التديُّنُ السلفي يُفقِرُ الحياة الرُّوحية والأخلاقية والعقلية ١
(١) تكفير المختلِف في المعتقَد
لم يعد هذا السلوك شيئًا مستورًا، بعد تَكرار مشاهد ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا، في الفضائيات كلَّ يوم. والتَّسابق على الانخراط في وحشيَّة عبثية تتلذَّذُ بالدم المسفوح، وتتهافتُ على مغامرات مهووسة في العملياتِ الانتحاريَّة.
لم يزل تراثُ ابن تيمية وسواه حاضرًا فاعلًا مؤثِّرًا، عبر دراسته وتدريسه، وتبني آثاره في البحث والكتابة والمناظرة، واتخاذه مرجعية للتقليد في التديُّن والسُّلوك والتَّعامل مع الآخر.
لا تغيب آثارُه عن الكثير من المدارس والمعاهد والكليَّات المتخصصة بالشريعة والدراسات الإسلامية، سواء كانت تقليدية أو حديثة. وتخصَّصَتْ عشراتُ القنوات الفضائية بتقديم فتاواه ومقولاته، مضافًا إلى حضوره المكثَّف في خطب الجمعة التي تذاع من عشرات الآلاف من المنابر في مختلِف أنحاء العالم الإسلامي، وتَمَحْور جهود مراكز بحوث ودوريات ودور نشر عديدة على نشر مفاهيمه والتبشير بفتاواه والدعوة إلى معتقداته.
أتحدث عن ابن تيمية ليس بوصفه منفردًا في ذلك، فإن مدونة علم الكلام والفقه في الإسلام لدى كافة الفرق والمذاهب لا تخلو من تلك المعتقدات والفتاوى — كما أشرت قبل قليل — غير أن ابن تيمية تميز بغزارة منجَزه، وسعة وتنوُّع آثاره، وصرامة كتاباته، وتفكيره السِّجالي الخِصب، والكثافة الدلاليَّة للغته، وشدَّتها وعنفها أحيانًا. كذلك تميز بحضوره اللافت، وتَبَنِّي آثارِه بجزميةٍ وثقةٍ نهائيَّة في أدبيَّات الجماعات السلفيَّة المقاتلة، وشيوع ميراثه المتنوِّع الغنيِّ الواسع في عالَم الإسلام اليوم، وتمسُّك المؤسسة الدينية السلفية بفقهه وفتاواه، وحَذَر السلطات في هذه البلدان وخشيتها من أيِّ استفزاز للشبكات الواسعة المعقدة لهذه المؤسسة، واحتمال تورُّطها في تجييش شبكاتها لمناهضةِ السُّلطة والتحريض عليها.
وكأن هناك ميثاقًا غير معلن، تتواطأ فيه السلطةُ السياسيةُ مع المؤسسة الدينية السلفيَّة، فمن جهة لا تشجِّع السلطةُ أيةَ محاولةٍ لنقده، أو تنبيه الناس لتأثير مقولاته العقائدية وفتاواه الفقهية الشديدة التأثير والفاعلية في تعبئة الشباب، وإلقائهم كوقود في محرقة العمليَّات الانتحاريَّة، ومن جهة أخرى تُهادن المؤسسةُ السلفيَّةُ السُّلطةَ وتغضُّ النظر عنها.
سيدرك الجميع متأخرين أنَّ هذه المقولات الاعتقادية والفتاوى الفقهية، التي تشبعت بها عقولُ عدة أجيال في هذه البلاد، وتفشَّت في المقررات الدراسية في كافَّة المراحل، وطغتْ في دعوة وسلوك الدُّعاة السلفيين، أنها ستلتهم الجميع، لتجعلهم رمادًا في محرقتها خاتمة المطاف، لو لم يبادروا لمراجعتها نقديًّا، وتفكيكها وغربلتها.
من المؤسف أن تلك السلطات تدعم مراكز دراسات ومؤتمرات وحلقات نقاشية ودوريات وصحفًا تعتمد سياسةً ذرائعية انتقائية، تدعو للدولة الوطنية الحديثة، والحوار والتسامح والعيش المشترك، ومكافحة الإرهاب، لكنها لا تريد أن تفتح الجراحَ العميقة، وتكشف عن مخزون العنف والكراهية، وكل ما هو ضِدٌّ للحوار والتعايش والتسامح في آثار ابن تيمية وتلامذة مدرسته في الماضي والحاضر، وغيرهم.
لم أعثر على كتابٍ أو بحثٍ أو مقالٍ، كتبه شخص ينتمي للمؤسسة الدينية السلفية، أو باحث أكاديمي متخصص في الشريعة والدراسات الإسلامية، أو إعلامي، أو مثقف، تناول فيه شيئًا من آثار ابن تيمية ومدرسته، بالمراجعة والتحليل والنقد، بل كل ما عثرت عليه من كتاباتٍ على وفرتها، تتمحور حول التبجيلِ والثَّناءِ، والشَّرح والتَّلخيصِ والتنظيم لأفكاره. ولو وجدنا بعضَ الكتابات النقديَّة، فإنها تنطلق من مواقف دفاعية مذهبية، تقتصر على بيان ونقد مواقفه حيال ذلك المذهب أو تلك الطائفة، من دون أن تهتمَّ بالكشف عن أصول التكفير في تفكيره، وأثر ذلك في تشييد مدرسة عقائدية فقهيَّة راسخة، شديدة التأثير في الإسلام المعاصر، استطاعتْ أن تتمدَّد ويتكرَّسَ حضورُها، وتهيمن على الفكر الديني، وحياة مجتمعات عديدة في عالم الإسلام اليوم.
ما دام تراثُ ابن تيمية ومدرسته يشكل مرجعيةً في مقررات التربية والتعليم، ترضيَةً للمؤسسة الدينية السلفية، فإن الانتحاريين في مناهج التربية والتعليم يختبئون، ومن آثاره وتلامذته يولدون.
ليس دفاعًا عن التراث الآخر، لكنَّ تراثَ ابنِ تيمية ومدرسته هو ما يحتل المرجعيَّةَ المحوريةَ الأساسيَّةَ لكافَّةِ الجماعاتِ التي تمتهنُ إبادةَ الحرثِ والنَّسْلِ. يمكن العودةُ إلى أدبيَّاتِهم، وهي لا تشير إلى أي فقيه، كأبي حنيفة وغيره، أو متكلم كالنظَّام أو الماتريدي أو القاضي عبد الجبار وغيرهم، أو مفسِّر كمحيي الدين بن عربي وغيره. ابن تيمية ومدرستُه لا غير هو المرجعية لكل ما يتَّصِلُ بالدِّين والدُّنيا.
أخشى أن يتمَّ تفسيرُ ما أقول تفسيرًا طائفيًّا، أودُّ التوضيح أني عندما تحدثتُ عن ابن تيمية، لا أريد سوى الإشارة إلى الأثر الفتَّاك لميراثه، ومحوريةِ مرجعيتِه وسطوتِه على الإسلام السلفيِّ، الذي هو الأوسع حضورًا، والأشدُّ تأثيرًا، والأخطر اجتياحًا لعالم الإسلام اليوم.
اختزلَت السلفيةُ التراثَ الإسلامي في ابن تيمية ومدرسته وتلامذته، بنحوٍ أمسى فقهُ ابن تيمية فوق كلِّ فقه وفقيه، وتفسيره فوق كل تفسير ومُفَسِّر، وشرحه للحديث فوق كل شرح ومُحَدِّث، ورأيه في الفلسفة فوق كل فلسفة وفيلسوف، وموقفه المناهض للتصوُّف والحياة الرُّوحية فوق كلِّ تصوُّف وحياة رُوحية … وهكذا. لم يعد لفقيهٍ، أو مفسِّر، أو محدِّث، أو متكلِّم، أو فيلسوف، أو متصوِّف، أيُّ حضور لديهم بجوار تراث ابن تيمية وتلامذته.
لم أعثر على أية مراجعة تقويمية، أو رسالة نقدية، أو بحث يتجاوز آثارَ ابن تيمية في الجامعات السلفيَّة. هذه الجامعات لم توقِّر أحدًا من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين والفقهاء في دنيا الإسلام، في الهجوم العاصف والهجاء. لا يمكن إيقاظُ العقل في الإسلام من دون الفلسفة والتفكير النقدي.
(٢) تديُّن يُفقِرُ الحياة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية والعقلية
التديُّن السلفيُّ يُفْقِرُ الحياةَ الرُّوحيَّةَ، ويستنزف الحياةَ الأخلاقيَّةَ، ويكره الحياةَ الجماليَّةَ، ويميتُ الحياةَ العقليَّةَ. مؤسَّسَاتُ التربيةِ والتعليمِ في بعض البلدان الإسلاميةِ هي مَنْ تساهمُ في إنتاج هذا النَّمط من التديُّن؛ ذلك أنَّ مناهجَها في الدين والتاريخ تستقي من التراث السلفي، ويجري التبشير بهذا التراث في وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، ومنابر المساجد، بنحوٍ يتفشَّى في حياةِ الناس، ويتحول إلى ثقافةٍ، تسود العَلاقاتِ الاجتماعيةَ، واللغة، والأزياء، وطريقة حلاقة الذقن والشارب والرأس، حتى تغطي كلَّ حياة المجتمع، وتفضي إلى ذبول الحياة الرُّوحية والأخلاقية، وهشاشة الحياة العقلية، فكلَّما اتسعتْ مساحةُ التديُّن السَّلفي ضاقَ فضاءُ الرُّوح، واختنق القلبُ، ونُبِذ الفنُّ، وسُجِن العقلُ.
إن سيادة هذا النمط من التديُّن يقوِّض دولةَ المواطنة الحديثة، وينفي مشروعية أصولها الدستورية، ويهشم برامجها التنموية، بوصف وظيفة دولة الخلافة في المنطق السلفي هي خدمة الله وليس خدمة الإنسان، ورعاية حقوق الله لا حقوق الإنسان، علمًا أن حقوق الله لديهم تترتب على التضحية بحقوق الإنسان وحرياته. مفهوم الدولة الحديثة يتأسس على أن وظيفتها تتمحور على خدمة الإنسان، وتأمين حقوقه وحرياته، وتوفير كافة متطلبات حياته المادية وغيرها.
مع تفشي ثقافة التكفير في حياتنا، وتشبُّع وعي الناشئة بها، وترسُّبها في طبقات اللاوعي العميقة، لا يمكننا أبدًا صياغة ميثاق يكون النِّصَابُ فيه هو الانتماءُ للوطن، والمساواة في الحقوق والواجبات. لا ميثاقَ للمواطنة بلا اعتماد سياسةِ الاعتراف المتبادل بين مختلف المكونات والإثنيات والأديان والفرق والمذاهب ممن يعيشون على أرض واحدة.
كيف ينسجم مفهوم المواطنة مع مقولات وفتاوى مترسِّبة في تكويننا منذ الطفولة، تنصُّ على أنَّ الشركاءَ في الوطن، ليسوا سوى مشركين وأهل ذمة، أو كفارًا، مثل الإيزيديين في العراق، ممن لا خيار أمامهم إلا الإسلام أو السبي أو القتل.
السلفية تخلط الدينَ بالتُّراث والتاريخ، الدين بفتاوى وأحكام استنبطها الفقهاء، وتدبيرات زمانية تعود إلى عصرٍ انقضى وواقع مضى. يقول الأصوليون: إن الحكم يدور مدار موضوعه، فحيث لا موضوع لا حكم. الزمان بوصفه ماضيًا، أي وقت صياغة هذه الفتاوى، كان عنصرًا في وجود موضوع الحكم، وكل عنصر في الموضوع جزء منه، وحيث ينتفي جزءُ الموضوع ينتفي كلُّه. مُضِي زمان الفتوى والحكم يعني انتفاء أحد عناصر الموضوع، وبذلك ينتفي الموضوعُ، وتبعًا لانتفائه فلا حكم. لا يمكننا إنصافُ الإسلام ما لم نقرأ أحكام: الكفار والمشركين والرق والإماء وأهل الذمة والجزية والردة، في سياقها التاريخيِّ الزمانيِّ المكاني.
(٣) أزمة رُوحية وأخلاقية وعقلية مضاعفة
أزمتنا الرُّوحية والأخلاقية والعقلية مُضَاعَفَة، لأنها أزمة ذات أقنعة دينية زائفة، إنها ممتدة أفقيًّا وعموديًّا، فهي أفقيًّا تغطِّي كافَّة مجالات حياتنا الدينية والثقافية والتربوية والسياسية والاقتصادية. وهي عموديًّا تتجذَّر في معارفنا الدينية المتوارثة، التي نلغي التجرِبة التاريخية في تعاطينا معها، ولا نتحرى تشكُّلَها في سياقاتٍ زمانيَّةٍ مكانيَّةٍ ثقافيَّةٍ مُغَايِرة لما هو عليه حالُنا اليوم.
نجد بعض تعبيرات هذه الأزمة بإنهاك الدِّين، وإفقاره ميتافيزيقيًّا، وخفض طاقته الرُّوحية، وإهمال قيمه الأخلاقية. والتَّشْدِيد على القراءة القِشْرِيَّة الحرفيَّة لنصوصه، وإهدار حقله الرمزي، وتعطيله في حدود الأبعاد الدنيوية.
كل ذلك أفضى إلى ذبول الحياة الرُّوحية، وانطفاء الحياة الأخلاقية، إذ كيف تُسْتَنْبَتُ الحياةُ الرُّوحيةُ وتنمو وتزدهر في سياق الكراهية والتعصُّب ونفيِ المختلِف في المعتقد وإهدار كرامته؟ وكيف تتشكَّلُ منظوماتُ القيم الأخلاقية في هذه المناخات المختنقة؟ وهل نستطيع بناء دولة مواطنة حديثة من دون حياة رُوحية وأخلاقية أصيلة، لا تفتك بها السموم؟
لا ندعو لإقصاء الدين، أو نزعم أنَّ تشكيل دولة المواطنة الحديثة يساوي وضع الدين في حدود المسجد في مجتمعاتنا، لأن ذلك فضلًا عن أنه مُتَعَذَّر عمليًّا، يشي بعدم الوعي الحقيقي لرسالة الدِّين الأساسية في بناء الحياةِ الرُّوحية، وتطهير الحياة الأخلاقية للإنسان، وحماية هذا الكائن من الاغتراب والقلق الوجودي، والعبثية واللامعنى. قوة الدين في التغلب على هشاشة الإنسان، عبر تعزيز رُوح التفاؤل والأمل والخلاص والرجاء.
ما يهمنا هو الكشف عن جذورِ مأزقِ الفكر الديني. مأزق هذا الفكر لا يكمن في هذه الفتوى أو تلك المقولة الاعتقادية، كي نبادر للخلاص من ذلك عبر انتقاء مجموعة آيات كريمة وأحاديث شريفة، تتحدث عن: الرحمة، والعفو، والسلام، ونفي الإكراه في الدين. المأزق أعمق من ذلك. كذلك لا أريد اختزال المأزق الراهن لمجتمعاتنا في ابن تيمية وآثاره العقائدية وفقهه، أو في آثار سواه من السلف خاصة، لأن المأزق أبعد مدى من ذلك. وإن كانت آثارُ ابنِ تيميَّة، كما أشرتُ، تشكِّل المرجعيَّة الأغنى والأشملَ للسلفية بكلِّ ألوانها وتعبيراتها.
البنية التحتية المنتجة للفكر الديني
المأزق يكمن في البنية التحتية المنتجة لهذه الآثار العقائدية والفقهية. إنه يتمثل في الأسس ومناهج التفكير والنظر والأدوات المتوارثة المنتِجة للفكر الديني في الإسلام، من: المنطق الأرسطي، وعلم الكلام، وأصول الفقه، وقواعد الفقه، وعلوم القرآن، وأصول التفسير، وقواعد الحديث وعلم الرجال، وعلوم اللغة. بوصفها المادة الأساس لتشكيل الرؤية للعالم، وبناء العقائد، وتفسير القرآن، واستنباط الفقه، والمعارف الإسلامية. يكرِّر العقلُ الإسلاميُّ ذاتَه باستمرار، ولا يني يستنسخ ما قاله الأوائل من أئمة الفرق والمذاهب، ويستأنف قواعدهم ويرسخ عباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم كما هي. ولم يخرج من نسَجَ على منوالهم واقتفى آثارهم عن تلك الأصول والقواعد والمقولات في الغالب، إلا بحدود بيان القاعدة وشرح العبارة، وشرح شرحها، والحواشي والتعليق عليها، وتوضيح المراد واستخلاص المضمون. ذلك «أن الأول لم يترك للآخِر شيئًا»، حسب القول الذي سمعناه وقرأناه كثيرًا، وأضحى قيدًا يقيِّد تفكيرَنا، فلا يسمح لنا أن نفكر كما فكروا، ونتأمل مثلما تأملوا، ونصوغ قواعد بديلة لتفكيرنا الديني في سياق عصرنا ورِهاناته، والمعارف والعلوم والفنون المستجدة فيه، كما صاغ السلفُ قواعدَهم، التي أمستْ مناهج مزمنة وجَّهت نمطَ فهمهم، وتوجِّه فهم مَن جاء بعدهم، وتهيمن على فهمنا اليوم للدِّين، دون أن نراجع لندرك أن تلك القواعد انبثقتْ في سياقِ الماضي الذي عاشوه، وأنها مشتقَّة من طبيعة المعارف والعلوم والفنون المتعارفة لديهم. لم يكن عقلُ الشافعيِّ (ت. ٢٠٤ﻫ) خارجَ عصره، حين قعَّدَ أصولَ الفقه، بعد قرنين من عصر البعثة تقريبًا، ولم يتعرَّف عقلُ الأشعري (ت. ٣٢٤ﻫ) على غير المنطق الأرسطي، عندما صاغ مقولاته الاعتقادية «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، وهكذا لم يخرج أيُّ متكلِّم أو فقيه أو مفسِّر غيرهم عن عصره، فلم يكن الواحدي (ت. ٤٦٨ﻫ) عابرًا للزمان والمكان حين وضع «أسباب النزول»، أو الزركشي (ت. ٧٩٤ﻫ) الذي حدَّد في «البرهان» قواعد التفسير وعلومَ القرآن، وكذلك السيوطي (ت. ٩١١ﻫ) الذي قنَّنَ في «الإتقان» قوانين التفسير وعلوم القرآن، وغيرهم. تشكلت هذه المعارف بالتدريج في مرحلة بعيدة زمانيًّا عن عصر البعثة الشريفة، واستقتْ من المعطياتِ السائدةِ في عصرها، ولم يتخطَّ أفقُ انتظارِها من الدين المشروطيةَ اللغويةَ والسياسيةَ والاجتماعيةَ والنظام المعرفي والرؤيةَ للعالم المهيمنة فترةَ انبثاقها.
ينبغي ألا نفتقر للحسِّ التاريخيِّ في دراسة التُّراث، ولا نتردَّد في اكتشاف مواطنِ قصوره وثغراتِه المتنوعة، وعجزِه عن الوفاء بمتطلبات رُوح وقلب وعقل وجسد المسلم اليوم. فضلًا عن ضرورة أن نتعرَّف على آفاق الحاضر، ونستبصر مَدَيات المستقبل. كذلك لا بد من الخروج عن المناهج والأسس وأدوات النظر الموروثة للتفكير الديني، بوصفها أنساقًا عميقة وحدودًا نهائية، يعاد إنتاج الأسئلة والأجوبة ذاتها من خلالها كل مرة. إنها تُعطِّل العقلَ، وتسجن عمليةَ التفكير في مداراتها المغلقة، ولا تكفُّ عن التكرار والاجترار، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. تبدأ من أصول الشافعي ولاهوت الأشعري لتنتهي بهما، وتنتهي بهما لتبدأ منهما … وهكذا.
(٤) يتلوَّن النص تبعًا للأوعية التي يحلُّ فيها
تمنع الأنساق المضمرة والنماذج المعيارية الراسخة المتصلبة في التراث انبثاق أسئلة عميقة، تستأنف النظر في مُسَلَّمَاتِ هذا التُّراث وبداهاته، كي تمنح العقل المسلم آفاقًا فسيحة للتفكير خارج مداراتها. إن تلك الأنساق والنماذج المعيارية تمارس نوعًا من الإكراه، إذ تصر على تكرار الأجوبةِ ذاتها، حرصًا على المطابقةِ معها، ونبذًا لأيِّ شَكْلٍ من الاختلاف عنها، لذلك تفتِّش دائمًا عن الأشباه والنظائر، كي تعيد مماثلتَها ومشاكلتَها مع كل ما هو جديد. وإن تبدَّى لنا شيء من الاختلاف، فهو لا يعدو أن يكون سوى أسماء جديدة، وكلمات بديلة، للأنساق والنماذج الموروثة ذاتها. وكأن مهمتنا التاريخية، ليست التناغم مع إيقاع التاريخ، والإصغاء لصيرورته، ومواكبة حركته الأبدية، وإنما تتمثل هذه المهمة في حماية تلك الأنساق والنماذج المعيارية، وحراستها على الدوام من التصدُّع والانهيار.
نطمح بمرافعةٍ من نوعٍ مُغَايِر لمحاجَجَاتِ المتكلمين القدماء، لا تهدف هذه المرافعة إلى تدوين ميثاقٍ اعتقاديٍّ جديد، وإنما تنشد إزاحةَ أدواتِ النَّظَر وآليات الفهم الراسخة، التي أمستْ بداهاتٍ لا يجرؤ أحدٌ على استئناف النظرِ فيها، ومحاكمة أدائها وقدرتها على الوفاء بوعود الدين اليوم، وتتطلع لخلاصنا من شِباك عقلِ الأسلاف، ومداراتِ تفكيرهم المحدودةِ بالفضاء المعرفي والمجال الدلالي لعصرهم.
من الضروري مُساءلة المُسَلَّمَات الموروثةِ الرَّاسخة في: علم الكلام القديم وأصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير، وغيرها، وكل تلك الأسس والمرتكزات الراقدة في الطبقة التحتية لبنية المعارف الإسلامية، والمولِّدة للتفكير الديني في الإسلام، عبر اشتغالها على توجيه دلالات النصوص، في سياق منطقها الذي يُفْضِي إلى معنًى محدد، يغدو هو الشريعة وأحكامها، ويعني رفضُه رفضًا للشريعة الإلهية. وهي لا تني تكرِّر هذا المعنى، وتعيد صياغتَه بعبارات متنوِّعة، لكنَّ المضمون يمكث على الدوام كما هو، مهما تقادَمَ الزمانُ.
يتلون مدلول النص تبعًا للون الأوعية التي يحل فيها، وكأنها بمثابة قوالب ثابتة يتشكَّلُ مدلولُ النَّصِّ تبعًا لها، فكما يأخذ الماءُ عادةً شكلَ ولونَ الوعاءِ الذي يكون فيه، ولا يختلف لونُ وشكلُ الماءِ عن لون وشكلِ الإناء، هكذا النُّصوص تُوَجِّه دلالاتِها على الدوام أدواتُ ومناهجُ النظر التي تُستنبَط بها الأحكام، أي أننا مهما كرَّرْنا استعمالَ تلك القوالب، سننتهي إلى نتائج متفقة مضمونًا وكيفًا، وإن اختلفتْ في صياغاتها وتفاصيلها وأسلوب التعبير عنها، والتي تبدو لنا أحيانًا وكأنها مختلفة نوعيًّا عن النتائج السابقة.
حتى أولئك الذين يشدِّدُون على أنهم مجدِّدُون، ويتحدثون لنا عن مواقف فقهية أو اعتقادية، لا تكرر الموروث أحيانًا، فإنهم حين يغامرون أحيانًا بتعطيل تلك القواعد والأسس المتداولة في الاستنباط، ويتذرعون بما يصطلحون عليه أهدافًا ومقاصدَ ومصالحَ للشريعة، فإنهم لا يبتكرون آفاقًا جديدةً للتفكير الديني. إنهم حتى وإن غلَّبوا تلك المقاصد في بعض الموارد المحدودة، لكن ليس بوسعهم التمسُّك بها كمنهج بديل لأصول الفقه وقواعد النظر والاستنباط المعروفة.
مع العلم أن الاجتهاد في مقاصد الشريعة توقَّف عند الشاطبي قبل عدة قرون، حتى أخيرًا، مع محمد الطاهر بن عاشور، لم يبلغ الاجتهادُ في المقاصد مَدَيات تسمح له وللفقهاء أن يعتمدوا عليه في الاستنباط الفقهي، ويستغنوا بها عن أصول الفقه والقواعد الفقهية الموروثة.
كل ما يُطبع من كتابات في هذا الموضوع، وما يتحدث عنه البعضُ، من أن تفعيل المقاصد سيفضي إلى إنتاج فقه مواكب للحياة، إنما هو مجرد مزاعم، وشروح ومُسْتَخْلَصَات لمقاصد الشاطبيِّ ليس إلا، بدون أنْ يمارِس فقيهٌ إنتاج فقهٍ يستقي من تلك المقاصد خاصة، ويستند إليها كمؤشرات محورية في التعاطي مع النصوص.
وأود التنبيه إلى أن هناك مبالغة في التعويل على مقاصد الشاطبي، واعتبار البعض لها خشبة خلاص لمأزق الفكر الديني، من دون وعي بأن تلك المقاصد تحكي طبيعة الرؤية للعالم والمعرفة الدينية السائدة في عصر الشاطبي، كما تشي بأحكامه المسبقة، وأفق انتظاره، وما يترقبه هو وعصره من الشريعة. ومما لا شك فيه أن أفق انتظاره لا يتسع لأفق انتظارنا، وأحكامه المسبقة لا تتطابق مع أحكامنا المسبقة، ورؤيته للعالم مستوحاة من عصره لا عصرنا، لذلك فإن مقاصدَه يمكن أن توظَّف كمؤشرات ومعالم كلية في بناء رؤًى جديدة للتعاطي مع النصوص الدينية، والتعرُّف على مشكلات المُسْلِم، وطبيعة ملابسات الواقع هذا اليوم.
أشير هنا أيضًا إلى أن التجديد لا ينجز وعودَه من دون إعادة النظر بالدرس اللغوي والأساليب والمناهج المتداولة فيه، بُغية إعداد المختصِّين بالشريعة والدراسات الإسلامية. الكثير من هؤلاء المختصين يرى اللغة بوصفها ثابتة قارَّة، لا تجري عليها نواميسُ التطور والتحوُّل، بل يذهب بعضهم إلى اتهام أية محاولة لتجديد أساليب ومفردات اللغة، وهو لا يدري أن ذلك ضرب من توثين الحروف ونسيان المقاصد.
اللغة كائن حي، اللغة كائن تاريخي، اللغة تنتمي للبشر، تنقرض اللغة إن لم تتكلم رُوح العصر. اللغة كائن راهن ومستقبلي، اللغة ليست ما وضعه البدوي خاصة فعقِمت ولم تتوالد، اللغة ليست ما فرضتْه سياقاتٌ دينية وسياسية وثقافية، فتسيَّدت منذ تدوينها ثم استبدَّت. اللغة كلمات تولد وأخرى تموت، كل عصر يضيف للغة كلماته ويحذف أخرى لا تشبهه، اللغة أساليب بيان منسوخة وأخرى ناسخة. تحريرُ اللُّغَة من أغلالها تحريرٌ للعقل من أغلالِه.
(٥) نسخ «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» في ضوء تراث التفسير
هذه نماذج لمواقف أعلام المفسرين ممن عاشوا في عصور متعددة؛ يذهبون إلى نسخ الآية، وهي تشير إلى آراء الكثير من المفسرين غيرهم، حسب قول القرطبي. وذلك يعني أننا نسلك طريقًا خاطئًا، في محاولاتنا الاستدلالَ بآية منسوخة على حرية الاعتقاد؛ ذلك أن الناسخ يعطل دلالة المنسوخ، ولا يتيح لنا توظيفَه في بناء نظرية أو رؤية أو مبدأ أو مفهوم أو حكم شرعي.
أوقعتنا قواعد التفسير المتوارثة في التباس، بعد أن أكرهتنا على التخلي عن دلالة آية «لا إكراه»، مع أنها نص قرآني هو الأكثر صراحةً ووضوحًا في بيان حرية الاعتقاد، لأننا تمسَّكنا بمعيارية المبادئ التي جرى تقعيدُها بعد عصر النصِّ القرآني، واعتمادها مرجعية في توجيه دلالة هذا النص في سياق بوصلتها. تحوَّلَتْ تلك المبادئُ بمرور الزمن إلى سلطة مطلقة تتحكَّم بعقل المفسِّر وفهمه، بل ارتقت هي ذاتها لتصبح من المسلَّمَات التي قلَّما نعثر على أحد يتساءل بشأن إمكانية الاستغناء عن شيء منها، أو التفتيش عن قواعد بديلة لبعضها.
منطلق التجديد هو التفتيش في البنية التحتية المولِّدة للمقولات الاعتقادية في عقل المتكلم، وما يوجِّه عقل الفقيه في الفتوى واستنباط الأحكام، فإن نمط فهم النصوص يرتبط بالأحكام المسبقة للإنسان، وأفق انتظاره، ورؤيته للعالم، ومفهومه للدين.
لا يمكن أن نقدم قراءةً تواكب الحياةَ للنص القرآني، ما لم نستأنف النظرَ في قواعد التفسير وعلوم القرآن الموروثة، التي تشكَّلت استنادًا إلى مسلَّمات لاهوتية مستقاة من منطق التفكير والنظام المعرفي المهيمن في عصر الأسلاف. وهذا يعني أنَّ عقل المفسِّر ما زال مرتهَنًا لتلك المسلَّمات، ولا يمكنه استبصارُ المستقبل واكتشاف الواقع من دون عبور منطق التفكير والنظام المعرفي المهيمن في عصر الأسلاف.
(٦) تحرير صورة الله
إنَّ هذا النمط من قراءة النص الديني المرتهَن لمقولاتِ المتكلمين وأصول الفقه والتفسير الموروثة، أفضى لدى بعض الجماعات المتطرفة اليوم، إلى إنتاج فهم للإسلام، مُفَرَّغ من الرحمة والتراحم والمحبة؛ تتحول فيه صورة الله إلى وحش يفترس كلَّ حياة وجمال ورحمة ومحبة في هذا العالم. هذا إسلام تتبناه وتبشِّر به وتحميه المؤسساتُ الدينيةُ السلفيَّةُ، ومعظم الجماعات المتضامنة معها. وإن لجأ بعضُها إلى مواقف تَكتيكية تتذرع بالديمقراطية، بوصفها تعبيرًا عن الشورى كما تدَّعي.
تستبعد هذه القراءة للنصوص الدينية ما يشي بالسلام والتراحم والمحبة والأمل والحلم والتفاؤل، بعد أن تخلع على النصوص أقنعةً تحجب مقاصدَها الأخلاقية، ومضامينها الرُّوحية، ومؤشراتها الإنسانية.
لا يمكن بناءُ حياةٍ رُوحيَّة وأخلاقيَّةٍ في مجتمع تتفشَّى فيه هذه الثقافة الدينية، ولا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلف، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالم، وعقلٌ مريضٌ يُنهكه التشاؤمُ والاغترابُ، أنْ يؤسِّسَ لحياةٍ رُوحية أخلاقية حقيقية أصيلة، تشفق على المعذَّبين، وتتضامن مع الضَّحايا، بغضِّ النَّظَر عن أديانهم ومعتقداتهم، وتتصالح مع العقل وقيم الخير والسلام والجمال في الحياة.
المؤسَّسَاتُ الدينيَّةُ السلفيةُ وما يرتبطُ بها من جماعاتٍ دينية تقود مجتمعاتنا إلى معارك مفتوحةٍ مع العصر، لا نفرغ من معركة إلا ونغرَق في أخرى، وهكذا، حتى سقطنا في ربع القرن الأخير في حفلاتِ قتلٍ عبثيٍّ للأبرياء لا يتوقف.
إنها تُحذِّر وتحرِّم وتحظر التعاطي مع أي تأويل وفهم للنص الديني لا يكرِّر فهمَها. فهم محيي الدين بن عربي للقرآن، وتأويله للحياة الرُّوحية في الإسلام، من المحظورات جدًّا لديها، يُلْعَنُ من يتداول آثارَه، ويُطردُ من الملَّة من يعتنق أفكارَه. وهو موقف تلتقي فيه السلفيةُ مع معظم الجماعات الدينية، باختلافٍ في درجةِ الرَّفضِ، فصرامة المؤسَّسة السلفية جازمة، بخلاف هذه الجماعات الأقل تشددًا وصرامةً، وإن كانت تهُمِل ذلك التراثَ الغنيَّ لابن عربي وغيره. وكأن هناك تحالفًا بين المؤسسات الدينية السلفية وهذه الجماعات، على إقصاء أيِّ تفسير للنصِّ الديني تُسْتَلْهَمُ منه: الرحمةُ والرفقُ والشفقةُ والسَّلامُ والمحبَّةُ، ويكشف عن صورة لله، يتجلَّى اللهُ فيها: إلهًا للجمال، إلهًا للرحمة، إلهًا للمحبة، إلهًا للشفقة، إلهًا للسلام، إلهًا للسكينة، إلهًا للتراحُم. هذه التجلِّياتُ لصورةِ اللهِ يغتني بها ميراثُ محيي الدين ومن سبقه ولحقه من العرفاء. ويمكن لهذه الصورة أن تشكِّل منبعًا لإلهام سلسلة من المبادئ والمفاهيم المفيدة لبناء فهمٍ بديل للدِّين ونصوصه، وتنتج نموذجًا لتديُّن يقترن فيه الإيمانُ بالمحبة والتراحم والعطف على البشر. يمكن أن يستقي الفكرُ الدينيُّ في الإسلام اليوم شيئًا من مادَّته للعبور نحو آفاق نتخطى بها الانسداد الذي بات مستحكِمًا في دنيا الإسلام، كي نحرر الإسلام من مأزق استحالة بناء حياة رُوحية وأخلاقية وجمالية، وننقذه من السقوط المريع في مستنقع الدم المسفوح، ونخلِّصه من الصراع الأبدي مع الحاضر والمستقبل.
أشير إلى مثال من ميراث محيي الدين، بُغية اكتشاف ملامح صورة الله في تأويلاته، والمنجم الرُّوحي الأخلاقي في آثاره. يكتب ابن عربي في الفصِّ الزَّكَرِياوي من «فصوص الحِكم»: «والرحمةُ على الحقيقةِ نسبةٌ من الرَّاحم، وهي الموجبةُ للحُكْم، وهي الراحمة. والذي أَوْجَدَهَا في المرحومِ ما أوجدها ليرحمَه بها، وإنما أوجدَها ليرحمَ بها من قامتْ به.» وهو بمعنى أن الحقَّ سبحانه إذا رحم عبدًا أوجدَ فيه الرحمةَ، أو جعل الرحمةَ تقومُ به، بحيثُ يصبح قادرًا على أن يرحم غيرَه من المخلوقات، وبذلك يصبح المرحومُ راحمًا. فالحق لا يُوجِدُ الرحمةَ في المرحومِ ليرحمَه بها، بل ليُكْسِبَه الصِّفةَ الإلهيةَ التي بها يرحمُ غيرَه، وهذا لا يكون إلا للكاملين من العارفين. ومع ذلك فالحق هو الراحم على الإطلاق، أي هو مصدر كلِّ رحمة، ولا تكون له هذه الصفة إلا على معنى أنَّ رحمتَه عينُ ذاتِه.
لا أرى الخلاص والشفاء في ميراث ابن عربي وأمثاله فقط، كما لا أريد القول أن ميراثه يتخطَّى المشروطيات التاريخية للزمان والمكان واللغة والثقافة، لكني أحسبه يتضمن رؤًى ومفاهيم يمكن أن تكون منطلقًا يضيء لنا خارطةَ عبورِ لاهوتِ التكفير وفقهِ الكراهية، في زمنِ تفشِّي هذا اللاهوت وسيادة هذا النمط من الفقه. ويمنحنا إمكانية استبصار المعنى الدينيِّ الإنساني، في زمن انطفاء الأبعادِ الإنسانية في الدين. إنه يضعنا في مسار الانطلاق، بُغية تخطي وعبور مناهج وآليات النظر المنتجة للمعرفة الدينية التقليدية، والعمل على إعادة بناء مناهج وآليات نظر بديلة، تنتج معرفةً دينيةً، تنبثق من لاهوتٍ تتجلَّى فيه صورةُ الله، بوصفه: إلهًا للجمال، إلهًا للرحمة، إلهًا للمحبة، إلهًا للشفقة، إلهًا للسلام، إلهًا للحياة، إلهًا للسكينة.