ناموس الجاذبية – سعة الكون وقياس أبعاده
رأينا مما تقدَّم أن الشمسَ وكلَّ السيَّارات التي تدور حولها والأرض منها وكلُّ الأقمار التي تدور حول السيَّارات، هذه الأجرام كلها كبيرها وصغيرها معلَّقة في الفضاء على لا شيء فما هي القوة التي تحفظها في الفضاء؟ وما هي القوة التي تديرها؟
يقال: إنَّ الفيلسوف إسحاق نيوتن كان مرة يفكِّر في هذا الموضوع فرأى تفاحة وقعت من شجرة، فقال في نفسه: إنَّ الذي أوقعها إلى الأرض يجب أن يكون قوة في الأرض جذبتها إليها، وإن كانت الأرض تجذب التفاحة فهي تجذب كلَّ ما عليها وكلَّ ما حولها، ولا بدَّ من أنها تجذب القمر أيضًا، ثم أخذ يفكِّر فيما يمنع وقوع القمر على الأرض ويبقيه في فَلَكِهِ دائرًا حولها؟ فاستنتج بعد إعمال النظر أن القمر تحت سلطة قوتين: الأولى تجعله يسير في خط مماس لدائرة فلكه حول الأرض، والثانية تجذبه نحو مركز الأرض فيسير بين هاتين القوتين مثل كلِّ الأجسام التي تفعل بها قوتان في جهتين أحدهما مائلة على الأخرى؛ ولذلك يدور حول الأرض كما إذا ربطت تفاحة بخيط وأمسكت بطرفه وأدرتها بسرعة حول يدك فإنها تدور حولها في دائرةٍ الحبلُ نصف قطرها، ولا تستطيع الإفلات لأنَّ الحبل يربطها بيدك مع أنها تحاول ذلك كما يظهر لك من شدِّها بالخيط، ولا تقع على يدك لأن حركتها السريعة تضطرها إلى الابتعاد عن يدك، ولكن إذا انقطع الخيط أبعدت عن يدك بعيدًا وإذا قلَّت حركة الإدارة وقعت على يدك أو على الأرض، وكذلك القمر فإنه مدفوع بقوة شديدة والأرض تجذبه إليها بقوة الجاذبية فيسير بين هاتين القوَّتين، فإذا ضعفت قوة الدفع وبقيت جاذبية الأرض على حالها سقط على الأرض، وإذا زالت الجاذبية أو ضعفت وبقيت قوة الدفع على حالها سار في الفضاء مبتعدًا عن الأرض، ولمَّا ثبت له ذلك بالبرهان الهندسي ورأى انطباقه على سير القمر أطلق هذا التعليل على دوران الأرض وسائر السيَّارات حول الشمس ودوران الأقمار حول سياراتها فوجده منطبقًا بنوع عام؛ ومن ثَمَّ فالجاذبية ناموس عام يشمل الكون.
ومَن اطَّلع على الأدلَّة الحسابية والهندسية التي استدلَّ بها السير إسحاق نيوتن على صحة هذا التعليل وإثبات هذه الحقائق عجب من سموِّ عقله وبُعْدِ نظره وقال مع القائلين: إنه أكبر فيلسوف رياضي قام في المسكونة، وهذا هو المراد من اكتشاف الجاذبية؛ فإنه يراد به اكتشاف نواميسها وتعليل حركات الكواكب بها، لا مجرَّد القول بأن التفاحة تسقط على الأرض بجذب الأرض لها.
ولم يكتشف العلماء حتى الآن حقيقة هذه الجاذبية ولا فرضوا لتعليلها فرضًا ينطبق على كل أفعالها، أمَّا حركات السيارات والأقمار التي فرض أنها تفعل مع الجاذبية في جعل هذه الأجرام تدور في دوائر، فالمظنون أنَّ سببها: كونُ كلِّ جِرْم منها انفصل عن الجرم الذي يدور حوله بقوة دافعة يُقال لها قوة التباعد عن المركز، فصار تحت سلطة قوتين: القوة الدافعة والقوة الجاذبة التي هي من الجاذبية العمومية.
والجاذبية غير مقصورة على جَذْب الجسم الكبير للصغير بل هي عامَّة، فالصغير يجذب الكبير كما يجذب الكبير الصغير؛ أي هي تجاذب بين الأجسام ومقدارها مناسب لأجرام الأجسام؛ أي لمادتها أو لثقلها، وما الثقل إلا نتيجة من نتائج الجاذبية.
وممَّا اكتشفه السر إسحاق نيوتن وأثبته: أنَّ الجاذبية تقلُّ بالابتعاد عن الجسم الصادرة منه على نسبة مربع البُعْدِ، فإذا كانت جاذبية جسم تساوي مائة رطل على بُعْدِ مترين منه صارت عشرة أرطال فقط على بُعْدِ أربعة أمتار، وإذا كانت جاذبيته تعدل ثلاثة أرطال على بُعْدِ ثمانية أمتار، صارت ٤٨ رطلًا على بُعْدِ مترين؛ أي إنَّ الجاذبية تنقص كمربع البعد أو تتغيَّر كمربع البعد بالقلب حسب اصطلاح الرياضيين، ولو دنا القمر من الأرض حتى صار على نصف بُعْدِه الحالي عنها لتغلَّب جذبها عليه فوقع عليها، ولو أبعد عنها كثيرًا لضعف جذبها له فاندفع في الفضاء ووقع على الشمس أو انجذب إلي سيَّار آخر من سياراتها.
•••
ذكرنا في الفصل السابق أنَّ أبعاد السيَّارات عن الشمس تقاس بملايين الأميال، وقد لا يتصوَّر القارئ مقدار هذه الأبعاد؛ لأننا اعتدنا أن نقيس الأبعاد الأرضية بالشِّبْر والقَدم والذراع والمتر والميل ونصل في قياسنا إلى مئات الأميال وإلى ألوفها على الأطول، فنقول إن طول قاعدة الهرم الأكبر ٧٥٥ قَدَمًا وطول نهر النيل نحو ٣٤٠٠ ميل، ومحيط الكرة الأرضية نحو ٢٥ ألف ميل، ولكننا لم نعتد قياس ملايين الأميال فإذا التفتنا إلى بُعْدِ الأرض عن الشمس وهو ٩٣ مليون ميل وأردنا تصوُّرهُ أو مقابلته بما هو مألوف لدينا، وفرضنا أن طائرًا طار من الأرض إلى الشمس بسرعة مائة ميل في الساعة (وهي أعظم من سرعة الطير ومثل سرعة الطيارات الحربية) واستمرَّ سائرًا نهارًا وليلًا صيفًا وشتاءً من غير انقطاع، ومن غير أن يُقلِّل سرعته فإنه لا يصل إلى الشمس في أقل من مائة سنة وست سنوات ونحو سبعة أشهر.
ولو فرضنا أنه قصد زُحَل وطار إليه بهذه السرعة لما بلغه في أقل من ١٠١١ سنة، أمَّا الوصول إلى السيَّار نبتون بهذه السرعة فيقتضي ٣١٨٦ سنة، وإذا أراد أن يقطع فلك هذا السيار من طرف إلى طرف؛ أي عرض النظام الشمسي المعروف اقتضى ٦٣٧٢ سنة؛ أي لو أخذ في هذا السير من حين جُبِلَ آدم على ما جاءَ في التوراة أو من حين بُنِيَ الهرم الأكبر من أهرام الجيزة على ما في الآثار المصرية لما أتمَّ سيره الآن.
ولكن ما هو نظامنا الشمسي؛ أي الشمس والأرض وسائر السيارات وأقمارها في جنب هذا الفَلَكِ الدوَّار وما فيه من النجوم الظاهرة التي كلها شموس أكبر من شمسنا وتُقاس أبعادها بملايين الملايين من الأميال؟
ويسهل إدراك المراد بمليون المليون إذا قيل إنَّ مساحة الهرم الأكبر من أهرام الجيزة نحوَ مليونَي متر مكعَّب؛ فإذا قطعنا من جبل المقطم مليون مليون حجر مساحة كل منها متر مكعب؛ أي طوله متر وعرضه متر وعلوه متر، فإنها تكفي لبناء خمسمائة ألف هرم مثل الهرم الأكبر من أهرام الجيزة.
إذا اجتزنا النظام الشمسي كله ونظرنا إلى قبَّة السماء شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا في ليلة صافية الأديم وجدناها مُرصَّعة بنجوم كثيرة، وما شمسنا إلا نجم من هذه النجوم؛ لأن كلَّ نجم منها شمس مثل شمسنا نوره ذاتي مثل نورها، ولعل شمسنا أصغر الشموس كلها أو من أصغرها، ويستدل بقياس التمثيل أنه قد يكون لكلِّ شمس منها نظام مثل نظامنا الشمسي بسياراتهِ وأقمارهِ.
وهذه الشموس أو النجوم ليست على بُعْد واحد منا، بل هي متفرِّقة في الفضاءِ على أبعاد مختلفة تفوق أبعاد السيارات حتى إن أقيستنا السابقة من نحو الأميال وألوف الأميال وملايين الأميال لا تصلح لقياس أبعادها، فنضطرُّ أن نقيس البُعْدَ بين شمس وشمس بملايين الملايين من الأميال، فإن كان الطائر الذي ذكرناه قَبْلًا يقطع مائة ميل في الساعة ومليون ميل في نحو ٤١٦ يومًا، فهو لا يقطع مليون مليون الميل إلا في أكثر من مليون سنة، وأقرب هذه النجوم إلينا نجم ألفا في صورة قنطورس بُعْدُه عنا ٢٥ مليون مليون ميل، فلا يصل إليه الطائر إلا في أكثر من ٢٥ مليون سنة.
ولذلك فقياس أبعاد النجوم بالأميال أو ملايين الأميال لا يفي بالمراد فاتَّفق الفلكيون على مقياس آخر تقاس به هذه الأبعاد الشاسعة وهو المسافة التي يقطعها النور في سنة من الزمان؛ فإنه يقطع نحو ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية من الزمان ويصل من الشمس إلينا في نحو ثماني دقائق؛ لأن بعدها عنا ٩٣٠٠٠٠٠٠ ميل فيقطع في السنة من سنينا ٥٨٦٥٤٩٦٠٠٠٠٠٠ ميل أو نحو ستة ملايين مليون ميل، فهذا هو المقياس الذي تُقاس به أبعاد النجوم فإذا قلنا إنَّ النجم الفلاني يبعد عنا أربع سنوات نورية عَنينا أنه يبعد عنا أربعة أضعاف المسافة المذكورة آنفًا أو نحو ٢٤ مليون مليون ميل؛ ولذلك فنجم ألفا قنطورس يبعد عنا نحو أربع سنوات نورية وربع سنة؛ لأن بعده عنا نحو ٢٥ مليون مليون ميل؛ أي إنَّ النور الذي يصدر منه اليوم لا يصل إلى أرضنا إلا بعد أربع سنوات وثلاثة أشهر، مع أنه يسير أكثر من ١١ مليون ميل كل دقيقة من الزمان. وإذا أُطفئ هذا النجم الآن أو زال من الوجود بسبب من الأسباب فإننا لا ننفكُّ عن رؤيته في المحلِّ الذي كان فيه مدة أربع سنوات وربع سنة وبعد ذلك يختفي حالًا.
وسائر النجوم أبعد عنا من هذا النجم ولعلَّ النور الواصل من بعضها إلينا اليوم أخذ في السير منها منذ مئات بل ألوف من السنين كما سيجيءُ.
ولا بدَّ من أن يقف القارئ هنا ويقول: كيف عُرفت أبعاد هذه النجوم؟ وكيف قيس بُعْد الشمس والقمر والسيَّارات والنجوم القريبة منا؟
والجواب: إنَّ لقياس المسافات طُرُقًا مختلفة أشهرها طريقتان: الأولى: الذراع البسيط بذراع أو متر أو سلسلة وهذه الطريقة لا تُسْتَعمل إلا في المسافات القصيرة كما لا يُخفى، والثانية: قياس الزوايا فإذا أردنا أن نعرف بُعْدَ شبح عنا نظرنا إلى نقطة منه من مكانين مختلفين، وقِسْنَا الزاوية بين خطَّي النظر وطول الخط الذي بين المكانين فيُعْلَم بُعْد الشبح بحساب المثلثات بسهولة فإذا كان الشبح قريبًا لا يزيد بُعْدُه على أميال قليلة، يكفي أن يكون البُعد بين المكانين مئات من الأقدام، وإذا كان بعيدًا كالقمر وجب أن يقيس هذه الزاوية اثنان على سطح الأرض بينهما ألوف من الأميال كما ترى في هذا الشكل:
لنفرض أنَّ الدائرة «ر ر» تمثِّل كرة الأرض و«ي» مركزها و«ف» و«و» مكانان على سطحها بينهما مسافة طويلة جدًّا يمكن قياسها من معرفة الفرق بين عرضَي المكانين.
والدائرة الصغيرة «ق» تمثِّل القمر، فإذا نظر إليه الراصد من «و» رآه بين النجوم عند «وَ»، وإذا نظر إليه من «ف» رآهُ بين النجوم عند «فَ»، وبين «فَ» و«وَ» قوس صغيرة يسهل قياسها في الفلك بالدرجات والدقائق والثواني، وهي قياس الزاوية التي في مركز القمر وتسمَّى زاوية الاختلاف، ففي المثلث «و ق ف» تعرف الزوايا والضلع «ف و» فيعرف بُعْد القمر عن الأرض بسهولة، وإذا كان الشبح من السيارات فسطح الأرض أو نصف قطرها لا يكفيان لذلك فتقاس الزاوية المشار إليها من موقعين مختلفين تكون فيهما الأرض وهي دائرة حول الشمس أحدهما بعيد عن الآخر بضعة أيام، وإذا كان أحدُ النجوم الثوابت فلا بدَّ من الاعتماد على أطول مسافة يمكننا قياسها وجعلها قاعدة لحسابنا وهي قُطْر فلك الأرض كله البالغ نحو ١٨٦ مليون ميل، ومع ذلك فهذه القاعدة الطويلة لم يظهر منها اختلاف إلا في مواقع ٤٣ نجمًا من النجوم الثوابت، ولم يظهر هذا الاختلاف إلا بعد تقريب تلك النجوم بأقوى النظَّارات التي عرفت أبعادها بهذه الطريقة، ومتى عُرف بُعد الجسم سهلت معرفة قطره أو جِرْمه بحساب المثلثات.
ثم ثبت من الرصد أنَّ الشمس وسياراتها سائرات إلى جهة كوكبة الجاني بسرعة عشرين كيلومترًا في الثانية من الزمان، فلو كانت سائر النجوم ثابتة في أماكنها لسهلت معرفة أبعادها من معرفة مقدار سير الشمس هذا.
وسنة ١٩١٧ استنبط الفلكي أدمس الأمريكي طريقة بديعة لمعرفة أبعاد النجوم بمقابلة بعض الخطوط في طيف نورها بخطوط مثلها في طيف نور النجوم المعروفة أبعادها من زاوية اختلافها؛ لأن درجة نورها تُعْرَف حينئذٍ بالضبط التام إلا أن طريقته لا تتمشَّى على النجوم التي نورها أبيض ولا على النجوم التي هي بَعد القدر العاشر، فنوَّعها الدكتور لندبلاد الأسوجي فصارت صالحة لأنْ تُعْرَف بها درجة نور النجوم التي من القدر السابع عشر ولو لم يكن بالتدقيق التام، فأمكن بها معرفة أبعاد السدام التي في المجرَّة فعلم أن سديم ممسك الأعنَّة بعدهُ ٥٠٠٠ سنة نورية وسديم الدجاجة بُعْدهُ ٥٠٠٠ سنة نورية أيضًا وسديم العقاب بعدهُ ١٧٠٠٠ سنة نورية. وعُلِمَ بها أن شكل المجرَّة لولبي وطول قطرها من ٥٠ ألف سنة نورية إلى ١٠٠ ألف سنة نورية.
ومِنْ رأي لندمارك أن هناك سدامًا أخرى سعتها مثل سعة سديم المرأة المُسلسلة، ولكنها تظهر لنا أصغر منهُ جدًّا فبعدها عنا يبلغ نحو عشرين مليون سنة نورية.
وخلاصة ما تقدَّم أن أبعاد النجوم تُعرف الآن بأربع طرق مختلفة: الأولى: طريقة قياس زاوية الاختلاف وهي تصلح للنجوم القريبة منا، والثانية: قياس بُعْدِ مجاميع النجوم بسير النظام الشمسي في الفضاءِ، والثالثة: قياس البعد من مقابلة نور النجوم المجهول بعدها بنور النجوم المعروف بعدها من حيث تأثيرهُ في ألواح التصوير الشمسي، والرابعة: مقابلة بعض الخطوط في طيف النجوم المجهول بعدها بالخطوط التي تماثلها في طيف النجوم المعروف بعدها.
وإذا كانت السدام متماثلة سعة وظهر بعضها أصغر من بعض فالصغير منها أبعد من الكبير على نسبة مربع البعد.