تجديد الفكر الديني١
(١) أنا قارئ قبل أي شيء آخر
لا شيء سوى المطالعة يلازمني في: سَفَرِي وحضري، صحتي ومرضي، حزني وفرحي، تعبي وراحتي، بل لا أتذكَّر أني نمتُ دون أن يكون الكتابُ آخرَ رفيقٍ أودِّعه، وأحيانًا لا أودِّعه إلا حين يغلبني النومُ. وحين أكونُ في مناسبات اجتماعية، أو لقاء أقرباء أو أصدقاء، أظلُّ مشدودًا للحظة الانصراف عنهم، كي أعود لملاذي في المطالعة.
بالرغم من مطالعتي للصحافة منذ المرحلة نهاية المتوسطة يوميًّا، حيثما كنت، وحتى هذه اللحظة أنفق كل يوم ما يقارب الساعتين للنظر في الصحافة، بوصفها «زاد الفلاسفة» حسب تعبير هيغل، غير أن الصفحات الميتة لديَّ في الصُّحف هي الصفحات الرياضية. بعد أن أدركتُ الأهميَّةَ الفائقةَ للرياضة في عصرنا، وآثارها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتربوية والفنية وحتى السياسية، حرصتُ على التعرُّف على شيءٍ من فنونها وآثارها المتنوعة، من خلال أبنائي، الذين أقحموا الصحافةَ والأفلامَ والملابسَ والأدواتِ الرياضيةَ المنزلَ، وكأن الرياضة تنتقم من موقفي المعاند لها، لتستولي اليوم على فضاء بيتي، وتغطِّي أشياؤُها معظمَ الغرف والصالات والممرات.
حزين على غيابي عن الحياة وعكوفي الأبديِّ بين الأوراق، حزين على حرماني من المتع البريئة، حزين على هذا النَّمط من السجن الذي غيَّبني على الدوام عن الفئة العمرية التي أنتمي إليها، وأجهل أحلامَها وتطلعاتها ومشاغلها وجدَّها وعبثَها. لو استقبلتُ من حياتي ما استدبرتُ منها، ربما أنخرط بتجريب ما في هذا العالم، ربما أتذوق شيئًا من متع الحياة ومراراتها الشديدة الغنى والتنوع.
ما زلتُ أفتقر إلى خبرةِ الكثيرِ من تجارِب العيش وفنونه العمليَّة خارج فضاء الورق، الآن أخرج بالتدريج من الورق، حيث أدخل فضاء العالم الافتراضي، وأغرَق في عوالم الإنترنت ووسائل التواصل وتطبيقاتها.
ربما لا أستطيع التحكُّم في مسار حياتي، حتى لو استأنفتُها؛ ذلك أني بطبيعتي كائن مسكون بمتعة الاكتشاف، والبحث عن كل ما يثير الدهشة التي تنبعث عن كل ما هو غريب، مما تتكتم عليه الجماعات والطوائف والأديان والثقافات.
أنا مُولَع بالهرولة وراء كل ما هو جديد، لا أكفُّ عن سياحتي ورحلتي العقلية والرُّوحية، نموذجي على الدوام في المستقبل. وربما كان لنزوع السير والسلوك الفكري المتواصل في شخصيتي تأثير بالغ على شغفي بالمطالعة وصحبة الورق، ذلك أن الكُتَّاب يبوحون لي بما يتكتَّمُ عليه المجتمع، ويفضحون ما تمنع التصريح به العادات والتقاليد والمعتقدات ومختلِف أنواع السلطات.
المطالعة مهنتي الأبدية، إنها محطة استراحتي، إنها ما يمنحني الرضا، ويحررني من نمطية الواقع وتكراره الرتيب الممل، هي ما يفيض عليَّ الهدوءَ، ويثري لحظات يومي بسعادة غامرة.
أما الكتابة، فأهرب منها، لا أتكلَّفها، ولا أخوض فيها إلا بعناء؛ حين أخضع لفروض تمليها عليَّ مهماتي في البحث العلمي والتعليم والتواصل مع تلامذتي وقرائي. منذ بدأت الكتابة ما زلت أتهيبها، ففي كل مرة أقرر فيها أن أكتب أحاول الهروب، وألتمس غالبًا الأعذار بانشغالي، وندرة ما يتوافر لديَّ من وقت فائض أخصِّصه للكتابة، وربما هربت إلى حيل نفسية تنقذني من هَلَعِ الكتابة. كنتُ أحسب أني مصاب بشلل الإرادة، وأني أنفرد بذلك، غير أني اكتشفتُ أن معظم الكتاب الجادِّين يعانون من ذلك، ولعل من أعنف توصيفات وجع الكتابة ما تحدثتْ عنه الأديبة آني إيرنو، بأن «الكتابة كخنجر»، أو قول إرنست همنغواي عندما سُئل عن أفضل تدريبٍ فكري لمن يريد أن يصبح كاتبًا فأجاب: «إن عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أنَّ الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل عن المشنقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه كبداية.»
يبدو أن هروبي وغيري من الكتابة يكشفُ عن شعورٍ غاطس في الوجدان من خشية الفشل في إنتاج نصٍّ يُرضي القرَّاء، ويمنحونه اعترافَهم، مثلما يخشى الفشلَ كلُّ شخص يباشر عملًا نوعيًّا في حياته، فيحترز ويَحْذَرُ كثيرًا، قبل أن يُقْدِمَ على أيَّةِ خُطْوَةٍ في إنجازه.
لا شك أن طلب الكمال، والرغبة بالظفر بمنجز فائق الجودة، والمبالغة في التهيُّب من الوقوع في مغامرة الأفعال البالغة الصعوبة، يصبح أحيانًا عائقًا يمنعنا من الإنجاز، ويقعدنا عن المباشرة بالعمل، أو يعطلنا في منتصف الطريق عن الإصرار على المضي فيه حتى جني الثمرة.
في حالة كهذه لا ينجح إلا أولئك المغامرون، ممن لا يتهيبون الاقتحام، ولا يترددون في الإقدام على أي عمل، مهما كان شاقًّا وخطيرًا، فإن الأعمال الخطيرة لا تنجزها إلا الهمم والعزائم الكبيرة.
في زيارتي لأية مدينة، الأماكن الأشد إغواء لي هي المكتبات، وطالما عبَّر بعضُ رفاق السفر عن تذمُّرهم من تسكعي في أسواق الكتاب، وضياع وقتهم في أماكن لا تعنيهم ولا تهمهم، وأحيانًا يعربون عن استغرابهم، من تكاليف الوزن الإضافي التي أضطر لدفعها لشركات الطيران غالبًا لتجاوز كمية الكتب الوزنَ المعفوَّ عنه لكل مسافر.
لعل فضيلتي المتميزة تكمن في أني أعرفُ أنَّ فضاء ما أجهلُه لا حدودَ لها، وذلك ما يحثُّني على الدوام للهرولةِ وراء كلِّ كتاب وكاتب جديد، عساني أُضَيِّق مساحاتِ جهلي الشاسعة التي تؤرِّقني باستمرار.
أتساءَل مع نفسي: لماذا أفتقر لأية ثقافة سينمائية، مما يضطرني للإفادة من ثقافة ولدي عليٍّ في هذا الحقل شديد الأهمية والراهنية؟ لماذا أفتقر لأية ثقافة في مختلِف أنواع الفنون؟ لماذا …؟!
(٢) سؤال التجديد
ما زلنا حتى هذه اللحظة نعيد صياغة عفلق وقطب، وكلِّ تلك الشعارات المضللة المسكِرَة، ونسقيها لأبنائنا، عبر منابرنا وفضائياتنا وحتى جامعاتنا. ما زال بعض أساتذة الشريعة والدراسات الإنسانية وربما الفلسفة في بلادنا يكررون ذلك، فيخدعوننا بحيل اصطلاحية، وشقشقات لغوية، ومنحوتات لفظية موهمة، يسوقون فيها عقولنا إلى مِقصلة نغدو فيها مخلوقات مشوهة غير قادرة على الحضور في زمانها الخاص.
هذا مصير الفكر الديني في مجتمعاتنا، لا نعثر على مراجعاتٍ نقديَّة جادَّة في أدبيَّات الإسلاميِّين، وأي مسعًى للنقد يُتهم صاحبُه ويُصنَّف بوصفه مناهضًا لأمجاد الأمة وماضيها المشرق، وأخيرًا يعمِد أكثر أتباع الأحزاب القومية والجماعات الدينية لتوصيف مثل هذه المحاولات بأنها جَلدٌ للذات كما هو متداوَل في مقالاتهم ومؤلفاتهم.
منذ حسن البنا غرِق الفكر الديني في بلادنا في مسار خاطئ، حين عمَد الإخوان المسلمون ومن اقتفى أثرهم، وترسَّم خطواتهم، وتبنى مفاهيمَهم وآراءَهم، فدمج ما هو مقدَّس بما يتقدس، فيظهر أنه مقدس. وخلط ما هو ثابت بما هو متغير، ما هو تراثي بما هو ديني، ما هو زمني بما هو ميتافيزيقي، ما هو غيبي بما هو مادي، ما هو أرضي بما هو سماوي، ما هو رؤيوي بما هو محسوس، ما هو رمزي بما هو حرفي، ما هو أخلاقي بما هو فقهي، ما هو قانوني بما هو رُوحي، ما هو عقلي بما هو قلبي، ما هو دنيوي بما هو ديني، ما هو إلهي بما هو بشري. وهكذا التبس الاعتقادُ بالله تعالى بصُوَرِ الإنسان المتنوعة عن الله، وغير ذلك. وهو ما انتهى إلى إنتاج الإسلام السياسي، الذي عبَّرت عنه كتاباتُ أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، وتبعًا لهما كرَّرتْ أدبياتُ الجماعاتِ الدينية مقولاتهما.
لا أريد القول إن الفكر الديني لدينا دخل منطقة استحالة وعُقم، أعتقد أنه في حالة ممانعة متصلِّبة ترفض بعناد أيةَ محاولة جادة لتجاوُز ما هو نمطيٌّ وساكن. ولا أظن خبيرًا يزعم بأن عقلنا وتفكيرنا في لحظة «خلق وإبداع كوني معاصر» حسب تعبيركم. ففي بلادنا: السياسي مشغول بغير السياسة، المثقَّف مشغول بغير الثقافة، الأديب مشغول بغير الأدب، الفنان مشغول بغير الفن، العالِم مشغول بغير العِلم، الطبيبُ مشغول بغير الطب، المهندس مشغول بغير الهندسة، المتديِّن مشغول بغير الدين.
كم أتألم وأنا أرى كلَّ هذا العبث الغرائبي المتفشِّي في العالَم العربي. في بلادنا سياسيون بلا سياسة، اقتصاديُّون بلا اقتصاد، مفكِّرون بلا تفكير، مثقَّفون بلا ثقافة، أدباء بلا أدب، لغويُّون بلا لغة، كتَّاب بلا كتابة، حقوقيُّون بلا قانون، قضاة بلا ضمير، خطباء بلا بيان، أخلاقيُّون بلا أخلاق، متديِّنُون بلا دين، مفسِّرون بلا تفسير، فقهاء بلا فقه، فلاسفة بلا فلسفة، متكلِّمون بلا علمِ كلام، متصوِّفون بلا تصوف.
البداية الصحيحة تبدأ بالتربية والتعليم، ما لم يتمَّ إصلاح التربية في بلادنا منذ الروضة، والتعليم بكل حقوله وتخصُّصَاتِه، لا يمكن أن نبدأ بدايةً صحيحة. لا يصنع مستقبلًا متطورًا آمنًا لحياتنا إلا التربية والتعليم النوعيُّ الحديث اليوم لأبنائنا. أعرفُ بعضَ وزراء التربيةِ والتعليم في بلادنا العربية من الأُمِّيِّين ثقافيًّا، ممن لا صلة لهم بالتربية والتعليم، ولا يعرفون شيئًا عن عالَم اليوم.
الخبراء يعرفون ما لوسائل التواصل والفضائيات اليوم من مفعول سحري، لا لأنها تعمل على تغليف الواقع ودفنه فقط، بل لأنها تعملُ على خلق واقع بديل بموازاة الواقع، تُصنع فيه: معتقداتنا، مفاهيمنا، آراؤنا، سياساتنا، زَعاماتنا، مواقفنا، أحلامنا.
آمُل أن نستفيق من غفوتنا المزمنة، أن ننتفض على أولئك المحترفين من الخطباء والوعاظ والكتَّاب الذين يسقوننا الأوهام، ويخوفوننا من العودة للعقل، ويخدعوننا كل يوم. أن نتأمل واقعنا، أن نتفحص مصيرنا. هل نجرؤ على طرح تساؤلات كبيرة على أنفسنا، مثل: ما إضافاتنا للمعرفة البشرية منذ أكثر من خمسة قرون؟ ما إسهام أكثر من مليار وثلاثمائة مليون إنسان مسلم في تحولات التاريخ الحديثة؟ ما فتوحاتهم في حقل الاكتشافات والاختراعات ومختلِف العلوم؟ ما منجزاتهم في الفلسفة والعلوم الإنسانية؟ كم عدد المسلمين ممن حازوا على جائزة نوبل والجوائز المماثلة سنويًّا؟
(٣) الخوف من الفلسفة والعلوم الإنسانية
لقد استُثمِرت مبالغ طائلة في الخمسين سنة الأخيرة في دعوات أيديولوجية لا صلة لها بالعلم والمعرفة، دعوات لا تكفُّ عن تجنيس المعرفة وتصنيفها هُويَّاتيًّا: دينيًّا وجغرافيًّا وإثنيًّا، مثل: «إسلامية المعرفة»، و«التأصيل الإسلامي للعلوم»، و«العلوم الإنسانية العربية»، و«العلوم والمعارف القومية»، وغيرها، مما نُسج على منوال ما حاكتْه الماركسيةُ في النصف الأول من القرن العشرين وكتاباتها عن «الرُّوح الحزبية في العلوم».
آفاق الدراسات الإسلامية مُغْلَقَةٌ في الجامعات ومراكز البحوث والحواضر العلمية التقليدية في عالمنا. مشاغل تلامذة هذه المؤسسات وأساتذتها، تتمحور في محفوظات وهوامش وشروح وشروح للشروح، الكل يدور في آفاق رؤية السلف، حتى الدرس الفلسفي في الحوزات يختزل الفلسفةَ في مُلَّا صَدْرا الشيرازي، ولا يتعاطى مع آثاره نقديًّا.
غزارة التراث وتنوعه تحوَّل إلى عبءٍ يُجهض أيَّةَ محاولة لنقده وغربلته، ويعطِّل أيَّ مسعًى للاجتهادِ والخلقِ والابتكارِ والإبداع. الحجمُ الهائل لتراثنا، يعطِّل تفكيرَنا، ويشلُّ وعيَنا، حين يُغرقنا في مسالكه ودروبه، التي لا تقودنا إلا إلى أين!
أي مسعًى للاجتهاد والتجديد لا يمنح لنفسه مشروعية تراثية يُقاوَم بضراوة ويُنفى. الدعوة للاجتهاد في الفقه تتوكَّأ اليوم على «مقاصد الشاطبي»، وتستدعيها كما هي، من دون أن تجرؤ على منحها رُوحَ العالم الجديد، وأحلامَ وتطلعات المسلم. إنها لا تتجاوز تقليد الشاطبي، فتستغرق في شرحه، وأحيانًا تمعن في تغييب نزوع تلك المقاصد ومسعاها لبناء أصول بديلة لأصول فقه الشافعي، ومن رسَّخ نهجه. كيف يمكننا تجديد الفكر الديني في الإسلام مع انسداد آفاق هذا التفكير، والرُّكُون إلى رؤى السلف واسترجاعها والتعاطي معها كنصوصٍ عابرةٍ للزَّمان والمكان والاجتماع الإسلامي، ومناهضة مُعْطَيَات العلوم والمعارف البشرية؟
المعرفة الدينية إحدى تجليات المعرفة البشرية، وافتراض أنها استثناء ولا تنتمي للمعرفة البشرية ناجم عن الجهل بفلسفة العلوم، والمنطق الحاكم في صيرورة تغير وتطور المعارف والعلوم.
لا سبيل لتجديد الفكر الديني إلا بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية والتعرف على مكاسبها، ووعي فلسفة تغيُّرها وتحوُّلها. لا نصل لذلك إلا بالاستيعاب النقديِّ للتراث، وتوظيف المعطيات الجديدة للمعرفة البشرية في تشريحه، وإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام ضمن سياق المنهجيات والمفاهيم والرؤى والمعطيات الجديدة للمعارف والعلوم.
(٤) المشاريع الفكرية العربية
لا شك أنَّ الإنتاج الفكريَّ لهؤلاء المفكرين ذو راهنية وأهمية فائقة، ولو تم استيعابه وتصنيفه وتقويمه وتوظيفه لتجاوز العقلُ في بلادنا المكرراتِ الموروثة، وانتقل إلى آفاق تتسع لأسئلة عميقة، وتسعى لصياغة مفاهيم بديلة، تحاول توظيف مناهج حديثة، لم يعرفها باحثو ودارسو التراث من قبل، فتعمل على تفكيك التراث وغربلته والتوغل في طبقاته المتراكمة، وما لا تكشف عنه المناهج والأدوات التقليدية.
للمرة الأولى، تحيلنا تلك المناهج إلى تجاوز الأسلوب التقليدي في دراسة المدونة الفقهية، وترشدنا إلى ما يتخطَّى فهمنا السائد، فنبحث عن مرجعيات مستترة توجِّه عقل الفقيه، وتعمل على تبنيه لموقف فقهي معين ورفض ما سواه.
كنا في الدرس الشرعي حين نسعى للإفتاء في مسألة معينة، نعمل على تطبيق أصول الفقه والقواعد الفقهية وعلوم الدراية ودراسة أسانيد الحديث وأدوات اللغة ومعاجمها؛ لنستعين بها في فهم نصوص الكتاب الكريم والسُّنة الشريفة، وفي حالة فقدان النصوص نعود للمقاصد والمصلحة والإجماع والاستحسان والقياس، وغير ذلك، تبعًا لتنوع الموقف الاجتهادي للمذاهب في أصول الفقه وطرائق الاستنباط. أتاحتْ لنا المناهجُ الجديدة في: الهرمنيوطيقا والألسنيات وفلسفة العلم وعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، أن نكتشف ما لم تبُح به مناهجُنا التقليدية، فنبهتنا إلى وجود منابع مضمرة تسهم في توليد فتاوى ومواقف الفقهاء، لم نتنبه لها من خلال المناهج وأدوات النظر والمفاهيم الموروثة. مثلًا الرؤية للعالم التي يتبناها الفقيهُ، ونمط معتقداته، تعمل على فرض موقف عليه ينسجم مع معتقده، فلو كان معتزليًّا أو إماميًّا أو أشعريًّا أو ماتريديًّا أو إباضيًّا، يبدو له معنى النص على وفق رؤيته الاعتقادية. وهكذا اكتشفنا عبر المناهج الجديدة أن سياقات إنتاج الفقه ترتبط بأحكام الفقيه المسبقة، ونمط تربيته، وعصره، وبلاده، وبيئته، ومجتمعه، وإثنيته، وثقافته، وخبراته الحياتية المتنوعة. بل إن معاجم اللغة خضعت في اختيارات معاني الكلمات وترجيح أحد المعاني دون سواه للرؤية اللاهوتية لمؤلف المعجم اللغوي. كل هذه العوامل وما يماثلها لها تأثير مباشر في طبيعة فهم الفقيه واستنباطه. كذلك ترتبط فتاوى الفقيه بفهمه لحدود الدين ومَدَياته ومجالاته في الحياة، وأيضًا ترتبط بأفق انتظاره، وما يترقبه من الدين في الحياة، وتوقعاته، وتطلعاته، ومطامحه.
الهرمنيوطيقيون جِيولُوجِيُّون؛ يكتشفون الطبقات المتراكمة، التي تتكدس لتحجب عنَّا بؤرة المعنى، كما يحدِّدون الأنساب والجذور الزمنية لانتماء كل طبقة ظهرتْ على المعنى الأول، ويتعرفون على عمرها، وطبيعة العصر الذي توالدت فيه، كذلك يضيئون زمانَها، وكيفية تشكُّل معناها في كل عصر، في سياق أفق انتظار المتلقي وتطلعاته وأحكامه المسبقة، ونمط معتقده وثقافته وبيئته، وطبيعة الإكراهات المتنوعة، التي وجَّهَتْ عمليةَ بناء الدلالة، وصاغت كيفية فهم المعنى.
في ضوء هذه المعطيات، نستطيع أن نتعاطى مع المدونة الفقهية الموروثة، وما يفتي به الفقهاء في كل عصر، بوصفها معرفة بشرية مشتقَّة من تلك المنابع المشار إليها وما يماثلها. ما يعني أن كل عصر ينتج مدونته وأحكامه الفقهية الخاصة، وهي مدونة لا تتسع أحكامُها للعصور كافة، ولا تستوعب مختلِف الأزمان، وحسب تعبير أصول الفقه: إنها أحكام ليس لها «إطلاق أزماني وأحوالي»، أي أن فتاوى الفقهاء لا تمتد زمانيًّا خارج زمانها، ولا تتسع لحالات خارج سياق موضوعاتها.
هذا نموذج فقط للإمكانات الفائقة الأهمية التي تمنحها لنا المناهجُ والأدواتُ والمفاهيم المعروفة في الفلسفة والعلوم الإنسانية وعلوم التأويل الجديدة للقيام بحفريَّات عميقة في المدونة الفقهية، والكشف عن بنيتها التحتية والمنابع التي تستقي منها. كذلك يمكننا الإفادة من تلك الإمكانات واستخدامها في دراسة مدونات التفسير والحديث وعلم الكلام والفلسفة والمنطق والتصوف والعرفان، وكل ما هو موروث.
بيد أن جهود هؤلاء المفكرين لم تحقِّق وعودها في الدراسات الدينية عندنا، ولبثت المقررات والمساقات التعليمية في الجامعات وكليات الشريعة والدراسات الإسلامية، والرسائل الجامعية، ومراكز البحوث والدوريات والمؤلفات حبيسة المناهج القديمة ولا تكترث بالمناهج الجديدة، وفي الحالات المحدودة التي يهتم بها الباحثون والمدرسون فإنهم لا يدرسونها بُغية التعرف عليها وفهمها، وحتى لا يقاربونها نقديًا، وإنما يتعاملون معها بوصفها «شبهات»، و«بدعًا»، و«معتقدات باطلة»، و«ضلالات»، و«مغالطات»، و«هرطقات»، هدفها تضليل المسلم واختراق عقيدته.
أستأنف ما تحدثت عنه في مناسبة سابقة، قبل عدة سنوات، حول ضرورة تجديد الفكر الديني في الإسلام من داخل المؤسسة الدينية، وضعف تأثير المفكرين والدارسين والباحثين خارج هذه المؤسسة، بالرغم من أهمية منجزهم وريادته، ففي مراجعة عاجلة لحركات تجديد الفكر الديني الفاعلة والمؤثرة في تاريخ الأديان، والتي امتدت وترسخت عبر الزمان، نجد الحركات المشتقة من المؤسسة الدينية، والمتولدة من الخميرة ذاتها، كحركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر داخل الكنيسة هي ما أحدث منعطفًا وتحوُّلًا حاسمًا في تقاليد ونظام المؤسسة الدينية، ويظل على الدوام صوتُها مسموعًا ومؤثِّرًا في المؤسسة.
إصلاح المسجد لا يتحقق إلا حين ينبثق من داخل المسجد، وإصلاح التعليم الديني في الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة، لكيلا يفتقر الإصلاحُ للمشروعية، وتبعًا لذلك كي يتوافر له حامل اجتماعي. بينما لا تجد الدعوات والكتابات في الإصلاح من خارج المؤسسة الدينية حاملًا اجتماعيًّا يعتنقها ويتبناها ويتفاعل معها داخل المؤسسة، ويستخدم الإمكانات التي يتيحها له انتماؤه للمؤسسة الدينية، كالمنابر والشعائر والمواكب ودور العبادة في التثقيف على المفاهيم والمقولات والرؤى والأفكار التي تدعو إليها.
لا أعني ﺑ «المشروعية» هنا المفهوم الميتافيزيقي أو الغيبي أو الفقهي، بل أعني المفهوم السوسيولوجي والأنثروبولوجي، أي إن خطيبًا على منبر بوسعه تعبئة وتحريض المستمعين على اعتناق آرائه مهما كانت، تبعًا لما يمنحه المقام الذي يصدر عنه حديثُه من مكانة وقيمة ومشروعية. بينما لا يمتلك المفكر والباحث خارج المؤسسة الدينية ما يمنح آراءَه هذه القيمة الرمزيَّة والمشروعيَّة.
قد لا تكون هذه الفكرة محبَّبة لدى بعض المنشغلين بدراسة ونقد الفكر الديني، المنحدرين في تكوينهم الفكري من خارج المؤسسة الدينية، ولعلَّ بعضَهم يرى فيها تقليلًا من دورهم، إلا إنني أرى أنَّ الواقع التاريخيَّ لمسيرة الإصلاح ينحازُ لصالح هذه الفكرة.
في النهاية، تبدو هذه الملاحظة سديدةً إذا بقيت مجتمعاتُنا في بنيتها الاجتماعية، وفي مصادر تكوينها العلمي والثقافي على ما هي عليه الآن. نعم، في ظل نظام تعليمي جديد، ولا سيَّما الجامعي منه، أكثر حداثة وتنوعًا وعمقًا مما نجده اليوم، من الممكن توقُّع دور للنخب العلمية المشار إليها أكبر وأوسع.
(٥) المؤسسة الدينية التقليدية
الأيديولوجيا ضيقة مغلقة، الدين عابر للأيديولوجيا. تحويل الدين إلى أيديولوجيا، يعني اختزال الدين في بعد واحد، واستيعابه لكل ما هو دنيوي خارج مجاله. حين يتحول الديني إلى دنيوي يمسي لاهوتًا للتحرير والمقاومة، وتختلط الحدود بين ما هو ديني وما هو غير ديني، فيجري تديين الدنيوي، وتعميم الفهم الديني لكافة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يفضي إلى التضحية بالعقل والخبرة البشرية المستقلة عما هو ديني.
ليس من الصواب اتهام المؤسسة الدينية التقليدية وتوريطها فيما انتهى إليه حالنا اليوم. وقائع تاريخ الإسلام الحديث والمعاصر تدلل على براءة هذه المؤسسة من «تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا» كما يدعو علي شريعتي. الإسلام السياسي هو مَن فعل ذلك.
لم تنبثق الجماعاتُ الدينية عن المؤسسة الدينية التقليدية. جماعة الإخوان المسلمين لم يؤسِّسْها أحد من رجال الأزهر، لم تولد الحركة في أروقة هذه المؤسسة العريقة، وإنما أسسها حسن البنا في الإسماعيلية، وهو لم يتخرج في الأزهر. وحتى اليوم، لم يتقلد منصب «المرشد العام» أزهري. أما المرشدون الذين تعاقبوا بعد حسن البنا حتى اليوم: «حسن الهضيبي، عمر التلمساني، محمد حامد أبو النصر، مصطفى مشهور، محمد مأمون الهضيبي، محمد مهدي عاكف، محمد بديع»، فليس فيهم أحد تخرج من الأزهر، أو كان متخصصًا في الشريعة والدراسات الدينية.
وهذا هو حال الجماعات الأخرى، حزب التحرير أسَّسَه تقي الدين النبهاني في القدس، والنبهاني لم يتعلم في المؤسسة الدينية التقليدية. الجماعة الإسلامية في باكستان أسسها أبو الأعلى المودودي، وهو أيضًا لم يتخرج في المؤسسة الدينية التقليدية. جماعة النهضة التونسية أسسها راشد الغنوشي، وهو أيضًا لم يتخرج في الزيتونة، ولم يتخصص في الدراسات الدينية. وهكذا لم يتخرج في المؤسسة الدينية معظمُ الرجال المؤسسين للجماعات الإسلامية الأخرى، سواء كانت شيعيَّة أو سنية. وحتى لو عثرنا في مرحلة التأسيس على بعض الفقهاء المعروفين، كما في بعض الحركات الإسلامية الشيعية، فسرعان ما يغادرونها بعد مدة قصيرة، فيتولى قيادتها وتوجيهها مهندسون وأطباء، ومتخصصون في العلوم الطبيعية غالبًا، لا عَلاقة لتكوينهم بالدراسات الدينية ودراسة الشريعة. وحتى اليوم يقود «القاعدة» الطبيب أيمن الظواهري. أما المرشد الحالي للإخوان المسلمين فهو الطبيب البيطري محمد بديع.
ولو راجعنا تكوينَ زَعامات هذه الجماعات فلن نعثر على فقيه مكرس أو رجل دين مشهور اليوم في قياداتها. معظم القيادات تخرجوا في تخصصات الطب والهندسة والعلوم الطبيعية، والعلوم والمعارف التي لا صلة لها بدراسة وفهم الدين والشريعة والتراث.
ومن الطريف أن أتباع هذه الجماعات كأنهم يتنبهون إلى هشاشة الثقافة الدينية والفقهية للمؤسسين والمرشدين، فيعملون على تغطية ذلك بإضفاء لقب «شيخ» على هؤلاء عند ذكرهم وتداول أسمائهم، فيصفونهم هكذا: «الشيخ البنا، الشيخ المودودي، الشيخ الغنوشي … إلخ». لقب الشيخ بمثابة قناع يستغفل الناشئة، ويغطي على هشاشة الثقافة الدينية والفقهية لأولئك المؤسسين والمرشدين.
أدق تفسير عثرتُ عليه لهذه الظاهرة هو ما قاله الفيلسوف الشهير مارتن هيدغر: «العلم لا يُفكِّر»، بمعنى أن العلوم الطبيعية ليست علومًا للتساؤل والتشكيك والتأمل والتفكير والتحليل والتأويل والفهم، لأن القوانين الطبيعية تُكتشف وتطبق، وهي جزمية لدى دارسيها، فلا تتدرب أذهانهم على الظن والتخمين والتشكيك والتساؤل، خلافًا للفلسفة والعلوم الإنسانية.
(٦) إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين
النزعةُ الإنسانية في الدين في أعمالي هي الإنسانيةُ الإيمانية، مفهومُ الدين فيها غيرُ الدين المستلَبة فيه إنسانيةُ الإنسان. ما أعنيه ﺑ «الإنسانية في الدين» في عنوان هذا الكتاب: الخلاص والتحرر من «نسيان الإنسان» في أدبيات الجماعات الدينية، والاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى عَلاقة تتكلم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل.
التراحم والمحبة والسلام أسمى أهداف الدين
علم الكلام، والفقه المنبثق من المقولات الاعتقادية الموروثة، يتضمن مجموعة من المقولات والأحكام المشهورة التي تحدد نمطَ التعامل مع المختلف في المعتقدات والآراء، كما في «أحكام الارتداد، أحكام أهل الذمة، أحكام أتباع الأديان غير السماويَّة»، وغير ذلك، مما يجعل أتباعَ الديانات في مرتبة أدنى من المسلم في أوطاننا.
معظم المنخرطين في الجماعات الدينية يفتقرون للخبرة بعلوم الدين، فيكرِّرُون عباراتٍ يُلقَّنونها من أدبياتهم المبسطة تشي بافتقارهم للتكوين العميق بالتراث، ويقولون كلامًا في منابرهم ومقالاتهم وأحاديثهم، يشدِّد على مفهوم فقهيٍّ للحرية الدينية، يحاكي مفاهيمَ الحريات الليبرالية، ومفهومًا للحقوق يستنسخ «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان» الذي ينص على تساوي البشر بقطع النظر عن معتقداتهم وأجناسهم. مَنْ يعرف الفقه جيدًا يلاحظ أن الأحكام الفقهية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي تنفي ذلك.
مثلما يكون الدين منبعًا للتراحم والمغفرة والعفو والمحبة، هو أيضًا منبع للصراع والعنف والإرهاب والقتل، ففي اللحظة التي أكتب فيها يسقط في وطني العراق اليوم ٤٠٠ قتيل وجريح تقريبًا. اليوم هو عيد الفطر لسنة ٢٠١٣م، وهو مناسبة دينية احتفالية اجتماعية إنسانية ثقافية، يبتهج فيها المسلمون ويمرحون ويفرحون، غير أن بعض الجماعات الدينية تسقي سموم مفاهيمها وفتاواها ووعودها للشباب، ليمسي كل منهم انتحاريًّا، يطمح بلقب «شهيد»، هذا اللقب المشبَّع بمضمون قيمي رُوحي غيبي رمزي، يحقق للانتحاري الخلاص النهائي حين يظفر به. هكذا، يسقط أبناؤنا في شراك هذه الجماعات، وينحرون أنفسهم بتفجير المساجد وبيوت العبادة والأسواق والمؤسسات المجتمعية، ابتغاء وجه الله، والفوز برضوانه، والظفر بالنعيم الأبدي، والخلود في الجنة!
نحن على الدوام نحاسب الانتحاري المباشر، وننسى السبب، ننسى ذلك الفكر الذي عمل على غسيل مخِّه وتجنيده، الذي نعثر على مثاله القبيح فيما تغرقنا فيه بروباغندا بعض القنوات الفضائية الطائفية، والذي يفضي بطبيعته إلى إنتاج خيال مغلول أيديولوجيًّا، يشعر معه المرء بأنه هو فقط دون غيره، الذي يكون اللهُ دائمًا معه، لا مع غيره من المبتدعة والزنادقة والهراطقة. ذلك أنه يرى نفسه: الأخلاقيَّ، صاحب الضمير اليقظ، البريء، المنصف، العادل، النبيل، المتفوق في معتقده. هذه الوثوقيات هي ما تسمم رُوحَه، بمختلِف أنماط: التعصب العنيد، الكراهية المتصلبة، الفتك البشع، وتجرده من أي شعور بالذنب، حيال انتهاكاته لكرامة الناس — خارج قبيلته وحزبه وطائفته — واستهتاره بحقوقهم، وعدوانه عليهم.
الدين هو الدواء وهو الداء، هو المرض وهو الشفاء، هو السم وهو الترياق. هكذا كان وما زال أثر الدين في مجتمعاتنا، لم يتراجع دور الدين منذ عصر البعثة حتى اليوم، ولا نعرف في تاريخنا مرحلةً أضحى تأثير الدين فيها هامشيًّا وضعيفًا.
الخروج من نفق التخلف شرطه الأول والأهم هو إعادة بناء فهم للدين، وتفسير بديل للنصوص الدينية يتوكَّأ على المناهج والمعطيات الراهنة للعلوم الإنسانية. السلام بين الأديان مقدمة للسلام بين المجتمعات، ولا يتحقق السلام بين الأديان من دون التحرر من تلك المقولات والأحكام الموروثة، وأية محاولة أخرى هي مجرد طلاء براق، سرعان ما يتلاشى ويذوب. نحن بحاجة ماسة إلى قبول البشر كما هم، والاعتراف بهم كما هم، واحترامهم كما هم، ما دامت المواطنة هي الإطار المشترك الجامع بين أفراد المجتمع.
التفكير العقلاني منبعه الفلسفة، والتجرِبة الرُّوحية منبع إلهامها العرفان. ميراث الفلسفة والعرفان مكثف رؤيوي، لكن الجماعات الدينية تناهض الفلسفة والعرفان، وتشن حربًا بلا هوادة عليهما، وتحظر على أتباعها دراستهما ومطالعتهما والتعرف عليهما، بينما توجههم للموروث السلفي النصوصي المتشدد، وتهتم بتلقينهم مقولات مبسطة، ومفاهيم محبِطة، وشعارات تحث على الموت والهروب من الحياة. يقول شعارهم: «الموت أسمى أمانينا»، ويشدد على الابتعاد عن المجتمع بما يدعو له سيد قطب وما يسميه: «العزلة الشعورية»، وغير ذلك من شعارات تستفز الغرائز وتوقدها.
يسكر الشباب والناشئة بهذه المقولات والشعارات، فتتعطل إرادتهم، وتُشل عقولهم، ويتعرضون إلى هشاشة أخلاقية، وشيزوفرينيا تجاه المختلِف في المعتقد، وتنفجر معها مشاعرهم وعواطفهم وأحاسيسهم بمقت العالم والحنَق على الآخر.
(٧) آفاق الاجتهاد والتجديد في قضايا إسلامية معاصرة
أدركتْ هذه الدوريةُ أن مهمتها تتلخص في: الانتقال من القول إلى الفعل، والكفِّ عن الاستغراق في الكلام، وترديد الشعارات، من دون أية مبادرة جادة لتحريك ما هو ساكن، فتمحورتْ جهودُها حول الإشكاليات الراهنة للفكر الديني، والآفاق المعاصرة والمستقبلية للاجتهاد الشامل في مختلف حقول المعرفة الدينية، بنشر كتابات الباحثين والمفكرين المتخصصين في ذلك، سواء كانت باللغة العربية، أو عبر ترجمتها من لغات أخرى.
وقد رفضَتِ استثناء عالم الإسلام من توظيف مناهج العلوم الإنسانية الحديثة في دراسة وتحليل الظواهر الدينية والاجتماعية، فاقتحمَتْ حقلًا يحذَر بعض المهتمين بالدراسات الإسلامية من التعاطي معه، بينما ينظر إليه آخرون بارتياب وخشية. تخصصَتْ بدراسة فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وحرصتْ على المراجعات النقدية والحوارات والنقاشات لمختلِف المقولات والمفاهيم والرؤى المتداولة في المعرفة الدينية، ولم تتحيز لباحث أو مفكِّر وتدعو لمقولاته، وعادةً ما أردفَتْ نشر أية رؤية خلافية بما ينقدها ويدلِّل على رفضها؛ ذلك أنها تنشد الاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وتحسب أن المصالحة مع التاريخ والجغرافيا يكفلها وعيُ الماضي والحاضر والمحيط الذي نعيش في فضائه.
خطاب هذه المَجلة تخصُّصي منذ عددها الأول، مضافًا إلى أن الدعاية لها والإعلان عنها ضئيل، ما منعها من التواصل مع طيف واسع من القراء، وكأنها أضحت محدودةَ التداول؛ ما ضيَّق مجال توزيعها وحضورها، والتعرف إليها، والكتابة عنها، حتى الإحالات المرجعية في البحوث والمؤلفات والأطروحات الجامعية إليها لا تتناسب مع ما تضمه صفحاتها من دراسات ومساهمات وآراء متنوعة.
يتساءل جماعة من المهتمين بقضايا إسلامية معاصرة عن كيفية تحريرها ومكتبها وعدد المحررين العاملين فيها، وميزانيتها السنوية وحجم نفقاتها ومنابع دعمها وتمويلها، وما تمتلكه من إمكانات ووسائل تتيح لها التواصل مع أبرز المتخصصين في الفكر الديني واستكتابهم وإثراء مِلفاتها بدراساتهم، ومبلغ المكافآت المدفوعة لما يُنشر فيها، بينما يُبدي آخرون دهشتَهم من سقف الحرية الواسع في موضوعاتها، واتساعها لاستيعاب مختلِف المواقف التحديثية والمحافظة، مما تضيق به الدورياتُ الإسلامية الأخرى، وقدرتها على تخطي «الطائفية الثقافية» والانفتاح على مختلف الأقلام، في عصر يطغى فيه الاستقطاب الطائفي، ويتعاظم الصراع المذهبي، بنحو يتورط فيه ليبراليون وإسلاميون في الدفاع عن هذه «الطائفية»، ولا يغيظهم تجاهلها للحريات والحقوق.
مَجلة «قضايا إسلامية معاصرة» فضلًا عن افتقارها إلى مكتب ومبنى، فإنها لا تتوافر لديها ميزانية، أو ممتلكات وأوقاف خاصة بها، ومساهمات الكُتَّاب فيها تطوُّعية، ولا تتم عمليةُ التحرير فيها في مكان واحد، فتحريرها وطباعتها وتوزيعها يجري في أكثر من بلد، وفريق تحريرها يتألف من «عائلة»، تتولى فيها الأم انتزال الجبوري سكرتارية التحرير منذ العدد الأول، بينما يتولى الابن د. محمد حسين الرفاعي الإخراج والتنظيم، ويشرف الأب على التواصل مع الكتَّاب، واقتراح محاور وموضوعات كل عدد، وإدارة عملية التحرير، وإجراء الندوات والحوارات، غير أن ذلك لم يمنعها من الاستمرار لمدة ربع قرن وما زالت تصدر، بالنهج الذي اختطَّتْه، وبكفاءة فكرية عرفها بها المتابعون لها.
يتفق جماعة من المتابعين لهذه الدورية، من باحثين ودارسين ومهتمين بدراسة الاجتماع الإسلامي، وما يسوده من ظواهر دينية وثقافية، على أنها تغلبت على التفكير داخل إطار المفاهيم والآراء الموروثة، واشتقَّت لنفسها نهجًا لا يتطابق مع ما هو متعارف عليه في الأدبيات الدينية المتداولة، واخترقت مجالات غير مُفَكَّرٍ فيها، وأحيانًا ممنوع التفكير فيها.
تغلِب على نمط الكتابة فيها استفهامات تتناسل منها استفهامات فرعية، خرجت من الدوائر القارَّة الساكنة في التفكير الديني، وحاولت أن تتخلص من الجزمية، وتصوغ رؤية تقدمها للنقد والنقاش، من دون أن تبشر بها، أو تدعو إلى قبولها والاعتقاد بها وتبنيها.
التقليد الذي أرسته «قضايا إسلامية معاصرة» عملت على محاكاته بعضُ الدوريات الإسلامية، فأضحت اﻟ «معاصرة» عنوانًا توشَّحت به أكثرُ من مَجلة فصلية صدرت فيما بعد، ولاحقت تلك المَجلات الإشكاليات ذاتها، وانفتحت على نصوص ظلَّت منفيةً تحذَر بعضُ المطبوعات من التعاطي معها.