المثقَّف الرسوليُّ علي شريعتي
(١) اتِّجاهاتُ الفكر الديني الحديثة في إيران
بُغية التعرف على موقع شريعتي في خارطة الفكر الديني الإيراني الحديث ووجهة تفكيره، نشير بإيجازٍ إلى الاتجاهات العامَّة للفكر الديني في إيران، ونتدرَّج في عرضها في سياق مرحلتها التاريخية. وهو تصنيفٌ يشي بمراحل صيرورة المثقَّف الديني الجديد في إيران، ونمط الرؤية إلى العالم التي يصدر عنها في فهمه للدين والنص الديني والتراث، في كل محطةٍ من تاريخ إيران القريب، ومحاكاته للنموذج المعرفيِّ المهيمن في كل فترة.
تتلخص اتجاهاتُ الفكر الديني المعاصرة في إيران بما يلي:
-
(أ)
اتجاه موروثٍ «تقليدي»: هذا الاتجاه امتدادٌ للتقاليد العريقة في الدراسات الدينية في الحوزة.٢ ما زال هذا الاتجاهُ مهيمنًا في الحوزة القُمِّيَّة وغيرها من الحوزات في إيران. ويعبر عن تراكم خبرةٍ واسعةٍ لقرونٍ عديدةٍ في تعليم ودراسة الإلهيات والمعارف الإسلامية، والفقه وأصوله، والمنطق الأرسطي والفلسفة والعرفان. ويتَّسم بالتوغُّل العميق في التراث ومسالكه المتنوعة، خاصَّةً الفقه وأصول الفقه، واستيعابه لأسئلته ومقولاته ومفاهيمه، ومحاولات وصلها بالعصر، والحرص على تمثُّلها.
-
(ب)
اتجاه إحيائي: يتمثل هذا الاتجاه في تيارين:
-
(١)
تيارٍ فلسفيٍّ عرفانيٍّ: سعى هذا الاتجاه لمواكبة العصر، وحاول أن يقدم تفسيرًا يستلهم الميراث العقلي والعرفاني في التراث، ويتوكَّأ على آثار مُلَّا صدرا الشيرازي ومدوَّنته في الحكمة المتعالية، ومرجعياته في آثار محيي الدين بن عربيٍّ. وتُمثِّل هذا الاتجاه «حلقة قُمٍّ الفلسفية» التي أسَّسها السيد محمد حسين الطَّباطَبائي، بمعيَّة مجموعةٍ من تلامذته في الحوزة العلمية بقُمٍّ. الْتَأمَتْ هذه الحلقة عام ١٩٥١م بعقد ندوة نقاش فلسفيٍّ ليلتين كلَّ أسبوعٍ، اتسعت لمجموعةٍ متميِّزةٍ من تلامذته، مثل: مرتضى مطهَّري، حسين علي منتظِري، محمد حسين بهشتي، مهدي حائري، جعفر سبحاني، موسى الصدر … وغيرهم. كان هدفُ الطباطبائي إنتاج نصٍّ فلسفيٍّ مكثَّفٍ، يستعيد مقولات الفلاسفة المسلمين، وينفتح على شيءٍ من آفاق الفلسفة الغربية الحديثة، خاصَّةً فيما لم يبحثه مستقلًّا الفلاسفة المسلمون، مثل نظرية المعرفة ومباحثها.٣ لكنَّ اطِّلاع هذه الحلقة على الفلسفة الغربية ظلَّ يعتمد على ترجمات وكتابات مبكرة بالفارسية مطلع القرن الماضي، لا تخلو من تبسيط في التعريف بهذه الفلسفة وفهم آراء فلاسفتها، ومطالعتها في سياق موروث فلسفي عرفاني إيراني.٤
-
(٢)
المدرسة التفكيكية: وهي حركةٌ تتمحورُ حولَ الأخبار وتحاول أن تتخذها مرجعية في كل شيء يتصل بالدين، وتقرأ الرواياتِ في المصنفات الحديثية قراءةً حرفية، وتناهضُ الفكرَ العقلاني في الإسلام. دشَّن المدرسةَ التفكيكية جماعةٌ من مدرِّسي الحوزة في مشهد، في النصف الأول من القرن العشرين، من أبرزهم: مهدي الأصفهاني (١٣٠٣–١٣٦٥ﻫ)، مجتبى القزويني (١٣١٦–١٣٨٦ﻫ)، موسى زَرآبادي (١٢٩٤–١٣٥٣ﻫ)، وغيرهم. وأعاد تكوينها محمد رضا حكيمي (١٣٥٤–١٤٤٣ﻫ) الذي أشاعَ في كتاباتِه تسميتها بالمدرسة التفكيكية. تدَّعي هذه المدرسةُ أنها تنشدُ غربلةَ وتفكيك ميراث الوحي والنبوة الذي عبَّرت عنه مدرسة أهل البيت، من العناصر الوافدة من أثينا والإسكندرية وفارس القديمة.
«التفكيكُ» دعوةٌ نظرية لم تنعكس بوضوح في كتابات حكيمي، لأن القطعَ الجذري الذي يبشِّر به لم يتمكن هو من تحقيقه ولا غيره. حكيمي، ومن قبله أساتذته، يفترضون عمليةَ التفكير عملية حسابية ميكانيكية كَمية، يستطيعُ الإنسانُ فيها أن يتخذَ قرارًا يفرضُه على عقله لحجب المنطق الأرسطي والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه وكل معارف التراث التي تَشبَّع وعيه ولاوعيه فيها في دراسته الحَوزوية، ويُصغي عقلُه لحديث أهل البيت بلا أية مؤثرات من تربيته وتكوينه التعليمي وبيئته وثقافته ومختلِف الظروف والمتغيرات المتنوعة في الواقع الذي يعيشُ فيه. التفكيرُ عمليةٌ ديناميكية لا ميكانيكية، تتوالدُ من عناصر واعية تشمل مختلِف العناصر المشار إليها وغيرها، بموازاة عناصر لاواعية تنبع من البنى اللاشعورية الراسخة في أعماقه.
هناك تقارب بين رؤية حكيمي وإسلامية المعرفة، كلاهما أراد أن يُصادر العقل ومكاسب العلوم والمعارف والخبرة البشرية. كلاهما خذلهما الواقع الذي يستبعد كلَّ رؤية لاواقعية عن الحضور فيه. كلاهما استبعدهما التاريخ من أن يكونا عاملًا فاعلًا في حركته، وتحولات الوعي والفكر والمجتمع في صيرورته.
لبثت دعوةُ محمد رضا حكيمي أُمنيةً أخفقت حتى كتاباتُه في تمثُّلها. عندما نقرأ هذه الكتابات نراها لم تتخلص من تأثره اللافت بالاشتراكية، وتغلغل الفهم والتفسير الطبقي للمجتمع المعروف في الكتابات الماركسية في آثاره، كما في أعمال شريعتي.
كان حكيمي انتقائيًّا في تعامله مع معارف الوحي، ينتقي ما يدعم موقفه منها ويدع غيره. لم يتردد حكيمي في توظيف المنطق الأرسطي اليوناني وميراث المعقول في التدليل على موقفه وتبريره من حيث لا يشعر. أراد أن يغادر التراث اليوناني فغرِق فيه، وكان يريدُ أن يصغي للأخبار والأحاديث الشريفة بمعزل عن كل خلفية سابقة، لكنَّ عقلَه خذله عندما اعتمد على التفسير الطبقي، وظلَّت أحلامه الرومانسية بمجتمع لاطبقي يتنكر لها الواقع.
التفكيكيةُ صياغةٌ بديلةٌ للحركة الأخبارية. وكأنها تجترح المُحَالَ فيما تطمح إليه، إذ تحلمُ بنمطٍ من الفكر الديني يتعالى على أي مشروطياتٍ أرضيةٍ بشريةٍ، اجتماعيةٍ، اقتصاديةٍ، سياسيةٍ، إثنيةٍ، ثقافيةٍ، لغويةٍ، وغيرها. وكأنها تعمل على إلغاء صيرورةٍ تاريخية يتعذَّر أنْ تُلغى، وتنشد نفي ما يتراكم على النصوص الدينية من شروحٍ وتفسيراتٍ وآراء يفرضها التغيير الاجتماعيُّ، وتحولات المجتمعات الإسلامية عبر العصور، وما تئول إليه حركة الواقع ورِهاناته وتطوراته التي لا تتوقف أو تتعطل.
-
(١)
-
(جـ)
اتجاه تجديدي: نشأ وتطوَّر هذا الاتجاهُ خارج الحوزة، وكان روَّادُه مجموعةً مِنَ المُفَكِّرين، ممَّن ظفروا بتكوينٍ أكاديميٍّ حديث، وتكوينٍ لغويٍّ متعدِّد، كذلك كانوا على صلةٍ عضويةٍ بأساتذةٍ كبارٍ في حوزة قُم، فأصاب معظمُهم تكوينًا موروثًا في الفلسفة والعرفان.
يعود تشكُّل النواة الجنينية لهذا الاتجاه إلى عصر «الثورة الدستورية»، ثم تنامَى بمرور الزمن.
عبر مسيرةِ هذا الاتِّجاه سادَ كلَّ مرحلةٍ تيارٌ فكريٌّ، قدَّم تفسيرًا محدَّدًا للدين والتراث، نوجزها في الآتي:
-
(١)
تيار التفسير العلمي: كان المهندس مهدي بازرگان (أول رئيس وزراء للحكومة المؤقتة بعد الثورة الإسلامية) رائدًا للتفسير العلمي للقرآن والنصوص الدينية، وهو توجُّهٌ نشأ منذ القرن التاسع عشر، وشاع في النصف الأول من القرن العشرين بين الكثير من المثقَّفين المسلمين، خاصَّةً في البلاد العربية. فكانت جهود بازرگان نموذجًا لذلك، إذ تكثَّفت جهودُه في تفسير القرآن على المقارنات والمقاربات مع معطيات العلوم والاكتشافات الحديثة. وهكذا نعثر على هذه النَّزعة في آثار «شريعتي الأب» محمد تقي، وبصورة أقلَّ لدى «شريعتي الابن»، ويد الله سحابي، والسيد محمود الطالقاني … إلخ. نشأ هذا التيار في الأربعينيَّات والخمسينيات والستِّينيات من القرن العشرين، واضمحلَّ بالتدريج في السبعينيات. ولم يعد له ممثِّلون معروفون اليوم.٥
-
(٢)
تيار الهوية «الذاتية»: أحمد فَرْدِيد، الفيلسوف الشِّفاهي، أو «الفيلسوف ضد الفلسفة»، كما عنونتُ مقالتي عنه، المنشورة في مَجلَّة الكوفة الأكاديمية،٦ هو أبرز رائد للهوية والذاتية. يجترح فرديد مصطلح «غربزدگي» بمعنى «الإصابة بالغرب»، فالغرب بمثابة وباءٍ أصاب اليونان القديمة، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومنها تفشَّى، فتسمَّم به العالمُ. «الإصابة بالغرب» عنده عبارةٌ عن حقيقة «الإصابة باليونان». لا يتردد فرديد في نعت الغرب، منذ الحضارة اليونانية حتى اليوم بالوباء المتفشِّي في العالم زمانيًّا وجغرافيًّا. فيعمم هذا الوباء — كما يسمِّيه — على تاريخ الإسلام، الذي يرى أنه «مشحونٌ بآراء وعقائد الإصابة بوباء الغرب.» ويحلو له أن يصنِّف «الإصابة بالغرب» إلى: «مضاعفةٍ وغير مضاعفة، بسيطةٍ ومركَّبة، إيجابيةٍ وسلبية». يتخذ فرديد من «الإصابة بالغرب» معيارًا يُصدر من خلاله أحكامه القدحيَّة حيال الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء وغيرهم.يصوغ فرديد رؤيته استنادًا إلى علم الأسماء الإلهية عند ابن عربيٍّ، وفلسفة هَيدغر، واللسانيات وعلم اللغة المقارن والفيلولوجيا، منقِّبًا عن جذور الألفاظ والكلمات وأنسابها. ويلفِّق أنظمةً معرفيةً متباينة، ويخلط بينها بشكلٍ لا يخلو من الْتباسٍ وغموضٍ واضطرابٍ، بتركيب مقولاتٍ ومفاهيم متنافرةٍ، لا تنتمي إلى السياق ذاته، في إطار بناء مقولاته، فيوحِّد بين ابن عربيٍّ وهَيدغر، والفيلولوجيا وفلسفة التاريخ، في مزيجٍ غير متجانس، تختلط فيه عناصرُ مختلفة، ويعمل على صياغة مقولاتٍ يجترح لها تسميات خاصَّة.٧
نعثر في آثار شريعتي على بصمات واضحةٍ لمفاهيم هذا التيار، مثل دعواته الحماسية للعودة إلى: الأصالة، والهوية الحضارية، والذاتية، حتى إنه خصَّص للأخيرة كتابًا كاملًا، أسماه «العودة إلى الذات»، وعالجها في موارد مختلفة من أعماله.
طغت في هذه المرحلة مفاهيمُ الهوية، والذاتية، والخصوصية الحضارية، والسياقات الاجتماعية والثقافية والدينية المحلية للاجتماع الإيراني، في خطابات وآثار أبرز المثقفين الإيرانيين.
مضافًا إلى فرديد وشريعتي كان حسين نصر من أبرز دعاة «الذاتية»، وإنْ كان مفهومُ الذاتية والهوية لديه أُنطولوجيًّا ملتبسًا غامضًا، يحيل إلى «الحكمة الخالدة».٨ ورغم أن هذا المفهوم أُنطولوجيٌّ وملتبسٌ أيضًا لدى فرديد، لكنَّ تفسيرَه يختلف عن تفسير نصرٍ للهوية.يمتلك حسين نصر خبرة جيدة بالحداثة الغربية ومناهجها وأدواتها النقدية، ومعرفة بجرأتها في تفكيك وغربلة مقولاتها ومواقفها. حتى إن المراجعات النقدية الجادَّة التي كتبها هو وجماعة «السنَّة» للمفاهيم المفتاحية للحداثة والتنوير، كالعقل والتقدم والعلم والتكنولوجيا والحرية الفردية، تأثَّرَت بالنزعة النقدية للحداثة، ووظَّف فيها ما تعلَّمه من تلك المراجعات النقدية. لكنَّ المعروف عن حسين نصر عدم اكتراثه بالنقد، ووثوقيته ووفاءه لآرائه، وإصراره عليها، وتكرارها منذ كتاباته الأولى إلى اليوم؛ فلم أعثر في آثاره بمختلِف سنوات تدوينها على مراجعةٍ، أو تقويمٍ، أو نقدٍ، أو اعترافٍ بخطأ، أو تصويب رأي غير صحيح كان يتبناه، كأن مفاهيمه كافَّة وُلِدَتْ ناجزةً مكتملة.
لا يكفُّ حسين نصر عن تبجيل الماضي، والثناء على التاريخ، وتنزيه مسيرة الأديان في المجتمعات البشرية، من دون أية إشارة لما يضجُّ به التاريخ من حروبٍ دينيةٍ، تواصلتْ عشرات أو مئات السنين، كالحروب الصليبية التي استمرت لقرنين، كما لا يتحدث عن اضطهاد وقمع وتعذيب وإعدام محاكم التفتيش الدينية في العصور الوسطى لأعدادٍ كبيرةٍ من العلماء والأحرار، كذلك لا يذكر نصرٌ صلبَ الحلَّاج، وإعدام شيخ الإشراق السُّهْرَوَردي، وشمس الدين محمد بن مكِّيٍّ العاملي (الشهيد الأول)، وزين الدين بن عليٍّ (الشهيد الثاني) وغيرهم، ويتجاهل فتاوى تكفير محيي الدين بن عربيٍّ، وجلال الدين الرومي، وعمر الخيام، وما يتضمَّنه كلام الفرق وفقه المذاهب من تكفير لغير المسلم وأحيانًا للمسلم.
إن حسين نصر وجماعته يتنكَّرون للأُطُر الاجتماعية للمعرفة، ويتعاطون مع معارف ووقائع وأفكار الماضي، باعتبارها متعاليةً على الواقع، عابرةً للزمان والمكان.٩أما علي شريعتي فإنه لا يقارب مفهوم الذاتية والهوية من منظورٍ أُنطولوجيٍّ، وإنما يقدم تفسيرًا اجتماعيًّا ثقافيًّا ثوريًّا ﻟ «العودة إلى الذات». وبذلك لا يتطابق مفهوم الذات والهوية في تفسير كل واحدٍ من هؤلاء المفكرين الثلاثة.
-
(٣)
تيار الماركسية الإسلامية: تنوَّع التأثُّر بالماركسية والحركات الاشتراكية في عالم الإسلام، فظهرت مؤلَّفاتٌ عديدةٌ تخلع على بعض صحابة النبي «ص» رداءً اشتراكيًّا، وحاولتْ كتاباتٌ أخرى أن تقدِّم تفسيرًا ماركسيًّا لحركات الخوارج والقرامطة والزنج في العصرين الأموي والعباسي.١٠ واتسعت موضةُ تلوين الإسلام بالماركسية وتلوين الماركسية بالإسلام في الخمسينيات والستِّينيات من القرن الماضي، لحظة غرام النُّخَب بوعود الاشتراكية وأحلام الشيوعية.وتفشَّت عدوى التفسير الماركسي والاشتراكي إلى الفكر الديني الإيراني أيضًا، وتخطَّت العدوى في إيران الفكرَ النظريَّ، عندما تحولت إلى بناء أحزابٍ ومنظماتٍ تُبتنَى أيديولوجيتُها على تلفيقٍ مشوَّهٍ يخلط الإسلام بالماركسية. وتُمثِّل منظمة مجاهدي الشعب (سازمان مجاهدين خلق ايران) أبرز نموذجٍ لهذا الخلط والتركيب للمقولات المتضادَّة في إيران. تأسست هذه المنظمة عام ١٩٦٥م، أسَّسها: محمد حنيف نجاد، وسعيد محسن، وعبد الرضا عبدي. كان اسمها في بداية نشأتها منظمة المجاهدين (سازمان مجاهدين)، ثم أضحتْ لاحقًا باسم «منظمة مجاهدي الشعب»، وهي حزبٌ سياسيٌّ معارضٌ لنظام الشاه محمد رضا، ولاحقًا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يعتمد أيديولوجيا ثوريةً تلفيقيَّةً، بصياغةٍ مبتذلةٍ لماركسيةٍ إسلامية.١١كان المثقف والسياسي الإيراني محمد نخشب (١٩٢٣–١٩٧٦م)، أول من صاغ رؤيةً أيديولوجيةً تخلط الاشتراكية بالدين والتراث. أسَّس محمد نخشب بمعية حسين راضي «نهضة التوحيديين الاشتراكيين»،١٢ وهم جماعةٌ من الشباب المتدينين ذوي نزعةٍ اشتراكيَّة. انصبَّ اهتمامُ نخشب وجماعتُه على الأبعاد الأخلاقيَّة والإنسانيَّة في الدين، وعمل على إنتاج قراءةٍ إسقاطيَّةٍ على النص الديني والماضي والتراث، فخلع عليه صورةً اشتراكية، وكان يحسب أن الاشتراكية الإنسانية العملية تجسدت في صدر الإسلام، أما الاشتراكية الأوروبِّية فهي اشتراكيةٌ خياليةٌ. تأثَّر بأفكاره ومنحاه الاشتراكي في تأويل الإسلام علي شريعتي في بداية حياته، فترجم كتاب «أبو ذرٍّ الغفاري» لعبد الحميد جودة السحار، تحت عنوان «أبو ذرٍّ التوحيدي الاشتراكي» (أبو ذر، خداپرست سوسياليست).١٣
-
(٤)
تيار معرفي عابر للأيديولوجيا: يتوكَّأ هذا التيار في تفسير الدين وتجلِّياته في حياة الفرد والمجتمع على فلسفة العلم والألسُنيات وعلوم التأويل والهرمنيوطيقا وفلسفة الدين والإلهيات الجديدة في الغرب، كما يوظِّف علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس والعلوم الإنسانية في دراسة وتحليل الظواهر الدينية.
يهتم هذا التيارُ بنصوص الأديان الآسيوية الشرقية وتجارِبها الرُّوحية، كما يشتد اهتمامُه بالموروث الصوفي المتأخِّر في الإسلام؛ أعني آثار محيي الدين بن عربيٍّ وجلال الدين الرومي، وغيرهما. وعادةً ما يحيل إلى تلك النصوص، سواءٌ كانت نثرًا أو شعرًا.
وكأن هذا النمط من الفكر الديني يريد أن ينتقل من الأيديولوجيا إلى الأُنطولوجيا، وبتعبير المتصوفة: ينشد الارتقاء والصعود من الشريعة إلى الطريقة ثم الحقيقة.
يشدد هذا التيار على التمييز بين: الوحي والتجرِبة النبوية والقراءة النبوية للعالم، الدين والمعرفة الدينية، الدين والتديُّن، الدين والأيديولوجيا، إسلام الحقيقة وإسلام الهويَّة، إسلام التحقيق وإسلام التقليد، إسلام التأسيس وإسلام التثبيت، إسلام التاريخ وإسلام الرسالة … إلخ. وأبرز روَّاد هذا التيار اليوم هم: داريوش شايغان، عبد الكريم سروش، محمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان.
بدأتْ هذه الأفكار بالظهور الأوَّلي، في مَجلَّة الفكر الإسلامي (انديشه ي إسلامي)، وهي دوريةٌ شهريةٌ أصدرها محمد مجتهد شبستري في العام الثاني للثورة الإسلامية، واختفت قبل أن تُكمل عامها الأول. ومنذ ذلك الحين بدأت مفاهيمُ هذا التيار بالتدفق، فبعد مُضِيِّ أربع سنواتٍ من عُمر الثورة الإسلامية كتب عبد الكريم سروش سلسلة مقالاتٍ نشرتها مَجلَّة العالم الثقافي (كيهان فرهنگي)؛ تناولت الاختلافَ بين الدين بوصفه ثابتًا، والمعرفة الدينية؛ أي فهم الدين بوصفه متغيرًا. ثم صدرت في كتاب «قبض وبسط نظرية الشريعة».١٤كان نشرُ تلك المقالات، وجمعها لاحقًا في كتابٍ، إيذانًا بتدشين مسارٍ مختلفٍ للتفكير الديني في إيران، إذ كان صدور كتاب «قبض وبسط نظرية الشريعة» بمثابة المنعطف، بل الجرح النرجسي للتفكير الديني التقليدي.
وتواترت فيما بعد كتاباتٌ للمؤلِّف نفسه ولمفكرين آخرين في السياق ذاته، تعلن رؤًى مغايرةً للسائد، وتبوح بانبثاق سؤالٍ ميتافيزيقيٍّ جديد، وتقتحم حقولًا لم يغامر الفكرُ الديني في إيران بالتوغُّل فيها من قبل، وتقترح مقولاتٍ لاهوتيةً بديلة.
-
(١)
(٢) ولادة علي شريعتي ونشأته وتعليمه
(٣) أدلجة الدين٣١
يغالي شريعتي بوظيفة الأيديولوجيا، فترتقي لديه إلى مرتبة أن تصير وصفةً تعالج كلَّ تشوُّهات وأمراض المجتمع، وتمنحه مجموعة أحلامه صفقة واحدة، فهو لا يني يشدِّد على أخلاقية الأيديولوجيا، وابتكارها لقيمٍ جديدة، وأثرها السحري في المحو والإثبات، وصياغة مجتمعٍ مثاليٍّ.
لا يتنبه شريعتي إلى أن تفشِّي الأيديولوجيات اليسارية والقومية والسلفية في مجتمعاتنا، أنتج عقلًا ديماغوجيًّا مغلقًا متحجِّرًا، يفسِّر كلَّ شيءٍ بشيءٍ واحدٍ، ويبثُّ وعودًا وأحلامًا رومانسيةً خلاصيةً، منقطعة الصلة بالواقع، ويعمل على إنشاء فضاءٍ أيديولوجيٍّ مسيَّجٍ بأسوارٍ مقفلةٍ، وكأنها سجونٌ يُولَد ويترعرع في داخلها أتباعٌ لا يطيقون العيش خارج أسوارها، بعد أن تُمسي الأيديولوجيا مادَّةً لأذهانهم ومشاعرهم، ويُمسون هم مادَّةً لها.
الأيديولوجيا نسقٌ مغلقٌ، يغذِّي الرأس بمنظومة معتقداتٍ ومفاهيمَ ومقولاتٍ نهائيةٍ، تعلن الحرب على أية فكرةٍ لا تشبهها، تنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ، وكأنها تتمثَّل قول فرعون: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ غافر: ٢٩.
يتبنَّى الأيديولوجي نموذجًا تفسيريًّا مسطَّحًا أُحاديًّا، يمنحه شعورًا مزوَّرًا بأنه قادرٌ على الفهم الدقيق والتحليل العميق لكلِّ شيءٍ، وأن أفكارَه مبتكرةٌ فريدة، ويوحي له ذلك التفسيرُ بنزعةٍ رسوليةٍ خلاصيةٍ، وشخصيةٍ نبويَّةٍ إنقاذيَّةٍ. ويلبثُ غارقًا لا يستفيق من عبوديَّته للأيديولوجيا، حتى كأن سعادته في عبوديته هذه.
إن الأيديولوجيا تعطِّل التفكير التساؤليَّ الحرَّ المغامر، الذي يتخطَّى ترسيماتها وحدودها. إذ تعمل الأيديولوجيا على إشاعة تقاليد تُقَدَّم فيها الأفكار كحقائق جزميةٍ نهائية، وترتاب وتقلق من إثارة الأسئلة. تشدِّد على القول: ليس من الصحيح أن نثير أسئلةً، أو أن نتحدَّث بإشكالاتٍ تزعزع ثقة الناس بقضيَّةٍ معيَّنةٍ. الأيديولوجيا تتنكَّر لحقِّ الاختلاف والتنوُّع، وتشدِّد على ضرورة تبنِّي المجتمع لمعتقدٍ واحدٍ، ورؤيةٍ مشتركةٍ، وتفسيرٍ موحَّدٍ تنجزه هي، وترفض أية محاولةٍ لتفسيرٍ لا يتطابق معه. تحذِّر من الأسئلة التي تزعزع مرتكزاتها وتفسيراتها، مع أن بناء وتطور المجتمعات يبدأ بانبثاقِ الأسئلةِ غير المكررة، الأسئلة الجريئة، الأسئلة العميقة، الأسئلة الصعبة، الأسئلة الكبرى. يتجلَّى العقلُ بالسؤال أكثر من الجواب، الأسئلة الهشَّة تفضح العقولَ الهشَّةَ، الأسئلة العميقة تتجلَّى فيها العقولُ العميقة.
لا يتطور المجتمع ما لم يكن تفكيرُه تساؤليًّا على الدوام، التفكير التساؤلي هو الذي يمكننا من الوصول إلى ما هو ممنوعٌ التفكير فيه، والفضاء الذي لم تقتحمْه الأسئلةُ أصلًا. التفكير لا يكون محايدًا، إمَّا أن يكون تفكيرًا تساؤليًّا بحرية، وهو التفكير الذي ينطلق بالعقل بمغامرةٍ جسورةٍ فيحطم أغلاله، أو يكون مقيَّدًا مشلولًا يقود إلى العبودية. النقد والتساؤل عمليَّتان مهمَّتان، هما شرطُ كلِّ إعادةِ بناءٍ للعقل، ومرتكزٌ لكلِّ عمليَّة تجديد من شأنها تحقيق تنميةٍ شاملةٍ في أي بلدٍ من البلدان.
يتعطل التفكير حين تُغْلَقُ الأسئلةُ المفتوحة، الأيديولوجيا تقوِّضها الأسئلةُ المفتوحة، لذلك لا يبقى في فضائها أيُّ سؤالٍ مفتوحٍ، وتحرص أن تقدِّم إجاباتٍ جاهزة لكلِّ سؤالٍ مهما كان.
لا توجد خطورةٌ أو مشكلةٌ من إثارة الأسئلة. هناك منطقٌ تبسيطيٌّ يسود التفكير الأيديولوجي، يذهب إلى أن السؤال الذي يُثار ينبغي أن يكون جوابُه جاهزًا، من أجل ألَّا نثير حالة من الارتياب والشك، وكأنه يفترض أن لكلِّ سؤالٍ جوابًا مسبقًا، ولا بدَّ من أن يكون هذا الجواب نهائيًّا، وهو لا يدري أن هناك أسئلةً ظهرت في الحياة البشرية منذ فجر الوعي البشري، وما زالت هذه الأسئلة تتكرَّر، وإجاباتُها أيضًا يعاد تكوينها، كما تنبثق لها إجاباتٌ جديدةٌ على الدوام، من دون أن يكفَّ العقل فيها عن التفكير، وتبلغ كمالها.
الأيديولوجيا جزميةٌ، همُّها تنميط وتدجين ونمذجة الشخص البشري، لذلك تقدِّم جوابًا واضحًا لكلِّ سؤالٍ، وكأنها لا تدري أن أسئلةً كبرى — كأسئلة المبدأ والمصير — ما لبثت منذ آلاف السنين مفتوحةً. في ضوء ذلك يمكننا تفسير اتساع فضاء التيارات والمدارس الفلسفية واللاهوتية، وتنوُّع الآراء والمقولات والاجتهادات لديها على مرِّ التاريخ. موضوع منح معنًى للحياة، وكيف أن الإنسان مسكونٌ بمنح معنًى لوجوده، هذا أحد الأسئلة الكبرى في الوعي البشري. أفاضت الفلسفاتُ، وأيضًا اللاهوتُ، بتقديم أجوبةٍ متنوِّعةٍ عن هذا السؤال، غير أن هذا السؤال لن يكفَّ عن طلب تفسيراتٍ فلسفيةٍ ولاهوتيةٍ جديدةٍ، تحلِّل وتشرح معنى الحياة والوجود.
وظيفة الأسئلة وظيفةٌ أساسيةٌ، إنها تفتح أفقَ النَّقْدِ والمراجعة، وتدعو العقل لفضح الأخطاء، تلك الأخطاء التي كانت لزمنٍ طويلٍ تُعدُّ من الحقائق واليقينيات النهائية. تاريخ العلوم ينطوي على سلسلة من التكذيبات، كأنه مقبرةٌ للنظريَّات العلمية. التشكيكُ والتساؤلُ يسمحان لنا باستئناف النَّظر في طائفةٍ من الجزميَّات والمسلَّمات والبداهات. قيمة الفكر الحديث أنه يستأنف النظرَ بالمسلَّماتِ، وعلى حدِّ تعبير إدغار موران: «اللايَقين يقتل المعرفة البسيطة، لكنَّه يُحيي المعرفةَ المركَّبة.»
حين نعود إلى اللحظات الحاسمة في نشوء وتطور الحضارات العظمى، نجد أنها انبثقت عن أسئلةٍ مصيريةٍ عميقة. إن تاريخ الحضارات الكبرى هو تاريخ الأسئلة الكبرى. وهكذا الحال في إنتاج النظريَّات وابتكار الآراء الجديدة في الفكر الديني، لا تتوالد الآراءُ الجديدة إلا في فضاء التساؤلات، ولا تنبثق إلا من خلال مواقف العقل الارتيابية. يقول هَيدغر: «السؤال رحمة الفكر.»
(٤) الدين يهدف لتحقيق العدالة
الدين يتمحور هدفُه العميقُ حول تأمين ما يفشل العقل والخبرة البشرية في تأمينه للحياة. الإنسان كائنٌ لا يشبه إلا الإنسان، وهو الكائن الذي يفتقر إلى ما هو خارج عالمه المادِّي الحسِّي، خلافًا للحيوان الذي لا تتجاوز احتياجاتُه عالمَه المادِّيَّ. الإنسان في توْقٍ ووجدٍ أبديَّين إلى ما يفتقده في هذا العالم، وذلك ما تدلِّل عليه مسيرةُ هذا الكائن منذ فجر تاريخه إلى الآن. هذه الحاجة مزمنةٌ، تستمرُّ حتى آخر شخصٍ يعيش في هذا العالم. وهو ما يعبِّر عنه «الظمأُ الأُنطولوجيُّ للمقدَّس» في حياة الكائن البشري.
(٥) الحسَّاسيَّة السياسية والحسَّاسيَّة الفلسفية
قادت هذه الرؤية شريعتي إلى التسامي بأبي ذرٍّ، وجعل سلوكه معيارًا يُختبَر على أساسه نمطُ التديُّن والأثر الإيجابي له في حياة الفرد والمجتمع، أبو ذرٍّ يمتلك «حسَّاسيَّةً سياسيةً»، ورؤيةً طبقيةً منحازةً إلى المجتمع، بينما يمتلك ابنُ سينا وأمثالُه «حسَّاسيَّةً فلسفيةً»، ويفتقرون إلى رؤية أبي ذرٍّ.
يُقلق شريعتي العقلُ الفلسفيُّ؛ ذلك أن الفلسفةَ تهشِّمُ أسوارَ العقلِ المغلق، فتستأنف النظرَ في البداهات، وتفكِّك اليقينياتِ، وتعيد صياغةَ الأسئلةِ العميقةِ. الفلسفةُ لا تكفُّ عن توليد الأسئلة، وتُفَكِّكُ الأُطُرَ الأيديولوجيةَ المغلقةَ. يعملُ العقلُ الفلسفيُّ على حذفِ الأخطاءِ المتراكمةِ في تفسيرِ الحقيقةِ، وتصويب فهمِ الوجودِ، وابتكار رؤيةٍ عقليةٍ للعالم، وصياغة معنًى للإنسان يكتشف طبيعتَه ورتبتَه الوجودية. إنها مسعًى لإشباع شغف العقل بالمعنى.
حين يصمت العقلُ الفلسفيُّ تدخل عمليةُ التفكير في سباتٍ، ويتعطل توليدُ المعارف والعلوم. إن صمت العقل الفلسفي ينتهي إلى غرق المجتمع بالجهل، وشيوع العقلية المبسطة، وتفشِّي أحكام الغرائز والمشاعر والعواطف والانفعالات والانطباعات والتصوُّرات اللاعقلانيَّة، واتساع البلاهة. حين تنسى الفلسفةَ تنساك أعيادُ التاريخ.
يُقلق الإسلامَ السياسيَّ التفكيرُ الفلسفيُّ في الدين، لأنه يُقَوِّض الأيديولوجيا، وينفتح فيه الوعيُ على آفاقٍ رحبةٍ لوظيفة الدين ووعوده في حياة الإنسان. تشترك الجماعات الدينية في موقفها المناهض للتفكير الفلسفي في الإسلام، ويتخذ مفكرو الإسلام السياسي الموقفَ ذاتَه من هذا اللون من التفكير، وهو موقف متوارَث من الغزالي وأمثاله حتى سيِّد قطب ومن اقتفى أثرهم إلى اليوم.
تتجلى في شخصية شريعتي أبعادٌ متنوعة، وكأنه ملتقًى للأضداد التي تتمثل في: المثقف الرسولي، الداعية النبوي، الأخلاقي، المؤمن، الإنسان، النبيل، الغيور، الشهم، الشاعر، الفنان، الرؤيوي، الأديب، الناقد، العاطفي، العاشق، المتمرد، القلق، المتبرم، الحالم، الثائر … تتداخل في تفكيره ومشاعره وأحاسيسه: عقليةُ الناقد، مُخيِّلةُ الفنان، حساسياتُ الشاعر، مشاعرُ العاشق، غيرةُ المؤمن، ذوقُ المتصوف، أشواقُ العارف، بوحُ الشجاع، جسارةُ المتمرد، تهورُ المغامر. هذه صفاتٌ تبدو متنافرةً متضادةً؛ ذلك أنها عادةً لا تجتمع كلُّها وتتوحد في شخصيةٍ واحدةٍ، بإيقاعٍ كأنه متناسقٌ، إلا في حالاتٍ نادرة.
الترجماتُ العربية لأعمال شريعتي أخفقَ أكثرُها في تمثُّل اللغة الشعرية لشيء من شذرات شريعتي وشعاراته المُتَّقِدة.
(٦) بروتستانتية إسلامية
انتهى تشديدُ شريعتي على الأبعاد الدنيوية للدين إلى تمركز مفهومه للدين على العناصر التي وصَلها عضويًّا بأدلجة الدين، وأهمل التوغُّل في جوهر الدين، ولم يتنبه لاكتشاف مضمونه الأصيل ومهمته في إرواء الظمأ للمقدس. نلتقي في فهمه للدين مختلِف الأبعاد: الحضارية، الثقافية، الزمانية، المكانية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية. كما نلاحظ اهتمامه ﺑ «نزع السحر» عن رموز الدين ومقدَّساته، وإفقاره ميتافيزيقيًّا، مثلما فعلت البروتستانتية في المسيحية.
قدَّم شريعتي تفسيرًا تاريخيًّا للبعثة والدعوة والسيرة النبوية وسيرة أهل البيت والصحابة، تفسيرًا يهتم بدراسة العناصر والعوامل والظروف البشرية المتنوعة، ويخفِّض حضورَ ما هو غيبي، ويحاول أن يفكك بين ما هو تاريخي وما هو ميتافيزيقي، وقد تمحور اهتمامُه بما هو تاريخيٌّ وأهمل ما هو ميتافيزيقي. وهو ما نقرؤه في أعمال حسن حنفي من المفكرين العرب.
البروتستانتية هي حركة الإصلاح الديني في الكاثوليكية، التي أطلقها مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م). البروتستانتية الإسلامية هي «حركة أدلجة الدين والتراث في الإسلام الحديث والمعاصر»، ويمكن أن نؤرِّخ لها بولادة الإخوان المسلمين. البروتستانتية المسيحية والإسلامية كلتاهما تشتركان بإنهاك الدين، وإفقاره ميتافيزيقيًّا، وخفض طاقته الرُّوحية، وإهمال قيمه المعنوية والأخلاقية، والتشديد على مضمونه الأرضيِّ. البروتستانتية الإسلامية مختلفة عن المسيحية، فالبروتستانتية المسيحية حرَّرت الدولة من الدين، والبروتستانتية الإسلامية أفشلتِ الدولةَ بالدين، وأنهكتِ الدينَ بالدولة.
تتكرر في آثار شريعتي — كما تقدمت الإشارة لذلك — مفاهيمُ الأصالةِ، والخصوصية، والهوية الحضارية، والذاتية، حتى إنه خصص ﻟ «العودة إلى الذات» أحد كتبه، وعالجها في موارد مختلفة من آثاره. وطغت في هذه المرحلة لدى المثقفين الإيرانيين فكرة «الذاتية»، والعمل على اكتشاف السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية للخصوصية والهوية الإيرانية.
بصمةُ الهوية والذاتية والخصوصية تسودُ أعمالَ شريعتي، هذه البصمةُ جذابةٌ للقراء الشباب، خاصة وأن شريعتي بارعٌ في صياغتها على شكل شعارات فاتنة توقظ حنين الهوية، وتثير المشاعر والعواطف، وتوقد الانفعالات. ليس بوسع الناس العيش بلا آباء، شريعتي هو الأب الرومانسي، الساحر بشعاراته الملتهبة. هذه الشعارات هي التي ساهمت بصياغة نمط رؤية الشباب للعالم، ورسمت صورَ أحلامهم، ونسجت أوهامَهم، وما يتمنونه للإنسان والأوطان.
(٧) التناشز الأُنطولوجي بين الرؤى المتنوعة للعالم
تعاطى شريعتي بحرِّيَّة واسعة مع انتقاءِ المناهج والمقولات والأفكار، ووظَّفها في بناء رؤيته الكونية ومفاهيمه وآرائه، حيال الله، والميتافيزيقا، والطبيعة والعالم، والإنسان والمجتمع، والتراث والواقع. تفسيراته وتحليلاته لفلسفة التاريخ، والتقدم والتخلف، والمنعطفات والحوادث الهامة في مسيرة المجتمعات عبر الزمان، تحيل إلى: هيغل، ماركس، سارتر … وغيرهم. يقترب من هيغل في رؤيته للعالم، ومن ماركس في تفسيره للتاريخ والتغيير الاجتماعي، ويستلهم وجودية سارتر في تفسيره الفلسفيِّ للإنسان.
ترِد في أعماله إشارات وإحالات متعددة لطائفة من الفلاسفة والمفكرين والأدباء الغربيين، لكن تلك الإحالات والتطبيقات لآراء أولئك المفكرين، لا تخلو من تبسيط وتعسُّف أحيانًا.
إنه يحرص على توظيف كل ما يعرفه من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، من أجل تكريس قراءته الأيديولوجية، فهو متحيِّزٌ سلفًا لمواقفه وآرائه الجاهزة، يحشد كلَّ ما يتوافر لديه من عُدَّة معرفية للتدليل عليها، ومحاجَجَةِ الآخرين الذين يرفضونها.
يكتفي شريعتي بقراءة سريعة وانطباعات عاجلة لمعطيات المعرفة الحديثة، يتوقف فيها عند السَّطح في دراساته ومطالعاته للفكر الغربي، ولم يشأ اكتشاف البنية العميقة لهذا الفكر، وأسسه الفلسفية، وآفاقه ومَدَياته الواسعة، ومجالاته المتنوعة، والتباساته وتناقضاته وثغراته. ربما يكتفي بانطباع أوَّلي، وتعاطٍ شعاراتي، مع نسيج المقولات والمفهومات والأنساق المتشابكة للفكر الحديث.
(٨) أجوبة جاهزة
علي شريعتي نموذجٌ للمفكر الأيديولوجي الذي يبرع في تحويل التاريخ إلى أسطورة، ثم يعيد إدراج الأسطورة بالتاريخ ويوحِّدهما، إلى درجة تطمس الحدود الفاصلة بينهما. خلَط شريعتي، بأسلوب شعري أخَّاذ، بين التاريخ والأسطورة، فقام بترحيل الحياة الواقعية لشخصيات دينية عاشت في زمان ومكان وبيئة ومحيط تاريخي، وواقع اقتصادي وسياسي وديني وثقافي، كما يعيشها أي إنسان آخر ينتمي إلى ذلك الواقع، ويعيش نمط العيش في ذلك العصر؛ رحَّلها إلى المخيال، ثم اقتبس صورة هذه الشخصيات من المخيال المتضخم عبر العصور، وأعاد توطينها في التاريخ الأرضي، وتحدث عنها وكأن هذه الصورة المتخيَّلة كانت متحققة في الواقع بالفعل. ولم يتنبه إلى أن الهويات والأحلام والنرجسيات الجمعية والمطامح الدينية تعمل على الدوام على توليد الخيال وتغذيته وتمديده وتوسيعه أفقيًّا وعموديًّا، وإعادة إنتاج صور الشخصيات التاريخية فيه إلى درجة تبتعد فيها كثيرًا عن واقعها، بل تصير بالتدريج مفارقة لذلك الواقع التاريخي.
(٩) يوتوبيا شريعتي
تميَّز شريعتي ببراعةٍ في مخاطبة الوجدان الشعبي، من خلال محاضراته الجريئة في حسينية «إرشاد» في طهران، بنحوٍ كان يهيمن على مشاعر المستمعين، ويغرقهم في أحلام رومانسية، إذ يصوغ لهم يوتوبيا دنيوية فاتنة، ينسجها من عناصر ومفردات وأفكار موروثة وحديثة، تخفق لها الأفئدة، وتشغف بها الأذهان. يعزز قبولَها صدقُه وجرأتُه، والإيقاع الخاص لنبرات كلامه، وطبقاته الصوتية الحزينة، المشبعة بأنغام استغاثة ولوعة وشجًى وتراجيديا، ولا تتردد في اقتحام الممنوع، والمجازفة في عبور محرمات السلطة والمجتمع والمؤسسة الدينية. يتذوق فيها المتلقي إيمانَ المرحوم شريعتي، وغيرتَه، وإخلاصَه، ومشاعرَه وعواطفَه المتَّقدةَ، وقلبَه الفوَّارَ بعشق الناس، والتضامنَ مع المهمشين والمحرومين والضحايا.
بالرغم من الحملة الواسعة المنظمة، التي قام بها جماعةٌ من رجال الدين، لتعبئة وتحشيد الرأي العام في إيران ضد شريعتي، إلا إن ذلك لم يفقده الكثير من المريدين والأتباع والمؤيدين في المجتمع، لا سيَّما وسط النخبة والمثقفين والثوار وقتئذٍ، ممن تداولوا كتاباته وطبعوها ووزعوها على نطاق واسع، وتبنَّوها كأدبيات للمقاومة والثورة. وأضحى فكرُ شريعتي وآراؤه وأقواله وشعاراته من أبرز عناوين الضجَّة في إيران قبل الثورة، غير أن الاهتمام به تراجع، بعد مرور عَقد على قيام الجمهورية الإسلامية، وانشغال الفكر الديني في إيران بأسئلة بديلة متنوعة، توالدت في فضاءِ تجرِبةِ أسلمة الدولة والمجتمع وتطبيق الشريعة.
غربل المثقفون الإيرانيون فكرَ شريعتي، وكتبوا في نقده آلاف الصفحات، من كتب ورسائل جامعية ومقالات، فضلًا عن الندوات والحلقات النقاشية، حتى استطاعوا عبورَه، ووضعَه خلف ظهورهم منذ سنوات طويلة. لكنَّنا بالعربية مسكونون بمضغ الكتابات التعبوية، ومغرمون بما يغذي غضبَ الشباب بالكتابات المبسطة والشعارات التحريضية، وما يؤجِّج لوعتَهم بحكايات المتخيَّل التاريخي، وما يملأ أذهانهم بالمفاهيم الهشَّة، وما يشعل مشاعرَهم بالأناشيد الغاضبة، وما يجرح ضمائرَهم بالتراجيديات الدمويَّة، وما يُغرق مخيِّلاتهم بالأحلام الرومانسية. تلك الكتابات تفشَّت في لغتنا العربية، عبر كرَّاسات الجماعات القومية واليسارية والدينية، والتلذُّذ بالوصَفات العاجلة الساذجة لتفسير المشكلات وعلاجها. أما المؤلفات العميقة للفلاسفة، والكتابات الجادَّة للمفكرين، فهي غريبة عنا ونحن غرباء عنها.
حين ينحطُّ العقل يفشل في بلوغ عتبةِ التفكير الفلسفيِّ العميق. كسل أذهاننا، وهشاشة تفكيرنا، وحنيننا للماضي، وشغفنا بالثَّرثرة، ساقتْنا إلى أن: نحتفي بكولن ولسن وننسى إيمانويل كانط، نحتفي بالغزالي وننسى ابن رشد، نحتفي بابن تيمية وننسى ابن عربي، نحتفي بالمودودي وننسى محمد إقبال. العقول الصغيرة لا تستوعب إلا الأفكار المبسَّطة الصغيرة. العقول الكبيرة تتسع للأفكار العميقة الكبيرة.
مرجعي في الكتابة عن فكر علي شريعتي أعمالُه الفارسية. لغةُ شريعتي شعريةٌ في شيءٍ من نصوصه، وشعاراتيةٌ في نصوص أخرى. أصداءُ فكره الشديدةُ بالعربية تنشأ من ذائقةِ المثقف العربي الشعرية، وذائقةِ عامة الناس الشعاراتية. قراءةُ شريعتي العربية في الغالب سطحيةٌ لا تغورُ لأعماق كلماتِه ولا ترى ما تتوحَّدُ فيه كتاباتُه. يرى الباحثُ الذكي الصبور بوضوح ما تشتركُ فيه كتاباتُ شريعتي مع الكتابات الأيديولوجية لليسار الأممي والقومي، وما تنشده أدبياتُ الإسلام السياسي في أوطاننا.
(١٠) تحرير الذات من عبوديَّاتها
خطيئةُ الجماعات الدينية تظهر في حرصها على إحياء إسلام التاريخ ونسيان إسلام النبوة. والسعي لإحياء التمثُّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للدين والتراث. وتجاهلت إحياء الإيمان، وبعث الحياة الرُّوحية، والحياة الأخلاقية. لحظة تنهار الحياةُ الرُّوحية ينطفئ الإيمانُ، وتتزلزلُ الحياةُ الأخلاقيةُ، وأخيرًا يتلاشى الدينُ ويندثر، وتتفشَّى بدلًا عن ذلك صورٌ خادعة للتديُّن، وتسود مظاهرُ زائفةٌ في المجتمعات تتقنع بأقنعةٍ دينيةٍ، غير أنها يمكن أن تُصنَّف على أي شيءٍ، ما عدا أن نصنفها إيمانًا وتديُّنًا رُوحيًّا أخلاقيًّا أصيلًا.
الأيديولوجيا تستعبدُ الإنسان. لم يدرك شريعتي أن أدلجةَ الدين تُغيِّب الإنسانَ عن ذاته، تُنسيه نفسَه وتشغله بغيره، من دون أن يتنبه إلى أن تغييرَ العالَم يبدأ بتغير الذات. مضافًا إلى أن مشكلة شريعتي وغيره تتمثل في أنهم لا يبصرون سوى ما يطفو على السطح من تمثُّلات الدين في التاريخ. لا يبتعدون عن قشرة الدين، لا يتوغلون إلى طبقاته العميقة. هذه القشرة تحجب عنهم استبصارَ جوهر الدين وأبعاده الرُّوحية والأخلاقية العميقة.
إدراك البعد الأُنطولوجي للدين، من شأنه أن يضع الدين في حقله الخاص. استبصار البعد الأُنطولوجي ومهمة الدين في تلبية الحاجة للمقدس يتطلب تأمُّلًا وتوغُّلًا في أعماق الذات. الحياةُ الرُّوحيةُ تتحقَّق بتذوُّقِ تَسَامِي الرُّوح وتبصُّراتها وإشراقاتها ومكاشفاتها.
لم تتعمق كتاباتُ وخطاباتُ المرحوم شريعتي باكتشاف طبقات الدين، ولم تتناول ما هو رؤيوي منها، توقَّفتْ غالبًا نقاشاتُه وحواراتُه وهمومُه في الطبقات السَّطحية، ولم تدرك تلك الطبقةَ الأعمقَ بوصفها رُوح الدين وحقيقته. ولا يتحقق إدراكُها إلا من خلال العبور إلى الوعي الأُنطولوجي للدين.
الإسلام الذي كان متعارفًا عليه بين المسلمين هو ما يمكن أن نطلق عليه إسلامَ الأغلبية، وأعني بإسلام الأغلبية: الإسلامَ العامَّ مقابل الإسلام الخاص، أو إسلام الجماهير، الإسلام الشعبي، إسلام الناس، كل هؤلاء الناس في المجتمعات المسلمة، الذين هم مسلمون محكوم بإسلامهم، يولدون مسلمين، ويموتون مسلمين، ويدفنون في مقابر المسلمين.
كان شريعتي مسكونًا بإصلاح المجتمع، والتنمية الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وكان يرى أن ذلك كفيلٌ بتبديل نمط حياة المجتمع والارتقاء به، وتبعًا لذلك يتحول نمط التديُّن وفهم النص الديني. غير أنه لم يهتم بضرورة التحوُّل في أصول ومبادئ ومناهج وقواعد فهم الدين والنص الديني. لأنه ما لم يحدث منعطفٌ في مناهج فهمنا للدين وتفسير النص الديني، فلن تحدث تنميةٌ وإصلاحٌ وتحوُّلٌ في المجتمع. إن أنماط التدين السلفي المتفشِّي، إنما هي نتاج فهم حرفي تبسيطيٍّ للنص الديني، صاغه الشافعيُّ منذ القرن الثاني للهجرة، في مدوَّنة أصول الفقه (الرسالة)، ومن نسج على منواله لاحقًا، ووضع له الأشعريُّ وغيرُه أرضيتَه اللاهوتيةَ، وترسخ بمرور الأيام وتحجر وانغلق. وما برح يتصلَّب، طبقًا لعَلاقة جدليَّة بين أصول الفقه وعلم الكلام، كل منهما يعيدُ إنتاجَ الآخر، في قوالب تُنَمِّطُ العقلَ المسلم، يتحدد فيها فهمُ النصِّ وترتهنُه حلقةٌ تَكراريَّة، تبدأ حيث تنتهي وتنتهي حيث تبدأ.
لا يكفُّ شريعتي عن ترديد الشعارات التعبوية التجييشية، التي تثير مشاعر الشباب وتشعل ضمائرهم، ويشدد دائمًا على تثوير كل شيء في المجتمع. حتى الفكر ما لم يكن ثوريًّا وحلوله ثورية لا قيمة له في نظره. لم يتنبه شريعتي إلى أنه ليست هناك حلول ثورية في الفكر، وأن مسيرةَ الفكرِ تراكمية تدريجية، لا تتحول إلى موج اجتماعي إلا بعد بناء أرضيات مجتمعية لها. من دون أن يقارن بين واقعنا وكيفية تشكيل العقل الحديث، فإن أرضيات بناء العقل الحديث تخلَّقت وتشكَّلت في الغرب منذ عصر النهضة قبل أكثر من أربعة قرون، بشروطها وسياقاتها الخاصة، لكنها لم تتشكَّلْ لدينا حتى اليوم.
ينظر شريعتي إلى مهمة المثقف بوصفها مهمة نبوية رسولية إنقاذية. ويتعاطى مع المفكر بوصفه منقذًا، وشخصية خلاصيَّة منجية، بلا تدبر في عملية التغيير الاجتماعي، وعواملها المختلفة، وتركيباتها المتنوعة، وكيف أنها ترتدُّ إلى نسيجٍ معقَّدٍ من العوامل المتنوعة الظاهرة والمستترة، وليس المفكِّر وفكره إلا واحدًا من عناصرها.
شريعتي غالبًا ما ينسى الذات، فيقفز للتفكير في المجتمع، يفتِّش مباشرةً عن رسالةٍ للدين في المجتمع، بل يريد أن يرى أثرًا إيجابيًّا للدين هناك، يرحِّل الدين مباشرةً إلى المجتمع، من دون أن يمرَّ بصناعة الذات. الدين لا تتحقق مهمته في المجتمع، إلا من خلال إعادة بناء الذات بالمعنى الأُنطولوجي. بمعنى أنَّ إفقارَ الذات إفقارٌ للمجتمع، إعادة بناء المجتمع تبدأ بإعادة بناء الذات.
لا شك في أن الإنسانَ هو المادة الأساسية للتنمية الشاملة بكل أشكالها، به تتحقق وتُنجَز إن كان إيجابيًّا سويًّا، وبه تُخفِق وتنحطُّ إن كان سلبيًّا ليس سويًّا. مضافًا إلى أن نمط العَلاقات الاجتماعية في العائلة والمجتمع ينمو ويزدهر فيه التضامن، وتسود النزعةُ الخيريَّةُ، إنْ كان الفاعلُ الاجتماعيُّ صاحبَ حياةٍ دينيَّةٍ حقًّا؛ ذلك أن سعادته لا تكتمل في عَلاقاته بالناس إلا إذا كانت سعادتُه هي أن يُسعد الآخرين.
إن هذه الرؤية الأُنطولوجية لمهمة الدين ووظيفته العميقة في بناء الذات، لا تدَّعي أن الدين ليس مؤثِّرًا في المجتمع، وإنما هي تؤشِّر بوضوحٍ لأفقِ الانتظارِ من الدين، ونمط المهامِّ الكبرى التي يَعِدُ بها. فإذا عمل الدينُ في حقله الحقيقي، وأنجز وعودَه التي يقدِّمها للإنسان، آنذاك يُشبع الإنسانُ حاجتَه لخلعِ المعنى على ما لا معنى له، ويرتوي تعطُّشه للوجود، وظمؤه الأُنطولوجي للمقدس، فيصبح ممتلئًا متوازنًا إيجابيًّا سويًّا، لا ينهكه القلقُ، وفقدانُ معنى الحياة. حين يرتوي ظمأُ الذاتِ للمقدَّس تخمد نَزَعَاتُ الشرِّ والعدوانِ في شخصية الكائن البشري، وتصبح شخصيتُه أكثرَ قدرة على المساهمة الفاعلة في البناء الاجتماعي، والعمل الإيجابي المؤثِّر في إنجاز التنميةِ بمختلِف حقولِها.
انظر: متيني، جلال، إيرانشناسي، س٥، ع٤، ص٨٣٥–٨٩٩. س٦، ع٢، ص٣٧٧–٤٤١. رهنما، علي، مسلماني در جستجوي ناكجا آباد، ص٢٣٥–٢٣٨. هاشمي، محمد منصور، دين انديشان متجدد: روشنفكري ديني از سروش تا ملكيان، ١١٥. جعفريان، رسول، مصدر سابق، ص٧١٢.
أعني بالأيديولوجيا نظامًا لتوليد المعنى يُنتجُ وعيًا زائفًا بالواقع، ويصنعُ نسيجَ سلطة متشعبة وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباوي متخيَّل. الأيديولوجيا تحتكر نظام توليد المعنى، بُغية إنتاج وعي يطمسُ مختلِفَ أبعاد الواقع، ويبتكرُ صورةً متخيَّلة له.
وسيِّد قطب قبل علي شريعتي يُبدي رأيَه المناهضَ بشدَّةٍ للفلسفةِ والفلاسفةِ. ويصفُ محاولاتِهم بأطفالٍ يخبطون ويخوضون. ويحكم على منجزاتهم بأنها: عبثٌ، وخلطٌ، وخوضٌ … حين يكتب: «إن سائر التصورات — حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني — تبدو محاولات أطفالٍ يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة … وطالما عجبتُ وأنا أطالع تصوُّرات كبار الفلاسفة، وألاحظ العناءَ القاتل الذي يزاولونه، وهم يحاولون تفسير هذا الوجود وارتباطاته، كما يحاول الطفلُ الصغيرُ حلَّ معادلةٍ رياضيةٍ هائلةٍ … أما تصورات الفلاسفة فهي محاولاتُ أجزاءٍ صغيرةٍ من هذا الوجود لتفسير الوجود كلِّه. والعاقبة معروفةٌ لمثل هذه المحاولات البائسة! إنه عبثٌ وخلطٌ وخوضٌ حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة المطابقة التي يعرضها القرآن على الناس، فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبِّطة الناقصة، المستحيلة الاكتمال والنضوج! وإن الأمور لتظلُّ مضطربةً في حسِّ الإنسان وتصوُّره، متأثرةً بالتصورات المنحرفة، وبالمحاولات البشرية الناقصة.» سيِّد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط١٧، ١٤١٢ﻫ، (٦ / ٣٣٩٤-٣٣٩٥).
وفي محلٍّ آخر يكتب سيد قطب: «هناك جفوةٌ أصيلةٌ بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمَّنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية … فقد بدت — «الفلسفةُ الإسلاميَّةُ» كما سمِّيت — نشازًا كاملًا في لحن العقيدة المتناسق! ونشأ من هذه المحاولات تخليطٌ كثيرٌ شابَ صفاءِ التصوُّر الإسلامي، وصَفَّر مساحتَه، وأصابه بالسطحية … إن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصوُّر الإسلامي كانت تنمُّ عن سذاجةٍ كبيرةٍ، وجهلٍ بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظامٍ فكريٍّ واحدٍ، وأساسٍ منهجيٍّ واحدٍ. مما يخالف النظرةَ الإسلاميةَ ومنابعها الأصيلة … فالفلسفة الإغريقية، نشأت في وسطٍ وثنيٍّ مشحونٍ بالأساطير، واستمدَّت جذورها من هذه الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قطُّ. فمن السذاجة والعبث — كان — محاولة التوفيق بينها وبين التصوُّر الإسلامي القائم على أساس «التوحيد» المطلق العميق التجريد … ولكنَّ المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا — خطأً — تحت تأثير ما نُقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن «الحكماء» — وهم فلاسفة الإغريق — لا يمكن أن يكونوا وثنيين، ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثَمَّ التزموا عملية توفيقٍ متعسفةً بين كلام «الحكماء» وبين العقيدة الإسلامية، ومن هذه المحاولة كان ما يسمَّى «الفلسفة الإسلامية»!» سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوِّماته، ص٨-٩.
وبعد سيد قطب وعلي شريعتي نشر راشد الغنوشي مقالًا بعنوان «برامج الفلسفة وجيل الضياع»، في تونس سنة ١٩٧٣م، شنَّ فيه حملة على الفلسفة، إذ قال: «إن درس الفلسفة ليغدو، إذا لم نُحدِّد انتماءنا الثقافي، ليس عديم الفائدة في علاج ما نُعانيه من مشكلات فحسب، بل عنصر تخريب وتدمير وتشتيت في ميدان النفس والمجتمع.» الغنوشي، راشد، مقالات، منشورات حركة الاتجاه الإسلامي، ١٩٨٤م، ص١٢.
كما يقول الغنوشي: «وكنت قد كتبت مقالًا اشتهر في حينه، نشرته أهم صحيفة يومية في تونس، ثم نُشر بعد ذلك في أكثر من كتاب. وكان المقال بعنوان «برامج الفلسفة وجيل الضياع»، اعتبرتُ فيه منهاج الفلسفة مسئولًا عن جيل الضياع الموجود في تونس، ووجهتُ انتقاداتٍ عميقةً للمنهاج، وطرحت بديلًا له. شعرت أنه لا بد للفكرة الإسلامية لكي تجد طريقَها إلى الشباب من نقد عميق لبرنامج الفلسفة، فكنتُ أقوم بذلك سواء في دروسي، أو في الندوات التي كنت أنظمها خارج المدرسة أو في داخلها، وفي مقالاتي ومحاضراتي التي غطَّت، خلال عشرية السبعينيات، معظمَ المعاهد الثانوية والكليات، فضلًا عن المساجد والنوادي. كان هذا هو العمل الرئيسي الذي ركزت عليه وإخواني مشروعنا الإصلاحي للبلاد». ورد النص في: من تجرِبة الحركة الإسلامية في تونس، نسخة منشورة على موقع: المركز المغاربي للبحوث والترجمة.