آراء العلماء في تكوُّن أجرام السماء
رأي لابلاس أو الرأي السديمي
عُلِمَ مما تقدَّم أن السيَّارات كلها تدور حول الشمس في جهة واحدة وتكاد أفلاكها تكون في سطح واحد؛ ولذلك ارتأى لابلاس الفلكي الفرنسوي سنة ١٧٩٦ أن الشمس وسياراتها كانت سديمًا كبيرًا منتشرًا في الفضاء إلى أبعد ما يصل إليه أبعد سياراتها، ولمَّا برد هذا السديم قليلًا تجاذب دقائقه نحو مركزها المشترك، فدار على نفسه في الجهة التي تدور فيها السيَّارات حول الشمس، واستمرَّت الحرارة تشعُّ منه فزاد تكاثقًا وصغرًا وسرعة فانفصلت حلقات منه بقوة التباعد عن المركز، وتجمَّعت دقائق كل حلقة بعضها مع بعض، فصارت كرة غازية واستمرَّت على الدوران حول المركز الأصلي، ودارت أيضًا على نفسها بتقلُّصها وانفصلت منها حلقات تجمَّعت موادها فصارت أقمارًا إلا حلقات زُحَل فإنها احتفظت بشكلها حتى الآن، ولعلَّ لابلاس رأى حلقات زُحَل فنبهته رؤيتها لهذا الرأي، وتناول الفيلسوف كنْت الألماني رأي لابلاس وطبَّقه على كل الأجرام السماوية ثم نوَّعه السر نورمن لكير الفلكي بأنْ حسب المادة الأولى حجارة نيزكية صغيرة لا دقائق غازية.
وشاع رأي لابلاس لأنه كان من أكبر علماء الفلك الرياضيين، لكن اعتُرِضَ على هذا الرأي أن غازًا لطيفًا بهذا المقدار لا يكون بين دقائقه من قوة التماسك ما يكفي لجعله يدور على نفسه كأنه جسم جامد، وأنَّ ناموس الاستمرار على الحركة يقضي أن تدور الشمس الآن بالسرعة التي كان السديم يدور محيطه بها حينما كان واصلًا إلى فلك نبتون، فتكون سرعتها ٢١٣ ضِعف ما هي الآن، والجذب الذي بين الدقائق لا يكفي وحده لتوليد حركة رحوية، فإما أنَّ هذه الحركة الرحوية كانت موجودة في السديم الأصلي أو أنها وصلت إليه بعد ذلك بفاعل آخر.
رأي السر روبرت بول
أبان السر روبرت بول الفلكي الإنكليزي بالحساب أنه إذا دارت كرة على محورها مالت دقائقها إلى الانبساط، فيصير شكلها كالقرص أو تصير صفيحة باطنها أسرع دورانًا من محيطها فيتكوَّن من المحيط شكل لولبي ذو أذرع، وتتكوَّن فيه عُقَدٌ أكثف من غيرها، فعلى هذا النسق تكوَّنت الشمس وسيَّاراتها من سديم كبير بدورانه على نفسه فلم يبقَ لإثبات رأي لابلاس إلا الاستدلال على كيفية دوران هذا السديم على محوره.
رأي تشمبرلين ومولتن
ارتأى الأستاذان تشمبرلين ومولتن رأيًا أثبتناه في بعض سِني المقتطف مفاده أن شمسنا كانت في سالف عصرها قائمة بذاتها خالية من السيَّارات، ثم مرَّت شمس أخرى على مقربة منها فتجاذبت الشمسان وحدث مدٌّ شديد في مادَّة كلٍّ منهما عن جانبيها، فخرجت من جانبَي شمسنا مادة تساوي جزءًا من سبعمائة جزء من جِرْمِها، وكان من المحتمل أن تعود إليها بعد ابتعاد الشمس الأخرى عنها، ولكن تلك الشمس لم تكتفِ بجذب هذه المادة ونزعها من شمسنا بل دفعتها بجاذبيتها في الفضاء، فصارت تحت سلطة قوتين: قوة جذب الشمس الأولى لها لإرجاعها إليها، وقوة دفع الشمس الأخرى لها في الفضاء فسارت بين هاتين القوتين؛ أي دارت حول الشمس كما تدور أذرع السديم اللولبي حوله ثم تجمعت دقائقها وتكوَّنت منها السيَّارات وأقمارها.
وأُطْلِقَ على هذا المذهب اسم المذهب المدي؛ لأن انفصال السيَّارات عن الشمس كان بما يشبه المد، وقد بسطنا الكلام عليه في مقتطف ديسمبر سنة ١٨١٨ وما يُطْلَق على شمسنا وسيَّاراتها يطلَق على سائر شموس السماء وسياراتها إنْ كان لها سيارات من حيث تكوُّنها من السدام، وإذا أثبت أن أجرام السماء كلها سائرة في جهتين متخالفتين كجيشين كبيرين، وأنَّ لهذا الكون حدًّا محدودًا؛ لأن النجوم يقلُّ عددها ببعدها، فهذان المجريان متداخلان وتجري نجوم أحدهما بين نجوم الآخر في جهتين متقابلتين؛ ولذلك لا يتعذَّر أن يمرَّ جِرْمٌ كبير على مقربة من جِرْمٍ أصغر منه فيفعل بمحيطه فعلًا يدبره على نفسه، وبذلك يعلَّل دوران شمسنا على محورها أو دوران السديم الذي تكوَّنت منه.
رأي المسيو إميل بلو
لمَّا قام لابلاس وارتأى رأيه المشهور في تولُّد الشمس وسياراتها من السديم كان علماءُ الفلك يجهلون كثيرًا من الحقائق المعروفة الآن؛ ولذلك اكتفى بما يُعْرَف عن الشمس وسياراتها وحاول تعليل تولُّدها، أمَّا الآن فقد عرفنا أن شمسنا وسياراتها جزء صغير من المجرَّة، وأن المجرَّة سديم لولبي كسديم السلاقي، وقد تولَّدت الشموس وشموس أخرى كثيرة من سديم المجرَّة على مرِّ الدهور، وأنبأنا السبكتروسكوب بالحلِّ الطيفي أن هذه الشموس كلها وغيرها من السدام وشموسها مؤلَّفة من مثل العناصر المؤلَّفة منها أرضنا، وأن شكل الشمس مع سياراتها كشكل قرص مستدير واسع قليل السماكة، وكذلك شكل المجرَّة وشكل سائر السدام، وفي ذلك دليل على أن العوالم تولَّدت على أسلوب واحد خاضعة لنواميس متماثلة، ولكن ناموس الجاذبية وحده لا يكفي لتولُّدها وتعليل أبنائها، فلا بدَّ من نسبة هذا التولُّد إلى قوى التفريق العظيمة السرعة التي تظهر ظهورًا قصير الأجل في النجوم التي نقول إنها جديدة وهي في الحقيقة مبدأ الشموس.
لكن لا يتولَّد شيء جديد إلا من اجتماع شيئين غير متماثلين وهذا الاجتماع أو هذا التزاوج بين شيئين مختلفين هو الذي يولِّد الشيء الجديد ويُكْسِبُه بعض صفات والديه كما يحدث في النبات والحيوان حسب ناموس مندل، أفلا يحق لنا أن نقول إنَّ كلَّ نجم من نجوم السماء تولَّد من اجتماع جسمين مختلفين من المواد العالمية، ومن المؤكَّد أننا نرى ذلك واقعًا في تولُّد النجوم الجديدة لا سيَّما وأنها تتولَّد غالبًا في المجرَّة حيث المادة العالمية كثيرة بنوع خاص، فالنجم الجديد الذي ظهر سنة ١٩٠١ تولَّد في بضع ساعات، والنجم الجديد الذي ظهر سنة ١٩١٨ في كوكبة العُقَاب انتقل من القدر الحادي عشر إلى أن صار أسطع نورًا من الشِّعْرَى بين ليلة وضحاها فزاد إشراقه ١٥٠ ألف ضعف.
ولا يَخْفَى أن الاصطدام والاحتكاك يُحْدِثان حرارة ونورًا واهتزازًا وتفريقًا للمواد فيما يجاورها، ولا سيَّما إذا كان سريعَين فإنهما يتغلَّبان على قوة الجاذبية والقصور الذاتي أو الاستمرار، فإذا تولَّد نجم من اصطدام مادة بأخرى تشظَّت منهما شظايا وتفرَّقت حوله فكانت توابع له أو سيَّارات تدور حوله، وعلى هذا النمط تولَّدت شمسنا وتولَّدت سياراتها.
وهذا المذهب الثنائي الجديد مناقض لمذهب لابلاس الأحادي ومخالف لمذهب تشمبرلين ومولتن الذي مداره على فعل جسم بآخر عن بُعْدٍ والاعتماد فيه على قوة الجذب.
ولننظر الآن في كيفية تولُّد النجم الجديد حسب هذا المذهب الثنائي، فقد نرى نجمًا غازيًا أو سديمًا صغيرًا نراه الآن كنجم من القدر الحادي عشر؛ أي إنه لا يُرَى بالعين وإنما نراه في الصور الفوتوغرافية، ثم يصطدم بسحابة سديمية فيزيد إشراقه في بضع ساعات حتى يصير مثل نجم من القدر الأول، فهل هذا النجم شمس مظلمة انبثقت النار من جوفها فأنارت سطحها؟ كلا؛ لأن السبتروسكوب يدلُّنا على أنَّ النور الذي يظهر منه حينئذٍ نور سديمي، وعلى أن المواد السديمية تنبعث من هناك نحونا بسرعة ١٤٠٠ ميل في الثانية من الزمان كما في النجم الذي ظهر سنة ١٩١٨ ثم يضعف نور النجم، وقد يتوالى ضعفه في أوقات متوالية، وترى حوله صفائح سديمية تحيط به كأنها مناطق حوله وهو في مركزها، وبعد سنتين يتضاءل نوره ويعود صغيرًا كما كان، ولكن تظهر في طيفه خطوط الهاليوم الدالَّة على شدة حرارته.
فهل ما شهدناه في هذا النجم نازلة فجائية نزلت به فأشعلته ولاشته، كلا بل هو ولادة جديدة تجعل منه عالمًا جديدًا كعالمنا، وتدلُّنا على أن ما أصابه مماثل لما أصاب شمسنا في سالف الدهر فكوَّن منها سياراتها مع أرضنا، وكأن ما حدث منطبق على ما جاء في سِفْرِ التَّكْوين حيث قيل ليكن نور فكان نور.
•••
وإذا صحَّ مذهب المسيلو بلو فيكون تولُّد العوالم جاريًا على موجب الناموس الذي يتولَّد به الطفل من والديه، والبزرة من عضوَي التذكير والتأنيث في النبات؛ أي تلتقي كرة فلكية بسديم فلكي فينشأ من التقائهما أو تزاوجهما شمس وسيَّارات وأقمار، ويكون للتولُّد في الكون كله ناموس واحد شامل لكل ما فيه من الكائنات.