فاتحة
عندما يشرع المؤلف في الكتابة بعد فترة تحضير طويلة، يُقبل على عمله معتقدًا أن جملة الأفكار التي غدت جاهزةً في ذهنه، والخطوط العامة التي بعثرها على الأوراق والدفاتر والبطاقات، هي كل ما سيقدِّمه كتابه إلى القراء، وأن جهده المقبل سوف ينصبُّ على توضيح تلك الأفكار وصقلها وتفصيلها من خلال المنهج الذي رسمه. إنه يريد من خلال عمله مشاركة الآخرين له في معارف توصَّل إليها وحقائق أضناه الكدح في سبيلها. ولكنه ما إن يسير شوطًا قصيرًا في طريقٍ ظنَّه ممهَّدًا سهلًا، حتى تتكشَّف له جسامة المهمَّة وقصور العدَّة التي تزوَّد بها؛ فكل مرحلةٍ من الطريق ترمي به إلى أخرى أشقَّ وأكثر وعورةً، فيجد نفسه يرتاد مفازاتٍ لم يحلم بارتيادها، وتتكشَّف أمام ناظريه آفاقٌ لم تخطر ببالٍ. فإذا وصل غايته سالمًا غانمًا بعد أن حدَّثته نفسه مرارًا بالنكوص والعودة من حيث أتى، استدار ببصره إلى الوراء البعيد، إلى نقطة البداية، وقارن حصيلته الراهنة بأهدافه الأولى، عرف مقدار ما علَّمته الرحلة مقاسًا بما كان عنده. ثم يخامره شعور غامضٌ وخفيٌّ، حقيقي بمقدار ما هو غير مفهوم، شعور بأنه لم يكن إلا قناةً مرت من خلالها حقائق كامنة في الظل، منتظرة أن تُعبِّر عن نفسها من خلال أحدٍ ما مستعدٍّ لبذل الوقت والجهد وأرق النفس. ولعل أهم ما علمني إياه العمل في هذا المؤلَّف، هو وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان واختلاف المكان، وأنَّ كل دين ونظام ميثولوجي ليس إلا قطعة ملونة صغيرة في فسيفساء بديعة زاخرة بالأجزاء التي تبدو مستقلة عن قربٍ، متوحدة عن بعدٍ، في نظام متكامل يعطي معنًى لكل جزء من أجزائه، ويستمد معناه من هذه الأجزاء ذاتها.
في البداية، كنت أطمح إلى تقديم بحثٍ وافٍ عن شخصية الإلهة الأم، أو الأم الكبرى، في النسق الميثولوجي السوري-البابلي، ومتوازياتها في الثقافات الكبرى المجاورة. ثم اكتشفت تدريجيًّا أن الحيِّز المكاني الثقافي، والمدى الزمني اللذين حددتهما إطارًا للبحث قاصران عن الإحاطة بالموضوع. كان تتبُّع الأم الكبرى يوغل بي زمنيًّا إلى ما وراء حدود التاريخ، حيث وجدت نفسي أودِّع النصوص المكتوبة مجتازًا عتبة ما قبل التاريخ، حيث لا شواهد وعلامات سوى الأدوات الحجرية وأعمال الإنسان الفنية الأولى. وكان اقتفاء أثر قدميها على الأرض يأخذني في الاتجاهات الأربعة حتى درت الكرة المعمورة، راجعًا إلى نقطة المبتدى. وشيئًا فشيئًا كنت أتبين أن البحث في ميثولوجيا الأم الكبرى ليس بحثًا في موضوعٍ محددٍ، بل هو بحثٌ في جوهر الأسطورة ومبدئها وغاياتها؛ لأنها المحور الأساسي الذي دارتْ حوله أساطير الثقافات البشرية، وعنه شعَّتْ وتفرقتْ. ومن خلال البحث تكونت النظرية التي تلمُّ شتات الملاحظات في كلٍّ واحدٍ فتفسرها وتعطيها المعنى. وكما تكونت النظرية من خضم البحث، لا سابقةً عليه، ولا موجِّهةً له، كذلك جعلتها تتفتح تلقائيًّا عبر صفحات الكتاب دون أن أعمد إلى بسطها ثم أنفق الجهد في إثباتها. فأنا لا أطمح إلى وضع تفسير شامل لا يأتيه الباطل من أمام أو وراء، بل أطمح لإثارة الأسئلة عند من سيحاورهم هذا الكتاب ويحاورونه لا لإعطاء الأجوبة.
ورغم أني قد قدمت الملامح العامة للنظرية في الفصل الأول، فإن الفصول الباقية يجب ألا تُعتبر بحالٍ من الأحوال جهدًا منصبًّا على إثبات الأطروحات الأولى؛ لأنني في الحقيقة قد كتبت الفصل الأول آخر ما كتبت لا أوله، فكان بالنسبة لي نتيجةً لا افتراضًا مسبقًا موجِّهًا للبحث. من هنا، يستطيع أي قارئ أن يصرف النظر عنه إذا شاء دون أن يفقد البحث مضمونه ووحدته وتماسكه.
أخيرًا، لقد كان من الأهداف الأساسية لمنهجي في البحث، تقديم كتاب سهل التناول للقارئ غير المتخصص، وإقامة حوار على المستوى العالمي مع الحلقات المهتمة والمتخصصة بهذا الموضوع. كل ما أرجوه ألا أكون قد ضحيت بأحد هذين الهدفين لحساب الآخر.