التجرِبة الدينية والظمأ الأُنطولوجي
(١) التجرِبةُ الدينيَّة
التجارِب الدينيةُ متنوِّعة، تشمل: تجرِبةَ الانجذاب والهيبة، تجرِبة الاعتماد، تجرِبة الأمل، تجرِبة الحُبِّ، وغيرها. الإيمان يرتكزُ على هذه التجارِب، وأعمق وأشدُّ وأَثْرَى هذه التجارِب ما عاشها الأنبياءُ والأولياءُ والعرفاءُ والقديسون، إذ كانت لهم حياة رُوحيَّة متسامية، يسافرون عبرها للحق. التجارِب الدينية أعمقُ تجلِّياتِ الأديان، بوصفها النواة المركزية لروح كل دين.
فلسفة الدين وكذلك علم نفس الأعماق يهتمان بتفسير هذه التجارِب وتصنيفها، والكشف عن الحقيقيِّ والزَّائف منها، وكيفية تمييزها عن: الحِيَل، والشعوذات، والهلوسات، والاضطرابات، والتَّشَوُّهَات، والعُقَد، والجروح النفسية، والأمراض العقلية، والانهيارات العصبيَّة.
في ميراث التصوُّف المعرفيِّ أو العرفان النظري نعثر على شروح وتفسيرات، تضيء لنا: حقيقة التجارِب الدينية، وطبيعتها، وحدودها، وأنماطها، ووسائل تحقُّقها، وآثارها في بناء الحياة الرُّوحية، وبيان العَلاقة العضوية لهذه التجارِب بإرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدس.
«الظمأ الأُنطولوجي للمقدس» يعني افتقارَ الإنسانِ إلى ما يُثري وجودَه، ويكرِّس كينونته، ويمنحه وَقُودًا لحياته. حياة هذا الكائن تفتقر إلى طاقة داخليَّة تحركها، وتُشبع حاجتَه لما تمتلئ به كينونتُه ويُثري وجودَها، وما يكشف للكائن البشريِّ السر في وجوده، ويبوح له بتفسير الغموض الذي يكتنف مصيره، بالمستوى الذي يجعله قادرًا على التغلُّب على القلق الوجوديِّ الذي يجتاح حياةَ كل إنسان، بوصف هذا الكائن يتعطش للامتلاء بالوجود، كي يتخلَّصَ من الهشاشة، ويجعلَ حياتَه ممكنةً في عالَمٍ غارِق بالآلام، ويتسلَّح بطاقة وجوديَّة تجعلُه قادرًا على العيش بأقلِّ ما يمكنُ من المرارات والمواجع، ليخرج من القلق إلى السكينة، ومن اللامعنى إلى المعنى، ومن الظلام إلى النور.
التجارِب الدينية، بمختلِف مستوياتها وأنماطها، تختلف باختلاف البشر، وتجلِّي الإلهيِّ في البشري، كلُّ إنسان يرتوي منها حسب استيعاب ظرفِ وعائه، وقدرتِه على المثول في حضرة الله.
الحياة الرُّوحية للعُرَفاء تمثِّل البُعْدَ الأُنطولوجيَّ في الدِّين، وعمقَه وباطنَه. التجرِبةُ الدينية جوانيَّةٌ، غاطِسةٌ في الذَّات، متماهيةٌ معها، لا يمكن بلوغُها بأدواتٍ ووسائلَ حسيَّة. ربما لا تشير إليها ظواهرُ التديُّن الخارجيَّة، أو قد تشي بعكسِها أحيانًا، كما لدى بعض رجال الدين، الذين يؤشر خطأً، ما يمارسونه من عبادات وصلوات وقُدَّاسات وشعائرَ في المعابد، إلى عمق تجارِبهم الدينية، على الرغم من أن عالمهم الباطن مظلم لا صلة له بالله.
بعض كتابات محيي الدين والعرفاء فاضت بها لغةُ القلب، لغةُ القلب واحدةٌ في الأديان. العرفانُ يتحدثُ لغةً واحدة، جوهرُ الأديان يتكلمُ لغةً مشتركة تغذِّيها الحياةُ الرُّوحية. الكتابةُ بلغة العرفان ناطقةٌ بأسرار القلوب، عندما يتكلمُ القلبُ تصمت كلُّ اللغات. تكمن أهميةُ لغة الحلَّاج والنِّفَّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وأمثالهم من العرفاء في أنهم يتكلمون لغةَ الإيمان الحر، هذه اللغةُ عابرةٌ لكلِّ المعتقدات. الإيمان الحر يتكلمُ لغةً واحدة يتجلى فيها المضمونُ المشترك للأديان. المعتقدات تتكلم لغاتٍ متعارضة وأحيانًا متهافتة.
يستمد كلُّ إنسان فهمه من ذاته ووجوده الخاص، وأحكامه المسبقة، وأفق انتظاره. يتلوَّن الفهمُ على الدوام بفضاء الذات وخبراتها. لا يُفهم الإيمان إلا في فضاء الإيمان، ولا تُفهم الحياة الرُّوحية إلا في فضاء الحياة الرُّوحية، فما لم يتحقق الإنسانُ بهذه الحياة ليس بوسعه تقديم فهم لها. مثلما لا يفهم طبيعة الحُب إلا من يتذوق الحُب، لا يفهم البهجة إلا من تشرق نفسه ابتهاجًا بالنور، ولا يفهم القلق إلا من يمزقه القلق.
تفشل الكلمةُ في الإخبار عن ذاتها، فكيف تُخبِر عن أشواق الرُّوح. يستمد العشَّاقُ أشواقَ الرُّوح من الحق، تضيء قلوبَهم أنوارُ الحق، تمتلئ أرواحهم بوجود الحق، يغيبون في حضرته، يحضرون في غيبته، تصير غيبتُهم عن رؤيته رؤيةً، ورؤيتُهم غيبتَه غيبةً. كلُّ محبوب سواه هو، وكل ما تحسبه العينُ ليس هو، ببصيرة أنواره يراه القلبُ هو، وإن تمثَّلَ بوجودٍ سواه. يرتوي ظمأ العشَّاق، فيفيضون على سواهم، حيث يخط الحقُّ الأسرارَ على قلوبهم، تتحوَّلُ عناصرُ وجودهم إلى صفات الحق، لتكونَ بها هي. يفتقر سواهم لكلِّ ذلك، فيغرَقون في الوهم، ويتهافتون على كلِّ ما هو زائف، بُغيةَ إرواء ظمئهم الأُنطولوجي، الذي لن يرويه الغيرُ أبدًا.
مَنْ يعيشُ حالاتِ الرُّوح النورانية وإشراقاتِها البهيجة يجدُ العباراتِ تختنقُ في التعبير عن الحالات. الكلمةُ لا تبوحُ بمضمونها، فكيف تشي بحالاتِ الرُّوح وتساميها. يتسامى أحيانًا بعضُ أصحاب التجارِب الرُّوحية إلى حالاتِ نور بهيج في باطنهم، بنحوٍ يتلمسون فيه أنه كلما أمعن يقينُهم في أن يكونَ يقينًا، رأوا ببصيرتهم أن ما يحدثُ لهم هو الارتواء من حوض النور الذي لا ينضب. كأنهم اغتسلوا بالنور، وأبصروا بالنور، وعشقوا بالنور، بل صاروا نورًا، تلك هي رحلة العاشق إلى الحق. هكذا يتذوقون مراحلَ نمو صيرورتهم وتخلُّقهم، تبتسم لهم حنايا الكون كلما تأملوها. يشعرهم وجودُ الحق بفرحة قدومهم للارتواء من النور، تدلُّهم بصيرتهم على البؤر المضيئة في الإنسان، وتجليات جمال الوجود. يرون الظلام، لكنهم قادرون على أن يُشيحوا عنه نظرهم. ذلك النورُ هو منجمُ الصبر والصمت، وهو منبعُ السلام في أرواحهم والطمأنينة في قلوبهم. يرون الوجودَ مشرقًا بهيجًا، تترسخُ أُلفتُهم له وتذوقهم لتجلياته كلما اتسعت بصيرتُهم. تداوي تجلياتُه أحزانهم، وتخفف وحشتَهم وغربتَهم في الأزمات والصراعات والحروب والأوبئة.
(٢) الدين عبادة مشتقة من اعتقاد
الدين مكوِّن أُنطولوجي للكائن البشري. يرثه المرء من أمه وأبيه، مثلما يرث لون بشرته، وصفاته الجسدية وجيناته الوراثية. التحول من دين إلى آخر، يجعل الشخص يقبل الدين الجديد في أنساق دينه الأصلي، كأن المسيحي الذي يصبح مسلمًا، يُعلِّب الإسلام بأوعية مسيحية، وهكذا الهندوسي الذي يصبح مسيحيًّا يُعلِّب الهندوسيَّة بأوعية مسيحية.
هذه إشارة تضيء هذه القضية نراها في اللغة، نحن عندما نتعلم لغةً أخرى، ونقرأ نصًّا يعود لها، فإن ذلك النص يمر عبر نظام العلامات والدلالات للغتنا الأم، المترسبة في ذاكرتنا البعيدة، لذلك نحوِّل مضمون النص إلى المفهوم المتعارف في لغتنا الأم، أي أننا نقرأ في النص باللغة الثانية التي تعلمناها ما يحيل إلى لغتنا الأم، وما تشبعت به وتشبع بها من رؤيتنا الخاصة للعالم، وشبكة المفهومات المترسخة في ثقافتنا.
لكل دين عباداته وطقوسه وشعائره المشتقة منه، المتسقة مع الحياة الرُّوحية التي ينشدها. لا يتكرس الاعتقاد وينتج الإيمان اليقظ، من دون العبادة الخاصة بهذا الدين. ليس هناك اعتقاد وإيمان منبثق عنه من دون تقليد محدد للعبادة. لا إيمان بلا عبادات وشعائر مرسومة. لا إيمانَ إسلاميَّ بلا صلاة إسلامية. لا إيمانَ مسيحيَّ بلا قدَّاس، وهكذا لا إيمانَ يختص بكل دين بلا عباداته المتناغمة معه. لا أفهم معنى الإيمان الحر الذي يدعو له «الربوبيون»، الإيمان حالة وجودية يعيشها المؤمن، لا تخرج عن كيفية رؤيته لله والإنسان والعالم، وألوان صورة الله التي يرسمها معتقدُه الغاطس في اللاشعور. كل حالة وجودية لا تشبه غيرها ولا يشبهها غيرها، في الحالة الوجودية لا معنى للإيمان الحر الذي يدعو إليه هؤلاء.
كلُّ الأديان تتشابه عباداتها وطقوسها وشعائرها مع عقائدها. محاولات الترقيع والالتقاط في العبادات والطقوس والشعائر تمحو صورة الدين، وتمحق الإيمان المتولد عنه. أما القول: «إن لكل شخص طقسَه الخاص» فهذه واحدة من الخدع؛ ذلك أن تاريخ الأديان ينبئنا بأن ميزة الطقوس الثابتة إنما هي في اشتراكها بين أتباع الدين الواحد، ولم يصادف أن نجد دينًا أتاح لمعتنقيه أن يختاروا طقوسهم كيفما يشاءون. هناك استثناءات في العبادات والطقوس العامة، لكنها تعبر عن حالات خاصة، وعن تشريعات لوضع خاص، كما في حالات السفر والمرض وغيرها. الطقوس تتغير هنا، ولكن لا بسبب أن هناك طقسًا خاصًّا، وإنما لأن هناك اختلالًا في أحد الشروط أو الظروف التي يجب أخذها في الطقس، فسمحتْ بالانتقال إلى طقس من نوع آخر، ففي العبادات في الإسلام هناك: قصر، أو ترك صيام، أو غيرهما، في ظروف خاصة.
لكلِّ شخص حياته الرُّوحية الخاصة، غير أنها تتغذى من العبادات المشتركة في الديانة التي ينتمي إليها الإنسان، صلاة الحلَّاج والنِّفَّري وابن عربي وجلال الدين الرومي، هي صلاة الإسلام ذاتها، غير أنهم تميزوا وتفوقوا بأنماط حياتهم الرُّوحية الخِصبة الملهِمة الفوارة.
الإيمان والحياة الرُّوحية الأصيلة يمكن أن تتحقق في سياق ديانة ذات إطار اعتقادي عبادي محدد، ذلك أنها تتطلب أن تستقي على الدوام من التقليد العبادي الخاص بها، الذي هو من سِنْخها. لو ركَّبنا عليها تقليدًا عباديًّا بديلًا يفسدها، كما لو أن مسلمًا يمارس تقليدًا طقوسيًّا هندوسيًّا أو العكس، ينتهي ذلك إلى التناشز بين التكريس الشعائري الطقوسي والمعتقد والحياة الرُّوحية المنبثقة عنه، ذلك أنَّ لكلِّ معتقَد طقسًا خاصًّا من جنسه، بمعنى أنه مشتق من كيفية فهمه لله والإنسان والعالم. وهذا ما تُدلِّلُ عليه الحياةُ الدينية لمختلِف المجتمعات؛ ففي المجتمعات الغربية، التي يُمنح الأشخاص فيها حرية دينية واسعة، لا تسودها ظواهرُ مثل: مسلم يصلي في معبد هندوسي، أو مسيحي يؤدي قُدَّاسه في كنيس يهودي، أو هندوسي يؤدي طقسه في المسجد. الأشخاص الذين يدمنون الانتقال من دين إلى دين في رحلة متواصلة بين الأديان وطقوسها من أجل إرواء ظمئهم الأُنطولوجي، يعيشون ضياعًا وقلقًا واضطرابًا وتمزقًا، ذلك أنهم كشارب ماء البحر كلما شرب منه اشتدَّ ظمؤه.
حسب فهمي الذي استقيته من مطالعاتي المتنوعة، وتجرِبتي الدينية، وخبرة حياتي الرُّوحية، انتهيت إلى ما يلي: لا يُمتلَك الإيمان ويتكرَّس بلا مواظبة وإدمان على الصلاة. تكرار الصلاة يسقي الإيمان بماء الحياة، ويُرسِّخه ويُجذِّره. الإيمان شعور حي يقظ فوَّار، إنه من جنس الحالات، وكل ما هو من الحالات هو أمر وجودي تكويني، لا يتحقق ويرتوي من دون روافد يستقي بها وجوده، وتتجدد حياته. الإيمان جذوة متقدة، هذه الجذوة بلا صلاة تظل تذوي شيئًا فشيئًا حتى تنطفئ. ما لم تتكرر الصلاة في سياق تقليدٍ عباديٍّ مرسومٍ، يذبل الإيمان ويصير حطامًا. الإيمان بمثابة حديقة الأزهار، ما لم نواظب على سقيها تذبل وتموت. الصلاة كأنها ينابيع مياه عذبة صافية تسقي حديقة الإيمان، لولاها لاندثر وأصبح هشيمًا تذروه الرياح.
العبادات والطقوس هي: إطار لتقليدٍ عباديٍّ، في سياق قيودٍ وشروطٍ وحدودٍ، لو تمت شخْصنتها؛ بمعنى جعلها فردية تختلف باختلاف الأشخاص، تكون نسبية سائبة، بل فوضوية، مما يفضي إلى ذوبانها، وتلاشي مضمونها، إذ تنتفي ماهيتها بانتفاء حدودها وشروطها.
(٣) تصوُّف استعباد
ليس كلُّ متصوف صاحبَ تجرِبة دينية، كما أن ليس كل صاحب تجرِبة دينية متصوفًا، فقد يكون المتصوف خاويًا رُوحيًّا، هشًّا أخلاقيًّا، جائعًا للمال والجاه والسلطة، غارقًا بكلِّ ما هو شكليٌّ زائف، لا يمتلك أيَّ ثراء رُوحي، ويفتقر للمثول الحقيقي في حضرة الله، مثلما هو شأن طيف عريض ممن يمتهنون ذلك، وهم أقربُ للمشعوذين منهم إلى ذوي الحياة الرُّوحية الدافئة. يغرَقون في أوراد وأذكار وصلوات بُغية نَيْلِ سُلْطَةٍ على الغَيْرِ، ومكانة اجتماعية، ومصالح حياتية. خاصة في مجتمعات تمنح مثل هؤلاء ألقابًا دينية، وصفات قدسية، وتهبهم مكاسبَ ماديَّة، وفرص عيش مجانية. هذا ضرب من التصوُّف الذي تجفُّ معه منابعُ المعنى في الحياةِ، فيُميت الإنسانَ داخل الإنسان، وهو على الضد من التصوُّف الذي يفجِّر منابع المعنى في الحياة، ويوقظ الإنسانَ داخل الإنسان.
ليس بالضرورةِ أنْ يكون بناءُ الخانقاهات والزوايا والتكايا لدى المتصوفة بدوافع رُوحية تربوية. دوافع أكثرهم تشبه بناءَ المساجد عند أكثر السلاطين والحكام ليست رُوحية ولا أخلاقية ولا إنسانية. كلُّ سلطة تفتقر للمشروعية في الأرض تسعى لاستعارتها من السماء، هذا ما كان يفعله المتوحش الفاشيُّ صدام حسين في بناء المساجد العملاقة آخر سنوات حكمه.
تصوُّف الاستعباد أعني به تصوُّفَ العُزلة والخروج من العالَم، الذي يفضي غالبًا إلى خسران الذات، لأن المتصوِّف يرضخ لعبوديةٍ طوعيَّة لشيوخ الطرق الصوفية، تنتهي هذه العبودية إلى تَبَلُّدِ الإنسانِ، وربما مَوْت الإنسان داخل الإنسان. يترعرع هذا النمط من التصوُّف في أقبيةِ الطُّرُق الصوفيَّة وزواياها، ويظهر في حياةِ الدَّراويش القابعين في الخانقاهات والزَّوَايَا والتَّكَايَا. في تصوُّف العزلة كثيرًا ما يخسر المتصوف ذاتَه، عندما يتحوَّلُ التصوُّف إلى ضربٍ من الرَّهبنة المُبتذلة.
هذا النمط من التصوُّف مرآة لتشوهات المسلمين في عصور الانحطاط، إذ ترتسم فيه صورة تخلف المسلمين وجهلهم، وأمراض التجرِبة التاريخية لأزمنة تراجع المسلمين، تتفشى فيه عاهات تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد، مثل: التربية على نفسية العبيد، والتربية على التلقين، والرضوخ والطاعة العمياء لمشايخ الطرق الصوفية، والهيام الذي يصل حد العبادة للشيوخ والأقطاب والمشاهير منهم، وتقليدهم في كل شيء، إلى درجة السعي للذوبان فيهم. والهروب من الحياة، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجات الطبيعية للإنسان.
يتعامل المريدون مع شيخ طريقة التصوُّف بوصفه صنمًا، لذلك تنطفئ شعلة أرواحهم، ويُمسون رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم، ينتهك مشايخُهم كرامتَهم أحيانًا، ويصادرون حرياتهم، بعد عمليات تدجين ذكية يتولاها شيوخ الطرق، لذلك يتنازلون لهؤلاء الشيوخ عن حرياتهم طوْعًا، وعن كلِّ شيء في حياتهم. هنا تنقلب وظيفةُ التصوُّف، فبدلًا من كونه امتلاكًا للذات، عبر وصالها بالحق، والاستغناء عن كلِّ شيء سواه، يتحول إلى انسحاق مُهين للكرامة أمام مشايخ الطرق الصوفية.
صار جلالُ الدين الرومي معبودَهم، بل انصاعوا لسلسلةِ المَولَوية من أحفاده وذريته، ممن أضحى بعضهم لا ينتمي لجلال الدين إلا بالدم. بعد أن تَفَشَّى هذا المرضُ الرُّوحي والأخلاقي في حياة المريدين، أظن يتعذر شفاء أكثرهم منه؛ ذلك أنَّ من أشقِّ الأشياء تحرير العبيد من الشعور بالحاجة للعبودية، وشغفهم بتبجيل أغلالها، وخوفهم من الحرية، وعجزهم عن قبول الحياة بمسئولية شخصية.
(٤) جلال الدين الرومي الميثولوجي/التاريخي
جلال الدين الرومي كأيِّ شخصية دينية استثنائية، تخترق عصرَها بروحها المتوهجة، وأخلاقها السامية، تختطف الأضواء، تدهش المجتمع، فينجذب الناس إليها، لما يشعرونه تجاهها ﺑ «مديونية المعنى» حسب تعبير مارسيل غوشيه. لا يكتفي عشَّاقُ مثل هذه الشخصيات الرُّوحية ومريدوها بالاهتداء بملَكاتها الاستثنائية، وتوقُّد تجرِبتها الدينية، ومواهبها الرُّوحية، ولا يتوقفون عند صفاتها البشرية، بل عادة ما يبالغون فيها، فيصوغون لها صورة متخيَّلة تُعْلِي من مكانتها بشكل مذهل، حتى تُخرجها من طبيعتها الإنسانية، وهذه حالة يكرِّرُها الأتباعُ مع كلِّ شخصيةٍ استثنائيَّة تظهر في التاريخ. تنسج هذه الصورةَ المتخيَّلة أحلامُهم الرومانسية، وتغذِّيها رغباتُهم المثاليةُ، وتعزِّزُهَا آفاقُ انتظارِهم غير الواقعية، وتُضَخِّمُها نزعتُهم المتجذرة لطلب الكمال لأنفسهم، لذلك يُسْقِطُون هذا الكمالَ، الذي يفتقرونَ إليه، على شخصيةِ معشوقهم.
نراهم دائمًا يُبَالِغُون في إضفاءِ السُّمُوِّ والفرادة والكمال على شخصية ملهِمهم ونَموذجهم الرُّوحي. تظل تلك الصورة المتخيَّلة لنموذجهم تتسع وتتضخم باستمرار، بسبب مراكمة الفضائل والمناقب عليها عبر الأزمنة، وما يخلعه عليها هؤلاء الأتباع، جيلًا بعد جيل، من مختلِف أشكال الصفات الخارقة للعادة والكرامات والكمالات، إلى أن تتحوَّل إلى شخصية «ميثولوجية»، ليست أرضيَّة، تعلو على كلِّ زمان ومكان، لا تشبه تجرِبتها وسلوكها في زمانها الذي عاشت فيه، ولا تشبه حياة كل الناس، وتتعالى على مشروطيات وظروف ووقائع الحياة الأرضية. عندما يُخرِج الأتباعُ هذه الشخصيةَ من طبيعتها الإنسانية تفقد أثرها الملهِم للروح والموقظ للضمير الأخلاقي.
هذه ظاهرة متفشية لدى أتباع كل الأديان والمذاهب والأيديولوجيات والثقافات، لا تختص بثقافة أو أيديولوجية أو ديانةٍ أو مَذْهب، لكنها تبلغ مَدَياتها القصوى في غرام أتباع الأديان وذهولهم حيال شخصياتهم، إذ يبلغ غرامُهم حدًّا يجعلهم أحيانًا لا يقبلون لها أن تنتمي لطرائق العيش المتعارفة في الحياة، ومشروطيات الاجتماع والزمان والمكان البشري، يصنعون لها تاريخًا خاصًّا مقدَّسًا تنتمي إليه هي دون سواها، وهو تاريخ يقع خارج التاريخ، لا ينتمي لزمان الإنسان الأرضي.
صورة مضيئة لله يرسمها جلال الدين الرومي
ما نحتاجه هو توظيف رؤية جلال الدين الرومي الجميلة لله، وطريقته في تفسير القرآن الكريم، وفهمه لسيرة النبي الكريم وسُنته. هذا هو الرومي الذي كان يعيش في الأرض داخل التاريخ، وليس ذلك الرومي «الميثولوجي»، القابع في مخيلة أتباعه خارج التاريخ.
نحن بأمس الحاجة اليوم إلى رؤية الرومي المضيئة لله والإنسان والعالَم، وإشراقاته الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، وتأمُّلاته ومفاهيمه وقيمه الإنسانية الكونية. وبصيرته الثاقبة في استنطاق آيات القرآن الكريم، وموهبته في التعامل المباشر مع القرآن، وهتك أستار كل تلك الحجب والأقنعة المظلمة المتراكمة عبر القرون في التفاسير والشروح والتأويلات، التي أهدرت المضامين القيمية السامية للدين، بما استبدَّ بها من تعصبات ومظالم وانتهاكات باسم الله للكرامة البشرية.
تفضح لنا مفاهيم الرومي الإنسانية الكونية كيف جرى طمسُ الصُّورةِ الجميلةِ لله، وكيف تم تشويهُ هذه الصورة، بنحوٍ استبدلت فيه بصورة مخيفة متوحشة ضد الإنسان، وتم توظيفها الزائف فيما يضج به عالمنا من حروب الأديان ومذابحها، فذبحت خليفة الله بذريعة الدفاع عن الله.
ينبغي أن نستقيَ من جلال الدين تدفُّقَ قلبِه بالعشق الإلهي، وما يصوره بيانُه من لوحات متلألئة بالمحبة والجمال والتَّراحُم والسَّلام، وكلِّ معنى إنسانيٍّ بهيج، كي يستفيق إيمانُنا كدينامية إيمانه اليقظة المتوثبة المضيئة، وتتسامى أرواحُنا بتسامي رؤياه الفسيحة وكونيتها. ترك لنا الرومي منظومةً غنيَّةً، تنفتح على حقولٍ متنوِّعَة في المعارف الدينية، نحن بأمسِّ الحاجة إليها، في عصر تغلَّب فيه فهمٌ مُغْلَقٌ للنصوص، انتهى إلى صياغة لاهوتٍ يضجُّ بالعدوانية والتعصُّب.
ميراث جلال الدين الرومي يلهمنا مفاهيمَ وقيمًا ورؤًى: تنشد احترام كرامة الكائن البشري، ترسخ النزعة الإنسانية في الدين، تُشبع حياتنا بالمعنى، تخلع على دنيانا صورتها الأجمل، تهبنا أفقًا رحبًا للتواصل مع مختلِف أتباع الأديان والفرق والمذاهب، فلا تضيق مجتمعاتنا وتنفجر بمكوناتها التاريخية العقائدية والإثنية.
(٥) تصوُّف حرية
أعني بتصوُّف الحرية التصوُّفَ المعرفيَّ أو التصوُّفَ الفلسفيَّ، الذي هو تصوُّف عقلي خرج على الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءةً لها خارج إطار مقولات المتكلمين الاعتقادية وأصول الفقه ومناهج وأدوات القراءة والفهم الموروثة، التي صاغ قواعدَها ومقولاتِها مؤسِّسُو الفرقِ الكلامية، ومؤسِّسُو أصول الفقه، ثم نُسجت داخل أسوارها قواعد ومقولات مختلِف أعلام الفرق والمذاهب، وترسَّخَتْ بمرور الزمن، حتى ارتقتْ إلى مرتبةِ المقدس، واحتلَّتْ مكانةَ النصوص المقدسة التي تفسِّرُها هذه الأدوات.
التصوُّف المعرفيُّ منح المسلم أفقًا رحبًا في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام اجتهاداتٌ تواكب مستجدَّاتِ الحياة، وتنفتح على فضاء يُلهم الحياةَ الرُّوحية والأخلاقية والجمالية للمسلم. كذلك استطاع هذا النمطُ من التصوُّف الخلاصَ من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتحرُّرِ من التمسُّك بالأشكالِ ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات. كما أعاد التصوُّفُ المعرفيُّ الاعتبارَ للذَّاتِ المستَلَبَة، والعالم الجوَّاني المطموس للكائن البشري، وعبَّد دروبَ القلب في رحلته الأبديَّة نحو الحقِّ، وانشغل بإرواء ظمأ الرُّوح للمقدس. التصوُّف المعرفي يُوقِظُ الإنسانَ داخل الإنسان.
الرؤية للصِّلة بالله في التصوُّف المعرفيِّ أفقية، الصلة بالله هي وصال حبيبين. الرؤية للصلة بالله لدى المتكلمين عَمُودِيَّة، الصِّلَةُ بالله من منظورهم لا تخلو من استرقاقٍ وعبوديَّةٍ. يجد التصورُ العموديُّ لدى المتكلمين تعبيرَه الاجتماعيَّ بتأسيسِ شبكةٍ من مقولات الطاعة والخضوع والتركيع، وبناء نسيج سلطة في المجتمع يكرِّس العَلاقات المبنية على الانسحاق والإذلال والإهانة، بعد أن يتخذ تصور العَلاقة بين الله والإنسان نمطًا عموديًّا، يكون فيه الإنسان خانعًا مُهانًا ذليلًا، بينما يبدو الإلهُ متسلِّطًا منتقمًا، لا يصدر عنه سوى العقاب والبطش والامتهان والتنكيل.
التصوُّف المعرفي يكرِّسُ حريةَ التفكير والتعبير، وإنْ كان قد يختفي أحيانًا خلف الإشارة، لئلا توقعه صراحة العبارة في فخِّ السلطات الدينية والسياسية، وتقوده لخسارة حياته. التصوُّف المعرفي يوقظ الإنسان داخل الإنسان، لأنه يُبدِّدُ كلَّ أشكال العبودية.
التصوف المعرفي بلور مفهومًا للفرد يقوم على الحقِّ في تعدُّد الطرق إلى الله، لكن التصوف الطرقيَّ نقض هذا المفهوم بتشديده على التَّماثُل والتَّكرار وإنتاج النسخة الواحدة المقلِّدة للشيخ بكل شيء، إلى حدِّ التطابق معه.
تمنعنا معظم الجماعات الدينية، ووعاظُ السلاطين، وبعضُ من يزعمون أنهم مُوَقِّعُونَ نيابةً عن رب العالمين، ومن يتخذون الدينَ وسيلةً للارتزاق، فيتكلمون باسم الدين، من رؤيةِ الكثيرِ من النساء المغمورات، اللائي يحملن مصباح النور الإلهي، الذي لا ينضُبُ زيتُه ولا ينطفئُ أبدًا، من العاملات والفلاحات والأمهات، اللائي يتسامى بعضُهنَّ إلى مقامِ القدِّيسات، ممن يَنذرن أنفسَهن لرسم ابتسامةٍ على القلوبِ الباكية، وتبديد ظلام الأرواح الكئيبة، وإيقاظ النُّور في الأنفس الحزينة. ومن رؤيةِ الكثيرِ من الرجال المغمورين، ممن ظلت حياتُهم الرُّوحيةُ والأخلاقيَّةُ مَنْهَلًا يتدفَّقُ بالمعنى الذي يُثْرِي حياةَ النَّاس على الدَّوام، بالأمل والحِلم والتفاؤل والطموح، ويكون حافزًا أساسيًّا للإبداع والإنتاج والعطاء.
التصوُّف المعرفي، الذي أشرنا إلى شيء من ملامحه وعناصره الحية، هو اجتهاد بشري، وكلُّ اجتهاد لا يعني غلقَ باب الاجتهاد في حقله، لذلك تشتدُّ الحاجةُ اليومَ لاستئنافِ النظر في تراث هذا التصوُّف والتوغُّلِ في طبقاته المتراكمة وغربلتِها وتمحيصِها، لأنه تراثٌ ينتمي لعصره، ولم يتحرَّر كلِّيًّا من إكراهاته وملابساته ورهاناته ومشكلاته، فقد تجد أحيانًا في آثار عُرفاءَ كبارٍ كمحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما مقولاتٍ ومفاهيمَ ومواقفَ متضادَّة، يحيل شيءٌ منها إلى مواقف كلامية وفقهية مُغْلَقَة متشدِّدَة، بموازاة المساحة الشاسعة والعميقة لمقولات ومفاهيم ومواقف التصوُّف الفلسفي الرحيمة، الحرة، المنفتحة.
وبُغيةَ اصطفاء ما يصلح كمنطلقات أساسية لبناء رؤية اعتقادية تتحرَّر من إكراهاتِ التاريخ وتناقضاتِه، رؤية تواكب التحوُّلات العُظْمَى في نمط حضورِ الإنسانِ في العالَم اليوم، تنبغي الإفادةُ من تراث التصوُّف المعرفي، لكن لا بمعنى الضَّياع في مداراته الشَّاسِعَة، بل بتوظيف ما هو حيٌّ من مقولاته ومفاهيمِه، والتَّعاطي معها بوصفها مصباحًا ينيرُ الطريقَ لاجتهاد ينشد صياغةَ رؤيةٍ توحيديَّةٍ، يتبصَّر بها المسلمُ طريقَ خلاصِه من المتاهات، ويهتدي لحضورٍ فاعل مؤثِّر في العالَم الذي يعيش فيه.
(٦) حضور الدين في حياة الفرد والمجتمع
أتحدث هنا حول ما هو أبعد في الدين، ما يشي بمضمونه العميق، هذا المضمون هو الذي يدعو الإنسان للتديُّن، وهو ما يمنح حياتَه معناها. ولا أظنُّ أن هناك منبعًا يستقي منه الإنسانُ المعنى ويروي ظمأَه للمقدس ويُثري حياته الرُّوحية أخصب من الدين.
طبائعُ الإنسان، ومسيرةُ حياته منذ عصر الكهوف، تبرهن على أنَّ: الدينَ، والفن، والميثولوجيا، ثوابتُ أبدية في حياة الفرد والمجتمع، لا تختفي، وإن كانت تتنوع وتتحول وتتجلى بصور مختلفة، تبعًا لاختلاف: الزمانِ والمكان، ونمطِ الثقافة والتمدُّن، ما يعني أنها حاجاتٌ للإنسان ثابتة.
ذلك هو البُعْدُ الأُنطولوجيُّ في الدِّين، الذي يعبر عنه: الإيمانُ، والحياةُ الرُّوحيَّةُ، والأخلاقيَّةُ، والجماليَّةُ. للدين تمثُّلاتُه الأفقيةُ الاجتماعية الواسعة، وله تمثُّلاتُه الفرديةُ في كِيان الإنسان.
لا يُنكَر أن تمثُّلاتِ الدين الأرضية وحضوره في حياة الفرد والمجتمع طالما كانت منبعًا للتمويه والخداع والتزوير والاستغلال والظلم والتعسُّف والتنويم. يطغى الدين لأول وهلةٍ في الاجتماع البشري كأنه مَسْخٌ، ينفي العقلَ، يثير الرعبَ، يهدر الكرامةَ، يستلب الرُّوحَ، يميت الضميرَ، يخرِّب التمدُّنَ، يصادِرُ الحرياتِ، يهدر الحقوقَ، يمزِّق المجتمعاتِ. كما هي مآلاتُه في ولائم الدم المسفوح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا.
مما يشوِّه صورة الدين هو اختلاط الدين بكل شيء، إذ يختلط الدينُ بالعلمِ والعلمُ بالدينِ، يختلط الدينُ بالفلسفةِ والفلسفةُ بالدينِ، يختلط الدينُ بالأدبِ والأدبُ بالدينِ، يختلط الدينُ بالشعرِ والشعرُ بالدينِ، يختلط الدينُ بالفنِّ والفنُّ بالدينِ، يختلط الدينُ بالقبيلةِ والقبيلةُ بالدينِ، يختلط الدينُ بالعاداتِ والأعرافِ والتقاليدِ وهي تختلط بالدين … وهكذا. إن كانت هذه حالة الدين في أي مجتمع، فلن يعود الدينُ دينًا، ولا العلمُ علمًا، ولا الفلسفةُ فلسفةً، ولا الأدبُ أدبًا، ولا الشعرُ شعرًا، ولا الفنُّ فنًّا.
يمكن أن يكون الدينُ منبعًا للمعاني الجميلة، حين يعود الإنسانُ لبعده الأُنطولوجي، ليرى آثارَه الحيويةَ بالشكل الذي يتحول فيه أثره: من موت إلى حياة، من داء إلى دواء، من سمٍّ إلى ترياق، من هِيروين إلى فِيتامين، من ظلام إلى نور، من حزن إلى فرح، من شقاء إلى سعادة، من ضعف إلى قوة، من هدم إلى بناء. ويتحقق ذلك بإعادة الدين إلى حقله الإيجابي البنَّاء، ومن دون ذلك يُنهَك ما هو ديني، ويتبدَّد ما هو دنيوي. الدين لا يتسع لكل شيء في الدنيا، الدين لا ينقصه شيء يرتبط بأهدافه وغاياته في الهداية وبناء الذات ورفدها بما تفتقر إليه. أما ما يؤمِّنه العقل، وما تنجزه الخبرة البشرية، فلا ضرورةَ لإقحامِه في الدِّين أو إقحامِ الدِّين فيه.
إدراك البعد الأُنطولوجي للدين، من شأنه أن يضعَ الدينَ في حقله الذي يكفل بناء الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية في حياة الفرد والمجتمع.
(٧) الإيمان والعقل
الحياة الرُّوحية تتحقق بالإيمان، الإيمانُ تتسامى فيه الرُّوح، الإيمانُ مما يُتذَوَّق، لا مما يُعلَمُ ويُتصوَّرُ ويُدرَكُ ذهنيًّا. يذهبُ البعضُ إلى أنَّ الإيمانَ بوصفه حالةً فلا ضرورة لاستفتاء العقل في تفسيره، وبيانه، وتحليله، وفهم بواعثه، وأنماطِه، وصيرورتِه، وتجلِّياتِه. من البداهاتِ أنَّ كلَّ ما نحكيه هنا يصدرُ عن العقل، العقلُ وحده بوسعه أن يمنحنا فهمًا صحيحًا لما يتصل بالعقل والرُّوح والقلب والجسد. لحظةَ يتعطَّلُ العقلُ يتعذَّرُ بلوغُ أيةِ معرفةٍ بالعالَم والإنسان والحياة.
المنهج الذي يتبعه محيي الدين بن عربي والعرفاءُ لا يرفض العقلَ في المستويات كافة، بل يقوم على التمييز بين مقامين، وهما: «الثبوت والإثبات»، إذ كثيرًا ما يقع الخلط في مناهج المعرفة عند الإسلاميين بين مرحلة مصدر المعرفة وإدراك الحقائق، وهو ما يُصطلح عليه ﺑ «مقام الثبوت»، ومرحلة بيان ذلك الإدراك، والتعبير عنه، وإيصاله إلى الغير، وهو ما يُصطلح عليه ﺑ «مقام الإثبات». في المقام الأول لا يختلف المحدثون عن المتكلمين، كلاهما يعتمد النقل، ويستند إليه مصدرًا لرؤيته للعالم ومعارفه الدينية، غير أنَّ المتكلمَ في المقام الثاني «الإثبات» يتمسك بالعقل، ويستدل على مسلَّماته ومعتقداته بمختلف الحجج، في حين يقتصر المحدث في هذا المقام على النَّقل، يتمسك بالروايات والأخبار عند بيانه لمعتقداته والتعريف بها.
أما الفلاسفة المشَّاءون، فيتطابق لديهم المقامان، فهم يعتمدون العقلَ ثبوتًا وإثباتًا، وإن كان شيخ الإشراق السُّهْرَوَردي، ومُلَّا صَدْرا الشيرازي يحاولان أن يستندا إلى العقل والشهود، وربما النقل في مقام الثبوت، غير أنهما يعودان إلى العقل في مقام الاثبات. أما تمركز المعرفة لدى العرفاء حول القلب والذوق والشهود، فإن ذلك يختص بمقام الثبوت، واكتشاف الحقيقة، بينما في مقام الإثبات وإيصال الحقيقة والتعريف بمشاهداتهم وأحوالهم ومقاماتهم وبيانها للغير، فيوظفون العقل، ويسْعَون لخلع غطاء فلسفي منطقي على أفكارهم، منذ عصر محيي الدين بن عربي، ومن جاء من بعده.
لا يتطابق مفهومُ العقل وحدودُه لدى الجميع، ففي مفهوم العرفاء يتمايز عنه في مفهوم الفلاسفة، وهكذا يتمايز المتكلمون عنهما في حدود العقل، إلا إنهم يشتركون في المسلَّمَات والبداهات والمقولات والحجج المعروفة في المنطق الأرسطي.
(٨) ترحيل الدين من الأُنطولوجيا إلى الأَيديولوجيا
يتمحور هدف الدين في إرواء ظمأ الإنسان للمقدس، وذلك ما يمنح حياةَ الإنسان ووجوده معنى. حين يرتوي الظمأ الأُنطولوجي للإنسان، يكف الدين عن أن يكون أداةً للصراع على الثروة والقوة والسلطة. وتتكرس وقتئذٍ الحياةُ الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، فيُضبط إيقاعُ سلوكه الحياتي في المجتمع، في إطار منظوماتِه القيمية وحقوقه وحرياته وقوانينِه، من دون أن يتمددَ الدينُ، فيهدر الدنيا عبر الاستيلاء على ما هو دنيوي، خارجَ عوالم الرُّوح والذات، مثلما تفعلُ الجماعات الدينية التي سرقت الدنيا باسم الآخرة، والأرضَ باسم السماء، والإنسانَ باسم الله.
إن عدمَ إدراكِ الوظيفة العظمى للدين، ينشأ من غموض الطبقة التحتية الغاطسة له، وظهور ما يطفو فوقها من تشوُّهات وكراهيَّات وتعصُّبات، تتلوَّن وتتلفَّع بالدِّين وإن كانت تنقض أهدافَه. أحيانًا تصطبغ بأنهار من دماء مسفوحة، تختنق البشريةُ فيها. وما ارتكبته من إهدار للكرامة الإنسانية، وإكراهِ الإنسان على معتقداتٍ وطقوسٍ وشعائرَ وأوامر، تنفر منها طبيعته وجسده وروحه وضميره وقلبه وعقله.
كما يصنع الإنسانُ تدينَه يصنع التديُّنُ الإنسانَ. التمثُّلات الأرضية لكلِّ ديانة تشبه بيئتَها، كلُّ ديانةٍ تتكلم لغةَ أتباعها، الحدود الرمزية للمجتمع ترسمها ديانته.
تمنع رؤيةُ الجماعات الدينية، ووعاظ السلاطين، ومن يتخذون الدينَ وسيلة للارتزاق، فيتكلمون باسم الدين، من الانتباه إلى كثيرٍ من النساء المغمورات، اللائي يحملن المصباح، الذي لا ينضُبُ زيتُه ولا ينطفئُ أبدًا، من العاملات والفلاحات والأمهات والقديسات. ومن الانتباه إلى كثيرٍ من الرجال المغمورين، ممن ظلت حياتُهم الرُّوحية والأخلاقية منهلًا يُثري حياةَ الإنسان على الدوام، بالأمل والحلم والتفاؤل والطموح، ويراكمُ الإبداع والمكاسب والعطاء المتنوع.
ترحيلُ الدين من الأُنطولوجيا إلى الأيديولوجيا، جعلَ الإنسانَ ضحيةَ فهمٍ للدين، يُخرج الدينَ من حقله الخاص، ويقحمُه في مخاضاتٍ ومغامرات، تصادر ذاتَ الإنسان، وتُوهِمُهُ بوعودٍ دنيويةٍ خلاصيَّة، لا صلةَ للدِّين بها. ذلك ما تجلَّى بوضوح في أدبيات الجماعات الدينية، التي هي أدبياتٌ جنائزية تقود إلى القبر. لا نعثر في تلك الأدبيات على ما يؤشر إلى أن مهمةَ الدين في حياة الإنسان هي إرواءُ ما لم يرتوِ من سواه، ونعني حاجاتِ الإنسان الباطنية، المتمثلةَ بتلهُّفِ كينونةِ هذا الكائن للارتواء من الوجود، وقدرةِ الدِّين على إِشْبَاعِهَا، بنحوٍ لا سبيلَ معه إلى إشباعها من منبع آخر.
عمليةُ تغيير الذات جدليَّةٌ بين الباطن والخارج «الرُّوح والجسد»، ما لم يتغير الخارجُ لن يتغيرَ الباطنُ، ما لم يتغير الباطنُ لن يتغيرَ الخارجُ. ثقافتُنا تهمل الجسدَ ومتطلباتِه وحاجاتِه المتنوعةَ في عملية التحول والتكامل الرُّوحي والأخلاقي، مثلما تهمل ثقافتُنا البعدَ الأُنطولوجي ومتطلباتِه العميقة، فيضيع الإنسانُ ويتخبط في متاهات.
يجهلُ معظمُ البشر منابعَ إرواء الظمأ للمقدس في حياتهم، فيتهافتون على أوهام، تضاعف ظمأَهم، ويُمْسون معها كشارب ماء البحر، كلما اغترف منه ذبلت رُوحه، وتخشَّب جسده. إنه زيغُ البصيرة، الذي يسببه عدمُ احترام كينونة الإنسان، وتجاهلُ التربية لاحترامه جسدًا وروحًا. تبقى مواطنُ الرغباتِ المكبوتةِ مراجلَ تَغْلِي، تُعمي عيون البصر والبصيرة. تحرق وجودَ الذات، وتدفع باتِّجاه البرك الآسِنة، التي تتبدَّد فيها الطاقاتُ يومًا بعد آخر، حتى يُمسي الإنسانُ هشيمًا تذروه الرياح.
أشرنا غير مرة إلى أنَّ معنى كونِ الدين يشتغل على إرواء الظمأ الأُنطولوجي، هو أنه يُشْبِعُ حاجاتٍ لا يمكن أن يُشْبِعَهَا العقلُ والخبرةُ البشريَّةُ، إنه يهتم بأزمة المعنى وسبل معالجتها، ويتكفل كيفية إنتاج هذا المعنى. أيةُ محاولة لنسيان مهمته في بناء الذات، وإقحامه في مجالات أخرى، يتحول معها إلى وحش مفترس، وسمٍّ زُعاف يُفسد كل شيء.
ما نريده من «دين الأُنطولوجيا» يختلف عن «دينِ الأيديولوجيا»، وماهية الرؤية الدينية لكل واحد منهما لا تطابق الآخر. ويمكن التعرُّف على ذلك من النَّظر في الفرق بين ما ينتجه المتكلِّم وما ينتجه العارِفُ من فهمٍ ورؤيةٍ للعالَم. إنَّ المتكلِّمَ فيلسوفُ دينِ الأيديولوجيا، إنه يصوغ رؤيةً لله والإنسانِ والعالَم، وفهمًا للدِّين، تُبنى وتُشاد عليه مرتكزاتُ الأيديولوجيا. أدبيات الجماعات الدينية تنسج شباكَها في سياق رؤية المتكلم لله والإنسان والعالم، وشيء من مدوَّنة الفقه، ولا تقترب من أعمال الفيلسوف والعارف. العارفُ فيلسوفُ دينِ الأُنطولوجيا، فهمه للدين يتمحور حول باطن الإنسان، وينشغل بتفسيرِ نمطِ وجوده، والكشفِ عن مسالك تواصل كينونته وأسفارِ رُوحه في عوالمَ خارجَ حدود العالم المحسوس المادي.
دين الأيديولوجيا يستخدم الإنسانَ، يسخِّر حياتَه وطاقاتِه ومواهبَه لتخدمَه، ويفرض عليه حدودَه وإطارَه وأسيجتَه، إن تخطاها فإنه يصادرُ عليك دنياه. دينُ الأُنطولوجيا يخدم الإنسان، يمنح عقلَه حريةَ التفكير، ولا يفرض عليه اقتباسَ صورةٍ لا تمثله، أو أن يعيشَ حياتَه نيابةً عن غيره، أو تكرُّرَ نماذجَ بشرية تطمس ذاتَه. إنه دينٌ يمحو الكراهياتِ من القلب، ويطهِّر الرُّوحَ من الخطايا، ويقدِّم للإنسان مصباحًا يضيء دروبَ وصاله مع الله، وتواصلِه مع الإنسان الآخر، ويروي رُوحَه لما تتعطش إليه من ظمأٍ للامتلاء بنور الحق.
دين الأُنطولوجيا هدف ينشده الإنسان، تنبعث وتتجدَّد به الحياةُ، بوصفه تفاعلًا وانعتاقًا وانفتاحًا للعقل والقلب والرُّوح، على الله والإنسان والعالم. دين الأيديولوجيا يستهدف الإنسانَ، يستنزف الرُّوح، يعطِّل الحياةَ، يستحوذ عليها، بوصفه انغلاقًا وانصياعًا ورضوخًا واستعبادًا للعقل والقلب والرُّوح.
دين الأيديولوجيا يفشل في بناء حياةٍ رُوحيةٍ وأخلاقية وجمالية أصيلة، يطمس الأبعادَ الإنسانية في الدين، ويميت الرُّوحَ والقلب والعقل والضمير. لا إنسانيةَ بلا ضمير، لا ضميرَ بلا مصدر إلزام ذاتي، ولا مصدرَ إلزام ذاتي بلا أخلاق، ولا أخلاقَ بلا رُوح، ولا رُوحَ بلا حياة رُوحية، ولا حياةَ رُوحيةً من دون وصال بالحق.
مَنْ كان بلا حياة رُوحية وأخلاقية وجمالية يُفسِد قبل أن يُصلِح. مَنْ كانت رُوحُه ممتلئةً أُنطولوجيًّا، فإن حياتَه الرُّوحية والأخلاقية والجمالية مشبعةٌ بالمعنى، لذلك يستطيع أن يمنحَ العالمَ أفقًا مضيئًا، وتغتني حياةُ من حولَه بالهدوء والأمن والسكينة والسلام.
الفقير أُنطولوجيًّا يفشل في منح مَنْ يتعاطى معه زادًا لروحه وقلبه، بل يُفقره ويُنهكه، فيُقعده ويُحيل وجوده إلى هشيم. مَنْ كان جائعًا للمعنى، يمضغ اللامعنى يحسبه معنًى، فيمسي كمن يهرول وراء السَّراب، يتهافتُ عليه يحسبه ماء، ليفقدَ في خاتمة المطاف طاقتَه ويَذوي، ويصير رميمًا.
تُفضي أدلجةُ الدين إلى تخريب المعنى الذي يقدِّمه الدينُ لحياةِ الإنسان، وتبديد وعوده ببناء الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، وما ينشده من ترسيخ مرتكزات التضامن الاجتماعي، وتعزيز أرضيات السلام والعيش المشترك في حياة الإنسان.
(٩) معرفةُ اللهِ غيرُ حبِّ الله
لحظة يمتلك الإيمانُ القلبَ، يصير هو الأمن وهو السكينة. الأمن هو الإيمان، الإيمان هو الأمن. الإيمان مثلما يتذوقُه أصحابُ الحياةِ الرُّوحية هو إيمانٌ أُنطولوجي متوحد بكينونتهم. صلتهم بالله وجودية أفقية لا عمودية. صلة جوهرُها الحُبُّ والحرية، لا تتضمن: استرقاقًا وقهرًا وانتهاكًا لكرامَتي واضطهادًا.
معرفةُ الله غيرُ حب الله. حبُّ الله سعيُ القلب وسفره إلى الله، حين يكون القلبُ وطنًا لله. معرفةُ اللهِ هي تدبُّر العقل وتأمُّله وتفكيرُه في خلق اللهِ وآياتِه، واعتقادُه بوجودِه.
المتكلمون واللاهوتيُّون يعرِّفوننا على أدلَّةِ وجودِ اللهِ وصفاتِه، لكن لا يوصلنا إلى الله إلا ذوو الحياة الرُّوحية. ولا تتكرس الحياةُ الرُّوحيةُ الأصيلةُ من دون حب الله ووصاله. لا يرتوي الظمأُ الأُنطولوجيُّ للمقدَّس بمعرفة الله، وإنما يرتوي هذا الظمأُ بحبِّ اللهِ ووصاله. مثلما لا يتكرَّسُ الإيمان بمعرفة الله، وإنما يتكرَّسُ بحبِّ الله. لا يتحقق السَّفَرُ إلى الله إلا بحبِّ اللهِ، وليس بمعرفة اللهِ. لا يكون الدينُ دواءً وشفاءً إلا بحبِّ الله، ولا تكفي لذلك معرفةُ الله. القلبُ الذي خُطَّتْ عليه أسرارُ الحُبِّ الإلهي هو القلب الذي لا يكفُّ عن إنشاد ترانيم حبِّ الله والإنسان والعالَم.
ما تختزنه الحياة من شرور وآلام، وما هو مترسخ فيها من كراهيات، وما يتفشى فيها من تعصبات، وما تضج به من عنف واحتراب، تضيق بها طاقةُ الإنسانِ المحدودة. ليس هناك من وسيلةٍ للخلاص، سوى أن يتلمَّس السُّبلَ المختلفة التي تقوده إلى حب الله والإنسان والعالم. بالسَّعي وراء الحُبِّ يشرق القلب، وتسمو الرُّوحُ إلى مرتبةٍ تغدو فيها لا وطنَ لها إلا الحُبُّ. حيثما يكون الحُبُّ يكون الوطن.
ﺑ «قوة الحُب» يمكن الخلاص من «حب القوة». ﺑ «الحُبِّ» تكفُّ «الكراهيةُ» عن الفتكِ بمجتمعاتنا. ﺑ «الحُبِّ» تنجو مجتمعاتُنا من العنفِ الذي يفترسُها. ﺑ «الحُبِّ» تتخلَّص مجتمعاتُنا من الخوف الذي يسكنها. حياة الحُبِّ تنقذنا من عدم حبِّ الحياة.
إن كثرةَ كلام مَنْ يحسبون أنهم الموقِّعون نيابة عن رب العالمين، لا يكرِّس الحياة الرُّوحية، ولا يثري الحياة الأخلاقية. كأن أولئك لا يعرفون أن التجرِبة الرُّوحية من الحالات، وكل ما هو من جنس الحالات تفشل في الإخبار عنه الكلمات. ما تتذوقه الرُّوحُ تخون اللغةُ نفسَها في التعبير عنه، ذلك أنها لا تتسع لاستيعابه، ولا تطيق حملَه، وتفشل في اكتشاف مَدَياته، وتعجز عن إبلاغه.
مثلما تُفسد التدينَ كثرةُ الناطقين باسم الدين، كذلك تنطفئ جذوةُ الإيمان بالإكراه على الإيمان، وتموت الحياةُ الأخلاقيةُ لحظة تكون حياةُ معلِّمِي الأخلاق خارج الأخلاق. لا مُعلِّم للأخلاق كالإصغاء لصوت الضمير. الصمتُ لغة حيثُ تتعطَّلُ اللغةُ. الصمت مُعلِّم الأخلاق. الصمت لا يخذل أو يورط صاحبه.
(١٠) تديُّن مُفَرَّغ من الحياة الرُّوحية والأخلاقية
معظم الشباب المنخرطين في الجماعات الدينية أرواحهم منطفئة، لم يُضِئْهَا الإيمانُ، قلوبهم ظامئة لم ترتوِ بحبِّ الله والإنسان والعالم. سلوكهم لا يخلو من ازدواجية، تنتهك الأخلاقَ في السر، وإن كانت تتظاهر بها في العلنِ. إنهم يفتقرون لمثالٍ إنسانيٍّ رُوحيٍّ وأخلاقيٍّ مجسَّد في محيطهم، سلوكه مرآة لأخلاقه، وروحه تفيض بالإيمان، ويضيء قلبُه سُبلَ الأسفار إلى الحق.
قلما نعثر في هذه الجماعات على نموذج مشبعةٍ حياتُه بالمعنى، يمتلك كيمياءَ رُوحية، تمنح هؤلاء الشباب القدرة على استعادة كينونتهم الوجودية المفتقَدة، وتُشبع حاجتهم للاختلاف والتميز، وتساهم في تعزيز قدرتهم على إثراء حياتهم أُنطولوجيًّا، وتساعدهم على أن تكون حياتُهم أجملَ، في عالم يتشيَّأ فيه كلُّ شيء، ويتنمط فيه كلُّ شيء، ويكاد يتشابه فيه كلُّ شيء، ويتكرر فيه كلُّ شيء.
أدبياتهم تفتقر إلى ما يقودُهم إلى السماء، ولا تكفُّ عن وضعهم في مواجهة كل الناس، وزجِّهم للخوض في صراعات السلطة والمال. بدلًا من أن يكون النصُّ الديني في أدبياتهم: منتجًا للإيمان، ومنبعًا لتكريس الحياة الرُّوحية، ومنهلًا لإثراء الحياة الأخلاقية، يجري توظيفُه كغطاءٍ للاستحواذِ على السُّلطة والقوة والمال.
تتلفع هذه الأدبياتُ بغطاء، يُصاغ عبر شعارات استنهاض واستغاثة، تثير المشاعر، وتوقد العواطفَ، وتحرِّض على الانخراط في حروب باسم الله، في مواجهة العالم كله، بذريعة الغَيرة على الله، من دون أن يعلموا أن الشفقةَ على الإنسان، والرحمةَ بخلق الله، هما المضمون العميقُ للغيرة على الله.
التدين المفرغ من الرُّوحِ أنهكَ أرواحَنا، واستنزف قلوبَنا. حين يتخلَّصُ دعاةُ الأديان والمبشِّرون من الولَع برسم صورة مفزعة لله، تتحرر الحياةُ من الغرق في اليأس والقلق. ليست المهمةُ الأصيلةُ للأديان رسمَ صورة مرعبة لرب العالمين، وتحويلَ صورة العالَمَيْنِ؛ الدنيا والآخرة، إلى سجون أبديَّة، ووضعَ الكائن البشري في قَلَقٍ متواصِلٍ، وزرعَ الخوف في قلب الإنسان من مصيره في القبر وعذابه، وجحيمِ العالَم الآخر.
الإنسان الخائف يتمزَّق، يُصاب بالشلل، يعجز عن مقاومة أيَّة قوَّة تسعى لاستعباده. ففي كل مجتمع خائف يتوالد الاستبدادُ على الدوام. الخوف منبع الاستبداد، هناك عَلاقة جدليَّة مزمنة بين الخوف والاستبداد. حيثما يوجد الخوفُ يولد الاستبدادُ، حيثما يوجد الاستبدادُ يولد الخوفُ، المجتمع الذي يسكنه الخوفُ يسكنه الاستبدادُ. حين تختنق الحياةُ بالخوف، ينسحق الكائنُ البشريُّ، ويمسي مستعدًّا للرضوخ والانصياع لمن يمتلك أداةَ سطوة وعنف.
الخائف لا يمتلك القدرةَ على إبداء أيِّ رأيٍ لا يتطابقُ مع ما يفرضه خطابُ العنفِ، لا يستطيع الخائفُ أن يفكِّر بما هو خارج ما تفرضه أداةُ العنف. المحيط المشبع بمختلِف أنماط العنفِ الجسديِّ والرمزيِّ يُنتج شخصيةً مستلبةً.
لا خلاص إلا بتنمية الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية والعقلية، وذلك لا يتحقق إلا بالانتقال، من «دين الأيديولوجيا» إلى «دين الأُنطولوجيا»، ومن لاهوت الاسترقاق إلى لاهوت الانعتاق، ومن لاهوت الكراهيةِ إلى لاهوتِ المحبة، ومن لاهوت الحربِ إلى لاهوت السلام، ومن لاهوت الموت إلى لاهوت الحياة، ومن لاهوت التحرير إلى لاهوت الحرية، ومن لاهوت الثورة إلى لاهوت الحياة الرُّوحية الأخلاقية، ومن لاهوت توثين الحروف وإهدار المقاصد إلى لاهوت المقاصد الرُّوحية والأخلاقية، ومن لاهوت اليأس إلى لاهوت الرجاء، ومن لاهوت التشاؤم إلى لاهوت الأمل، ومن لاهوت الحزن إلى لاهوت الفرح، ومن لاهوت الهلاك إلى لاهوت النجاة، ومن لاهوت الفرقة الناجية إلى لاهوت التعددية.