حركات النجوم
أوجزنا الكلام في الفصول السابقة على أبعاد النجوم وعددها فأبنَّا أن أقرب نجم منها لا يصل نوره إلى أرضنا في أقل من أربع سنوات ونحو نصف سنة مع أنه يقطع كل ثانية من الزمن نحو ١٨٦٠٠٠ ميل، فيكون بُعْدُ هذا النجم عنا نحو ٢٦ مليون مليون ميل، وأن النجم المسمَّى بالسماك الرامح يصل النور منه إلينا في نحو خمسين سنة، وأكثر النجوم أبعد من ذلك كثيرًا، وأبنَّا أيضًا أن عدد النجوم محدود على ما يظهر لا يزيد على ٢٢٤ مليون نجم، وقد قلَّلت الحرب الكبرى استعظام الملايين؛ فإن الأموال التي كانت تُنْفَقُ فيها كل سنة تقدَّر بألوف الملايين من الجنيهات، ولكن إذا أضفنا إلى عدد النجوم أبعادها الشاسعة وأقدارها المتناهية زادت عظمتها كلَّ عظيم نعرفه.
أطلق القدماء على النجوم اسم الثوابت تمييزًا لها عن الكواكب السيَّارة، لكن ثبت الآن أن النجوم كلها متحرِّكة، وأن كلًّا منها شمس مثل شمسنا وقد يكون أكبر جدًّا من شمسنا، والمظنون أن لكلٍّ منها سيارات تدور حولها كما تدور الأرض وسائر السيَّارات حول الشمس ولكن لم يقُم دليل قاطع حتى الآن على صحة هذا الظن.
قلنا: إن البعد بين الشمس وأقرب النجوم إلينا نحو ٢٦ مليون مليون ميل، ومثل ذلك يقال عن البُعد بين كل نجم وأقرب النجوم إليه، فالنجوم متفرِّقة في الفضاء على أبعاد شاسعة جدًّا، وإنما تظهر لنا قريبة بعضها من بعض؛ لأنها ليست في سطح واحد فإن الناظر إلى صفٍّ واحد من النخل يرى أشجاره بعيدة بعضها عن بعض ولكن إذا كان أمامه غابة كبيرة من النخل سعتها بضعة أميال مؤلَّفة من صفوف كثيرة بعضها وراء بعض رأى بين أشجار الصف الأمامي أشجارًا كثيرة من الصفوف التي وراءه حتى كأن الغابة كلها قطعة واحدة من أجذاع النخل المتلاصقة.
وإذا أردت أن تتصوَّر أبعاد النجوم بعضها عن بعض نسبةً إلى أقدارها فافرض أنك دخلت قبة كبيرة طولها ألف ميل وعرضها ألف ميل وعلوها ألف ميل وأطرت فيها ثلاثين ذبابة، فتكون نسبة هذه الذبابات إلى بعض وإلى هذه القبة كنسبة النجوم بعضها إلى بعض في الأبعاد التي بينها، أو لو أطرت عشر نحلات في أوروبا وعشر نحلات في آسيا وعشر نحلات في أفريقية، لما كانت الأبعاد بينهما بالنسبة إليها أوسع من الأبعاد بين النجوم بالنسبة إلى أجرامها.
فهل بين النجوم شيء من الارتباط وهي على هذه الأبعاد الشاسعة بعضها عن بعض أو كلٌّ منها مستقل تمام الاستقلال في هذا الفضاء الواسع؟
ارتأى الفلكيون قبلًا أنَّ النجوم كلها مرتبطة بعضها ببعض، ودائرة كلها حول نجم واحد في الثريَّا ولم يقُم دليل على صحة هذا الرأي، ولكن قامت الأدلة الآن على أن النجوم مرتبطة بحركات قسرية، أمَّا كونُ بعضها متحرِّكًا فعُلِمَ من عهد هلي الفلكي فإنه رصد السماك الرامح فوُجِدَ أنه متحرِّك؛ أي إنَّ موقعه بتغيَّر بالنسبة إلى النجوم المجاورة له، ثم ظهر أن نجومًا أخرى تتغيَّر مواقعها بين النجوم على طول الزمن، ومنها نجم أسرع من السماك الرامح فيقطع ما مسافته طول النجوم الثلاثة التي تسمَّى منطقة الجبار في ١٠٥٠ سنة، مع أن السماك الرامح لا يقطع مثل هذه المسافة في أقل من ٣٠٠٠ سنة، لكن سائر النجوم التي عرفت حركتها لا تسير بهذه السرعة بل بما هو دونها جدًّا، ومتوسط سرعاتها نحو ثانية واحدة من القوس كل ١٢ سنة؛ أي إنها تقطع ما طوله طول منطقة الجبار في نحو ١٨٠٠٠٠ سنة.
وقد قاس علماء الفلك حركات ألوف من النجوم فوجدوا أن بين بعضها ارتباطًا لا شبهة فيه من حيث سيره إلى جهة واحدة، وقد يكون هذا البعض في مجتمع واحد كنجوم الثريَّا فإنها كلها سائرة في جهة واحدة، وقد يكون متفرقًا متباعدًا ومع ذلك تسير نجومه في جهة واحدة، وإذا التفتنا إلى بقعة من السماء واخترنا منها النجوم الشديدة البياض وجدنا أنها مقسومة إلى فريقين من حيث جهة سيرها: أحدهما يسير بسرعة معتدلة في جهة واحدة، وإذا بحثنا عن سائر النجوم التي تسير في تلك الجهة وجدنا أنها تكون سلسلة طويلة، أمَّا الفريق الآخر فسرعته قليلة جدًّا، فنستنتج من ذلك أن لا ارتباط بينه وبين الفريق الأول، وأنَّ ما نراهُ من بطء حركته إنما سببه أن نجومه أبعد عنا من نجوم الفريق الأول ولذلك تظهر حركتها بطيئة.
ثم إذا التفتنا إلى نجوم الدبِّ الأكبر وجدنا أنَّ خمسة من نجوم بنات نعش الكبرى تسير في جهة واحدة وبسرعة واحدة، وأنَّ الاثنين الباقيَين وهما القائد الذي على طرف الذنَب وأحد الستة الباقية لا يسيران في جهتها، فهما ليسا من فريق الخمسة الأولى التي تسير في جهة واحدة وبسرعة واحدة، ومن الغريب أن الشِّعْرَى العبور أو الشِّعْرَى الشامية تسير في نفس الجهة التي تسير فيها الخمسة الأولى من بنات نعش الكبرى وبسرعتها، ويقول العرب إنها سُمِّيَت بالشعرى العبور؛ لأنها عبرت المجرَّة إلى سهيل، فهل خطر على بالهم أنها مرتبطة بنجوم في الجهة الأخرى من المجرَّة ارتباطًا مُحْكَمًا كأنها كلها من قبيل واحد ومتجهة إلى غرض واحد، ويشارك الشِّعْرَى وبنات نعش في الاتِّجاه إليه نجوم أخرى متفرِّقة في عرض السماء؛ ولذلك فتقسيم النجوم إلى مجاميع حسب أوضاعها الظاهرة لا ينطبق على حقيقة سيرها، فقد أبنَّا أن بنات نعش السبعة ليست كلها من قبيل واحد بل خمسة منها من قبيل واثنان من قبيل آخر، والشعرى العبور وهي بعيدة عنها جدًّا من قبيل الخمسة، وليس بين مجامع النجوم مجموع تسير نجومه كلها في جهة واحدة بسرعة واحدة إلا الجبار فلا يشذ من نجومه إلا نجم واحد وهو المسمَّى منكب الجوزاء.
والشمس واقعة بين الشِّعْرَى والعبور وبنات نعش الكبرى، والظاهر أنَّها من قبيلهما فما هي الرابطة بينها وبينهما، قد تكون الرابطة أنَّ لهذا القبيل كله أصلًا واحدًا ثم تفرقت نجومه مع الزمن ولكنها بقيت متَّجهة إلى جهة واحدة بسرعة واحدة؛ لأنها لم تجد في طريقها ما صدَّها.
وهناك قبيل آخر عُرِفَت حركات ٣٩ نجمًا من نجومه بالتدقيق، وأهمها في برج الثور، وسرعتها كلها متساوية أو قريبة من التساوي، وهي منا على أبعاد تختلف من ٦٠٠ مليون مليون ميل إلى ٩٠٠ مليون مليون ميل، فسعة المنطقة التي تسير فيها ٣٠٠ مليون مليون ميل، والنور لا يقطع سعة هذه المنطقة في أقل من خمسين سنة، وإذ قد عُرِفَت أبعاد هذه النجوم عُرِفَ منها مقدار إشراقها ونسبته إلى إشراق الشمس، فإن خمسة منها يماثل نور كلٍّ منها نور خمس شموس مثل شمسنا إلى عشر شموس، و١٨ نجمًا يُماثل نور كل منها نور ١٠ شموس إلى ٢٠ شمسًا، و١١ نجمًا يماثل نور كل منها نور ٢٠ شمسًا إلى ٥٠ شمسًا، و١٥ نجمًا يُماثل نور كلٍّ منها نور ٥٠ شمسًا إلى ١٠٠ شمس.
وهذا الفريق من النجوم اقترب من الأرض منذ ٨٠٠٠٠٠ سنة حتى صار على أقرب بُعْدِه منها أي على نصف بُعْدِه الحاضر، وهو الآن آخذ في الابتعاد أيضًا وستقل المساحة التي نراه يشغلها بابتعاده، وبعد ٦٠ مليون سنة يصير يرى من الأرض مثل مجموع كروي صغير قُطره ثلث درجة لا غير.
وإذا التفتنا إلى خريطة السماء ودلَّلْنا على جهات سير النجوم التي عُرِفَت جهات سيرها بأسهم رأينا أن أكثر هذه الأسهم يتجه إلى جهة واحدة نحو الشِّعْرَى العبور؛ وسبب ذلك إمَّا أن هذه النجوم متجهة نحو الشِّعْرَى أو أنَّ الشمس جارة الأرض ومتجهة معها نحو كوكبة الشلياق، فبالنسبة إلى الشمس تكون هذه النجوم سائرة نحو كوكبة الشِّعْرَى العبور، وبالنسبة إلى النجوم تكون الشمس سائرة نحو كوكبة الشلياق الذي فيها النسر والواقع.
وقد بحث الأستاذ كبتين الفلكي الهولندي في هذه المسألة منذ بضع عشرة سنة فاستنتج أنَّ النجوم كلها جارية في مجريين متخالفين: أحدهما متداخل في الآخر وشكْل مجموعهما ليس كرويًّا كما يظن بل قرصي؛ أي كثير التسطُّح من جانبيه كالرغيف، والظاهر أن النظام الشمسي واقع قرب منتصف هذا القرص، فإذا نظرنا بالتلسكوب نحو السطحين القريبين منا رأينا النجوم قليلة فنبلغ بالنظَّارة نهايتها أو ما يقرب من نهايتها، وإذا نظرنا نحو الحرفين الرقيقين من هذا القرص رأينا النجوم كثيرة متقاربة؛ لأنها تشغل مساحة واسعة جدًّا ومنها المجرَّة التي تكاد تكون سحابة من النجوم الكثيرة.
وقد أُطْلِقَ على كلٍّ من هذين المجريين اسم العالم، وأحدهما أسرع من الآخر، وشمسنا جارية معه، ففي السكون عالمان من الشموس سائران في جهتين متقابلتين كأنهما جيشان كبيران تجاذبا حتى دنا أحدهما من الآخر، ولم يقفا بل استمرَّا في سيرهما ومرت شموس كلٍّ منهما بين شموس الآخر، ولا خوف من اصطدامها بعضها ببعض لما بيَّنَّاه من البُعْدِ الشاسع بينها، وهناك دليل على أنَّ هذين المجريين بعيدان عنا بُعْدًا واحدًا، أفلا يحتمل أن تكون شمسنا وسياراتها في مركزهما أو مركز سديم كبير انفصلت أجزاؤه وتكوَّنت منها هذه الشموس المختلفة على اختلاف أقدارها؟