احتكار الأيديولوجيا لإنتاج المعنى الديني١
(١) الأيديولوجيا ضد العقلانية النقدية
العقل ليس مستقلًّا عن الواقع، وليس خارجًا على التاريخ، كما تدلل الدراسات الإبستمولوجية اليوم. العقل ليس ناجزًا نهائيًّا ساكنًا، إنه في حالة تفاعل متواصلة مع البيئة المحيطة، ومع كافَّة أشكال المعقولية السائدة في عصره.
الأيديولوجيا هي الأشد إعاقة للعقل، وهي الأكثر حضورًا وتأثيرًا في حياة مختلِف المجتمعات، وهي عادة ما تبدل أسماءها كل مرة، وتتخذ أقنعة تتلون حسب نوع المعطيات الفكرية والدينية والسياسية السائدة في المجتمع. الأيديولوجيا بارعة في حجب الواقع، وتزوير الحقيقة؛ تعمل على إنتاج صورة متخيَّلة للحقيقة والواقع تماثل الحقيقة والواقع، وتظهرهما كأنهما هي.
تحرص على تجييش الجمهور على رأي واحد، تنشغل بتعطيل العقل، وإشاعة البلاهة. توظِّف الأجهزةُ الأيديولوجيةُ اليوم لذلك وسائلَ التواصل والفضائيات، بوصفها ذات مفعول سحري، لا لأنها تعمل على تغليف الواقع ودفنه فقط، بل لأنها تعمل على خلق واقع متخيَّل بديل بموازاة الواقع، تُصنع فيه: المعتقدات، والمفاهيم، والآراء، والسياسات، والزَّعامات، والمواقف، والأحلام. الأيديولوجيا تهتم بإيقاظ ما يختزنه المجتمع من: مكبوتات تاريخية، وجروح موجعة، وإثارة مشاعر مقموعة محبِطة، تُوظَّف كوقود لتحريض الغرائز، وإنتاج بيئة متوترة مشبَّعة بالحساسيات والانفعالات الدفينة، بُغية إقحام المجتمع فيما ترمي إليه.
تعمل الأيديولوجيا على احتكار نظام إنتاج المعنى، وتسعى لامتلاك أدوات تسويق الأفكار الجاهزة، وتلقينها باستمرار للمجتمع. الإنسان الذي يفتقر للعقل النقدي يُصدِّق ما يُلقَّن، وإن كان وهمًا، حين يتكرر آلاف المرات بصيغ متنوعة، حتى يبلغ مرتبةً تصير فيها تلك الأفكارُ الجاهزةُ لازمةً تكوينيةً للذَّات. عادة ما يُصَدِّقُ الأتباعُ المعتقداتِ مهما كانت خرقاء، لو كرَّرتْها باحترافٍ الأجهزةُ الأيديولوجية للسلطة، والزَّعامات التي تخلع على صورتها هالةً دينية، ولديها خبرة في التنويم الاجتماعي، ومهارةُ تعميم العدوى العاطفية بين الأتباع.
لم يكن المرحوم علي شريعتي أو الصديق حسن حنفي وحيدَين في دعوتهما الأيديولوجية وجهودهما لاختزال الدين في الأيديولوجيا، بل إن الإسلام السياسي منذ ولادته في بلادنا العربية على يد حسن البنا يناضل من أجل احتكار نظام إنتاج المعنى الديني. الخبيرُ بأدبيات الجماعات الدينية يعرف جيدًا أن هذه الأدبيات مسكونة بأحلام خلاصيَّة. وهي تعرف أن مثل هذه الأحلام الكبيرة لن ينجزها سوى «أدلجة الدين والتراث».
ما زلتُ أدرك أن الدين يهدف لتحقيق العدالة، لكن الطريق إلى العدالة لا يمرُّ من خلال احتكار نظام إنتاج المعنى الديني أو أدلجة الدين. أدلجة الدين تُفسد وظيفة الدين، الدين يتمحور هدفُه العميق حول تأمين ما يفشل العقلُ والخبرةُ البشريَّةُ في تأمينه للحياة.
أدلجة الدين ضرب من تمديد المقدس وتوسعته، ليستوعب كل ما هو دنيوي. المقدس عادة يتخذ أقنعةً يتلفَّع بها على الدوام، وهو لا يكفُّ عن النفوذ والتمدُّد والاتِّساع، بنحو يلتهم كلَّ ما هو دنيويٌّ فيحوِّله مقدسًا. وحين يتسيَّد المقدسُ يضمحل الدنيويُّ، ويختنق فضاءُ الحريةِ، ويكفُّ العقلُ عن أن يكون عقلًا.
تحويل الدين إلى شيء يتسع لكلِّ شيء
من دون شجاعة، وضريبة ربما تكون موجعة، ليس بوسعنا تحرير العقل بعد سُباته، وإيقاظ الإرادة بعد نومها.
إن مجتمعاتنا مسكونة بنحت الأصنام البشرية، فالزعيم السياسي أو غيره، سرعان ما يتحول في الوجدان الشعبي إلى أسطورة خارقة للطبيعة البشرية، فيصاب هو بجنون العظمة، ويصدِّق أنه أضحى أسطورة، وأنه «الرجل الضرورة»! أخطر أنماط الأصنام البشرية هي التي تُولَد في حقل الفكر، حين يتحول المفكِّر إلى صنم، وقتئذٍ يكفُّ العقلُ عن التفكير.
تتنافس الأجهزة الأيديولوجية في مجتمعنا على تكديس الألقاب القبليَّة والدينية والسياسية، بل حتى الأكاديمية الزائفة، وهذا التنافس ينشد الاستحواذ على أنظمة إنتاج المعنى، ومن ثم الهيمنة على السلطة، ذلك أن كل من يحتكر أنظمة إنتاج المعنى يحتكر السلطة، ومن يحتكر السلطة يحتكر أنظمة إنتاج المعنى.
(٢) عندما تتفشى ثقافة الموت تختنق الحياة
الأحزاب القوميَّة واليساريَّة والجماعاتُ الدينية بارعةٌ في تعبئةِ الوجدان وإيقاد المشاعر بكل ما يرسِّخ نزعةَ الموت، وهو ما يتفشَّى في أدبياتها وتربيتها وشعاراتها. «بالرُّوح، بالدم نفديك يا زعيم»، هو الصوت الموحَّد المكرر الصاخب في كل التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية في البلاد العربية، وعود الشعارات لا تُختتم عادة إلا بجملة: «… حتى الموت».
كلما اتسعت ثقافة الموت اختنقت الحياة، وتقلص حضور الأحياء في استثمار طاقاتهم في البناء والتنمية. الأموات في حياتنا أشدُّ حياة من الأحياء. مستقبلنا وحاضرنا وتاريخنا يمتلكه ويكتبه الأموات أكثر مما نمتلكه ونكتبه نحن. بورصة الموت والاستثمار في أسهمها هي الأعلى ربحًا في مجتمعاتنا، أغنى رأسمال تمتلكه الأحزاب والجماعات في بلادنا هو مجموع ما تمتلك من أسهم في هذه البورصة.
الساحات والشوارع والجدران في مدننا تغطيها تماثيل وصور وشعارات وإعلانات الموت. لا أريد أن أستغرق في استقراء كل ما يشي بذلك في مقرَّرات التربية والتعليم والأدب والفن والصحافة ووسائل الإعلام، فلو ألقينا نظرة سريعة على شيء من ذلك سنصاب بالغثيان. كل شيء يحتفي بالموت، كل شيء لا يكون إلا بالموت. لا أتذكَّر أنِّي رأيتُ أو سمعتُ شعارًا تغذي فيه هذه الأحزابُ والجماعاتُ ضميرَ الناس، بما يتضمن تبجيلًا واحتفاء ودعوة للحياة، أي تكون تقفيته: «… حتى الحياة».
أعرف بعض المبدعين من المثقفين والأدباء والفنانين حين يَهرَمون يُهمَلون، ويتخلَّى عنهم الجميع، فيكابِدون وحدهم مراراتِ المرض والجوع والغربة في عزلتهم ووحشتهم، لكنهم لحظة يموتون يحتشد الجميع للإعلان عن عَلاقة استثنائية بهم، وتضجُّ الصحافة ووسائل الإعلام بمقالات ومرثيات، تؤشر كلُّها إلى وثوق عَلاقة مَنْ يرثيهم بهم، وتتحدث عن روابطهم التاريخية العريقة معهم. وكيف أن فلانًا كان تلميذًا لهذا المبدع سنوات طويلة، وأن فلانًا تمتدُّ صداقته معه العمر كله، مذ كانا معًا في المدرسة الابتدائية، وأنَّ فلانًا يدين له بكل ما أنجزه في حياته، وهكذا. غير أنَّ كلَّ هؤلاءِ لم يعرفوا عنه شيئًا منذ: آخر معرِضٍ فنيٍّ أقامه، أو آخر قصيدةٍ أنشدها، أو آخر مقالٍ كتبه، أو آخر محاضرةٍ قدَّمها، قبل أن يدركه الهرَمُ، ويُقعدَه المرضُ، في السنوات العشر الأخيرة من حياته حتى باغتهم التلفزيونُ بنبأ رحيله.
من أطرف ما قرأت بشأن الاحتفاء بالموت والأموات وإهمال الحياة والأحياء، ما أورده الأديب العراقي جعفر الخليلي في أحد أجزاء كتابه: «هكذا عرَفتُهم»، إذ يروي أن أحد مشاهير الأدباء في النجف أبدى رغبتَه لأصدقائه من الشعراء بكتابة قصائد رِثاء له، كي يُصغيَ لما سيقولونه عنه في حياته، فعملوا مجلس رِثاء، مددوه وسط مجلسهم، ودثَّروه بغطاء الموتى، وتنافسوا في رِثائه، وهو كلما أنشد زميلٌ له قصيدة ابتهج وانتشت رُوحه. هكذا لم يجد هذا الأديبُ الجميلُ طريقًا للاحتفاء والاعتراف به سوى نافذة الموت.
تلك مشاهد من الاحتفاء بالموت في ثقافتنا، وشيء من أثرها في انطفاء جذوة الحياة في مشاعرنا، وكيف تعمل هذه الثقافة على إماتةِ تطلُّع الرُّوح للغد. ومعلوم أن كلَّ من لم يعبأ بالحياة ينسحب من تغيير العالم وبنائه وتطويره.
(٣) تنزيه الذات
تعليمنا التلقيني لمنطق البرهان واليقين الأرسطي، وتفشِّيه في كلِّ ما تعلَّمْنَاهُ من معارف موروثة، هو الذي يصيِّر كلَّ شيء قطعيًّا، فكلُّ وجهة نظر أو رأي أو مفهوم نفكر به أو موقف نتبناه جزمي نهائي.
الفلسفة الحديثة، وفلسفة العلم، والفيزياء الاحتمالية جميعها أشادَت المعرفةَ والعلمَ على الاحتمال، حتى أضحى تاريخُ العلم تاريخَ الأخطاء كما يقول باشلار. ذلك هو الأساس المنطقيُّ لما شاع في الفكر السياسي الحديث من مرتكزات للعيش المشترك والديمقراطية، وتأسَّسَ على: حقِّ الاختلاف، وحقِّ الخطأ، وحقِّ الحياة الخاصة، وحريَّةِ التفكير والتعبير.
لم تكفل ثقافتُنَا «حقَّ الخطأ» للشخص البشري. الخطأ فضيحة في حياتنا، لذلك يحرجنا، بل نرتبك ويغمرنا الخجلُ والوجلُ لو اعترفنا به. حتى أطفالنا لا نمنحهم حقَّ الخطأ، بينما لا تنجز التربية والتعليم وعودَها إلا بمنح الإنسان الحرية في ارتكاب الأخطاء.
لقد انتهى ذلك إلى أن يغدوَ تراثُنا كلُّه صوابًا، وماضينا كلُّه مشرقًا، وتاريخُنا كلُّه مجيدًا، ورموزنا كلُّها مقدَّسة. مَنْ يفشل في صناعة التاريخ يعشق تمجيدَه وأسطرتَه وتخليدَه. ربما لا توجدُ ثقافةٌ غارقةٌ بالثناء والتبجيل للتُّراث ورجاله كثقافتنا. ربما لا توجد لغةٌ مشبَّعة بالمناقب والمديح للماضي ورموزه كلغتنا. وربما لا يوجد متخيَّل رومانسي لماضٍ كماضينا، إذ يعيدُ ماضينا نفسَه بإعادة إنتاج نصوصه ذاتها اليوم، ففي السياقات ذاتها تتكرر النصوص الماضية بكلمات بديلة وصياغاتٍ جديدة.
تجلَّت الآثارُ التربوية لذلك في استخدام المرء في مجتمعاتنا لشخصية مستعارَة، يرتدي من خلالها قناعًا في كل موقفٍ نيابةً عن غيره، كما تجلَّتْ هذه الآثارُ في عجز المرء عن أن يكون ذاتَه، لا كما تريد له التقاليدُ والأعراف الاجتماعية أن يكون.
وظهرت هذه الآثار في تفتيش الشخص البشري على الدوام عن عوامل خارجية لفشله، والتنكر لأي سبب للفشل داخله. التلميذ يعتذر مثلًا عن سبب رسوبه بأن: «المعلم عدوه»، وليس كسله وإهماله هو ما تسبب برسوبه. عندما يتأخر الشخص عن السفر يعتذر بأن «الطائرة غادرتْ وتركتْه»، وليس هو من تأخَّر عن موعدها.
وتبعًا لذلك ترسَّختْ ظاهرةُ تبرير كلِّ تَخَلُّف في مجتمعاتنا، بوصفه مؤامرات كونية تستهدفنا على الدوام. الآخَر سبب تخلفنا، الآخر سبب فشلنا، الآخر سبب هزيمتنا في معاركنا، الآخر سبب ظهور الجماعات المتطرفة الإرهابية في مجتمعاتنا، الآخر سبب صراعاتنا الطائفية، الآخر سبب كل ما لا سبب له.
الآخرُ سببٌ يغذِّي نرجسيتَنا المزمِنَة. نرجسيتُنا تملِي علينا أنْ نعتذرَ عن كلِّ ما تصرِّح به مدوناتُ التاريخ، من تعسُّفِ واضطهادِ وطغيانِ الخلفاء والسلاطين، رغم أنه لم يكن في الرعيَّة إنسان حرٌّ غيرهم، أما بقية أفراد المجتمع فظلُّوا على الدوام عبيدًا لهم.
نرجسيتنا تدعونا للتنكُّر لموجاتِ الحروب الطائفية المرعبة في بغداد مثلًا في العصر العثماني، والادعاء أن الطائفية مخلوق غريب لا يعرفه تاريخ العراق، وإنما ظهر بعد سقوط صدام حسين ونظامه!
من صور تبرئة الذات أننا لا نعثر على مذكرات تسجِّل مسيرة تجارِب الأعلام والمشاهير في تراثنا، لئلا تبوح بضعفهم البشري، ما خلا حالات نادرة، مثل كتاب «الاعتبار» الذي ألفه أسامة بن منقذ المتوفى ٥٨٤ﻫ، ودوَّن فيه سيرتَه الذاتية، غير أنه لم يكتبه إلا بعد مضيِّ ثمانين عامًا من حياته. لم أعثر إلا على حالات محدودة لرجال دين دوَّنوا تجارِب تعليمهم الديني في الأزهر وتجرِبة دراستهم في أروقته، بكل ما تحفل به. وهكذا الحال في الحوزة، ما خلا ما كتبه حسن النجفي القوجاني في كتابه المثير والمُهمل: «سياحة في الشرق»، الذي يتحدث عن الحياة الداخلية لتلامذة الحوزة، وتقاليدها الخاصة، وما يسودها من تنافُس وصراعات في عصر المشروطة، مطلع القرن العشرين.
حتى أولئك الأدباء والمثقفين والسياسيين الذين ينشرون مذكراتهم، فإنهم في الغالب قلَّما يتحدَّثُون عن الأحداثِ التي تؤشِّر لتطوُّر منحنى شخصياتهم ومنعطفاتها، وضعفهم البشري، وما اكتنف حياتهم من: ألم وأمل، نجاح وفشل، ضعف وقوة، قلق وطمأنينة، وإيمان وحيرة. وعادة ما يلوِّنون ماضيَهم الشخصي بألوان جذابة، تتغافل عن الكثير من الأخطاء والهشاشة والعجز في شخصياتهم ومنعطفات حياتهم.
قبل سنوات طالعتُ مذكرات الشاعرة نازك الملائكة، بتحرير حياة شرارة، فكانت كأنها قصيدة غزل تتغنَّى فيها بشخصيتها وعائلتها. شعرتُ بالغثيان، لفرط نرجسيَّتِها وشعورها بالتفوُّق، وعجزها عن إعلان شيء من صوت الشاعر المتوهج القلق المتمرد في ذاتها، وهواجس وخلجات وأحلام وأوهام الرائي في وجدانها، وتكتُّمها على العجز الطبيعي في شخصية كل كائن بشري.
ربما نجد من يشذُّ عن هذه الحالة، مثل الروائي سليم مطر كامل الذي كتب سيرة تفضح «ثقافة العيب»، وتعلن عن «اعترافات رجل لا يستحي» حسب تسميته، تصرخ حياته فيها بعنفوان وضجيج، وتتكشف شخصيته عن منحنى تمزقها وهبوطها وصعودها، وانقباضها وتذبذبها بشكل صادم لوعي القارئ في مجتمعاتنا.
تراث التصوُّف مرآة للواقع
آثار المتصوفة عنصر من العناصر المكونة لتراثنا. ينبغي أن ندرس التصوف بألوانه المتنوعة، وتجارِبهم بتجلياتها كافة، في إطار سياقاتها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ولا نتعاطى مع ميراثهم بوصفه متعاليًا على التاريخ والزمان والمكان.
أشرتُ غير مرة إلى أن الالتباس ينشأ من الخلط بين التصوف الطُّرُقي تصوف الاستعباد، والتصوف المعرفي تصوف الحرية. التصوف الطُّرُقي «الاجتماعي» هو تصوف الدروشة والخانقاهات والتكايا والزوايا. هذا النمط من التصوف مرآة لتشوُّهات التاريخ العميقة، ترتسم فيه صورة تلك التشوهات لعصور انحطاط المسلمين وتخلُّفهم وجهلهم. يمكن اليوم توظيف بعض رؤى التصوف المعرفي. ولا ضرورة لمحاكاته، أو اقتباس صورتنا عنه.
ما يهمني هو التقاطُ بعض الدرر واللآلئ في رؤياهم المضيئة الرحبة، مما يتصل بقيم: الإيمان والمحبة والرحمة، وعدم نسيان الذات، والاحتفاء بالجمال والفنون، واحترام كرامة الكائن البشري، والارتقاء بمكانته، والتَّسامي بمقامه، والتعددية الدينية، والخلاص والنجاة والرجاء، وغيرها من قيم تديُّن المحبة والتراحم والسلام.
(٤) إصلاح الحوزة لا يتحقق إلا بالحوزة
أما المشكلة الديموغرافية واختناق وطننا العراق بتكاثر عشوائي للسكان، والعجز عن توفير الحدِّ المناسب للعيش الكريم لهم، فإنه يضعنا في مأزق مصيري، تتعطَّل معه المجتمعاتُ وتتهشم مرتكزاتُها وعناصرُ بقائها وديمومتُها. كلُّ ذلك يعيد ترتيب العناصر الفاعلة في بناء المجتمعات، ويُخضع العواملَ الأساسيَّة التقليدية في حركة المجتمع إلى تَسَلْسُلٍ مغايرٍ، تضمحلُّ أو تختفي معه بعضُ العواملِ المؤثرة، بينما يتعاظمُ تأثيرُ عوامل ثانوية أو جديدة، وتنتظم الأولوياتُ في نَسَقٍ بديل، بعد المتغيرات النوعية الجديدة، وما تفرضه من آثار وحقائق غير معروفة.
نحن جزء من موكب البشرية الزاحف. العقل والتجارِب الكونيةُ مشتركة لدى الكل. لسنا استثناء من البشر، هل يمكن أن يتغير ويتحول كلُّ البشر، بينما نظلُّ مختبئين، ويظل كل شيء في حياتنا عصيًّا على التحوُّل والتغيير. لا تغيير في عقلنا وطرائق تفكيرنا وفهمنا، لا منعطفات في مسيرة تاريخنا، لا صيرورة وتحوُّل في هويتنا، ولا تأثر وتطور في معرفتنا وثقافتنا.
عالم الغد تعد به التقنياتُ الجينية، وتكنولوجيا المعلومات، وتكنولوجيا النانو، أكثر مما تعد به الحروبُ العبثية والسياسات. الإنسان مثلما يكتشف التكنولوجيا ويصنعها، هي أيضًا تعيد اكتشافَه، وتصنع له نمط حياته الجديد، المشابه لها، والمنسجم معها. سيصارع كثيرون وجهة بوصلة التاريخ، لكن مكر التاريخ سيهزمهم كما هزم بالأمس أسلافَهم، كما يقول هيغل.
تتكرر دائمًا خساراتُ مَنْ لا يتعلم من خساراتِه. نحن مولعون بالتجريب، عاجزون عن المراكمة، نمعن بالتجريب على الدوام، ولا نراكم ما جربناه، فلا نغادر خطأ إلى صواب، ولا نضيف صوابًا إلى صواب.
أُطر التكوين الموروثة الراسخة في الحوزة تتضمن عيوبًا متعددة، وتُهْدَر فيها سنوات طويلة من أعمارنا، غير أنها تتكفل بتكوين عموديٍّ وأفقي واسع في المنقول والمعقول، يمنحنا أهلية استثنائية للتوغُّل في التراث، واستكشاف مسالكه ومَدَياته المتشعبة القصية.
أما المرجعية الدينيَّة التقليديَّةُ، فقد تحوَّل موقفي حيالها منذ أكثر من ربع قرن، بعد أن تفهَّمتُ أنَّ حضورَها ضرورةٌ تفرضها متطلباتُ اجتماعنا اليوم؛ ذلك أن مجتمعاتنا ما زالت في «مرحلة ما قبل الحداثة»، بل يمكن توصيف بعضها بأنها «مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة». والمرجعية التقليدية في مجتمع كهذا، أيْ مجتمع ينتمي إلى الماضي بكل ما فيه، هي أهم عمود ارتكاز في العواصف والمنعطفات العظمى التي تعصف به، مثلما نشاهد دورها في المجتمع العراقي منذ الاحتلال الأمريكي. ولك أن تراجع مواقف مرجعية السيد علي السيستاني في هذه الحقبة، ودورها الحاسم والمحوري منذ ٢٠٠٣م إلى سقوط الموصل وغيرها بيد داعش ٢٠١٤م. فلولا مواقف المرجعية الحكيمة لغرِقنا أعمق مما نحن فيه اليوم في الفوضى والحرائق المزمنة.
المرجعيات مؤسسات مشتقة من الاجتماع الإسلامي
أما مرجعيَّات النجف وقُم والزيتونة والقرويين فليست هي السبب للمأزق الذي نغرق فيه اليوم؛ ذلك أنها مؤسسات دينية مشتقة من الاجتماع الإسلامي نفسه، وهي تتحرك وتنمو وتتطور في ضوء المنطق الذاتي لهذا الاجتماع وسياقاته الخاصة، ولا تمثل تمردًا وانشقاقًا عليه.
مأزقنا يتمثل في الانشقاق على الاجتماع الإسلامي الراسخ، الذي يعمل على نحر هذا الاجتماع وتمزيقه. وهو ما قام به الإسلام السياسي، وما انتهى إليه في ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا.
طوال تاريخ الإسلام لبثت المرجعياتُ الدينية في الإسلام فاعلةً ومتفاعلةً. ولم ينقل لنا تاريخُنا القديم أو الحديث أنها مثَّلت في مرحلة ما مأزقًا للأمة. مرجعية النجف قاتلت الإنجليز سنة ١٩١٤م حين دخلوا العراق محتلين، دفاعًا عن دولة السلطنة العثمانية، بوصفها تحمل راية الإسلام، بالرغم من أن دولة السلطنة هذه ظلت تضطهد الشيعة وتهدر حقوقَهم في العراق قرونًا عديدة.
(٥) أنا مسلم وكفى
أرفض توصيف «علماني» لي، ذلك أنه يشي بحكم قدحي. أنا مسلم وكفى، الناس مرضى بالتصنيف ووضع اللافتات. لا أقبل أن أصنف نفسي تبعًا لهذه الخلطة الهجينة، مثل: يسار إسلامي، يمين إسلامي، ليبرالي إسلامي، ديمقراطي إسلامي، اشتراكي إسلامي، علماني إسلامي، علماني مؤمن.
يتفشَّى فهم تبسيطيٌّ لدى بعض المراهقين، ممن يتشبهون بالمثقفين، يتلخص في: امتناع اجتماع الإيمان مع العقل، أي أن تكون مؤمنًا — في مفهومهم — فأنت غير عاقل، أن تكون عاقلًا فأنت غير مؤمن. أما أن يجتمع فيك العقل والإيمان، مثل: ابن سينا وابن رشد وابن عربي، وديكارت وكانط وكيركيغورد، فهذا تهافت.
كررت أكثر من مرة: أنا مسلم مؤمن، متيَّم بحب الله والإنسان والعالم. أُومن بالله ونبيه وكتابه الكريم، وما جاء به النبي «ص». وأؤدي الصلاة والفرائض، طبقًا لما نصت عليه الشريعةُ. أمضيتُ حياتي في دراسة وتدريس علوم الدين ومعارفه، لا أحتاج إلى مَنْ يعلِّمني ما الإسلام وما رسالته. لستُ ناطقًا باسم الله، ولا باسم أحد. أحترم معتقدات الآخر، متمنيًا أن يحترمني الآخر. كل ما أكتبه أشدِّد فيه على بيان مفهوم الدين، وأدعو لبناء تديُّن يثري الحياةَ الرُّوحيةَ والأخلاقية والجمالية. يؤذيني من يجرح الضميرَ الديني للآخر، ومن يزدري الدينَ، ويتهكَّم على الإسلام، ويَسْخَر من التديُّن والحياة الرُّوحية الأخلاقية الأصيلة.
هنا أود الإشارة في سياق شرح مصطلح «علماني مؤمن»، إلى أنَّ الكلمات ليست بريئةً أو محايدة. الكلمات لا تخلو من أحكام، لذلك تتطلَّب براعةً وخبرةً في تعاطِيها واستعمالها كي لا يتبدد أو يتشوَّه معناها. الكلماتُ مشبَّعة برؤيةٍ للعالم، مشتقة من أنساق بيئتها، ونمط الفضاء اللغويِّ الخاصِّ بها، إنها مرآة للثقافة التي تنتمي إليها. الكلمات حسَّاسة. نهدر المعنى ونبدده لو عبثنا بمواضعاتها واستعملناها خارج سياقاتها، وحاولنا تبذيرَ المعنى في تركيبها مع كلماتٍ لا تنتمي إلى مجالها التداولي، واستعملناها في عبارات وجمل لا تشبهها.
توصيف «علماني مؤمن» أو «مؤمن علماني»، يجمع مفهومين متنافرين، لا ينتميان إلى سياق واحد، فالعلمانية كما تُستعمل قدحيًّا اليوم بإسرافٍ في أدبيات الإسلام السياسي، تنصرف في فهمهم إلى شبكة مفاهيم ومواقف مناهضة للدين، أن يوصف بها شخص فهو يعني أنه «غير مؤمن»، بل هي شتيمة تطلق على كلِّ مَنْ لا يتبنى رؤاهم ومواقفهم. ولعلها تؤشر في مضمون تلك الأدبيات إلى الحكم بإخراج المسلم الموصوف بها من الملة.
أرفض توصيف «العلماني المؤمن»
(٦) عقلانية المعتزلة هي عقلانية زمانها
الاستيعاب النقدي للتراث، وتأويله تأويلًا جديدًا، ضرورة يفرضها وضعُ التراث في سياقه التاريخي الزماني والمكاني والثقافي. التراث يحمل بصمةَ عصره، ونمط الرؤية للعالم الحاكمة فيه، ومشروطياته اللغوية والدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية. يمكن أن نوظف شيئًا من مؤشِّرات الحياة العقلية لعصرهم، أي ينبغي أن نقارن اليوم بين: انفتاحهم وانغلاقنا، حريتهم الفكرية النسبية وعبوديتنا الفكرية، جسارة عقولهم وخوف عقولنا، قدرتهم على نقد وتجاوز أساتذتهم وتقليدنا لأساتذتنا، وأسئلة عصرهم المشتعلة وانطفاء الأسئلة في عصرنا، وغير ذلك.
أودُّ الإشارة إلى أنَّ الحنين إلى حدِّ الشغف بالماضي يجهضُ التفكيرَ الفلسفيَّ، لأنَّ الحنينَ نمطٌ من الانقياد والرضوخ يتعطَّل معه العقلُ. منطق الانقياد والاتِّباع يجهض التفكيرَ النقدي.
إن الفهم الخاطئ لآراء الفلاسفة يجهض التفكير الفلسفي. إذ ترتد ندرة الإبداع الفلسفي بالعربية إلى الاحتفاء بفلاسفتنا القدماء، وتحويل بعضهم إلى أصنام. كلُّ فيلسوف أو مفكر لا ينجب فكره إلا تلامذة هم نسخة مكررة عنه يموت. لا يتكون أيُّ فيلسوف أو مفكر حقيقي إلا بعد أن يكونَ خلاصة نقدية لسلالات من المفكرين ممن يوافقهم أو يختلف معهم.
كذلك تلقينا بعض نصوص الفلسفة الحديثة والمعاصرة خطأ، ذلك أن ترجماتنا الأخيرة للفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة أحيانًا تبدو مضطربة مشوشة. علمًا أن الترجمات الفلسفية المبكرة للعربية في القرن العشرين كان معظمها جيدًا.
ينبغي أن يتخلص الباحثون والدارسون والتلامذة في الفلسفة والمعقول من الاكتفاء بالمستخلصات والشروح والتعليقات والهوامش، ذلك أن خبرتي في دراسة وتدريس الفلسفة تقول: الهوامش تطمس الأصول، فلا يمكن معرفة الفارابي إلا بقراءة الفارابي، لا يمكن معرفة ابن سينا إلا بقراءة ابن سينا، لا يمكن معرفة ابن رشد إلا بقراءة ابن رشد، لا يمكن معرفة ابن عربي إلا بقراءة ابن عربي. لا يمكن معرفة كانط إلا بقراءة كانط، لا يمكن معرفة هيغل إلا بقراءة هيغل، لا يمكن معرفة هَيدغر إلا بقراءة هيدغر، لا يمكن معرفة غادامير إلا بقراءة غادامير … وهكذا.
(٧) تجديد الفكر الديني
هنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التفكير جديًّا بتحديث اللغة في الدراسات الدينية. ذلك أن «حدود لغتي تعني حدود عالمي» كما يقول لودفيغ فيتغنشتاين. اللغة مرآة حياة المجتمع في كل عصر. البيئة الفقيرة لغويًّا فقيرة عقليًّا، خصوبة اللغة وثراؤها بقدر ما تقتل التفكير السطحي، فإنها تُحْيي التفكيرَ العميق. حين تشيخ اللغة ويصيبها الوهن تنضب فيها طاقةُ الأسئلة الكبرى، وتتفشَّى فيها كلماتٌ واهنة، وعباراتٌ هشَّةٌ، تقول كلَّ شيء، من دون أن تقول شيئًا له معنى. التَّحليلُ اللغوي يتيح لنا اكتشافَ أنماطِ المعتقداتِ والقِيَمِ والمفاهيمِ والحوافز العميقة الموجِّهة لحياةِ المجتمع في ذلك العصر.
البحث اللغويُّ عند الأصوليِّين والفقهاءِ بلغ سقفًا توقَّفَ عنده، وما يقال فيه ليس قولًا جديدًا، وإنما هو شروح للشروح، وتفاصيل في التشعُّبات، وتفريعات داخل الفروع. ما يعدنا بأفق جديد هو استيعاب المعطيات الراهنة في الألسنيات والهرمنيوطيقا وعلوم الدلالة والرموز، وتوظيفها في الدراسات الدينية.
هذه المعطيات ترشدنا إلى أنَّ للكلمةِ طبقاتٍ تتراكمُ عبر العصور حول نواة المعنى الأول. تتناسب هذه الطبقات وعمر الكلمة، ونمط تراكم دلالاتها، وتنوع استعمالاتها في كل عصر. التأويليُّون يكتشفون الطبقات المتراكمة التي تطمِر نواةَ المعنى، مثلما يحدِّدُونَ نَسَب وجذر انتماء كلِّ طبقة أُضِيفَتْ للمعنى في الزَّمَنِ الذي توالدَتْ فيه، من خلال اكتشافِهم لطبيعةِ الظروفِ الاجتماعية لكلِّ حقبةٍ زمنيَّةٍ، وصلتها بكيفية تشكُّل معناها في تلك الحقبة، في ضوء: أفق انتظار المتلقِّي، ورؤيتِه للعالَم، وأحكامه المسبقة.
قضايا إسلامية معاصرة والسؤال اللاهوتي الجديد
جاء صدورُ هذه المَجلة إيذانًا بتدشين مسارٍ جديد للتَّجديد، يستلهمُ أفقًا يضيء لنا ما ينبغي أنْ يكونَ، بدل أنْ نلبث إلى ما لا نهاية فيما كان. هذا الأفق لا يدعو لإقصاء الدين، بل يشدِّد على أن الدينَ هو منطلق أية عملية للنهوض والتنمية والتحديث في مجتمعاتنا، يكون رأسمالُها ومادَّتُها المحورية الشخصَ البشري، وكيفيةَ تربيته وتأهيله رُوحيًّا وأخلاقيًّا، وأن الدين هو المنبع الأساس في بناء حياتِه الرُّوحية، وتطهير حياته الأخلاقية، وحمايته من الاغتراب الكوني، والقلق الوجودي، والعبثية، واللامعنى، بإرواء ظمئه الأُنطولوجي للمقدس.
انطلقت مَجلة «قضايا إسلامية معاصرة» من رؤيةٍ تُبتنَى على أنه في الأسئلة ليس هناك سؤال أخير. في الفلسفة ليس هناك مفهوم أخير. في الفكر ليس هناك رأي أخير. في العلم ليس هناك نظرية أخيرة. في الدين ليس هناك اجتهاد أخير. كلُّ عصر يفرض تفسيرَه الخاص للنصِّ الدينيِّ، مهما كانت ممانعةُ التفسير الماضي وتجذره.
لهذه المَجلة مقاربتُها الخاصة لمأزق الفكر الديني في عالمنا المعاصر، والتي سعت من خلالها لتجاوُز التبسيط، والقطيعة مع حالة الغرق في الماضي وأسيجته المنيعة، فغامرَتْ باجتراح تفسير لا يخشى توظيف مُعطيات العلوم الإنسانية والمعارف الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ولا يمتنع من الإفادة من خبرة فلسفةِ الدين الحديثة في الكشف عن البعد الأُنطولوجي للدين، ونمط التجارِب الدينية. انتقلَتْ بدراسة وتحليل ما يرتبط بالدين وتعبيراته في الحياة من رؤية أيديولوجية إلى رؤية معرفية، فلم تدرس الدينَ بعقلية لاهوتية، ولم تنقد علمَ الكلام بعقلية كلاميَّة. اهتمتْ بالكشف عن المهمة المحوريَّة للدين في إرواء ظمأ الكائن البشري للمقدس، وحرصتْ على ضرورة عودة الدين إلى حقله الأُنطولوجي، بعد أن رحَّلته الجماعاتُ الدينية إلى الأيديولوجيا، وحوَّلته إلى وقود يحترق في عربة السياسة، وزجَّته في الدولة، فأفشلت الدولةَ، وأمرضت الدينَ، وأفسدت رسالتَه.
ذلك ما دعا «المعهد البابوي في روما» التابع للفاتيكان إلى أن يخصِّصَ كتابَه السنوي لموادَّ منتقاةٍ من مَجلة «قضايا إسلامية معاصرة»، والذي صدر في ديسمبر ٢٠١٢م، اعترافًا بالمهمة التي نهضتْ بها في تجديد الفكر الديني في ربع القرن الأخير، وبوصفها حسب تصنيف المعهد البابوي الدوريَّة الأهم المتخصصة في الأديان باللغة العربية، الرائدة في اقتحام الحقول الممنوعة في التفكير الديني، واجتراح سؤال لاهوتي جديد، والعمل على كشف قصور مناهج النظر والمقولات الموروثة في ذلك التفكير اليوم، وتدشين مناهج للنظر وأدوات بديلة فيه، تواكب إيقاع الحياة الشديدة الغنى والتحوُّل والتطور والتركيب.
أما «مركز دراسات فلسفة الدين» فقد تأسس في المنفى، ودُشِّنَتْ جهودُه في البحث والطباعة والنشر قبل عشرين عامًا تقريبًا، لكنَّ إشهارَه تأخَّر حتى عودتي من المنفى للوطن. منذ ذلك التاريخ أصدر المركزُ مضافًا إلى مَجلته الفصليَّة «قضايا إسلامية معاصرة» سلاسل كتب عديدة، تجاوز عددُ ما صدر فيها ٢٠٠ كتاب، تناولتِ القضايا الإشكاليةَ في التفكير الديني. وبدأ المركز العامَ الماضيَ (٢٠١٤م) بإصدار «موسوعة فلسفة الدين»، التي صدر عامَ ٢٠١٤م مجلدُها الأول في ٥٠٠ صفحة، والمجلد الثاني ٢٠١٥م في ٥٥٠ صفحة. كما صدر المجلد الثالث ٢٠١٦م في ٥٥٠ صفحة. ونأمل أن تواصلَ بقيةُ المجلداتِ الصدورَ تباعًا في هذه الموسوعة، حيثما يتم تحريرها. ونخطِّط أن تستوعبَ كلَّ مسائلِ فلسفة الدين، في عشر مجلدات. وهي تضم مساهماتٍ لفلاسفةِ دينٍ وباحثين عن الألمانية والإنجليزية والفرنسية والفارسية، بموازاة النصوص العربية، بالرغم من شِحَّة الأخيرة.
مع العلم أن مركزنا هو أول مركز أبحاث يتخصص بفلسفة الدين في المجال العربي، وقد أمضيتُ ما يزيد على خمسة وعشرين عامًا من الاهتمام بهذا الموضوع، عبر إصدار مَجلة «قضايا إسلامية» عام ١٩٩٤م وتوقفها، ثم إصدار «قضايا إسلامية معاصرة» عام ١٩٩٧م، والتي صدر منها حتى اليوم ٧٦ عددًا متخصِّصًا، يتناول كلُّ عدد واحدةً من مسائل فلسفة الدين، أو ما يتصل بها. علمًا أننا حتى اليوم قلَّما نعثر على كتاباتٍ عربية جادة في هذا الموضوع البالغ الخصوبة والحيوية، والضروري لفتح آفاق بديلة لتجديد الفكر الديني، وبناء الحياة الرُّوحية والأخلاقية الأصيلة.
الإصرار على ضرورة تدشين هذا الأفق الحيوي «فلسفة الدين» في الدراسات الدينية بالعربية ينبع من قناعتي بأنه حين يموت التفكيرُ الفلسفي تموت العلوم والمعارف. كذلك تتعطَّل الدراسات الدينية عن الإبداع حينما يموت التفكير الفلسفي فيها، ولا يمكنها الخلاصُ من التكرار والاتباع. تعطلت العلوم والمعارف في عالم الإسلام لحظة تعطل التفكير الفلسفي.
بعد عدة سنوات من جهود مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد وإصداراته المتنوعة، وحضور مَجلته «قضايا إسلامية معاصرة» بكثافة في العراق، قرَّرتْ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قبل فترة إدراج «فلسفة الدين» في المقررات التعليمية لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية. كذلك تناولت مجموعةُ رسائل ماجستير ودكتوراه هذا الموضوع ومسائله المتنوعة في السنوات الأخيرة. فضلًا عن تبني بعض أقسام الفلسفة في الجامعات العربية لتعليم فلسفة الدين في مختلف مراحل التعليم العالي، والاتجاه الجديد لطلاب الدراسات العليا بالبحث والكتابة في هذا الموضوع. كذلك تنبهتْ أخيرًا بعضُ مراكز الدراسات والدوريَّات الدينية لذلك، فوجَّهت الباحثين والمترجمين للبحث والترجمة في فلسفة الدين، واهتمت بنشر دراساتٍ ونصوص عربية ومُعَرَّبَة في هذا الحقل. ولو لم تفتح مَجلةُ «قضايا إسلامية معاصرة» وإصدارات «مركز دراسات فلسفة الدين» إلا نافذةَ الضوء هذه في الدراسات الدينية فهو أمر ليس بالقليل.