُنطولوجيًّا لا يُروى إلا من خلال التواصل مع الحقِّ تعالى.

حياتي الرُّوحية الأخلاقية هي أثمن رصيد أمتلكه، يمكنني التفريط بكلِّ شيء إلا بالإيمان، والأخلاق، والإنسانية، إنها ثوابت شخصيتي الأبدية. تفكيري، بل كل شيء في حياتي يخضع للتحول والتغيير، ذلك أن عقلي لا يكفُّ عن التساؤل والمراجعة والنقد والتقويض والغربلة، لكن ضميري الديني يتمثل في هذه العناصر الثلاثة المتضامنة: «الإيمان، والأخلاق، والإنسانية»، انطفاءُ أي منها يعني انطفاءها بتمامها.

في حياتي لا إيمان بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا إنسانية. لا أزعم ألا إنسانية وأخلاقًا خارج إطار الإيمان لدى البشر، فقد عشت مع أخلاقيين وإنسانيين نبلاء خارج إطار الأديان، لكن في شخصيتي: الإيمان، والأخلاق، والإنسانية كلٌّ مترابط. الأخلاق والإنسانية في حياتي تجد دلالتها في أن: الأخلاق تعني تحمُّل المسئولية تجاه الإنسان الآخر، والإيمان تحمُّل المسئولية تجاه الله. هذا ما أعنيه ﺑ «الإنسانية الإيمانية» بوصفها تحمُّل المسئولية تجاه الإنسان والله. هذا ما أفهمه من الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض. خلصتُ من كلِّ تجارِب حياتي إلى أن الإنسانَ الوحيد الذي يمكن أن أُراهن عليه في كلِّ شيء في الحياة هو مَنْ يمتلك ضميرًا أخلاقيًّا يقظًا، بغض النظر عن دينه ومعتقده وقوميته وموطنه وثقافته وهويته. إنسانيةُ الإنسانِ تتجلى في الأخلاق، وإيمانُ الإنسانِ يتجلى في الأخلاق، ودينُ الإنسانِ يتجلى في الأخلاق.

كلما اتسعت خبرتي بالنصوص الدينية أشرق إيماني، وتنامى حسي الأخلاقي، وتعمقت نزعتي الإنسانية. بالرغم من احترامي لأصحاب الحياة الرُّوحية كافة، غير أني لا أتذوق حلاوة الإيمان، ولا تضيء التجرِبة الدينية رُوحي، من دون أداء الصلاة والتمسك بالتقليد العبادي المستمد من الإسلام وشريعة نبيه الكريم «ص». الصلاة والعبادات التي أؤديها هي معراج وصالي مع الحق، وهي جسر عبوري إليه في مدارج التسامي والصعود. وحسب تعبير المتصوفة والعرفاء: الشريعة توصلنا إلى الطريقة، والطريقة تقودنا إلى الحقيقة، فحين نتخلى عن الشريعة لا ننال الطريقة، وبالتالي لا نتذوق الحقيقة.

(٥) التحلي بشيء من الغفران

تجرِبة حياتي تُختَصر في أن السلام الرُّوحي الذي أعيشه إنما تحقق لحظة أصبحتْ حياتي صوت غفران، يتحدث إلى ضوضاءِ عالمٍ يضجُّ بكل هذا القبح والعداء والتعصب والدم المسفوح. قلبي يمحو كلَّ غلٍّ وحقد، كي لا يتسمم فيموت. أخلاقي يغذيها على الدوام العفو والعبور والتغافل، ويكرِّسها مداواة الإساءة بالإحسان. أحرص باستمرار على تطهير ضميري مما يلوثه من أحقاد. تحدثت لأحد أولادي عن رسائل غاضبة لا تخلو من هجاء تصلني أحيانًا، فقال: هذه وثائق مهمة أريد الاطلاع عليها. قلت له: اتخذت قرارًا صعبًا على نفسي، منذ أكثر من ٣٠ سنة، أن أمزِّق الرسائل الورقية حين كانت تصلني سابقًا، وأن أمحو كلَّ ما يزعجني من رسائل إلكترونية. كلُّ شيء يمكن أن يورِّث كراهيةً أتخلص منه عاجلًا، كي أحمي قلبي وأطهِّره من الأدران. القلبُ حسَّاسٌ جدًّا تُمْرضه الأحقاد.

أبادر للصفح على الدوام، وإن كان الصفح لدي غير النسيان؛ لا أنسى مواقفَ البشر، لذلك لا أضعهم كلهم في سلة واحدة. أحرص أن أراهم كما هم، المحسن محسن، والمسيء مسيء، تمرَّنت أن أرى ما هو مضيء قبل ما هو مظلم فيهم، ما هو جميل قبل ما هو قبيح، ما هو إيجابي قبل ما هو سلبي، ما هو مريح قبل ما هو مزعج، كي أحاول رسم صوري لنفسي عنهم، تسمح لي بقبولهم والتعامل معهم كما هم، بلا معاناة وألم من عاهاتهم، أو نفور وقطيعة من عُقدهم.

الصفحُ غيرُ النسيان، النسيانُ لا إرادي، الصفحُ قرارٌ يتخذه الإنسان. كلُّ جرح عميق وشم للذاكرة لن يموت أو يُنسى. الصفحُ يعني امتلاكَ القدرة على تجاوز الأثر الذي تحدثه الإساءة، والتحرر من دائرة ردِّ الفعل التي يبقى الإنسان في الغالب أسيرَها وعيًا وسلوكًا. إلا إن خلاصًا كهذا لا يمحو ذاكرة الإنسان، ولا يقوم على محو الأثر الذي لا يُمحى. إن ذاكرة كهذه حين تنعدم تُفقد الإنسان القدرة على التمييز، وتُعجزه عن بناء وعيه الاجتماعي. أنْ أعرف الناس شيء، وأنْ أصفح عنهم شيء آخر. الصفح ليس سهلًا، وإن كان ضرورة للعيش المشترك، لأنه صوت غفران. الصفح أصعب من الثأر، لأن ما ليس من نوع الفعل أصعب مما هو من نوعه. الصفح فعل لا يشبه الفعل العدواني، الثأر رد فعل من نوع الفعل العدواني.

مساواة الصفح بالنسيان، أو إقامة عَلاقة شرطية بينهما، كما يرى البعض، يعود إلى أنهم يساوون: بين الأنا العقلي والأنا العاطفي، بين ذاكرة العقل وذاكرة العاطفة، بين منطق العقل ومنطق العاطفة، إذ يحسبون النسيان يعني انمحاء الأثر النفسي المترتب على الإساءة. يمكن تبريد رد الفعل العاطفي المشتعل بمرور الزمن، إلا إن النسيان غير ممكن. النسيان يعني فقدان الذاكرة، وفقدان الذاكرة يحوِّل فاقدَها إلى جاهل.

مثلما تتأسس المعرفة العلمية على التمييز والتشخيص والتصنيف ومراكمة المعلومات، هكذا تتأسس المعرفة اللازمة للحياة الاجتماعية. هكذا يقوم عقلنا بعمليات متكررة ودائمة من: التصنيف والتمييز، ومراكمة الخبرات الحياتية، لنكون قادرين على أن نحيا اجتماعيًّا حياةً سليمةً نحتمي فيها من الشر الأخلاقي.

أعيش سلامًا رُوحيًّا، لم أظفر به إلا بمشقَّة بالغة ومعاناة مريرة من جروح الأعداء المتطوعين، ومراجعة نقدية قاسية لتجارِبي ومواقفي وأفكاري، أَعَانَنِي على بناء هذا السلام تربيتي لذاتي على: الاعتراف بعجزي، والبوح بضعفي وهشاشتي، والجهر بفضح أخطائي، والإعلان عن تناقضات ومفارقات سلوكي.

علَّمتني تجارِبُ الحياة أن الاعتراف بالفشل، والتحري عن أسبابه هو بوابة النجاح، أدركتُ أنَّ الفشل الأخطر هو العجز عن اكتشاف الفشل، أو التنكر له. الاعتراف بالفشل يخلِّصُنا من تكرار الطرق الخاطئة بغية الوصول إلى أهدافنا، وبلوغ أحلامنا. يقال: جرَّب المخترع توماس إديسون آلاف التجارِب كي يضيء المصباح الكهربائي إلا إنه فشل. أصر وواصل تجارِبه، لم يفتر، لم ينهزم أمام اليأس، لم يتكاسل أو يغرَق في الإحباط، ويشعر بعدم جدوى تكرار هذا العدد المذهل من التجارِب. ظل على حماسه حتى أخرج البشرية من ظلام الليل، لينجز أحد أعظم أحلام الإنسان. يقول إديسون: «أنا لم أفشل، أنا اكتشفت عشرة آلاف طريقة فاشلة، لا يمكن للمصباح العمل بها». عبر إرادته الفولاذية وكدحه الأبدي، أصبح «إديسون رابع مخترع أكثر إنتاجًا في التاريخ، يمتلك ٢٤٣ براءة اختراع أمريكية تحمل اسمه، فضلا عن العديد من براءات الاختراع في فرنسا وألمانيا. كان له الفضل في العديد من الاختراعات، التي ساهمت في وسائل الاتصال الجماهيري، وفي مجال الاتصالات على وجه الخصوص. شملت تلك الاختراعاتُ مُسَجِّلَ الاقتراع الآلي، والبطارية الكهربائية للسيارة، والطاقة الكهربائية، ومسجل الموسيقى، والصور المتحركة.»٤

أدركتُ أنَّ العلم والمعرفة والحكمة والخبرة لا تحتكرها جماعة أو جنس بشري، أو يمتلكها شخص واحد، بل هي مبثوثة بين كل الناس، لكل منهم نصيب فيها على شاكلته، وحسب مسعاه ومثابرته، واستعداداته وقدراته.

علمت أن التعلُّم لا ينجز وعوده من دون الشغف بالتعلُّم المستمر، والإصغاء لكل معلِّم، مختص في مهنته، متقن حرفته، مهتم بمراكمة خبراته. كنت وما زلت أنشد الحكمة، وأسعى ما أمكنني كي ألتقط الخبرة، ولو كانت ومضة تشرق بها أذهان أميين، أو حكمة تصدر من أفواه مجانين.

احتجت إلى التضحية بسنوات طويلة من عمري وتجارِب مريرة وتمارين موجعة حتى شُفيتُ من كثير من تشوهاتي وعاهاتي وولعي بتنزيه ذاتي. قبل أكثر من ثلاثين عامًا دخلَتْ حياتي فضاءً جديدًا، تحررت فيه من بقايا ما ترسب في ضميري من السلبية والتعصب والعدوان حيال الآخر المختلف. لم أمتلك ذلك إلا بعد مراجعات ومكابدات ومعاناة شاقة، عملت فيها، أوَّلًا: على تحرير صورة الله في داخلي من الكدر الذي شوَّهها، والظلام الذي حجب نورها. وثانيًا: تطهير حياتي من بقايا سموم الكراهية وآثارها المريرة، حتى استطعت أن أحمي قلبي من ارتداداتها الفتاكة. ما سهَّل عليَّ هذا العبور الشاق، هو اكتشافي أن الحياة مليئة بالشر، وأن الإنسان كائن تمتلئ ذاته بالدوافع المختلفة، والرغبات المتضادة، وأن حياة الإنسان حلبة تدافع وصراع، لا يكف فيها عن توظيف مختلِف الوسائل بُغية بلوغ أهدافه، وغالبًا ما يتلفَّع ذلك الصراع بغطاء يخفي كل قبحٍ فيه، وتختبئ بخبث تحته الشناعات الممارسات المتوحشة.

أتفهم أن الاغتراب والعدمية والغثيان احتجاج باطني على قبح العالم، غير أن الدين بوسعه أن يخفِّض ذلك، ويؤمِّن للإنسان سلامًا للروح، عبر إرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدس — مثلما يمكن أن تؤمِّن له الفنون والآداب حاجته لتذوق الجمال، مضافًا إلى ما تهبه له العلوم والمعارف والتجارِب من حلول لمشاكل حياته — وما يقدمه له من سعادةِ تفانيه في إسعاد الإنسان، وحرصه المزمن على تبديد الظلام في العالم.

الحياة شبكة مصالح متبادلة. المصالحُ البشرية أعمُّ من المعنوية والمادية. عاشرتُ أُناسًا متغطرسين، لا يطيقون التعاملَ إلا مع مَنْ يدور في فلكهم، ولا يكف عن التصفيق لهم. يحترفون الذمَّ والهجاء والشتيمة، لو لم يعثروا على شخص مختبئ في ذاكرتهم يشتمون أنفسَهم، لا يتفوقون على سواهم إلا في تضييع الأصدقاء وصناعة الأعداء. يحسبون اللهَ خلق البشر عبيدًا لهم، يريدون من الناس كلَّ شيء، من دون أن يقدموا لأحد أيَّ شيء.

لقد علمتني الحياةُ أن للبخل طبائعَ شتى، فمنه: بخل اللسان، وهو ما واجهني به أقرب الخلان، إذ طالما ظل يتحدث بعضهم عن مناقبه ومثالب غيره، لكنه يبخل على الدوام بكلمة ثناء على منجَز جادٍّ ينجزه صديق له، بل ربما يزدريه، مثلما رأيت بعضهم يفعل ذلك أكثر من مرة، وهو لا يتوقف عن إعلان تفوق منجَزه على كل منجَز. ومنه: البخل بالمعروف والبر بالإنسان، وهو ما رأيته من كثير ممن عشت معهم محطات حياتي. ومنه: البخل بمساعدة المحتاجين، وتجاهل حضور صورة الله في جراحهم ولوعتهم.

أدركتُ أن امتلاك المال في حياة كل بخيل غاية لا تفوقها غاية، واكتنازه لذة لا تفوقها لذة. خلافًا للكريم الذي لا يشعر بامتلاكه المال وحضوره في حياته واستمتاعه به، إلا لحظة العطاء. الكريم يشعر بقوة العطاء، به تتحقق سعادته وتتكامل شخصيته.

وَفَّرَتْ عليَّ مواقف الغدر والكيد والتآمر، من بعض مَن كنت أحسبهم أقرب الأصدقاء، الكثير من الجهود في اكتشاف النزعات العدوانية الغاطسة في النفس البشرية، كما نبهني علمُ النفس الحديث إلى الدوافع المتضادَّة في النفس، وكيف تفضحها الهفوات والكلمات العابرة والنسيان وفلتات اللسان.

كل ذلك وغيره هتك شيئًا من طبقات الأقنعة الزائفة التي كانت تحجب عني الصورة الحقيقية للإنسان، ووفَّر لي القدرة على التعامل مع كل شخص بما يشبهه وينشده، لا بما يشبهني وأنشده. لا بمعنى النفاق في مواقفي أو تغييب شخصيتي، وإنما احترامًا لكرامته، وحذرًا من انتهاك خصوصيته. لم أحرص على أن يكون صديقي أو تلميذي أو ولدي نسخة محاكية لي، كما حرصت على الدوام ألا أكون نسخة لآبائي ولمعلمي وأصدقائي، دائمًا تبقى مسافة لن تتلاشى بيني وبينهم، هم هم، وأنا أنا. كل ذلك في إطار حياتي الرُّوحية الأخلاقية، ومعايير القيم الإلهية الرحمانية التي أدين بها.

(٦) المحبة والإيمان

أدركتُ أنه لا يلَذ العيش إلا بالخلاص من الفهم التبسيطي للواقع. وأن رؤية الوجود بعين واحدة تحجب جماليات الوجود، وأن الحياة لا تطاق من دون تذوق هذه الجماليات.

علَّمتني الحياة أن الإنسان تنضب طاقتُه الإيجابية، وتذبل حياته، من دون تربية الرُّوح على استكشاف بؤر الضوء، وإن كانت شمعة في لجج الظلام. كذلك تعلَّمت ألا جمال كجمال القلب، جمال القلب يختصر كل جمال، جمال القلب يخلع على كل شيء صورة جميلة، جمال القلب يكشف لنا ما هو مختبئ من جماليات الوجود.

لا تطاق الحياةُ بصحبة من يفتقد القلب، القلب مرآة العاشق، مَنْ يظفر بقلبٍ عاشق يظفر بذاته. ذات العاشق مضيئة، لغة العاشق مضيئة، تضيء للحياة معناها وتبوح بأجذب أسرارها، تمنح الحياة نكهتها. فاقدو القلب محنَّطون، نتخيل أنهم أحياء لكنهم ميتون.

اكتشفت أن العلاج بالكلمات المضيئة الجميلة الصادقة، يشفي شيئًا من أمراض الرُّوح والقلب والأخلاق. هذا الجنس من الكلمات يختصر المسافات الشاسعة البُعد بين البشر، ويداوي الأرواح المعذبة. ‏مَنْ كان صادقًا مع نفسه، صادقًا مع الناس، صادقًا مع ‏الله، تتذوق الأرواحُ الصافية المحبةَ الإلهية في كلماته.

أخصب دروس حياتي تتلخص في معرفة الأشياء بأضدادها، من حروب الأديان تعلمت أن الله ليس عدوَّ الإنسان، وأن الدينَ صوتُ صفح وإحسان، وأن الإيمان صوت غفران.

نواميس الأخلاق الكونية علمتني: أن الكراهية لا تُنتج في علاقتي بالآخر إلا كراهية مضاعفة، تُمْرِض القلب، وتُسَمِّم الرُّوح، وأن الحبَّ لا يُنتج في علاقتي بالآخر إلا حبًّا مضاعفًا، يشفي الرُّوحَ، ويُبهج القلب.

رأيت كلَّ إنسانٍ ما أحبَّ، كل إنسان هو ما كره. يصير الكائن البشري صورةَ ما أحبَّ، وصورةَ ما كره. مثلما المرض عدوى، الحب أيضًا عدوى، الكراهية عدوى.

تعلَّمت أنه ليس بوسعي الاحتماء من الاغتراب، الذي يجتاح حياة كل الإنسان، والشعور بالأمان إلا بالمحبة والإيمان. رأيتُ أن لا شيء يكتفي بذاته كالمحبة، فإنها لا تحتاج إلى ما يثريها، إنها الوطن الذي يمنحني في اللحظات الكئيبة السكينة، وفي لحظات الخوف الأمان.

لا تُمتَلك المحبة وتتكرس إلا بالتدريب على حب المحبة. حب المحبة يغذِّيه العمل المزمن على منح المحبة للغير، ذلك أن ماهية المحبة هي العطاء، بالعطاء المتواصل يتحول جوهر الذات يومًا ما إلى محبة، وذلك مقام لا يصله إلا الأفذاذ من ذوي الحياة الرُّوحية الأخلاقية الثرية.

(٧) القلب/العقل، مساران

الدين الذي أعتنقه هو الإسلام الرحماني الأخلاقي، الدين فيه هو الحُبُّ والحُبُّ هو الدين. «المحبة أصل الموجودات»٥ كما يقول ابن عربي. يكتب أبو العلا عفيفي شارحًا مفهوم المحبة لدى صاحب الفصوص: «الحُبُّ موجود على الدوام متبادل بين الحق والخلق. والشوق والحنين واللقاء موجود على الدوام أيضًا، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه إلى ذلك الحُبُّ الكامن فيه نحو ذلك الظهور. والخلق دائم الفناء، يدفعه إلى ذلك الحُبُّ الكامن فيه نحو التحلل من الصور والرجوع إلى الأصل.»٦
إن الشفقة والعطف على الناس تتقدم على الغَيرة على الله، يكتب محيي الدين بن عربي: «اعلم أن الشفقة على عباد الله أحقُّ بالرعاية من الغيرة على الله. أراد داود بنيان بيت المقدس فبناه مرارًا، فكلما فرغ منه تهدَّم، فشكا إلى الله، فأوحى الله إليه: إن بيتي هذا لا يقوم على يدَي من سفك الدماء، فقال داود: يا رب؛ ألم يكن ذلك في سبيلك؟ فقال: بلى، ولكنهم أليسوا عبادي؟ والغرض من هذه الحكاية مراعاة النشأة الإنسانية، وأن إقامتها أولى من هدمها.»٧

يتساءل بعض الزملاء: كيف تسنى لك المحافظة على تدينك، وتنمية إيمانك على الدوام، مع أنك تطرح أسئلة لاهوتية تتصدع معها أسيجة المعتقدات، وتمارس نمطًا من التفكير الديني العابر للطوائف والتعصبات المذهبية؟

مسار القلب لديَّ لا يتطابق مع مسار العقل؛ أي إن وجهته بموازاة العقل، إن كان للعقل وجهة أو مسار. قلقُ عقلي وأسئلته المتنوعة المتواصلة لم يزعزعْ إيماني، أو يُطِحْ بتديني، أو يهزمْ أخلاقي، أو يبددْ نزعتي الإنسانية. إيماني حالة وجودية لا أستطيع الإطاحة بها، حتى لو قررت التخلي عنها. إنها نحوٌ من الإشراق الرُّوحي الذي لا يمكنني توصيفه بوضوح، لأنه مما يوجَد، لا مما يُدرَك، وكما نصطلح في المنطق هو نوع من الحضور الوجودي الذي يتوطن القلب، وليس من جنس العلم والتصور والفهم المرتسم في الذهن. إنه نمط من المحبة أو العشق الذي يعيش فيه قلبي. لا يستطيع العاشقُ توصيفَ حالته بدقة لنا، ليس بوسعه التخلص من الوجد والهُيام، لو قدَّم له عقلُه عشراتِ الحُجج على خطأ عشقه وعيوب معشوقه — حسب كيركيغورد — فإن: الإيمان لا يفوق العقل فقط، بل يختلف عنه، لأنه حقيقة نفسية ليست آفاقية. يكتب كيركيغورد في بيان كيف أن البراهين الآفاقية لا تنتج الإيمان: «إن الإيمان في غنًى عن إقامة البرهان، أجل ينبغي للإيمان أن يعتبر البرهان خصمه اللدود.»٨
لو كان الإيمان أمرًا عقليًّا يتصدع وينهار بالتساؤلات الحائرة، والأفكار القلقة، لانهار إيمان أعلامٍ كبار من المتصوفة والعُرَفاء والفلاسفة. ففي تراثهم نعثر على إعلاء لقيمة «الشك»، وبيانٍ لأثره البنَّاء في الوصول للبصيرة والإيمان الراسخ. يقول الغزالي: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتَنْتدب للطلب، فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال.»٩
ورد في ميراث التصوف المعرفي ما يؤشر إلى تبجيل الحائرين وتمجيد «الحيرة»، وإن كان معناها لديهم يشير إلى الانفتاح على عوالم الملكوت، ويحيل إلى الجمال والكمال في الأسماء الإلهية، واغتراف السالك من ذلك الجمال والكمال غير المحدود. فقد أوردوا حديثًا منسوبًا إلى رسول الله «ص» قال فيه: «اللهم زدني فيك تحيرًا.»١٠ لو حاولنا أن نقارب مضمون الحديث من منظور لا يتطابق مع رؤية المتصوفة والعُرَفاء للعالم، ولوحاتهم المرسومة بعناية لمشاهد الربوبية وعوالم الملكوت، نجد في الحديث ما يرشد إلى أن الحيرة ليست كما نفهمها فهمًا مبسطًا، يراها تَيْهًا وضلالًا وعَمًى، الحيرة في رأيهم شعلة عقلية رُوحية عاطفية ملتهبة، تنشد إيقاظ الذات من غفوتها الطويلة، ويتجلى فيها نزوعها المزمن للكمال وإشراق البصيرة.

الإيمان كما أعيشه جذوة مشتعلة لا تنطفئ، بصيرة لا تخبو، نور باطني يضيء الرُّوح، حقيقة ملهمة لا تشع إلا من القلوب التي تسكنها، مَنْ يفتقدها لا يتذوق نكهتها.

أتفَهَّم أن الاغتراب احتجاج على ما يجده الإنسان من الشر، لكن خبرة حياتي ومطالعاتي، تقول: إن الحُبَّ والإيمان يحميان الإنسانَ من السأم والغثيان والشعور بقبح العالم. أتفهم أن الفنون والآداب تؤمِّن له حاجته لتذوق الجمال، مضافًا إلى ما تهبه له العلوم والمعارف والتجارِب والخبرات من حلول لمشاكل حياته، وما تقدمه له جهودُه في إسعاد الناس من غبطة، وما يهبه حرصه المزمن على تبديد الظلام لحياته من ضوء. لكنها كلها لن تكون بديلًا عما يمنحه الدين الذي يحمي الإنسان من الشعور بالاغتراب والغثيان، ويشبع حاجته المتجذرة للتكامل، وتوقه الأبدي لتأبيد وجوده وخلود حياته، وتمتلئ به رُوحه بالسلام. رغم ما يجتاح عالمنا من حزن، ويتجرعه من مرارة، ويغرَق فيه من ظلام، غير أن في الحياة بؤرَ ضوء يبحث عنها الناس، كي يستلهموا الحلم بغدٍ أجمل، ويتذوقوا ألوان صور خرائط الوجود المدهشة. بؤر الضوء هذه شخصيات رُوحية أخلاقية ملهِمة، متفائلة، مفعمة بحب الله والإنسان والعالم. عبر هذه الشخصيات الرُّوحية الأخلاقية الملهِمة يتحسس الإنسانُ وجودَ الله، كما يطمئن الإنسانُ أن للعالم إلهًا لا تغيب رحمتُه، ولا ينقطع لطفه، ولا ينضب معين عنايته. ويشعر أنه يمتلك معنًى للحياة، وسببًا للبقاء، ولديه ما يوصله بالسماء، ويحميه في الأرض. الثقة بالله وحب الله هما جسر العبور من الأرض إلى السماء، بهما يستطيع الإنسان مقاومةَ مواجع الحياة، ويقوى على تحقيق ذاته، وأن يكون هو.

الثقة بالله تبدد اليأس، تشفي المرء من الاكتئاب، تضيء ما هو مظلم في عالمه الجوَّاني، تبعث لديه التفاؤل، وتمنحه القدرةَ على عبور ما تمتلئ به دروب الحياة من أشواك. ليس هناك من وجع إلا ويمنح اللهُ المرء القدرة على احتوائه وتحمله. الأحلام الجميلة نرسمها لتعود ترسم لنا الألوان الجميلة لصورتنا. من جنس أحلامنا تصاغ حياتنا، وتتشكل رؤيتنا، وتتوالد مشاعرنا. اليأس والتشاؤم تمزقٌ ننتجه نحن ليعود فيمزقنا. فاقد الأمل يفتقد كلَّ شيء. المتشائم أعمى لا يرى في الحياة إلا الظلام، ولو تمكن من الإبصار يومًا ما فلا يرى إلا التشوُّهات والعاهات.

يرى المرء في الأشياء ما يريد أن يراه. المتشائمون مولعون بالظلام، يلتقطون كل شيء في العالم يوقد مواجعهم، ويجرح أرواحَهم. لا يغادر حياتَهم نكدٌ إلا إلى نكدٍ آخر، ينجذبون إلى من يتحدث عن الظلام واليأس والبكاء والحزن. لا يكفون عن هجاء قبح العالم، ولوم الكل، والتنديد بمن يختلف عنهم، الذي لا يبكي مثلما يبكون، ولا يمقت العالم كما يمقتونه. يَضجَرون من أي حديث عن المحبة والضوء والجمال والتفاؤل والابتسامة والغبطة. المتفائلون مولعون بالضوء، بصيرتهم ترى الألوانَ المرسومة بها خرائط العالم نورًا، يفضح ضوءُ قلوبهم قبحَ العالم.

كن عقلًا ترى العالم عقلًا، كن رُوحًا ترى العالم رُوحًا، كن قلبًا ترى العالم قلبًا، كن جمالًا ترى العالم جمالًا، كن حبًّا ترى العالم حبًّا، كن عشقًا ترى العالم عشقًا، لو كنتَ عاشقًا يصبح العالم في قلبك كله من المعشوق.

(٨) اكتشاف صورة الله في الإنسان

لاحظتُ أن انهيار التدين لدى بعض الشباب يرتد إلى غياب المثال المجسِّد للتدين الرُّوحاني الأخلاقي. ناقشتُ بعضَهم ساعات طويلة، لماذا يمضي إلى مَدَيات قصِيَّة في مواقفه السلبية من الدين، لم يعلن أحدٌ منهم أمامي إلحاده بالله، ولم يحاجَّني بنفي براهين المتكلمين على وجوده تعالى، وإنما اتفقوا جميعًا على أنهم يقرءون عن حياة رُوحية، ويسمعون حديثًا مكررًا عن مفاهيم أخلاقية، ومواقف إنسانية، غير أنهم قلما يعثرون على أمثلة تعبر عنها في مواقفها وسلوكها. إنهم يفتقدونها فيمن ينادون بها، ولا يرون ملامح صورتها في سلوكهم، ويندر أن يعثروا على من يهتدون بسيرته العملية، في المحيط الذي يدرسون ويعيشون فيه.

تنبهت إلى أن البواعث العميقة للتدين ترتبط عضويًّا بحساسيات ومشاعر الإنسان وعواطفه، وأن الإنسان بطبيعته لا يهتدي إلا بالقدوة العملية الملهِمة، تسقيه تلك القدوةُ الارتواءَ الرُّوحيَّ، وتمنحه السلامَ النفسيَّ، لحظة تغمره بالرأفة والشفقة، يشعر بالحماية والأمن في الحياة.

الناس كي يؤمنوا يفتشون دائمًا عن نموذج بشري مُجسِّد للإيمان المتصل عضويًّا بالحُب، والحُب المتصل عضويًّا بالإيمان. يحتاجون إلى مَنْ يُشعرهم بوجود الله وحضوره في حياتهم، لا من يثبت لهم وجوده كفكرة مجردة لا صلة لها بحياتهم، مثلما يدلل عليه المتكلمون واللاهوتيون. يحتاجون إلى من يوقظ أرواحَهم، ويوصلهم وجوديًّا بالله، بوصفه المنبع الحقيقي للطاقة الحيوية الإيجابية، التي يتغلبون بها على ذلك الوجع الأسود المتفشي في العالم، والذي لا تطيقه قدرةُ الإنسان من دون صلة بالله.

يشكو بعض الأصدقاء من هروب بعض الموهوبين في المعاهد الدينية إلى خارج الدين. أظن يقولون السبب يعود إلى ندرة عثورهم على إيمان مُجسَّد بإنسان، والإنسان المجسِّد للإيمان. يُرسل الله دائمًا وحيَه لرسول من البشر. الإنسان هو الناطق بالوحي قولًا وفعلًا. النبي الكريم «ص»: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ.»١١ لا يؤمن الإنسان بكتاب من دون مثال حسي يهديه ويزكيه ويربيه بسلوكه وأفعاله ومواقفه الحسية. آمن الناس بالنبي الذي كانت أفعاله وسلوكه الحسي «رحمةً للعالمين»، ثم بعد ذلك قبلوا الكتاب الذي جاء به. تجديد الصلة بالله يبدأ بتجديد الصلة بالإنسان. السبيل إلى الله يمر عبر رعاية عيال الله: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ.»١٢

تتجلى صورة الله لكل شخص من خلال جراحه. الفقيرُ يرى اللهَ في رغيف خبزه، المريضُ يرى اللهَ في دوائه، السجينُ يرى اللهَ في حريته، المعذَّبُ يرى اللهَ في نجاته، الغريقُ يرى اللهَ في نجاته … وهكذا.

الإنسان لا يمكنه الشعور بالله خارج إطار العَلاقة بالإنسان. ما يلهم الإنسان الإيمان هو اكتشافه صورة الله في الإنسان. الإنسان يريد إيمانًا حيًّا يمشي في الأرض، يعيش مثلما يعيشون، يتحسَّس أوجاعهم، يسقيهم مطر الرحمة الإلهية بما تُفيضه نفحات رُوحه عليهم. يتضامن معهم في كل ما يُنهك أرواحهم، ويجتاحهم من عذابات، ويسود عالمهم من آلام. الناس لا يستطيعون العيش من دون عطف وشفقة وتراحم وحنان.

الأخلاقيون في كافة الأديان والفرق والطوائف دافئون جذابون، لأنهم يتدفقون شفقة وحنانًا على الإنسان، يمنحون حياته المعنى الذي تفتقر له. ذلك ما تجسِّده حياة نبينا «ص» وأخلاقيات سيرته وسلوكه الكريم، الذي يطبعه الرفق بالناس والعطف عليهم، والرحمة بهم. كانت سيرته مرآة ترتسم فيها القيم والأخلاق الربانية، كما تحدثت عنها الآيات القرآنية، فهو رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ،١٣فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.١٤ وهو مثال أخلاقي مجسَّد: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ.١٥ وإن هدف رسالته يتلخص في بناء الحياة الأخلاقية: «إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الْأَخْلاقِ.»١٦

(٩) حياتي عبور متواصل

ضَجَّت حياتي بمُشاكَسَةِ الأيام، والمواقف المتنوعة، والظروف المتغيرة، كنت وما زلت أقاوم قسوة الأيام بالإصرار على المضي حتى النهاية، مهما كانت الأشواك في دروب أحلامي. لم أهزم أشباح الموت إلا بالتشبث بإرادة الحياة. لم أتغلب على كلمات اليأس إلا بأناشيد الأمل. لا أغادر العمل إلا لعمل آخر، لا أتوقف أو أتعطَّل مهما كانت الصعوبات.

أدركت مبكرًا أنه مهما تخلَّقَ الإنسانُ وتهذَّبَ ينبغي أن تظل تربيتُه لذاته عمليةً يوميةً متواصلةً، لأن الإنسانَ كائنٌ لا يستطيع الخلاصَ بسهولة من الشر القابع في داخله، أو يتغلب على هشاشته، أو يتحرر من ضعفه. تربية الذات وتهذيبها لن تبلغ غاياتها القصوى أو تنتهي إلى مَدَياتها النهائية مهما امتد عمر الإنسان. سُلَّم تكامل الإنسان لا نهاية له.

تعلَّمتُ أن الحياةَ عبورٌ متواصلٌ. الشك هو الذي أَعبُر منه إلى اليقين، الخطأ هو الذي أعبر منه إلى الصواب، الجهلُ هو الذي أعبر منه إلى العلم، الظلامُ هو الذي أعبر منه إلى النور، الغموض هو الذي أعبر منه إلى الوضوح، التردد هو الذي أعبر منه إلى الإقدام، القُبْحُ هو الذي أعبر منه إلى الجَمال، الطَّيْشُ هو الذي أعبر منه إلى الوَقار، الحُمْقُ هو الذي أعبر منه إلى الحِلم، سوءُ الخُلُق هو الذي أعبر منه إلى حسن الخُلُق، البَغْضاء هي التي أعبر منها إلى الأُلفَة، الخِصامُ هو الذي أعبر منه إلى الانسجام، الغَفْلة هي التي أعبر منها إلى اليقظة، فائضُ الكلام هو الذي أعبر منه إلى الصَّمْت، الفشل هو الذي أعبر منه إلى النجاح، الضعف هو الذي أعبر منه إلى القوة، العَجْز هو الذي أعبر منه إلى القُدْرة، الهَشاشةُ هي التي أعبر منها إلى الصَّلابة، الوَهْنُ هو الذي أعبر منه إلى الحَماس، الكَسَلُ هو الذي أعبر منه إلى الكَدْح، الخُمودُ هو الذي أعبر منه إلى التَّوَقُّد، السُّكونُ هو الذي أعبر منه إلى الوَثْبَة، الماضي هو الذي أعبر منه إلى الحاضِر.

لا أتهيب المغامرة مهما كانت شاقة، ولو افتقدتُ أية وسيلة أستعين بأظفاري للحفر بين الصخور، والعض بأسناني لتفتيتها، كما هي عادتي، منذ مغادرتي بيت أهلي بعمر اثني عشر عامًا، واستقلالي في إدارة شئون حياتي، وتجرُّع مرارات أيامي. تنبهتُ مبكرًا إلى أن النجاح ليس ثمرة الموهبة وحدها، لأنه «لا شيء يأتي بلا جهد إلا الفقر». الموهبة بلا مثابرة بمثابة الألماس الغاطس في طبقاتٍ قَصِيَّة من الأرض، لا يتكشف إلا بالحفر العميق جدًّا. الحفر الذي تتكشف فيه الموهبة هو الجدية والمثابرة. بلا مثابرة لا تسمح ذاكرة الأيام أن تحمل بصمتنا. التاريخ لا يسمح أن يُخلِّد أي اسم لا يحفر توقيعه على الصخر بأظفاره، ولا ينحت صورته على الحجر بأسنانه.

من مهنة أبي في فلاحة الأرض، التي لن يبرح صاحبها الحقل إلى الليل كل يوم، ليعود إليه في الصباح الباكر كل يوم، تدربت من فلاحة الأرض حين أكتب لا أبرح الكتابة إلا للكتابة مجددًا، حين أقرأ لا أنتهي من قراءة نص إلا وأبدأ من جديد قراءة نص آخر، حين أعمل لا أنتهي من عمل إلا وأبدأ من جديد في العمل الذي يليه.

يسرقني عن التواصل مع الناس الإدمان على العمل. حاولت أن ألوذ بالكتابة، التي أجد فيها أحيانًا دواءً لشيء من جراح الرُّوح وشناعات العالم. كنت أعمل كل يوم نحو ١٢ ساعة، مشغولًا بتحرير النصوص والكتابة والقراءة. وبعد فراغي من كل نص أبدأ بتحرير نص آخر، وهكذا. لدي برنامج يغطي كلَّ ما تبقى من أيامي.

كل معلومة ورؤية تضمنها هذا النص، تشي بما تحفل به ذاكرتي، وتبوح بشيء من سيرتي الفكرية والرُّوحية والأخلاقية، متمنِّيًا أن تمنحني الأيامُ فرصةَ العودة إلى ما كتبته هنا، كي أعززه بما نسجته دروب أحلامي، ورسمته خرائط أيامي، وخطوات أقدامي الحافية التي لم يرهقها تراب الأزقة.

١  «لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم»، منسوبة للإمام علي. لم أعثر عليها بعد بحث في المصادر الروائية، يبدو أنها حكمة منسوبة لأكثر من واحد، فقد نسبها الشهرستاني في الملل والنحل إلى سقراط، وذكرها بالنص التالي: «لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.» الملل والنحل للشهرستاني، مؤسسة الحلبي، ج٢، ص٨٧. لاحظت أن أول من أوردها عن الإمام علي هو ابن أبي الحديد، بالنص التالي: «لا تَقسِروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.» ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، قُم، مكتبة المرعشي النجفي، ط١، ١٤٠٤ﻫ، ج٢٠، الحكم المنسوبة، ص٢٦٧، رقم١٠٢. وعنه، كما يبدو، نقلها جورج جرداق في كتابه: روائع نهج البلاغة، وأورد نسبتها إلى نهج البلاغة (بدل أن ينسبها إلى شرح نهج البلاغة)، واستبدل بكلمة «آدابكم» كلمة «أخلاقكم». كما أن محمد جواد مغنية يرويها كما يلي، من دون ذكر سند: «لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم.» محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، بيروت، دار العلم للملايين، ط٣، ج٢، ص٤٨١.
ينظر أيضًا: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، الرياض، مكتبة المعارف، ج٢، ص٢٦٥. وأيضًا: الكشكول للبهائي، تحقيق: محمد عبد الكريم النمري، بيروت، دار الكتب العلمية، ط١، ج٢، ص١٦٠.
٢  نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة ٥٨.
٣  أمين، عثمان، تاريخ الإمام محمد عبده، ١٩٤٤م، دار إحياء الكتب العلمية، القاهرة.
٤  ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
٥  فصوص الحِكم ١: ٢١٤.
٦  فصوص الحِكم ٢: ٣٢٧.
٧  فصوص الحِكم، الفص ١٨: فص الحكمة النفسية في الكلمة اليونسية، ص١٦٧.
٨  سورين كيركيغورد، أنفسي بودن حقيقت است، ترجمة: مصطفى ملكيان، مَجلة نقد ونظر، العدد ٣ و٤، عام ١٩٩٦م، ص٦٨.
٩  الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، ميزان العمل، حققه وقدم له د. سليمان دنيا، القاهرة، دار المعارف، ط١، ١٩٦٤م، ص٤٠٩.
١٠  تنقسم الحيرة عند المتصوفة والعرفاء، ممن يسكرون بالعشق الإلهي، إلى:
  • (١)

    حيرة مذمومة: هي الارْتِباك، والالتِباس، والتَّرَدُّد، والتِّيه، والضَّياع، والغُمُوض.

  • (٢)

    حيرة محمودة: هي ما يقع للسالك في السفر الثاني من الأسفار الأربعة، وهو «السفر من الحق إلى الحق بالحق». «وهو عالم الأسماء الإلهية، فلا يرى المسافر من الحق إليه وبه إلا هذه الأسماء، وهي كلها كمال وجمال، هنا يحتار ما الذي يغترف، وما الذي يدع». التحير المحمود لديهم منشؤه سعة دائرة الكمالات والأسماء الإلهية. فهو بمثابة من تُقدَّم أمامه مائدة شهية، فيها كل ألوان الطعام، وهو جائع، فيتحير أيَّها يأكل، وأيَّها يدَع. وكأن الحيرة هنا تئول إلى لون من الاهتداء والبصيرة. كتب محيي الدين بن عربي: «فالسكر الطبيعي سكر المؤمنين، والسكر العقلي سكر العارفين، وبقي سكر الكمل من الرجال، وهو السكر الإلهي، الذي قال فيه رسول الله «ص»: «اللهم زدني فيك تحيرًا.» والسكران حيران، فالسكر الإلهي ابتهاج وسرور بالكمال» (الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية، طبعة الميمنية الأولى، ج٢، ص٥٤٥). كما كتب محيي الدين بن عربي: «في الحيرة تاه الواقفون، وفيها تحقق الوارثون، وإليها عمل السالكون، وعليها اعتكف العابدون، وبها نطق الصديقون، وهي مبعث المرسلين، ومرتقى همم النبيين، ولقد أفلح من حار» (مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار البهية، ص٦٤). وانظر أيضًا: شرح مشاهد الأسرار القدسية، وهو من تأليف: ستُّ العجم البغدادية؛ متصوفة من القرن الثامن، كانت حيةً عام ٦٧٦ﻫ، ولم تكن تعرف القراءة والكتابة، ولم تدرس عند أحد، ومع ذلك ألَّفت ثلاثة كتب أو أكثر من الكتب المتميزة في التصوف، وكانت تملي على زوجها — وهو ابن خالتها أيضًا — ما يرد عليها في شرح الأفكار الصوفية. وورد نص محيي الدين بن عربي في كتابها هذا، الذي هو شرح لكتابه المَشاهد، نجد شرح هذه الفقرات في المشهد العاشر من الكتاب. ويقول ابن الفارض:

زِدْني بفَرْطِ الحُبِّ فيك تَحَيُّرَا
وارْحَمْ حشًى بلَظَى هواكَ تسعَّرَا
وإذا سألتُكَ أن أراكَ حقيقةً
فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرَى
يا قلبُ أنتَ وعدَتني في حُبِّهمْ
صَبرًا فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرَا
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
صَبًّا فحقُّك أن تَموتَ وتُعذَرا
قُل لِلَّذِينَ تقدَّموا قَبلي ومَن
بَعدي ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
عني خذوا وبيَ اقْتدُوا وليَ اسمعوا
وتحدَّثوا بصَبابتي بين الوَرى
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا
سِرٌّ أرَقُّ منَ النسيمِ إذا سرى
وأباحَ طَرْفِي نَظْرَةً أمَّلْتُها
فَغَدَوْتُ معروفًا وكُنْتُ مُنَكَّرا
فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ
وغدا لسانُ الحال عنِّي مُخْبِرا
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في محاسنِ وجْهه
تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
لو أن كُلَّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً
ورآهُ كان مُهَلِّلًا ومُكَبِّرا
١١  مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنئوط وعادل مرشد وآخرون، وإشراف د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط١، ١٤١٦ﻫ/١٩٩٦م، ج٤١، ص١٤٨، الحديث رقم ٢٤٦٠١.
١٢  هذا الحديث أخرجه الطبرانى في «المعجم الكبير»، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده»، كما جاء أيضًا في «مسند الشهاب» للقضاعي.
١٣  الأنبياء: ١٠٧.
١٤  آل عمران: ١٥٩.
١٥  القلم: ٤.
١٦  رواه البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، ج١٠، ص٣٢٣، الحديث رقم ٢٠٥٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤