الشمس
الشمس سيدة الكواكب التي منها أرضنا، وهي مصدر نورها وحرارتها وركن ما فيها من حياة وقوَّة، وقد مرَّ على الإنسان قرون كثيرة يراها ويتوقَّع طلوعها يومًا بعد يوم ولا سيَّما إذا كان في إقليم بارد بعد أن أدرك أنها مصدر النور والحرارة وعلَّة نمو النبات وخصبه، وعرف النابغون من أبنائه أنها كبيرة الحجم بعيدة المدى ولكنهم لم يعلموا أن بعدها عنا يبلغ ٩٣ مليون ميل، وأن جِرْمَها أكبر من جِرْم الأرض مئات ألوف من المرات كما أثبت المتأخِّرون وكما أبنَّا في الفصول السابقة، ولم يكن يخطر على بال أحد منهم أن جِرْمًا هذا بُعْدُه عنا يستطيع الإنسان أن يقيس سعته بالضبط ويعلم طبائعهُ ودرجة حرارتهِ ونوع العناصر الداخلة في تركيبه لكن ذلك كلهُ أصبح الآن معروفًا كما تقدَّم وكما سيجيءُ.
وكان المظنون أن الشمس جسمٌ ناريٌّ جامدٌ لكن ثبت الآن أنها غاز منضغط كثيف، نعم إن العناصر التي تتألَّف منها هي مثل العناصر الأرضية الجامدة بل الشديدة الصلابة كالحديد والفضة والنحاس والنكل والزنك والقصدير ولكن الحرارة الشديدة التي في الشمس صَهَرَت هذه المعادن وصيَّرتها غازًا، والجذب الشديد الذي في الشمس منع هذه الغازات من الانتشار والإفلات وضغطها ضغطًا شديدًا حتى صار ثقلها النوعي أكثر من ثقل الماء، فإذا حسبنا ثِقَل حجم من الماء مائة رطل فثقل حجم يساويهِ من مادة الشمس ١٤١ رطلًا ولكن ثقل حجم يساويه من مادة الأرض ٥٥٠ رطلًا فمادَّة الشمس أخف من مادة الأرض بسبب حرارتها الشديدة التي تزيد البعد بين جواهرها.
ولا نستطيع أن ننظر إلى الشمس ونستجليها كما ننظر إلى القمر؛ لأن نورها الساطع يبهر العين ولكن يسهل علينا أن ننظر إليها من خلال زجاجة ملوَّنة بلون قاتم أو مدخنة بالسناج، فإذا وضعنا لوحًا من الزجاج في لهب شمعة مشتعلة اكتسى هبابًا أسود وبقي فيه شيء من الشفوف فيحجب كثيرًا من نور الشمس إذا نظرنا إليها من خلاله ولكننا لا نستوضحها مع ذلك بل نراها كصفيحة من الحديد الصقيل المحمى إلى درجة الحمرة، وإذا استعنَّا حينئذٍ بنظارة مُقرِّبة لم نرَ وجهها صقيلًا بل رأينا فيه بُقعًا كثيرة وقد نرى كَلَفًا أيضًا كما ترى في الشكلين المقابلين، أما البُقع فتختلف أقطارها من ٤٠٠ ميل إلى ١٢٠٠ ميل وهي متحرِّكة على سطح الشمس، والمظنون أن سببها مواد تخرج من باطن الشمس إلى سطحها وتنتشر عليه، وأما الكلف فقد تكون كبيرة وتُرَى من غير نظارة ولكن الغالب أنها تكون أصغر من أن تُرَى بغير نظارة، وأول من رآها بالنظارة غليليو الفلكي وكان ذلك سنة ١٦١٠ بُعَيد استنباط النظارات، وترى الكلفة الكبيرة مؤلَّفة من منطقة قاتمة اللون في وسطها بقعة سوداء كأنها هوَّة عميقة وقد تكون هذه الهوة كبيرة جدًّا حتى لو وقعت الأرض فيها لابتلعتها.
وقد اتَّضح من الأرصاد الحديثة في مرصد مونت ولسن بأمريكا أن سبب الكلف مواد تخرج من باطن الشمس إلى سطحها فتنتشر على السطح فتبرد وتظهر مُظلِمة في جنب وجه الشمس الشديد الحمو الباهر النور ويكون فيها كهربائية شديدة فتقوى بها مغنطيسية الشمس والأرض أيضًا.
ولم يخطر على بال أحد من القدماء ولا المتأخِّرين إلى عهد قريب أننا نستطيع أن نعرف العناصر التي يتركَّب منها جِرْم الشمس لكن العلماء اتَّصلوا إلى معرفة هذه العناصر بطريقة بديعة؛ وذلك أن النور ينحلُّ إلى ألوانه السبعة إذا مرَّ في نقطة ماء أو كرة زجاج أو قطعة من الزجاج غير متوازنة السطحين، وقد أطلقوا على النور المحلول كذلك اسم الطيف الشمسي أو طيف النور، وإذا نظرنا إلى هذا الطيف بنظارة مُكبِّرة رأينا فيه خطوطًا سوداء وإذا كان هذا الطيف ناتجًا من انحلال نور شمعة أو مصباح رأينا فيه خطوطًا لامعة بدل الخطوط السوداء التي تُرَى في طيف نور الشمس، وتختلف هذه الخطوط باختلاف العناصر التي في المصباح أو الشمعة، ولكل عنصر من العناصر الأرضية المعروفة خطوط خاصَّة به يستدلُّ بها على وجودهِ، فإذا وجدت هذه الخطوط أو ما يقابلها من الخطوط السوداء في طيف نور الشمس فهي دليل على وجود ذلك العنصر في الشمس، والآلة المصنوعة لرؤية هذه الخطوط وتحقيقها اسمها سبكتروسكوب؛ أي منظار الطيف ودلالتها دقيقة جدًّا جدًّا حتى إذا كان في المادَّة المشتعلة جزءٌ من عشرين مليون جزءٍ من القمحة من عنصر الصوديوم مثلًا ظهرت خطوطه في الطيف واضحة، فعُرِفَت بهذه الخطوط العناصر التي تتألَّف منها الشمس والكواكب وبعض النجوم، ولم تقف فائدتها عند ذلك بل عرفت بها حرارة تلك النجوم وهل تلك النجوم مقتربة منا أو مبتعدة، فإذا كان النجم مقتربًا منا في سيره فالخطوط التي في طيفه تقترب نحو اللون البنفسجي من الطيف وإذا كان مبتعدًا عنا جعلت الخطوط تبتعد عن اللون البنفسجي وتقترب من اللون الأحمر، وعلى هذه النمط ثبت أنَّ الشمس تدور على نفسها؛ لأن الخطوط في طيف النور الآتي من طرفها الشرقي مثلًا تقترب إلى جهة وخطوط طيف النور الآتي من طرفها الغربي تقترب إلى الجهة المقابلة فثبت بذلك دوران الشمس على محورها، وقد استُنتج ذلك قبلًا من سير الكلف على سطح الشمس لأن أكثر سيرها ناتج عن دوران الشمس على محورها مرة كل نحو ٢٨ يومًا وعند التدقيق ٢٤ يومًا و٦ أعشار اليوم عند خطِّ الاستواء الشمسي ونحو ٣٠ يومًا عند عرض ٧٥ درجة وتختلف السرعتان؛ لأن مادة الشمس لا تدور كلها على محورها في وقتٍ واحد فإذا دارت أقاليمها الاستوائية عشر دورات كل ٢٤٠ يومًا دارت أقاليمها التي قرب القطبين سبع دورات أو أقل في تلك الأيام كأن بعضها يزلق على بعض وهذا من الغرائب.
•••
قلنا في فاتحة هذا الفصل إن الشمس مصدر النور والحرارة وركن الحياة والقوة، أمَّا النور فالمرجَّح أنه تموُّجات مختلفة السعة في مادة لطيفة مالئة الكون اسمها الأثير موجودة في كل مكان حتى بين أصغر جواهر الأجسام، ونور الشمس حادث من قوة دافعة في الشمس ويصل إلينا بتموجات في هذا الأثير، وهذه القوة الدافعة تصل إلينا أيضًا بتموجات أضيق من تموجات النور وأسرع فتفعل فعلًا كيماويًّا وبتموجات أوسع من تموجات النور وأبطأ فتسخن الأجسام؛ أي تسبب الحرارة اللازمة للقوة والحياة، وكل قوة تحدث في الأرض سواء كانت من اشتعال الفحم أو احتراق الزيت أو حركة الأجسام مصدرُها الأصلي الشمس؛ أي القوة الدافعة المشعَّة منها، وكان المظنون أن حرارة الشمس على سطحها تبلغ الملايين من الدرجات إذا قيست بحرارة الهواء أو حرارة النار التي تقاس بالثرمومتر أو البيرومتر، ولكن ثبت الآن من البحث المدقَّق أنها لا تزيد على نحوِ ستة آلاف درجة؛ أي إنها مضاعف الحرارة اللازمة لصهر أشد المعادن احتمالًا للحرارة كالذهب والبلاتين.
واختلف العلماء في سبب حرارة الشمس وفي كيفية تجدُّدها حتى تبقى الشمس ألوفًا من السنين في هذه الدرجة من الحمو ولا تبرد كما يبرد كل جسم حارٍّ إذا شعَّت الحرارة منه في الفضاء، فارتأى البعض أن رُجمًا كثيرة تقع على الشمس كما تقع بعض الرجم على الأرض فتولِّد حرارة بوقوعها ومصادمتها للشمس تقوم مقام ما ينفد منها من الحرارة بالإشعاع، ولكن لو كانت الرجم التي تقع عليها كافية لذلك لوجب أن يزيد جِرْم الشمس من سنة إلى أخرى زيادة تظهر كبيرة على مرِّ القرون وتؤثِّر في حركات السيَّارات ولا دليل على حدوث هذا التأثير، وارتأى هلمهلتز أن جِرْم الشمس آخذ في التقلُّص شيئًا فشيئًا وقليل من التقلُّص يكفي لأن يولِّد فيها حرارة شديدة فإنهُ إذا تقلَّص جِرْمها حتى قصر قطرها ٣٠ مترًا فقط في السنة تولَّد من هذا التقلُّص كل الحرارة التي تشعُّ منها تلك السنة، ولكن ثبت بالحساب بعد ذلك أنه لو كانت حرارة الشمس حادثة من تقلص جِرْمِها فقط لما عاشت أكثر من ١٥ مليون سنة وهي أقدم من ذلك كثيرًا فإن عمر الأرض أكثر من مائة مليون سنة كما يستدلُّ الجيولوجيون من بعض الأفعال الجيولوجية والأرض بنت الشمس كما لا يخفى والشمس أقدم منها جدًّا، والمرجَّح الآن أنَّ حرارة الشمس حادثة من فعل جواهرها؛ أي إنَّ ما لا نهاية له في الصغر يفسِّر ما لا نهاية له في الكِبَر، فإنْ كان فيها مقدار كبير من الراديوم فهو يشعُّ الحرارة لذاته بانحلال دقائقه ويكفي لتعليل حرارة الشمس، وإن كانت حرارتها ناتجة من انحلال جواهرها فهي تكفيها ملايين لا تُحصى من السنين فإن في جواهرها من القوة ما يعادل ٢٠ مرقَّاة إلى القوة الرابعة والخمسين إذا قيست بدرجات الحرارة.
أمَّا العناصر التي ثبت وجودها في الشمس حتى الآن فتبلغ ٤٥ عنصرًا وكلها من العناصر الأرضية.
•••
قلَّما يخطر لنا ببال أنَّ الشمس على عِظَم بهائها وسنائها ليست إلا كوكبًا من الكواكب العظمى، وأنها إنما تظهر لنا أعظم شأنًا مما هي حقيقة بسبب قُرْبِها منا في جنب تلك الكواكب أو الشموس.
ومن أصعب الصعاب تعيين رتبة الشمس بين الشموس من حيث البهاء والسناء، ليس لأنَّ في حساب تلك الرتبة شيئًا من الصعوبة، وإنما الصعوبة في أخذ الأقيسة التي يُبْنَى ذلك الحساب عليها، وقبل مقابلة نور الشمس بنور غيرها من الشموس لا بدَّ لنا من معرفة أمرين: الأول بُعْدُ تلك الشموس، والثاني نسبة نور شمسنا إلى نورهنَّ كما نراهنَّ بأعيننا من هذه الكرة، أمَّا معرفة بُعْدِهِنَّ فقد أصبحت من القضايا السهلة بعد ما كانت من أعقد المسائل العلمية حتى صِرنا نعرف بُعد كثير من الشموس القريبة وقليل من الشموس البعيدة بدقة تمكِّننا من معرفة الأمر الثاني أو الحكم بما تكون أقدارها ودرجة لمعانها إذا صُفَّ بعضها إلى جانب بعض وعلى مسافة واحدة منَّا.
وقد اكتُشفت بضع طرق لذلك أولاها طريقة زولنر الألماني التي استنبطها سنة ١٨٦٤ فإنه استطاع تصغير صورة الشمس بإمرار أشعَّتها في تلسكوب مقلوب وأضعف نورها بإمرار الأشعة في زجاجة مدخنة كما يفعل الذين ينظرون إلى الشمس عند كسوفها، وفعل عكس ذلك بالنجم المسمَّى العيُّوق وهو من الثوابت اللامعة وأخذ صورته وقابل الصورتين؛ أي صورة الشمس مصغَّرة وهذا النجم مكبَّرًا بنور نجم صناعي مكوَّن من ضوء مصباح مارٍّ وسط ثقب صغير فظهر له بالحساب أن الشمس تظهر لنا أبهى من العيُّوق بستة وخمسين ألف مليون مرة؛ أي لو ظهر في ليلة من الليالي ٥٦ ألف مليون نجم مثل العيُّوق لبانت تلك الليلة مشرقة كالنهار والشمس في رائعته.
والطريقة الثانية منسوبة إلى ثلاثة علماء: الواحد فرنسوي والثاني روسي والثالث أمريكي، وقد تناولوا هذا البحث في وقتٍ واحدٍ وكلٌّ منهم مستقلٌّ عن الآخر لا يدري ما يفعل فظهر من حساب الفرنسوي أنَّ الشمس أبهى من العيوق بأربعة وستين ألف مليون مرة، ومن حساب الروسي أنها أبهى منه بثلاثة وخمسين ألف مليون مرة، ومن حساب الأميركي وهو الأستاذ بكرنج المشهور أنها أبهى منه بستة وستين ألف مليون مرة، فمتوسط هذه الحسابات الأربعة ٦٠ ألف مليون وهو الأصح لأن متوسط الفرق بينه وبين كلٍّ منها نحو ٩ في المائة فقط من قيمته، ولا يكاد يحتمل أنهم كلهم أخطئوا في جهة واحدة.
وقد قيس نور النجوم الضعيفة فوُجِدَ أن أضعف نجم يمكن تصويره بالتلسكوب الكبير في مرصد مونت ولسن «بأمريكا» يرسل إلينا من النور ما لو جمع نور ٥٠٠ ألف مليون مليون من أمثاله لساوى نور شمسنا لا غير.
وقد ألَّف علماء الفلك كتبًا كثيرة في الشمس ذكروا فيها من الأرصاد والآراء والحسابات والحقائق ما لا محلَّ له في هذه البسائط فلا نتعرَّض لهُ.