الرأي الجديد في الفلك
أبنَّا في الفصل السابق أن علماء الفلك من الروم والعرب أخذوا بالظاهر وسلَّموا برأي بطليموس الذي مداره على أنَّ الأرض قائمة في مركز الكون، وأنَّ الشمس والقمر والنجوم السيَّارة وغير السيَّارة تدور حولها كل يوم من الشرق إلى الغرب، دورة كاملة كما ترى العين، مع أنهم عرفوا بالرَّصْدِ والحساب أنَّ بعضها أكبر من الأرض جدًّا وأنها بعيدة عنها ملايين كثيرة من الأميال، ولا ندري كيف سلَّمت عقولهم بما نعدُّهُ الآن بعيدًا عن المعقول وفيهم مثل عبد الرحمن بن يونس المصري الذي رصد كسوف الشمس وخسوف القمر في القاهرة حوالي سنة ٩٧٨ للميلاد وأثبت منهما تزايد حركة القمر وحسب ميل دائرة البروج فجاء حسابه أقرب ما عُرِف إلى أن أتقنت آلات الرصد الحديثة، ومثل أبي الوفا البوزاجي الذي نشأ قُبَيل ذلك واكتشف الاختلاف الثالث في حركة القمر ومثل البتاني وأولغ بك وغيرهم من الذين عنوا برصد الأجرام السماوية وحسبوا أبعادها وأقدارها وحفظوا مصباح المعارف مضيئًا زمنًا طويلًا.
وقد يُظَنُّ لأول وهلة أن مذهب بطليموس بسيط جدًّا لأنه مبنيٌّ على حركات الأجرام السماوية الظاهرة، والحقيقة أنه معقَّد كلَّ التعقيد؛ لأن لكلٍّ من الشمس والقمر والنجوم حركة أخرى غير الحركة الظاهرة حول الأرض من الشرق إلى الغرب فاضطرَّ بطليموس أن يعلِّلَها تعليلًا خاصًّا بها وكافيًا لتعليل نسبتها إلى غيرها لا سيما وأنَّ الأجرام السماوية مختلفة الأبعاد والأقدار كما تراه مبسوطًا في مقالة مسهَبة نُشِرَت في المجلد السادس من المقتطف موضوعها علم الهيئة القديم والحديث، حتى يُقال إنه لمَّا اطلع ألفونسو ملك قشطيلة على رأي بطليموس أَسِفَ؛ لأن الخالق لم يستشره وقتما خلق الكون ليشير عليه بنظام أبسط من هذا النظام، وكان ذلك أواخر القرن الخامس عشر.
وفي نحو ذلك الوقت وُلِدَ كوبرنكس، ولمَّا نشأ دَرَسَ علم الطب وأُولِعَ بالعلوم الرياضية واطَّلع على ما عُرف من علم الفلك إلى عهده فقال إنَّ ما يظهر من حركة الشمس والقمر والنجوم اليومية حول الأرض من الشرق إلى الغرب يمكن تعليله بحركة الأرض على محورها من الغرب إلى الشرق، وبذلك ينتفي القول الذي لا يُعْقَل وهو كونُ النجوم الثوابت على أبعادها الشاسعة وأقدارها العظيمة تدور حول الأرض دورة كاملة كل يوم على مرِّ الأيام والسنين، ثم اتَّصل من ذلك إلى القول بأنَّ الأرض والسيَّارات تدور حول الشمس، وعلم أن رأيه هذا سيقابَل بالمقاومة والتسفيه فأخفاه ستًّا وثلاثين سنة، وأخيرًا أذِن في نَشْرِه وكان ذلك سنة ١٥٤٣ ورأى أول نسخة مطبوعة منه وهو مُحتضر على فراش الموت.
وكان القدماءُ يعرفون أن عطارد والزهرة والمرِّيخ والمشتري وزُحَل من النجوم السيَّارة كما تقدَّم، وبقي عدد السيارات محصورًا فيها ألوفًا من السنين إلى أن كانت سنة ١٧٨٦ حينما كان السر وليم هرشل الفلكي يرصد الجوزاء بنظارته فرأى فيها نجمًا لم يكن قد رآه من قبلُ فظنَّهُ من ذوات الأذناب في أول الأمر، وبَعْدَ أنْ رصدهُ بضعة أيام ثبت له أنهُ سيَّار جديد غير السيَّارات المعروفة فسمَّاهُ أورانوس (أي السماوي) وسمَّاهُ البعض هرشل باسمه، وثبت من اكتشافه أنَّ سعة النظام الشمسي مضاعَف ما كانت تحسب قبْلًا.
وقد رأى علماء الفلك حينئذٍ أن أبعاد السيَّارات جارية على النسبة التالية تقريبًا، وهي:
٤ | ٧ | ١٠ | ١٦ | ٢٨ | ٥٢ | وأنها مكوَّنة من الأعداد التالية وهي: | |||
٠ | ٣ | ٦ | ١٢ | ٢٤ | ٤٨ | ٩٦ | ١٩٢ | ٣٨٤ | يُضاف إلى كلٍّ منها العدد ٤ فتصير: |
٤ | ٧ | ١٠ | ١٦ | ٢٨ | ٥٢ | ١٠٠ | ١٩٦ | ٣٨٨ |
فالعدد ٤ يقابل بُعد عطارد عن الشمس والعدد ٧ بُعْدَ الزهرة عنها والعدد ١٠ بُعْد الأرض عنها والعدد ١٦ بُعْد المرِّيخ عنها، والعدد ٥٢ بُعْد المشتري عنها والعدد ١٠٠ بُعْد زُحَل عنها والعدد ١٩٦ بُعْد أورانوس عنها والعدد ٣٨٨ بُعْد نبتون عنها، إذا ضُرِب كلُّ عدد منها بتسعة ملايين والأبعاد الحقيقية عن الشمس هي هذه:
عطارد | ٣٦٠٠٠٠٠٠ ميل | أي ٩٠٠٠٠٠٠ × ٤ |
الزهرة | ٦٧٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو ٩٠٠٠٠٠٠ × ٧ |
الأرض | ٩٣٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو ٩٠٠٠٠٠٠ × ١٠ |
المرِّيخ | ١٤٢٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو٩٠٠٠٠٠٠ × ١٦ |
… | ٢٥٢٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو ٩٠٠٠٠٠٠ × ٢٨ |
المشتري | ٤٨٤٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو٩٠٠٠٠٠٠ × ٥٢ |
زُحَل | ٨٨٧٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو ٩٠٠٠٠٠٠ × ١٠٠ |
أورانوس | ١٧٨٢٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو ٩٠٠٠٠٠٠ × ١٩٦ |
نبتون | ٢٧٩٢٠٠٠٠٠٠ ميل | أو نحو٩٠٠٠٠٠٠ × ٣٨٨ |
وعليه فبين المرِّيخ والمشتري فراغ كان يجب أن يكون فيه سيَّار على نحوِ ٢٥٢ مليون ميل عن الشمس ففتش العلماء عنه، وفي اليوم الأول من القرن التاسع عشر وُجِدَت الضالَّة المنشودة وجدها بياتسي الفلكي الإيطالي في مرصد بلرمو ولكن لم تكن جِرْمًا كبيرًا كالمشتري أو كالمرِّيخ بل نجمًا صغيرًا لا يكاد يَستحق اسم السيَّار فسماه سيرس باسم إلاهة الحصاد عند الرومان، وسنة ١٨٠٢م اكتشف الفلكي ألبرمن سيَّارة أخرى صغيرة فلكها أصغر من فلك السيَّارة الأولى بين المشتري والمرِّيخ سماها: بلاس باسم إلاهة أثينا، ولمَّا كشفت هذه السيارة الثانية ارتأى البعض أنَّ هاتين السيَّارتين قطعتان من سيَّار كبير كان يدور حول الشمس بين المرِّيخ والمشتري، وقد تكسَّر لسبب من الأسباب، ولا بدَّ من اكتشاف قطع أخرى منهُ فجعل علماء الفلك يرصدون تلك المنطقة بنظاراتهم، فاكتشف الفلكي هردنج سيارة ثالثة سنة ١٨٠٤ سمَّاها جونو باسم إلاهة السماءِ عند الرومان واكتشف ألبرمن سيارة رابعة سماها فستا باسم إلاهة النار عند اليونان وأطلق على الجميع اسم النُّجيمات لصغرها.
ووقف اكتشاف هذه النُّجيمات عند ذلك الحدِّ نحو أربعين سنة ثم عاد وتوالى بسرعة، وقد بلغ عدد المكتَشَفِ منها حتى الآن أكثر من ستمائة نجيمة وكلها تدور في الفلك الذي بين المرِّيخ والمشتري.
لكن مجموع أجرام هذه النجيمات كلها أصغر كثيرًا من جِرْم القمر وقد لا يزيد على ثلاثة أجزاء من ألف جزء من جِرْم الأرض، فإن النُّجيمة الأولى منها المسمَّاة سرس وهي أكبرها لا يزيد قطرها على ٥٠٠ ميل، وفستا وهي ألمعها يبلغ قطرها ٢٥٠ ميلًا وقطر بعضها لا يزيد على عشرة أميال، ومن المحتمل أن بينها نُجيمات أخرى لم تُكْشَف حتى الآن لأنها أصغر كثيرًا من أن تُرَى بالنظَّارات أو تؤثِّر في ألواح التصوير الشمسي التي تُسْتَعمل لتصوير النجوم، وبعضها يزيد نورها تارة ويقلُّ أخرى كأن سطحها صقيل من جهة ومنخرب من أخرى فينعكس نور الشمس عن الجهة الصقيلة أكثر مما ينعكس عن الأخرى، والمظنون أن بعض النُّجيمات قرب من السيَّارات الأخرى فجذبته إليها وصار من أقمارها، وقد كانت السيَّارة أثيرًا تمرُّ في جانب من فلك المرِّيخ ثم اختفى أثرها فلا يستحيل أن يكون قد جذبها إليه، ولبعض علماء الفلك ولعٌ زائد برصد هذه النُّجيمات حتى إن الأستاذ وطسن الأمريكي اكتشف ٢٢ نجيمة منها ثم خاف أن يُهمَل رصدها بعد موته؛ فأوصى بجانب من تركته ليُنفق في الاستمرار على رصدها وتحقيق أفلاكها.
وسنة ١٨٤٦ اكتُشف سيَّار كبير وراء أورانس سُمِّي نبتون وهو أبعد السيَّارات المعروفة حتى الآن، وكان اكتشافه نتيجة حسابية وصل إليها اثنان من علماء الفلك: أدمس الرياضي الإنكليزي من تلامذة جامعة كمبردج. ولافريه الفلكي الفرنسوي، فإن علماء الرصد كانوا يجدون اضطرابًا في حركات السيَّار أورانوس في دورانه حول الشمس فقالوا إن هذا الاضطراب ناتج عن جذب سيَّار آخر له حينما يدنو منه في دورانه حول الشمس، وعيَّن هذان العالمان موقع هذا السيَّار في السماء فبحث عنه عالم فلكي آخر من علماء برلين، فوجده في مكان يقرب كثيرًا من المكان الذي عُيِّن لهُ في الحساب فجاءَ اكتشافه في ذلك المكان من أقوى الأدلَّة على صحة القواعد الفلكية.
وقد حدث مثل ذلك سنة ١٨٩٨م فكُشِفَ سيَّار آخر صغير جدًّا بين الأرض والمرِّيخ أُطْلِقَ عليه اسم أروس عُرِفَ أمره بالحساب قبل اكتشافه.
هذه كل السيَّارات التي عُرِفَت حتى الآن، والمظنون أن وراء نبتون سيَّارين أو ثلاثة لم تُكْشَف حتى الآن، وأنه يوجد سيَّار أقرب إلى الشمس من عطارد وقد أُطْلِقَ عليه اسم فلكان، استنتج لافريه وجوده كما استنتج وجود أورانوس، وادَّعى طبيب اسمه لسكرمو أنه رآه فعلًا يعبر على وجه الشمس قبلما أنبأ لافريه بوجوده ولكن ذلك لم يثبت حتى الآن؛ لأن الأجرام القريبة من الشمس تصعب رؤيتها ولا يُحْتَمل أن تُرَى إلَّا إذا كَسَفَت الشمس كسوفًا تامًّا، وقد كُسِفَت مرارًا بعدما قيل إنَّ هذا السيار رُئي عيانًا لكن الرصد فتَّشوا عنه وقت كسوفها فلم يروه.
ومما يجب أن يُذْكَرَ مع السيَّارات أقمارها أو توابعها فعطارد والزهرة لا قمرَ لهما، والأرض لها قمر واحد والمرِّيخ له قمران وهما صغيران جدًّا كأنهما من النُّجيمات وقد ضلَّا الطريق فجذبهما إليه، والمشتري له تسعة أقمار وزُحَل عشرة وأورانوس قمران أو أربعة ونبتون قمر واحد.