القمر
لعلَّ الناس انتبهوا أولًا لحركات الأفلاك من مشاهدتهم القمر يظهر هلالًا ويزيد رويدًا رويدًا إلى أن يصير بدرًا كاملًا، ثم ينقص ليلة بعد أخرى إلى أن يعود هلالًا، ويقتضي في هذا التدرُّج أربعة أسابيع ويتغيَّر مقرهُ في السماء يومًا بعد يوم على التوالي ويعود في الشهر التالي إلى ما كان عليه في الأول وهلمَّ جرًّا.
وقد كان الأولون ينظرون إلى أجرام السماء كما كنا ننظر إليها في صبانا، أو كما ينظر إليها الفلاحون الأميُّون في عصرنا فإنهم يرونها فلا يعبئون بها إلَّا من حيث دلالتها على ابتداء النهار وانتهائه، وكَون الليالي مقمرة يسهل ري الأطيان فيها، أو مظلمة وفيها يعسر الري، ومن حيث دلالة بعض النجوم الكبيرة على قرب طلوع الفجر ونحو ذلك، أما بُعْدها عنا وأقدارها وأشكال حركاتها فما لا يدرك العامة منه شيئًا ولا يلتفتون إليهِ.
لكن قام من الناس منذ القِدَم رجال شذُّوا عن معاصريهم؛ فنظروا وبحثوا ووصلوا بعد البحث والتحرِّي إلى معرفة أمور عن الشمس والقمر والنجوم لا يعرفها العامة حتى في عصرنا عصر العلم والعرفان، ومن أول ما انتبهوا لهُ القمر كما تقدَّم فعرفوا من أمرِهِ أكثر مما يُظَنُّ، فإن الفيلسوف أنكسغوراس اليوناني الذي نشأ في القرن الخامس قبل المسيح قال إن القمر كبير كبلاد المورة وفيه سهول وأودية وأن نورهُ مستمد من الشمس، وسبقهُ إلى هذا القول الأخير برمينيدس الفيلسوف اليوناني وهو أيضًا من أبناء القرن الخامس قبل المسيح.
وثم قام يودكس اليوناني الذي نشأ في القرن الرابع قبل المسيح وبحث في حركات القمر فقال إنها ثلاث وهي ناتجة من اتصاله بثلاثة أفلاك أولها يدور من الشرق إلى الغرب كل ٢٤ ساعة وبهِ يعلَّل سير القمر الظاهر من الشرق إلى الغرب، والثاني يدور من الغرب إلى الشرق مرة كل شهر قمري وبهِ يعلَّل انتقال القمر يومًا بعد يوم في أبراجه من الغرب إلى الشرق، والثالث يدور من الشرق إلى الغرب حول محور مائل على محور دائرة البروج وبه يعلَّل تغير المكان الذي يشرق منهُ القمر والمكان الذي يغيب فيهِ يومًا بعد يوم شمالًا أو جنوبًا، وقد عُرِفَ الآن أنْ ليس هناك أفلاك تمسك القمر وتدور بهِ بل هو يدور حول الأرض بنفسهِ ويدور مع الأرض حول الشمس وبذلك يَعلَّل كل ما تقدَّم، ولكن ما قالهُ يودكسس يدلُّ على أنهُ بَحَثَ وحقَّقَ ولو أخطأ في التعليل.
- أولًا: خلاصة ما عُرِفَ عن مادة القمر وشكْلهِ وبُعْدِه عن الأرض.
- ثانيًا: سبب ظهورهِ هلالًا ثم تزايدهِ ثم تناقصه.
- ثالثًا: سبب تغير موقعهِ في السماءِ ليلة بعد ليلة والمكان الذي يطلع منهُ.
- رابعًا: سبب الهالة التي تُرَى حولهُ أحيانًا.
- خامسًا: علاقتهُ بمصالح الناس.
القمر جسم مظلم
وهو يدور على نفسهِ في المدَّة الذي يدور فيها حول الأرض فلا نرى إلَّا وجهًا واحدًا من وجهَيهِ، ولو كان سيرُهُ في فَلَكِهِ منتظمًا تمامًا لما رأينا منهُ إلَّا نصفهُ المتَّجه نحونا ولكن محورهُ غير عمودي تمامًا على سطح فلكهِ فإذا مال قطبهُ الشمالي أو الجنوبي نحونا رأينا أيضًا بعض نصفه الآخر وكذلك نرى قليلًا من الجانب الشرقي والجانب الغربي من النصف الآخر لأسباب لا تدخل في هذه البسائط فنرى ثلاثة أخماس سطحهِ وأما الخُمسان الآخران فلا نراهما مطلقًا.
وفي القمر سلاسل طويلة من الجبال والأودية وبعض الأودية واسع جدًّا كالسهول الفسيحة وبعضها ضيق كأَنها مجاري الأنهار.
وقد قيس ارتفاع بعض هذه الجبال من عهد غاليليو ثم كُرِّر قياسُهُ فإذا ارتفاع أرفعها نحو ٢٦ ألف قدم؛ فهي مثل أعلى جبال الأرض تقريبًا.
سبب ظهوره هلالًا ثم تزايدهِ ثم تناقصه
إذا التفتنا إلى القمر عند غروب الشمس فوجدناهُ على نحوِ ٢٠ درجة فوق الأفق الغربي رأيناهُ هلالًا، وإذا وجدناهُ حينئذٍ فوق رءوسنا رأيناهُ نصف دائرة وإذا وجدناهُ طالعًا من الأفق الشرقي رأيناهُ دائرة كاملة، ولو استطعنا رؤيتهُ وقتما يغيب مع الشمس لوجدناهُ دائرة غير منيرة فما سبب ذلك كلهِ؟
سبب تغير موقع القمر في السماء
القمر يدور دورة كاملة حول الأرض كل ٢٧ يومًا ونحو ثلث يوم، وعند التحقيق ٢٧ يومًا و٧ ساعات و٤٣ دقيقة فلو كان ثابتًا في مقرِّهِ كالنجوم الثوابت نسبةً إلى الأرض لرأينا موقعه بينها لا يتغيَّر من يوم إلى آخر؛ فيطلع معها ويغيب معها بسبب دوران الأرض على محورها يومًا بعد يوم ولرأينا موقعهُ في الفلك يتغير من يوم إلى آخر مثل موقع جميع النجوم الثوابت لا غير بسبب دوران الأرض في فلكها حول الشمس، ولكن القمر لا يكتفي بهاتين الحركتين الظاهرتين اللتين يشارك فيهما سائر الأجرام السماوية وهما ناتجتان عن حركة الأرض نفسها بل له حركة أخرى خاصة به يدور بها حول الأرض من الغرب إلى الشرق وتظهر هذه الحركة ويُعْلَم مقدارها بسهولة من مراقبتهِ ليلة بعد أخرى مدة شهر من الزمان، فلنفرض أننا رأيناهُ الساعة الثامنة مساءً في كبد السماءِ قريبًا من النجم الكبير المسمَّى الدبران ولنفرض أننا رأيناهما في خط واحد شمالًا وجنوبًا فبعد ثلاث ساعات نراهما قد مالا إلى الغرب كلاهما ولكن القمر تأخَّر قليلًا عن الدبران وعن سائر النجوم التي كانت قريبة منهُ؛ أي إنَّ نسبة موقعهِ إلى الدبران وإلى سائر الثوابت تغيَّرت فتأخَّر عنها، وإذا غاب الدبران الساعة الثانية بعد نصف الليل فالقمر لا يغيب الساعة الثانية بل بعدها بنحو ربع ساعة، وإذا رصدناهُ في الليلة التالية الساعة الثامنة تمامًا نراهُ قد ابتعد عن الدبران شرقًا ثم نرى أنه يغيب بعده بأكثر من ساعة وإذا واظبنا على مراقبتهِ نراه يعود إلى الاقتران بالدبران بعد نحو شهر من الزمان، ولا يعلَّل ذلك إلَّا بأنهُ كان ينتقل شرقًا لذاتهِ وقد دار حول الأرض دورة كاملة في هذه المدة فهذا سبب تغيُّر موقعهِ في السماءِ يومًا بعد يوم.
سبب الهالة التي ترى حولهُ
لا أجمل من القمر إذا كان بدرًا، الشمس أبهى منهُ وأسطع نورًا ولكن نورها يبهر العين، ويُؤذيها فلا تستطيع التحديق فيها، ويزيد البدر بهاءً إذا دارت حولهُ هالة من النور كأنها جند تحيط بمَلك عزيز الشأن تحرسهُ ولا تستطيع الدنو منهُ مهابة.
وتُحدث الهالة إذا كان في الهواءِ بلورات صغيرة من الثلج أو الجليد فإنَّ النور الذي يمرُّ فيها ينكسر وينحرف على زاوية تعدل نحو ٢٢ درجة فيصل إلى عين الرائي كأنهُ أشعة صادرة من نقط حول القمر بعيدة عنهُ نحو ٢٢ درجة فتظهر هذه الأشعة في دائرة حول القمر قطرها نحو ٤٤ درجة؛ لأننا إنما نرى ما نراهُ في المكان الذي تجتمع فيه أشعة النور الواصلة إلى عيوننا، وكما تحدث الهالة حول القمر تحدث حول الشمس أيضًا، وقد يكثر عدد الهالات لاختلاف أشكال البلورات التي يمرُّ النور فيها أو ينعكس عنها فتتولَّد منها دوائر مختلفة الأشكال والأوضاع حتى لقد يتولَّد منها قرنان على قرص الشمس كالقرنين اللذين يريان في النقوش المصرية القديمة على رأس دائرة تمثِّل الشمس، كأنَّ المصريين الأقدمين رأوا هذه الحادثة الجوية فأثَّرت في نفوسهم ورسموها ونقشوها وعلَّقوا عليها شأنًا دينيًّا كبيرًا، وقد تتكوَّن للشمس هالات كثيرة في وقت واحد وتتقاطع فيكون منها شكل كالصليب أو بقع منيرة كالشموس.
علاقة القمر بمصالح الناس
أول علاقة للقمر بمصالح الناس تقسيم الزمان إلى شهور وأسابيع، فإن الشمس تقسِّم الزمان إلى أيام متساوية بشروقها وغروبها، والأصح أن يُقال بدوران الأرض على محورها دورة كاملة كل يوم وكذلك تقسمهُ إلى سنين متساوية مؤلَّفة حسب الظاهر من فصول تتوالى كل نحو ٣٦٥ يومًا أو من سنين مقيَّدة بفيض الأنهر المرتبط بوقوع المطر أو بالأماكن التي تُشرق منها الشمس وتغرب فيها ثم تعود إليها بعد ٣٦٥ يومًا، والمعروف الآن أن سبب ذلك كلهِ دوران الأرض في فَلَكِها حول الشمس فإنها تتمِّم هذه الدورة في نحو ٣٦٥ يومًا وربع يوم ويتكرَّر ذلك سنة بعد سنة.
لكن الزمان بين اليوم والسنة كبير يودُّ الناس تقسيمهُ إلى أقسام متساوية فانتبهوا من عهد قديم إلى أنَّ القمر يكون هلالًا أو بدرًا كل نحو ٢٩ يومًا ونصف يوم، وأن ذلك يتكرَّر في السنة ١٢ مرة ويبقى من السنة نحو ١١ يومًا؛ فقسَّموا الزمان بموجب ذلك إلى شهور قمرية وقسَّموا الشهر إلى قسمين من الهلال إلى البدر ومن البدر إلى الهلال الثاني، وقسَّموا ما بين الهلال والبدر إلى قسمين وكذلك ما بين البدر والهلال الثاني، ولمَّا كانت هذه الأقسام لا تُوافق الأيام تمامًا؛ أي لا يكون فيها عدد صحيح من الأيام اكتفوا بحسبان الشهر أربعة أرباع كل رُبع منها أسبوع؛ أي سبعة أيام ولمَّا رأوا أن اثنَي عشر شهرًا قمريًّا لا تتمُّ سنة شمسية كاملة ولكنها تقرب منها عادوا إلى السنة الشمسية فقسَّموها إلى ١٢ قسمًا متساويًا كلًّا منها ٣٠ يومًا فبقي منها ٥ أيام ونحو رُبع يوم أبقوها وحدها كما فعل المصريون في سنتهم وجرى عليهِ الأقباط أو وزَّعوها على بعض الأشهر كما هي الحال في الحساب الغريغوري الشائع الآن.
والخلاصة أنَّ أول علاقة للقمر بمصالح الناس كانت في تقسيم السنة إلى شهور قمرية، وتقسيم الشهر القمري إلى أسابيع، ولولا هذا الانتظام في حركات الأرض والقمر لتعذَّرت قسمة الزمان إلى أقسام متساوية، وتعذَّرت المعاملات وكتابة التواريخ وقسمة السنة إلى شهور شمسية استغني بها عن القمرية، فقد كان الفضل الأول للقمر في قسمة الزمان إلى شهور وأسابيع.
العلاقة الثانية: المد والجزْر — إن الذين يسكنون على الشواطئِ البحرية ولا سيَّما شواطئ البحار الكبيرة يرون ماء البحر يرتفع مرتين وينخفض مرتين كل يوم، وهذا الارتفاع وهذا الانخفاض يأتيان متدرِّجَين؛ فهما مستقلَّان عن أمواج البحر، فإذا كانا طفيفين يبلغان أقدامًا قليلة كما في سواحل بحر الروم، فقد يقلُّ التفات الإنسان إليهما، ولكنهما إذا كانا عظيمين يبلغان أقدامًا كثيرة فلا بدَّ من الانتباه لهما ولا سيَّما في المرافئ التي تكثر فيها السفن والزوارق ويُطلق على ارتفاع الماءِ اسم المد وعلى انخفاضهِ اسم الجزْر، ومما يُوجب الانتباه أيضًا أنهُ إذا حدث المدُّ اليوم في أول يونيو وبلغ أعلاهُ عند الظهر تمامًا لا يبلغ أعلاه عند الظهر غدًا بل بعد الظهر بساعة، وبعد أسبوع؛ أي في ٧ يونيو يصير ميعاد الجزر عند الظهر وميعاد المد عن الغروب، وبعد أسبوعين؛ أي في ١٤ يونيو يعود ميعاد المد الظهر وهلمَّ جرًّا على مدار السنة؛ أي إنَّ المدَّ والجزْرَ يجريان في أدوار كلِّ دور منها ١٤ يومًا أو ٢٨ يومًا مما يدل على أن للقمر علاقة بهما، ويظهر عند التدقيق أنَّ بلوغ المدِّ أعلاهُ في مكانٍ ما متعلق ببلوغ القمر هاجرة ذلك المكان؛ أي وصولهُ إلى منتصف السماء فكلَّما بلغ القمر هاجرة مكان فالمد يبلغ أعلاهُ في ذلك المكان بعد ذلك بوقت محدود كأَنهُ تابع للقمر ولكنهُ مقصِّر عنهُ في سيرهِ معهُ.
وممَّا يزيد ذلك ثبوتًا أنَّ ارتفاع المد وانخفاض الجزر يختلفان من أسبوع إلى أسبوع فإذا بلغ المدُّ معظم ارتفاعهِ اليوم والجزر معظم انخفاضهِ فبعد أسبوع يكون المد قليل الارتفاع والجزر قليل الانخفاض، وبعد أسبوع آخر يبلغ المد معظم ارتفاعهِ والجزر معظم انخفاضهِ؛ أي إنَّ المد والجزر تابعان للقمر في زيادتهِ ونقصانهِ.
وأول مَنْ قيل إنهُ انتبه إلى علاقة القمر بالمدِّ والجَزْر الصينيون قبل المسيح بنحو ألف سنة ثم فيثياس اليوناني الذي كان معاصرًا للإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد فإنهُ راقب المدَّ والجزر وعَرَفَ علاقتهما التامَّة بالقمر واختلافهما باختلاف أوجههِ.
ثم إن الشمس تجذب الأرض كما يجذبها القمر فإذا اتَّفق أن كانت هي والقمر في جهة واحدة كما يحدث والقمر هلال أو في جهتين متقابلتين كما يحدث والقمر بدر فإنَّ المد يكون على أعلاهُ والجزر على أوطائه كما ترى في القسم الأول من الشكل، وإذا كانت الشمس في جهة من الأرض والقمر ليس في جهتها ولا مقابلًا لها بل بين بين كما يحدث حينما يكون عمر القمر ٧ أيام أو ٢١ يومًا ففعلُ القمر يُعاكس فعلَ الشمس؛ أي إنَّ الشمس تحاول جذب الماء حيث ينتظر أن يكون جزر لو كان القمر وحدهُ، ولكن من حيث إنَّ جذب القمر أشد من جذب الشمس لأنهُ أقرب منها جدًّا إلى الأرض يبقى فعل القمر أقوى من فعل الشمس، ولكن ليس أقوى من مجموع فعله وفعلها وهذا يظهر في القسم الثاني حيث ترى الشمس في جهة والقمر في جهة أخرى والمد تحت القمر أقل من المدِّ في القسم الأول والجزْر أقل من الجزر في القسم الأول؛ لأنهُ واقع تجاه الشمس وبين هاتين الحالتين حالات متوسطة من أول ما يتَّفق فعل الشمس والقمر إلى أن يختلفا.
ولكن المدَّ لا يكون مع القمر تمامًا بل يتأخَّر عنهُ بسبب ما يلقاهُ الماءُ في حركتهِ من المقاومة بالاحتكاك وبسبب كثرة العوائق في طريقهِ، ونسبة قوة القمر إلى قوة الشمس في المد كنسبة ١١ إلى ٥ فإذا كانت القوَّتان مجتمعتَين فهما ١٦ وإذا اختلفتا لاشت قوة الشمس ٥ من قوة القمر فبقي ٦ منها.
وهناك اختلاف آخر وهو أن مدَّ الشمس يتوالى في الوقت نفسه كل يوم فإذا حدث اليوم الساعة الخامسة بعد الظهر؛ أي إذا تأخَّر خمس ساعات عن وصول الشمس إلى الهاجرة فإنهُ يحدث غدًا الساعة الخامسة وبعد غد الساعة الخامسة وهلمَّ جرًّا، ويحدث اليوم الساعة الخامسة صباحًا وغدًا الساعة الخامسة صباحًا وبعد غدٍ الساعة الخامسة صباحًا وهلمَّ جرًّا، وأمَّا مدُّ القمر فإذا حدث اليوم الساعة الخامسة بعد الظهر لا يحدث غدًا الساعة الخامسة تمامًا؛ لأن القمر ينتقل في هذه المدة نحو ٤٩ دقيقة شرقًا فيحدث مدُّهُ الساعة الخامسة والدقيقة ٤٩ أي ينفصل عن المدِّ الشمسي وبذلك يتغيَّر انتظام المد والجزر.
والشائع أن للقمر علاقة كبيرة بالزراعة ولكن لم يقُم على ذلك دليل قاطع.
وقد جرَّب المسيو فلامريون الفلكي تجارب كثيرة في ضواحي باريس ليتحقَّق هل للقمر تأثير في المزروعات فزرع بعض الخُضر في أوقات مختلفة تُطابق أوجه القمر الأربعة فلم يجد للقمر أقل تأثير في نموها، ولا عجب في ذلك فإن الشمس تؤثِّر في النبات بحرارتها أمَّا حرارة القمر فأقل من أنْ يشعر بها فقد قاس الأستاذ بيازي سميث حرارة القمر فوجد أن الشمعة التي بعدها عن آلتهِ ١٥ قَدمًا حرارتها الواصلة إلى آلتهِ أشد من حرارة القمر الواصلة إليها، وقاس الأستاذ لنغلي حرارة القمر فوجدها جزءًا من مليون جزء من الدرجة.
لكن إن لم يؤثِّر القمر بحرارته فقد يؤثِّر بجذبهِ؛ أي بما يثيرهُ من الزوابع فقد ثبت أن العواطف تكون أشد والقمر هلال منها والقمر بدر؛ أي تكون متى اجتمع الشمس والقمر إلى جهة واحدة من الأرض أشد منها متى كان القمر في جهة والشمس في أخرى.
ثم إن الأنواء الكهربائية تكون والقمر هلال إلى نهاية الربع الأول أكثر منها والقمر بدر إلى بداءة الربع الأخير؛ أي إنها تكون في السبعة الأيام الأولى من الشهر القمري أكثر قليلًا مما تكون في السبعة الأيام من البدر إلى الحادي والعشرين من الشهر.
ومما هو من الغرابة بمكان أنَّ للقمر علاقة بأحوال بعض الناس العقلية حتى نُسِبَ الجنون إلى فِعْلِهِ وجُعِلَ تأثيرهُ اسمًا للجنون في اللغات الأوروبية القديمة والحديثة كاليونانية واللاتينية والإنكليزية والفرنسوية والألمانية والإسبانية، ولهُ أيضًا علاقة بأحوال النساءِ البدنية بين سنِّ البلوغ وسنِّ اليأس كما هو واقع فيما يصيبهنَّ مرة كل أربعة أسابيع؛ أي كل شهر قمري، ولم نرَ أحدًا من الباحثين طَرَقَ هذا الموضوع قبل الآن وبيَّن علاقة القمر بذلك، وقد انتبهنا منذ نحو أربعين سنة لدى قراءتنا الرحلات الأفريقية لما يفعلهُ الزنوج في الليالي المقمرة ولا سيَّما حينما يصير القمر بدرًا من اجتماعهم في حلقات الرقص والخلاعة رجالًا ونساءً ممَّا يهيِّج فيهم الشهوات البدنية وإلى إفراطهم حينئذٍ في شرب الأشربة الروحية المُسْكِرة التي تذهب بعقولهم، فقلنا: ألَا يحتمل أن يكون ذلك سبب التهيُّج الجنسي والعقلي الذي يتكرَّر كل شهر قمري، والعادات التي يعتادها الناس ويكرِّرونها سنة بعد أخرى وشهرًا بعد آخر ويمارسها أعقابهم بعدهم قرونًا كثيرة لا بدَّ من أن تؤثِّر في بِنْيَتهم الجسدية والعقلية؛ أي في أعضائهم المختلفة ووظائفها ويُرسِّخ تأثيرها فيهم على مرور الزمن، فإنْ صحَّ تعليلنا هذا فيكون القمر عِلَّة معيَّة لوظيفة من أهمِّ وظائف جسم الإنسان ولداء من أسوأ الأدواء التي تعتريه.
وقد نشرنا في المقتطف منذ أول إنشائهِ إلى الآن مقالات شتَّى في القمر وحركاتهِ وأفعالهِ وآراء العلماء في كيفية تولُّدِه في المجلد الثاني والأربعين، والحادي والثلاثين، والسابع والعشرين، والرابع والعشرين، فليَرْجِع إليها مَنْ أراد التوسُّع في هذا الموضوع.