مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعتُ أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومةَ مُؤلَّفاتي الاثنين والعشرين ومخطوطَ كتابٍ لم يُطبَع بعد، لنبحث في إجراءاتِ إصدارها في طبعةٍ جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنتُ وأنا أتأمَّلها كمَن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عامًا تَفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتابِ الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تَكامَل تدريجيًّا دون خطةٍ مُسبقة في ثلاثٍ وعشرين مُغامَرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببتُ أن أُشرِك به قُرَّائي. وفي كل مُغامَرة كنت كمَن يَرتاد أرضًا بِكرًا غير مطروقة ويكتشف مَجاهِلها، وتقودني نهايةُ كل مُغامَرة إلى بدايةٍ أخرى على طريقةِ سندباد الليالي العربية. ها هو طرفُ كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمَّله، إنه في غِلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام ١٩٨٨، التي عاد ناشِرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام ١٩٧٦، الذي صمَّمه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتَت حتى بدَت وكأنها بلون واحد لعدم عنايةِ الناشر بتجديدِ بلاكاتها المتآكلة من تعدُّد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يَخطر لي أن هذا الكتاب قد رسَم مسارَ حياتي ووضعني على سكةٍ ذاتِ اتجاهٍ واحد؛ فقد وُلِد نتيجةَ ولعٍ شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكبابٍ على دراسةِ ما أنتجَته هذه الثقافة من مُعتقَدات وأساطير وآداب، في زمنٍ لم تكن فيه هذه الأمور موضعَ اهتمامٍ عام، ولكني لم أكن أُخطِّط لأن أغدو مُتخصِّصًا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاوٍ عاكفٍ بجدٍّ على هوايته. إلا أن النجاح المدوِّي للكتاب — الذي نفَدَت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تَتابَعت طبعاته في بيروت — أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يَتوقَّعون مني عملًا آخَر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يَلْقاه الكتاب الأول للمُؤلِّف يضعه في ورطةٍ ويفرض عليه التزاماتٍ لا فَكاكَ منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاحٍ أكبر، أو يسقط ويَئُول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسَه في الكتاب الثاني. وقد كنتُ واعيًا لهذه الورطة، ومُدرِكًا لأبعادها، فلم أَتعجَّل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعتُ مَسيرتي المعرفية التي صارت وقفًا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعامًا بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يَتكامَل في ذهني وأعدُّ له كلَّ عُدَّۃ ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبتُه في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام ١٩٨٦؛ أيْ بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحًا مُدوِّيًا آخَر فاق النجاحَ الأول، فقد نفَدَت طبعتُه الأولى، ٢٠٠٠ نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدَّءُوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابَين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصُّص، فتفرَّغتُ للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئًا آخَر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجتُ خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعَتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام ٢٠١٢ للعمل مُحاضرًا فيها، وعهدَت إليَّ بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزتُ كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضِّلُ أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقةِ الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مُرشَّحةٌ دومًا لاستقبالِ أعضاءٍ جُدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
ونشرتُ فيه فصلًا بعنوان:
كنتُ قد تعرَّفت على «تومبسون» في ندوةٍ دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عامَ ٢٠٠١، شاركت فيها إلى جانبِ عددٍ من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطَت بيننا صداقةٌ متينة استمرت بعد ذلك من خلال المُراسَلات، إلى أن جمعَتنا مرةً ثانية ندوةٌ دولية أخرى انعقدَت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمةً للثقافة العربية، وكانت لنا حواراتٌ طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يُدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائلَ عديدةٍ أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدَّمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «کيث وایتلام» قد دعا كلَيْنا إلى المشاركة في كتابٍ من تحريره بعنوان:
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستَينا اللتين ستُنشَران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام ٢٠١٣ عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسةٌ لي عن نشوءِ الديانة اليهودية بعنوان:
خصَّصتُ آخِرَها لمناقشة أفكار «تومبسون»، وﻟ «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
والثانية خصَّصها للرد عليَّ بعنوان:
أي: العودة من السَّبْي کمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يُولَد ويعيش مدةً ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يَتحوَّل إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القُرَّاء في عمر مُؤلَّفاتي حتى الآن، ولم يَختفِ أحدها من رفوف باعة الكتب، أمَّا تحوُّل بعضها إلى كلاسيكيات فأمرٌ في حُكم الغيب.
فإلى قُرَّائي في كلِّ مكان، أهدي هذه الأعمالَ غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
بکین، كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦