المجتمع الأمومي – فردوس الأرض
كان الاعتقاد سائدًا حتى أواسط القرن التاسع عشر، أن العائلة
بشكلها الأبوي القائم اليوم، قديمة قِدَم المجتمع الإنساني، وأن
المجتمعات الأولى قد تشكلت في بداياتها نتيجة لتجمُّع عدد من هذه
العائلات وتزايدها تدريجيًّا. إلا أن هذه الفرضية قد تهاوت أمام
النقد الذي وجَّهه إليها عدد من رواد الأنثروبولوجيا والعلوم
الإنسانية الأخرى، ممن قدموا في دراستهم الأدلة الكافية على وجود
شكل أقدم من أشكال العائلة سبق شكلها الأبوي الحديث نسبيًّا. وهذا
الشكل لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب، بل على قيم الأنوثة
ومكانة الأم.
١ إن التجمع الإنساني الأول لم يؤسس بقيادة الرجل
المحارب الصياد، بل تبلور تلقائيًّا حول الأم التي شدت عواطفها
وحدبها ورعايتها الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة هي
العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر. ذلك أنَّ عاطفة
الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصلية
الوحيدة، وكل ما عداها يأتي بالاكتساب والتعلم، لا يُستثنى من ذلك
عاطفة الأب نحو أبنائه وعاطفة الأبناء نحو أبيهم، التي تأتي بالصقل
الاجتماعي ومعرفة الواجب الأخلاقي. لقد عرفت المرأة، قبل أن يتعلم
الرجل، كيف توسِّع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتًا أخرى ومخلوقًا
آخر، وكيف توجِّه كل ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات
الأخرى وتنميتها كنفسها، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل
أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات؛ لأن كل رحم ينجب إخوة
وأخوات للمولودين من رحم آخر. بالولادة تزدوج المرأة جسديًّا
ونفسيًّا، وتوسع آفاق كيانها الطبيعي والروحي؛ أمَّا الرجل
فبالمولود الجديد يشد أزره ويدعم وضعه الاجتماعي، ويحافظ على
ممتلكه في مقابل ممتلك الآخرين، ويتمرأى أمام ذاته. فالمبدأ
الأمومي يجمع ويوحِّد، والمبدأ الأبوي يفرق ويضع الحواجز والحدود.
المبدأ الأمومي مشاعة وعدالة ومساواة، والمبدأ الأبوي تملُّك
وتسلُّط وتمييز. الأمومية توحد مع الطبيعة وخضوع لقوانينها،
والأبوية خروج عن مسارها وخضوع لقوانين مصنوعة.
٢
في المجتمع الأمومي، أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوقها
الجسدي؛ بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية، وقواها الروحية،
وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة. كانت
بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت
الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى. بهذه الأسلحة غير
الفتاكة، مضى الجنس الأضعف قوةً بدنية فتبوَّأ عرش الجماعة دينيًّا
وسياسيًّا واجتماعيًّا، وأمام هذه الأسلحة أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات.
٣ ولقد عزز الدور الاقتصادي للمرأة مكانتها هذه؛ فلقد
كانت المنتج الأول في الجماعة، لكونها المسئولة الأولى عن حياة
الأطفال وتأمين سبل العيش لهم. كانت المرأة مسئولة عن تحضير جلود
الحيوانات وتحويلها إلى ملابس ومفارش وأغطية، وكانت النسَّاجة
الأولى والخيَّاطة، وأول مَن صنع الأواني الفخارية. وبسبب قضائها
وقتًا طويلًا في البحث عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل تعلمت
خصائص الأعشاب السحرية في شفاء الأمراض؛ فكانت الطبيبة الأولى.
وكانت مَن يبني البيت ويصنع أثاثه، وكانت تاجرة تقايض بمنتجاتها الآخرين.
٤ ومن وجود شعلة النار المقدسة في معابد الحضارات
المتأخرة، وقيام عذراوات المعبد بحراستها والإبقاء عليها مشتعلة،
نستطيع الاستنتاج بأن شعلة النار الأولى قد أوقدتها المرأة وكانت
أول حارس عليها حافظ لأسرارها. وأخيرًا توَّجت المرأة دورها
الاقتصادي الكبير باكتشاف الزراعة، ونقل الإنسان من مجتمع الصيد
والالتقاط إلى مجتمع إنتاج الغذاء؛
٥ بينما حافظ الرجل طيلة هذه المرحلة على دوره التقليدي
في الصيد والتنقل بحثًا عن الطرائد الكبيرة.
في ذلك المجتمع القديم المتمركز حول الأم، فاضت طبائع المرأة
وصفاتها لتصبغ حياة الجماعة وقيمها وعلاقاتها ونظمها وجمالياتها.
فحب المرأة لأطفالها هو العاطفة التي ميزت علاقاتها بالمحيط
الأوسع، وهو النموذج الأساسي للعلاقات السائدة بين أفراد ينظرون
لبعضهم على أنهم إخوة في أسرة كبيرة تتسع لتشمل المجتمع الأمومي،
صغيرًا كان أم كبيرًا. ومعاملة المرأة لأطفالها دون تمييزٍ قائم
على خصائص معينة أو قدرات وقابليات ومنجزات، هي التي أسست لروح
العدالة والمساواة الاجتماعية القائمة في الجماعة الأمومية.
وابتعاد سيكولوجية المرأة عن كل ميل نحو التسلط والاستبداد، هو
الذي أعطى هواء الحرية الذي تنفسته الجماعات الأمومية طيلة عهدها.
ونفورها من العنف الجسدي إلا عند الحاجة الحقيقية إليه، قد أشاع
السلام بين أفراد الجماعة ذاتها وبين الجماعات الأمومية الأخرى.
وفيضها الطبيعي على من حولها دون حساب، كان أساس المشاعة البدائية
وعدالة توزيع الثروة ضمنها. مناخ أقرب إلى مناخ فردوس فقده الإنسان
بحلول مجتمع الذكر الذي ضيَّع السلام والدعة، ربما إلى الأبد.
٦
ولقد جاءت بينات البحث الأركيولوجي الحديث لتثبت بعض سمات
المجتمعات الأمومية القديمة؛ فالمستوطنات المستقرة الأولى في سوريا
منذ الألف التاسع إلى الألف السادس قبل الميلاد، كانت تُهجَر بعد
فترات طويلة من سكناها دون بينة على وجود تدمير أو حرائق أو حروب.
ولا يشذ عن ذلك مدينة أريحا الشهيرة بسورها الكبير،
٧ فرغم تأكيد البعض على الغاية الدفاعية لهذا السور، فإن
البينة الموضوعية لم تؤكد ذلك، خصوصًا وأن المدينة لم تُكشف
بكاملها بعد، ولم تظهر طبيعة الأجزاء المدفونة الباقية من ذلك
السور الذي ربما كان مجرد تقنية هندسية لدعم المنازل الملاصقة له.
يضاف إلى ذلك أن مستوطنات تلك الفترة لم تعرف الأسوار قط.
٨
غير أنه يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن دور الرجل في الجماعة
الأمومية كان دور التابع؛ ذلك أن الرجل قد بوَّأ المرأة مكانتها
احترامًا وتقديرًا لا خنوعًا، ورجال العصر الأمومي كانوا أكثر عزة
وأنفة وفروسية من رجال العصر البطريركي؛ فقد نقل إلينا مؤرخو
اليونان ممن احتكوا بأقوام كانت تعيش آخر عصور الأمومية، أو سمعوا
بأخبارها، أن رجال تلك المجتمعات كانوا من أفضل فرسان عصرهم على
الإطلاق، وكانت بطولتهم وتضحيتهم في المعارك مضرب الأمثال.
٩ ثم يأتي أرسطو في كتابه «السياسة» فيؤكد هذه الحقيقة
ويجعل منها ظاهرة شمولية عندما يقول إن أغلب الشعوب العسكرية
الميالة إلى القتال هي شعوب منقادة إلى النساء. ذلك أن المرأة رغم
طبيعتها المسالمة، تسلك سلوك اللبوة الكاسرة عندما يتعرض أشبالها
للخطر.
مرَّ المجتمع الأمومي عبر تاريخه الطويل بمراحل متعددة، انتهت
بالانقلاب الكبير الذي قام به الرجل متسلِّمًا دفَّة القيادة من
المرأة ومؤسسًا للمجتمع الذكري البطريركي.
ونستطيع تتبُّع وفهم تلك المراحل، بتتبع أشكال العائلة الأمومية
ونمط العلاقة الجنسية في كل شكل. ففي البدايات السحيقة للتجمعات
الإنسانية، كانت العلاقات الجنسية حرة تمامًا دون ضابط أو قانون،
حيث كل امرأة لكل رجل، وكل رجل لكل امرأة. وهذا الطور موغل في
القدم لدرجة يستحيل معها تقديم القرائن المباشرة على وجوده؛ إلا أن
إثباته يتأتَّى من أطوار لاحقة له منبثقة منه، أطوار حلَّ فيها نوع
من التنظيم المتطور. والتنظيم عادة لا يأتي إلا لضبط حالة سابقة من
الفوضى وانعدام النظام. ولعل نظام عائلة قرابة الدم هو الشكل الأول
الذي ورث وضع الفوضى البدئية. فوفق هذا النظام تنقسم الجماعات
الزواجية حسب الأجيال، فنجد جميع الجدود والجدات في نطاق القبيلة
أزواجًا فيما بينهم، وكذلك الأمر فيما يتعلق بأولادهم؛ أي الآباء
والأمهات؛ بينما يشكل أولاد هؤلاء الأخيرين الحلقة الثالثة في حلقة
الجماعات الزواجية. وهكذا نجد أن هذا الشكل قد حرم العلاقة الجنسية
بين الآباء والأبناء، من دون الإخوة والأخوات. ثم جاءت الخطوة
التالية لتحرم العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات. وهذا ما أدى
إلى تفتيت المشاعات القديمة وظهور عائلات زواجية أضيق، حيث كانت
مجموعة من الإخوة من أمٍّ واحدة تدخل في علاقة زواج مشترك مع عددٍ
معين من النساء لا يوجد بينهن أخوات لهم، والعكس صحيح. عن هذا
الشكل الثالث للعائلة القديمة نشأت أشكال فرعية وتنويعات متعددة،
وكلها تبيح العلاقة الجنسية بين شريحتين واسعتين من دون الإخوة
والأخوات المباشرين، أو عبر خطوط القرابة المنحرفة. وبما أنه في كل
هذه الجماعات الزواجية لا يمكن معرفة والد الطفل؛ فقد كان الأولاد
ينتسبون لأمهاتهم ويُعرف كل واحد بأمه لا بأبيه. وهذا ما أطلق عليه
الباحثون اسم «حق الأم»، الذي يشمل انتساب الولد لأمه وما ينشأ عن
ذلك من علاقات وحقوق اجتماعية واقتصادية مختلفة. أمَّا الشكل
الرابع من أشكال العائلة؛ فهو العائلة الثنائية التي بدأت
بالتكوُّن تدريجيًّا داخل الشكل السابق، حيث كان لكل رجل زوجة
رئيسية داخل مجموعة الزوجات، يساكنها فترة تطول وتقصر، وكان
بالنسبة إليها الزوج الأساسي في عداد أزواج كثيرين. وقد تحولت هذه
المساكنة الطويلة إلى زواج ثنائي وعائلة صغيرة مؤلفة من زوجين
وأبنائهما المباشرين. في هذا الزواج الثنائي حافظت المرأة على
وضعها المتميز السابق، فكانت حرة في فصل الزواج متى شاءت، فيعود
الأولاد إليها لا إلى الزوج الذي يخرج من البيت صفر اليدين. كما
بقي الأولاد ينتسبون إلى أمهم وعشيرتهم، لا إلى أبيهم الذي كان
يُنظر إليه دومًا كغريب. وبناء على «حق الأم» لم يكن الأبناء يرثون
ثروة آبائهم؛ بل يرثون عن أمهاتهم على قدم المساواة مع بقية
أقربائهم بالدم، أمَّا تركة الأب وممتلكاته فكانت تذهب إلى إخوته
وأقربائه بالدم. إلا أنه مع تزايد الثروات بتأثير حياة الاستقرار
والزراعة، كان مركز الزوج الاقتصادي يتدعم باستمرار على حساب مركز
الزوجة، وثرواته وممتلكاته تتزايد، الأمر الذي أدى بجماعة الذكور
إلى التفكير جديًّا بقلب نظام الوراثة القديم لصالح أولادهم. وقد
نجحوا في ذلك خلال المرحلة الأخيرة السابقة لظهور المدن الأولى،
حيث أفلح الرجل أخيرًا في القضاء على «حق الأم» وإحلال «حق الأب»،
وظهرت العائلة الأحادية التي تقوم على سيادة الرجل مع الرغبة
الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها من أجل
تمليكهم وتوريثهم. فكان إسقاط حق الأم هزيمةً تاريخية عالمية للجنس
النسائي، ابتدأ مع تاريخ استذلال المرأة واستعبادها.
١٠
إلا أنَّ الجنس النسائي لم يُهزم دون مقاومة. ورغم أن التاريخ لم
يحفظ لنا آثار ونتائج الصدام المباشر بين الجنسين، والذي حصل ولا
شك في زمنٍ ما عند أعتاب التاريخ المكتوب، إلا أن الأسطورة تستطيع
تزويدنا بكثير من المعلومات في هذا الصدد. فالأسطورة في بعض
جوانبها ذاكرة الإنسانية، فيها تُحفظ الأحداث طريَّة غضة بشكل رمزي
لا يتطلب فهمه سوى الإمساك بمفاتيح التفسير. من الأساطير المتعددة
التي تشير إلى صراع الجنسين، سنأتي على ذكر أكثرها شهرة، وهي
الأسطورة الإغريقية عن «النساء الأمازونيات». فالأمازونيات وفق
الرواية الإغريقية كنَّ قبيلة من النساء المحاربات، أتين من شواطئ
البحر الأسود وسكنَّ عند تخوم بلاد الإغريق، فأسَّسن عددًا من
المدن تحكمها ملكة، وتتعبد للإلهة «أرتميس». وبسبب عداوتهنَّ
للرجال كان مجتمع الأمازونيات وقفًا على النساء وحدهن، اللواتي إذا
أردن الإنجاب أتين بلادًا مجاورة فضاجعن رجالها وعُدْنَ من حيث
أتين، حتى إذا وضعن مواليدهن قتلن الذكور في المهد وأبقين على
الإناث، اللواتي تتم تربيتهنَّ منذ الصغر على فنون الحرب وكره
الرجال. ويقال إنهنَّ كنَّ يقطعن النهد الأيمن في صدورهن ليستطعن
استعمال القوس بسهولة. وتنسب الأساطير إلى هؤلاء بناء عدد من المدن
بعيدًا عن موطنهن الأصلي؛ منها مدينة إفسوس في آسيا الصغرى، وبافوس
في قبرص. كما يَدَّعي أكثر من بطل أسطوري إغريقي قتالهن منفردًا
والقضاء على ملكتهن. من هؤلاء هرقل وثيسيوس.
١١ إن هذه الأسطورة لتدل على أن المرأة في إحساسها بالوضع
المهين الذي أخذت بالانحدار إليه على يد الرجل قد فضلَّت، في لحظةٍ
ما من التاريخ، فصْمَ المجتمع والاستقلال بذاتها؛ سعيًا وراء حياة
أسمى وأنقى وأكثر حرية وكرامة، وراحت تدافع بضراوة عن مكتسباتها،
متحولة ولو بشكلٍ مؤقت عن طبيعتها المسالمة وغريزتها الأمومية، في
سبيل نقاء القيم الأنثوية الأصلية ونبالتها. وإن شيوع هذه الأسطورة
خارج الثقافة الإغريقية، ووجود شبيهاتها لدى حضارات أخرى، ليدل على
حدوث ذلك الصدام في المجتمعات البشرية في زمنٍ ما من تاريخها، وعلى
رد الفعل الطبيعي لدى المرأة تجاه المحاولات الأولى لاستعبادها.
١٢
إن كثيرًا من أساطير الشعوب تحتوي عناصر تاريخية واضحة تشير إلى
الانقلاب الذَّكَري الكبير، وإحلال حق الأب محل حق الأم. ولسوف
نتعرض إلى الكثير منها خلال الفصول القادمة، ولذا سأكتفي هنا بذكر
الأسطورة الإغريقية حول أصل مدينة أثينا. ففي صباح أحد الأيام،
وقبل أن يطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاقَ أهل المدينة
على حادث عجيب؛ فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون
ضخمة، لم يروا لها شبيهًا من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف
الأرض نبع ماء غزير لم يكن هناك البارحة، وقد أدرك الناس أن وراء
ذلك سرًّا إلهيًّا ورسالة تأتي من الغيب. فأرسل الملك إلى معبد
دلفي يستطلع عرافته الأمر ويطلب منها تفسيرًا. فجاءه في الجواب أن
شجرة الزيتون هي الإلهة أثينا، وأن نبعة الماء هي الإله بوسيدون،
وأن الإلهين يخيِّران أهل المدينة في أي من الاسمين يطلقون على
مدينتهم. عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوتت
النساء إلى جانب أثينا، وصوَّت الرجال إلى جانب بوسيدون. ولما كان
عدد النساء أكبر من عدد الرجال كانت الغلبة لهن، وتم إطلاق اسم
الإلهة أثينا على المدينة. وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة
العاتية فغطت أراضي أثينا وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت دون
زراعة التربة وجني المحصول. ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض رجال
المدينة على نسائها ثلاث عقوبات: أولًا لن يتمتعن بحق التصويت
العام بعد اليوم. وثانيًا لن ينتسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم
بل لآبائهم. وثالثًا لن تحمل النساء لقب الأثينيات، ويبقى ذلك
وقفًا على الرجال.
١٣ إن أيَّ نص تاريخي موثَّق صحيح الإسناد وفق المنهج
التاريخي الصارم، لا يمكن أن يحمل من صدق الخبر ما تحمله هذه
الأسطورة التي تؤرخ فعلًا لانتزاع حقوق المرأة المدنية والسياسية
والاجتماعية عند جذور التاريخ الإغريقي.
إلا أن المجتمع الأمومي لم يندثر تمامًا بحلول المجتمع الأبوي،
بل استمر كثيرٌ من قيمه سائدًا في بعض المجتمعات الجديدة إلى فترة
متأخرة من تاريخها. ففي المجتمع المصري بقيت لمسات الثقافة
الأمومية واضحة عليه طيلة تاريخه الطويل الذي استمر قرابة أربعة
آلاف سنة. كان كرسي الملك ينتقل عبر سلسلة النسب الأمومي لا النسب
الأبوي، وكل أميرة هي وارثة طبيعية للعرش. لذا كان على الفرعون
الجديد أن يتزوج من وارثة العرش لتثبيت حقه فيه. والشيء نفسه فيما
يتعلق بوراثة الممتلكات المادية لدى جميع طبقات الشعب، فكانت هذه
الممتلكات تنتقل إلى البنات لا إلى الأبناء. وهذا ما رسَّخ زواج
الإخوة من أجل الحفاظ على العرش ضمن الأسرة المالكة، والحفاظ على
ممتلكات العائلة الواحدة من الخروج إلى أيدي الغرباء. أما دور
المرأة ومكانتها في العائلة والمجتمع، فلم تتغير كثيرًا عما كانت
في العصور الأمومية، وتوضح عقود الزواج التي وصلت إلينا من فترات
مختلفة من تاريخ الثقافة المصرية وضع المرأة الحقيقي. ففي أحد صكوك
الزواج الذي يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، يقول الزوج
موجهًا كلامه إلى سيدة المستقبل: «منذ اليوم أقرُّ لك بجميع الحقوق
الزوجية، ومنذ اليوم لن أفوه بكلمةٍ تعارض هذه الحقوق. لن أقول
أمام الناس بأنك زوجة لي؛ بل سأقول بأنني زوجٌ لك. منذ اليوم لن
أعارض لك رأيًا، وتكونين حرة في غدوِّك ورواحك دون ممانعةٍ مني.
كلُّ ممتلكات بيتك لكِ وحدكِ، وكل ما يأتيني أضعه بين يديك …» وبعد
ألفي عام من هذا الصك، نجد المرأة في صكٍّ آخر يرجع تاريخه إلى
الفترة البطلمية تقول لزوج المستقبل: «إذا تركتك في المستقبل لكرهي
لك أو لمحبتي رجلًا آخر، فإنني أتعهد أن أدفع لك مكيالين ونصفًا من
الفضة، وأعيد إليك هدايا الزواج.» في هذه العائلة القائمة على
سيادة المرأة كان الأطفال في مصر ينتسبون لأمهاتهم، ويعودون إليها
في حال الانفصال؛ لذلك لم يكن مفهوم الطفل غير الشرعي معروفًا، ولم
يكن هناك فرق بين الطفل المولود ضمن مؤسسة الزواج، وبين الطفل
المولود خارجها.
١٤
وفي جزيرة كريت الموطن التقليدي للثقافة الأمومية، استمرت القيم
العشتارية محركًا أساسيًّا للمجتمع، منذ أن هبط إليها المهاجرون
الأُول قادمين من المراكز النيوليتية في الشرق الأدنى خلال الألف
الخامس، وحتى انهيارها أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. فالأعمال
التشكيلية التي وصلت إلينا من فترة ازدهار الحضارة الكريتية، كانت
في غالبيتها تتخذ المرأة موضوعًا رئيسيًّا لها. فبالإضافة إلى رسوم
وتماثيل الأم الكبرى التي لم يعبد الكريتيون سواها طيلة تاريخهم،
كانت الأعمال التشكيلية الأخرى تصور المرأة في أبهى وضع وحُلَّة؛
فهي إمَّا سيدة قصر، أو أميرة، أو راكبة عربات منطلقة تسوقها نسوة
لا رجال. أمَّا الأعمال التي كان الرجال موضوعًا لها أو جزءًا من
موضوعها، فكانت تصوِّر أولئك الرجال كجنود أو موسيقيين أو
حصَّادين، أو سقاة وحملة أكواب، ولم يتم العثور على أعمالٍ تصوِّر
الرجال كحكام ومتنفِّذين وما إلى ذلك من المهن العالية. وفي ذلك
دلالة واضحة على ما تمتعت به المرأة من مكانة في ذلك المجتمع الذي
استمر فيه «حق الأم» مؤثرًا شأن المجتمع المصري. فحبل النسب هنا
أيضًا كان مرتبطًا بالأم لا بالأب، وكانت المرأة مساوية للرجل في
جميع الحقوق والواجبات التي ينص عليها عقد الزواج، فإذا انفصم
الزواج لرغبة أحد الطرفين عاد للمرأة أولادها وأموالها، ونشأ
الأولاد تحت رعايتها وحماية أخيها الذي يلعب، منذ البداية وقبل
انفصام الزواج دورًا أساسيًّا في تربيتهم والاهتمام بهم؛ لأن صلة
الأخ بأولاد أخته في المجتمع الأمومي لا تقل، إن لم تَزِدْ، على
صلة الأب.
١٥
ويقدم لنا المجتمع الإسبارطي في مطلع عهده صورة عن استمرار «حق
الأم» في فجر الحضارة اليونانية. فالمرأة الإسبارطية لم تكن مطالبة
بالحفاظ على عذريتها قبل الزواج، وكان الأطفال المولودون خارج
مؤسسة الزواج يُدعون بأطفال «الميلاد العذري»، ويتمتعون بالوضعية
الاجتماعية نفسها التي يتمتع بها الأطفال الآخرون. وكانت نساء
إسبارطة في مطلع عهدها كما يروي «بلوتارخ»، يعلون على رجالها في كل
المجالات العامة والخاصة. أمَّا في المستوطنات الإغريقية التي
استقر بها الإغريق خارج موطنهم في وقت مبكر، فإن حق الأم هناك لم
يتأثر كثيرًا بالتبدلات الحاصلة في الوطن الأصلي، واستمر الأولاد
ينتسبون لأمهاتهم، وبقيت المرأة حرة في حياتها الجنسية وفي اختيار
زوجها وتركه أنَّى شاءت.
١٦
وفي بابل وفينيقيا لم يستطع الرجل وحتى فترات متأخرة من تاريخ
المجتمع الذكري هنا، أن يضع تحت وصايته حياة المرأة الجنسية قبل
الزواج؛ فكانت بكارة المرأة ملكًا للإلهة عشتار، لا لزوجها المقبل.
وكانت تهب عذريتها في المعبد، حيث تمارس الجنس المقدس تحت رعاية
الإلهة قبل أن تلتزم حياة الزوجية.
١٧ وفي أوروبا عند الفتح الروماني الذي ساعد على ترسيخ
القيم الذكرية، كانت آثار القيم الأمومية باقية هناك. فعند السلت
الذين ازدهرت حضارتهم في أيرلندا وبعض أجزاء الجزر البريطانية
والبر الأوروبي، كانت المرأة سيدة نفسها تختار زوجها وتترك مؤسسة
الزواج أنَّى شاءت، وكذلك الأمر في بلاد الغال، فإذا أرادت المرأة
الغاليَّة الزواج دعتْ جميع الشبان الراغبين فيها إلى مأدبة عامرة،
فإذا أكل الجميع وشربوا قامت بتقديم كأس من الشراب لمن وقع عليه اختيارها.
١٨
ليست هذه الأمثلة إلا غيضًا من فيضٍ. فعند جذور الحضارات جميعًا،
من اليابان شرقًا، وحتى مجتمعات الهنود الحمر غربًا، عثر الباحثون
على الأساسات الأمومية التي قامت عليها المجتمعات الذكرية الحديثة.
وفي الحقيقة فإن فهم الثقافة الأمومية بقيمها ومبادئها وحق الأم
السائد فيها، هو نقطة الانطلاق لفهم الإلهة الأم التي كانت بالنسبة
لإنسان تلك العصور الإلهة الأولى وربما الوحيدة.
الأم الكبرى
كانت تماثيل عشتار أول عمل فني تشكيلي صاغه الإنسان على شاكلته،
مجسدة أول معبوداته. فمنذ أن اعتدل جسد الإنسان منسلخًا عن شكله
النياندارتالي ذي القامة المنحنية، كانت عشتار – الأم الكبرى له
إلهًا، وطفق يصنع لها تماثيل انتشرت من أقاصي سيبيريا إلى شواطئ
المحيط الأطلسي. لم تكن تلك الأعمال الفنية نتاج ولع فني جمالي
بمقدار ما كانت نتاج حس ديني، وخبرة أولى مع الحضور الإلهي؛ ذلك أن
الأسلوب الذي صُنعت به، والمعتمد على تحوير فني مبالغ فيه، يجعلها
أبعد ما تكون عن تصوير شخصيات واقعية تنتمي للأجناس التي ظهرت
بينها. فهي، كما اتفق الدارسون من شتى الاختصاصات، رموز لكائنات
فوق طبيعية كانت محل عبادة الإنسان الأول.
١٩
تُظهر تماثيل الأم الكبرى
سمات متشابهة، في جميع مراكز الثقافة الباليوليتية؛ فالرأس عبارة
عن كتلة غير متمايزة الملامح ترتكز على الجذع مباشرة أو بواسطة
رقبة قصيرة. والكتفان دقيقتان أو منحدرتان بطريقة تبعد الذهن عن أي
مفهوم للقوة بمعناها الذَّكَري، والذراعان نحيلتان جدًّا ترتكزان
على الصدر أو البطن، فتوحيان بعدم جدواهما للفعل الإرادي، وقد يقوم
الفنان بمجرد الإشارة إليهما دون العناية بإظهارهما كعضو تشريحي
كامل. والساقان في جزئهما الأسفل ضعيفتان وقصيرتان وتنتهيان بقدمين
صغيرتين. أما المنطقة الأساسية في كل تلك التماثيل، فمنطقة الثديين
والبطن والحوض وأعلى الفخذين، التي تشكل معًا كتلة ممتلئة عُنِي
الفنان بإظهار وتضخيم كل جزء فيها بطريقة تبدو معها بقية الأعضاء
وكأنها رُسمت لتُظهر ما لهذه الكتلة من أهمية قصوى. فالثديان عبارة
عن كتلتين هائلتين مستديرتين، والبطن منتفخ في إشارة لحمل أبدي،
والردف ثقيل، والوركان قويان بارزان، ومثلث الأنوثة منتفخ يشكل مع
أعلى الفخذين وحدة متماسكة. وقد يتدلى الثديان ليشكلا مع البطن
والوركين تكوينًا واحدًا متراصًّا تتجمع فيه هذه الرموز في بؤرةٍ
واحدةٍ هي مستودع الخلق (الشكلان
٢-١،
٢-٢).
في هذه الأشكال يُثَبِّت الفنان كل ما له علاقة بالخصب والفيض
التلقائي الطبيعي، ويهمل ما له علاقة بالتصميم والتدبير والفعل
الإرادي المباشر. وهو بذلك إنما يعطي خلاصة تأملاته في القوة
الإلهية التي تصدر عنها الأشياء دون قصدٍ كما تصدر الحياة عن
المرأة. فخلف ظواهر الطبيعة المتبدية، هناك سر كلي أعظم هو أصل لها
ومبدأ، وروح شمولية هي وراء الزمان والمكان، ومع ذلك تنحل إلى كل
شكل في الزمان وفي المكان، قدرة إلهية تبدو كأم وأنثى كونية
متطابقة مع نظام الطبيعة لا متعالية عليه فاعلة فيه عن بعدٍ، كما
صار شأن الإله الذكر فيما بعد حين تخيل العالم فكرة، ثم نطقه كلمة،
ثم سوَّاه وهذبه وشذبه وقبع وراءه منفصلًا عنه مسيرًا له.
ففي البدء عشتار ولا أحد معها، أمومة تنطوي على المبادئ الأولى،
ثم تبدت فخلقت وأعطت. وكما تنقسم الأنثى دون أن تفكر وتدبر، كذلك
تحولت أمومة عشتار الكامنة إلى كل شيء حي وجامد، فكان ما صدر عنها
جزءًا منها غير منفصل ولا مفارق، نتاج جسدها في حركته التلقائية،
لا نتاج ذهنها في حركته المجردة، أو نتاج إرادتها المستقلة
الفاعلة. وكما تتغذى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها وعلى
جسدها وفي أحضانها، وكما يعطي هذا الجسد حليبًا ينبثق منه بشكل
سحري معجز، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئًا وأمنًا وسكنًا،
كذلك هي الأم الكبرى. عنها انبثقت الحياة على المستوى الشمولي
وعليها تتغذى وتستمر.
ولعل مما يدعم القيمة الدينية والرمزية لهذه الأعمال الفنية أن
من بين الستين عملًا نحتيًّا التي وصلتنا من العصر الباليوليتي،
هناك خمسة وخمسون منها مكرسة لأشباه هذه الأشكال، وخمسة أعمال فقط
تمثل أشكالًا ذكرية منفَّذة بشكل سيئ يدل على عدم الاهتمام، وعلى
عدم تمثيلها لهيئات إلهية، كما هو حال الأشكال الأنثوية. وهذا يتفق
مع حقيقة أن الإله المذكر لم يظهر إلا في الفترات المتأخرة،
مبتدئًا عهده كابنٍ للأم الكبرى.
٢٠
عندما خفتت نبضات المراكز الثقافية للعصر الباليوليتي، أعطت تلك
المراكز طاقتها لنبض واحد قوي مركزه الشرق الأدنى القديم. وانتقلت
عشتار إلى مستقرات الإنسان الأولى في سوريا، حيث بدأت تماثيلها
الطينية الصغيرة تظهر عند عتبات العصر النيوليتي، عصر الزراعة.
فإذا كانت الأم الكبرى للعصر الباليوليتي تمثل الطبيعة البكر
بمياهها وأمطارها ومروجها وشجرها وعواصفها وبرقها ورعدها، فإن
عشتار العصر النيوليتي ستغدو إلهة الطبيعة المنظمة التي تتعهدها يد
الإنسان ويساهم جهده في توجيه غاياتها، دون أن تفقد خصائصها
الأولى. إنها الآن سيدة الدورة الزراعية ومركزٌ للديانة الزراعية
الأولى التي ستغدو مصدرًا للديانات اللاحقة. وكما كانت عشتار سيدة
مطلقة للعصر الباليوليتي، كذلك ستغدو سيدة مطلقة للعصر النيوليتي
في حقبته الأولى ما قبل الفخارية، خلال الألفين الثامن والسابع قبل
الميلاد. ومنذ الألف السادس قبل الميلاد سيبدأ الإله الابن ظهوره
معها، وتبدأ الأعمال التشكيلية في رسمهما معًا بعد أن كانت وقفًا
على الأم وحدها.
حافظت تماثيل عشتار في العصر النيوليتي على كثير من خصائص تماثيل
عشتار العصر الباليوليتي، وذلك من حيث التركيز على مناطق الخصوبة
وإبرازها في مقابل بقية الأعضاء (الأشكال
٢-٣،
٢-٤،
٢-٥). كما ظهرت
منذ مطلع الألف الثامن الوضعية التي غدت كلاسيكية فيما بعد، وهي
وضعية عشتار الممسكة بثدييها العاريين (الشكل
٢-٤)، والتي سنجدها خلال الفترات اللاحقة لدى كل ثقافات الشرق
القديم تقريبًا كرمز لخصب الإلهة الأم. ولقد أعطتنا التنقيبات
الأثرية في مواقع الألف الثامن والألف السابع (وبعضها ما زال
جاريًا اليوم) الكثير من هذه التماثيل، كما هو الأمر في المنحطة
والبيضا في الأردن، وأريحا ووادي فلاح والخيام في فلسطين، وتل أسود
وتل رماد وتل المريبط في سوريا، وشتال حيوك وهيجيلار في جنوب
الأناضول وغيرها.
وهذا يدل على أن عبادات الشرق القديم في تلك الفترة إنما كانت
تنويعات على أرضية مشتركة. هذه الأرضية المشتركة هي ما نعنيه
بمصطلح «الديانة المركزية».
وخلال العصر النيوليتي، نضجت في سوريا الرموز التشكيلية الخاصة
بالأم الكبرى، وهي الرموز التي انتقلت معها بانتقال ديانتها
النيوليتية إلى الأصقاع الأخرى. من تلك الرموز: الصليب المعكوف
(السواستيكا) والصليب العادي، اللذان استمرا رمزين مقدسين في
الديانات العشتارية والديانات الذكرية على السواء، وصولًا إلى
السيد المسيح وأمه مريم آخر أم كبرى في الديانات البشرية. وما زال
الصليب المعكوف رمزًا مقدسًا لدى الهندوسية في الهند والبوذية في
الشرق الأقصى، كما وجد في نقوش ورسوم الهنود الحمر في أمريكا. وليس
صليب النازية إلا إحياء لتقليد قديم من تقاليد القبائل التوتونية
التي تحدَّر منها الألمان. ومن الرموز الأولى الفأس المزدوج، رمز
الصاعقة، الذي حفلت به بشكل خاص حضارة تل حلف، والذي سوف نراه في
كثيرٍ من رسوم الأم الكبرى في حضارة كريت ومطلع الحضارة الإغريقية
(الشكل
٢-١٤).
وقد رسم الفنان النيوليتي مع مطلع الفخار هذه الرموز في وحدات
زخرفية تجريدية، وبأسلوب فني ما زالت جماليته وقواعده سارية إلى
يومنا هذا. فإذا كان فنان العصر الباليوليتي لم يُعنَ قط بإبراز
حيز استاتيكي يجمع في داخله عناصر متباينة في وحدة جمالية مترابطة
وإيقاع منتظم، فإن الفنان النيوليتي، وابتداء من حضارة تل حلف
وسامراء، قد ابتكر ولأول مرة العمل الفني الجيومتري المتكامل ذا
الوحدات التجريدية المترابطة في كل موحد (الشكلان
٢-٨،
٢-٩).
إلى جانب الرموز التجريدية؛ فقد ارتبطت بالأم الكبرى رموز
حيوانية لا يخلو عمل تشكيلي من واحدٍ منها؛ أهمها الحمامة،
والأفعى، والثور. وسوف نلقي أضواء على هذه الرموز كلٍّ في حينه.
ولقد انتقلت مجموعة الرموز هذه مع انتقال عبادة الأم النيوليتية
إلى الثقافات الأخرى، فانتقلت أولًا إلى كريت، ومن هناك نقلتها
السفن عبر مضيق جبل طارق شمالًا حتى الجزر البريطانية، وجنوبًا على
طول الشاطئ الأفريقي. ومن كريت أيضًا إلى ميسينا وهي أول مدينة
متحضرة على الأرض اليونانية. ومن ميسينا تخللت الثقافتين الإغريقية
والرومانية. ومن الهلال الخصيب وصلت مجموعة الرموز هذه إلى مصر منذ
مطلع الألف الرابع قبل الميلاد، كذلك اتجهت شرقًا نحو آسيا وصولًا
إلى أقصى أصقاع المعمورة جنبًا إلى جنبٍ مع الديانة العشتارية.
٢١
ومنذ أن تعلم الإنسان
النيوليتي صناعة الجرار الفخارية، انضم الإناء الفخاري إلى جملة
رموز الأم الكبرى؛
٢٢ ذلك أن الجسد الأنثوي هو أشبه بالوعاء السحري الذي
يتحول في داخله الدم إلى حليب يتفجَّر من فوهة الثدي، وبالمستودع
الذي تختمر في ظلماته بذور الحياة لتنطلق من بوابة الرحم. وجسد
الأنثى الكونية هو الجرة الفخارية التي تحتوي على نعم الحياة
وأسبابها ثم تطلقها نحو الخارج. وقد انتقلت تقاليد صناعة الجرار
المقدسة من العصور النيوليتية التي حفلت بها إلى عصور الكتابة،
وتعددت أنماط صياغتها ومعظمها يعير الجرة المقدسة الأثداء الأنوثية
التي هي مركز العطاء في جسد المرأة؛ فقد تصنع الجرة على هيئة جسم
كروي ذي عنق قصير، يليه ثديان وسرة واضحة، أو على هيئة كتلة مؤلفة
من أربعة أثداء متقابلة، أو جسم تطاول في أعلاه ثديان عند الصدر،
تليهما عشرات الأثداء التي تغطي الجسم كله. وقد تُزيَّن السرة
بصليب عادي أو سواستيكا (صليب معكوف). والسرة هنا ذات قيمة رمزية
كبيرة؛ لأن سرة عشتار هي مركز الكون، ومعبدها هو سرة الأرض. وفيما
بعد صار لرمز السرة الإلهية هذا شأنٌ في الديانات الذَّكَرية؛ حيث
صار كل شعب ينظر إلى معبد إلهه الرئيسي على أنه سرة الأرض. كذلك
كان معبد أبولُّو في دلفي سرة الأرض بالنسبة لليونان، وهيكل سليمان
في أورشليم بالنسبة للعبرانيين، والكعبة بالنسبة للعرب. هذا ونجد
عشتار نفسها في العديد من رسومها ومنحوتاتها تحمل بيدها جرة فخارية
يميل عنقها قليلًا نحو الأمام؛ من ذلك التمثال المعروف باسم ربة
الينبوع المحفوظ في متحف مدينة حلب، والذي يمثل عشتار مدينة ماري
السورية. ويعتبر هذا التمثال أحد أجمل الأعمال الفنية التي تركتها
الحضارات القديمة.
وقد كان للقيمة الرمزية للجرة الفخارية أثر في تكوين بعض عادات
الدفن؛ ففي فلسطين تمَّ العثور على جرار فخارية استُعملت كتوابيت
للموتى منذ الألف الخامس قبل الميلاد، حيث تكورت الهياكل العظمية
على نفسها متخذة وضعية الجنين في رحم أمه. فالجرة الفخارية هي
الرحم الذي يطلق الإنسان إلى الحياة، والرحم الذي يستعيده إليه
ثانية بعد الممات. كما شاعت عادة دفن الموتى أو دفن رمادهم في
الجرار، وذلك في مناطق كثيرة خلال العصر البرونزي؛ منها جزر بحر
إيجه، وآسيا الصغرى، وإيطاليا، ومناطق متعددة من أوروبا. ونجدها
أيضًا في أمريكا الجنوبية.
٢٣ كما صار للجرار المقدسة قيمة طقسية كبيرة لدى العديد
من ديانات عصور الكتابة. من ذلك مثلًا الجرار الفخارية التي كانت
تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار، سيدة الشعلة في
روما. ومن ذلك الجرة المقدسة التي كان يحفظها العبرانيون داخل
تابوت العهد مع لوحَي الوصايا اللذين تلقَّاهما موسى من يهوه،
والتي اعتقدوا أنها تحتوي على بعض من المنِّ الذي نزل عليهم من
السماء أثناء تيههم في صحراء سيناء،
٢٤ إلا أن مريم العذراء قد أعادت لهذه الجرة العبرانية
المقدسة صلتها المباشرة بالأم الكبرى. فبالإضافة إلى كون مريم
الوعاء الذي احتوى على الإله الكوني نفسه، فإنها الجرة التي تهب
البشر حياة وغذاء؛ حيث نقرأ في بعض مدائحها: «السلام عليك يا جرة
تحوي المن المُحلي حواس الأنقياء، السلام عليك يا غذاءً يقوم بدل المن.»
٢٥
وبعد، إذا كانت الأم الكبرى هي مصدر الأشياء وسند الأحياء،
ومالئة الكون بالخصب وأسباب النماء؛ فإن هذه الصورة التجريدية لم
تتعارض في ذهن الإنسان القديم مع صور أخرى مشخصة ومعاينة للأم
الكبرى. فإذا كان الكون بكليته يشكِّل تبدِّيًا في الزمان والمكان
لها، فإن أي جزء من هذا الكون، في حد ذاته، وفي اعتبار ماهيته، هو
… هي. فقبة السماء الزرقاء التي تنشر غطاءها فوق الأرض هي الأم
الكبرى، ورداء الليل المعتم الذي يبدو بلا أطراف هو الأم الكبرى،
والبحر الذي يصدر عن مياه أزلية لا نهاية لها في الامتداد هو الأم
الكبرى. إن ذهن الإنسان القديم قادر على التجسيد قدرته على
التجريد. والعالمان عنده متداخلان تتحرك بينهما الحدود وتنمحي
السدود؛ لا المادي منفصل عن الإلهي، ولا الإلهي يعلو على المادي،
كلاهما يعكس الآخر في مرآته. ولعل أكثر مظاهر الكون تجسيدًا للأم
الكبرى، كانت الأرض. فالأرض هي الأم الحقيقية للإنسان ولجميع مظاهر
الحياة عليها، من بطنها يخرج عشبًا وزرعًا وشجرًا، حياة للإنسان
والحيوان، ومن أعماقها تتفجر ينابيع المياه، وعلى سطحها تسيل مجاري
الأنهار. يلتصق بها الإنسان في حياته ويعود إلى جوفها في مماته. من
هنا كانت تماثيل عشتار توضح صلتها هذه بالأرض، وخصوصًا تلك
التماثيل التي تُظهرها في وضعية الجلوس، حيث يشكل الردف والساقان
المطويان تحته أو المنبسطان، تكوينًا مندمجًا على هيئة قاعدة
مستقرة على الأرض، تعطي الناظر إحساسًا بالوحدة بين التمثال
والأرض، وذوبان الواحد في الآخر (الشكل
٢-٥).
وفي تماثيل عشتار الواقفة نجد أن الشكل كله متمركز حول محورٍ ثقله
يتجه نحو الأرض. وقد تزود التماثيل تحت الورك مباشرة بقاعدة مستوية
مستقرة على الأرض. ولعل هذه التمثيلات التشكيلية هي أصل الإشارة
إلى الأم الكبرى على أنها الجبل، ذلك الجزء من الأرض المرتكز فوقها
بكل عظمة وجلال، المتصل معها في وحدة عضوية. إن العمل الفني الموضح
في (الشكل
٢-١٢) لذو دلالة عميقة في هذا
المجال، حيث نجد الأم الكريتية وقد ذاب جزؤها الأسفل في الجبل الذي
يشكل قاعدة مخروطية لها، بينما يشكل جزؤها الأعلى قمة ذلك الجبل.
ومثل الجبل في الدلالة على الأرض: الصخر والحجر المنتزع من الأرض.
لذا كان للأم الكبرى في العديد من الثقافات حجر مقدس تُعبد من
خلاله، كما هو الحال في حجر عستارت الأسود في فينيقيا، وحجر سيبيل
في الأناضول، وحجر اللات في الطائف.
الأم الكبرى لعصور الكتابة
منذ البدايات الأولى للثورة المدينية تتزايد الأعمال الفنية
المخصصة لتمثيل الآلهة الذكور، ويأخذ الفن الديني، الذي كان وقفًا
على عشتار وحدها، ثم على عشتار وابنها، في معاجلة موضوعات مقدسة
أخرى طيلة أربعة آلاف عام، قبل أن يعود فيقتصر على الأم والابن في
الأيقونات البيزنطية المسيحية. إلا أن تماثيل الأم الكبرى ورسومها
تستمر في خط فني متواصل مع المرحلة النيوليتية، ولكن مع تطويرات
استاتيكية استدعتها طبيعة العصر. فجسم الإلهة يغدو أكثر رشاقة
وتناسقًا، وتختفي المبالغات والتحويرات الرمزية، مع استمرار
التأكيد على مناطق الخصوبة، إلا أن هذا التأكيد يتبع أسلوبًا
مختلفًا لا تحوير فيه ولا تضخيم، بحيث تشد هذه المناطق النظر دون
أن تبدو في تنافرٍ مع بقية أعضاء الجسم. والتمثال الموضح في الشكل
(
٢-١٣) هو نموذج على ذلك، فيه نجد عشتار
البابلية واقفة بكل جمال الأمومية وجلالها، مسندة ثدييها بكفيها في
وضع بذل وعطاء. ويبدو هذا العمل وكأنه بالفعل تطوير لتمثال تل
المريبط الموضح في الشكل (
٢-٤)، والذي تفصله
عنه ستة آلاف عام.
إلا أنه رغم التفتت الذي عانته صورة الأم الكبرى على نطاق الدين
الرسمي للدولة؛ فقد حافظت على سماتها القديمة داخل مؤسسة العبادة
العشتارية، وفي قلوب الناس العاديين الذين تعبَّدوا للآلهة
السماوية تعبُّد خوف، وتابعوا تعبُّدهم للأم الكبرى تعبُّد محبة.
ففي سومر التي شهدت أول مجمع لآلهة الذكور برئاسة إله السماء «آن»،
الذي ادَّعى لنفسه معظم خصائص الأم الأولى الخالقة، بقيت أساطير
الأم الكبرى وأناشيدها وصلواتها تشير إلى مقامها الذي لا يعلو عليه
أحد.
تقول صلاة مرفوعة إلى «إنانا» ربة الطبيعة وخصب الأرض ودورة
الزراعة والتكاثر: «سيدة النواميس الكونية، أيها النور المشع، يا
واهبة الحياة وحبيبة البشر، أنت أعظم من كبير الآلهة آن، وأعظم من
الأم التي ولدتك. يا مليكة البلاد الحكيمة العارفة، يا مكثرة المخلوقات.»
٢٦ وفي ترتيلة لعشتار البابلية نقرأ: «لك الحمد يا أرهب
الإلهات، لك الإجلال يا سيدة البشر وأعظم الآلهة. عشتار ما لها في
عظمتها قرين، بيدها مصائر الموجودات جميعًا. لها الدعاء واسمها
الأول بين الأسماء، نافذةٌ شرائعها سامية محكمة. مقامها هو الأعلى،
يسعى الآلهة إليها، ظاهرة فوقهم مطاعة الكلمات، مليكة عليهم نافذة الإرادة.»
٢٧
لم تكن إنانا وعشتار الصورتين الوحيدتين اللتين انحلت إليهما
صورة الأم السورية الكبرى في وادي الرافدين. إلا أنهما كانتا
الصورتين الرئيسيتين اللتين كان لهما عبادة منظمة ومعابد وكهنوت.
أما بقية الصور فبقيت صورًا ميثولوجية لا تلعب دورًا فعليًّا في
الديانة والأساطير الاعتقادية. ففي سومر بقيت صورة الأم الأولى
الخالقة على حالها تقريبًا دون أن تمسها الأسطورة الذكرية
بالتشويه، بل أبعدتها عن مجال العبادة والهيكل الرسمي لمجمع
الآلهة. ففي البدء كانت الإلهة «نمو» أصل الكون وأم الجيل الأول من
الآلهة. وقد تخيل السومريون
٢٨ امتدادها البدئي كمياه أولى تملأ حيز المكان قبل بدء
الزمان. ثم أنجبت هذه الأم الأولى أول كتلة متمايزة عن الماء، وهي
كتلة السماء والأرض ملتصقين في جبل بدئي تغمره المياه من كل جانب.
في داخل هذا الجبل ولد الجيل الأول من الآلهة، ثم انقسم الجبل إلى
نصفين كما الصدفة، فصار الشق الأعلى سماء وارتفع، وصار الشق الأسفل
أرضًا واستقر.
إن الجو العام لأسطورة التكوين السومرية هذه، لقريب جدًّا من جو
الأسطورة النيوليتية السابقة عليها، وإنها رغم اجتزائها لتلقي
أضواء على جوانب الأسطورة الأصل. إن ما فعله النظام الميثولوجي
للمجتمع المديني الأول هو فصل الخصائص الكونية للأم الكبرى عن
خصائصها المتعلقة بالخصب وحركة الطبيعة، فترك الأولى لاسمها «نمو»
وجعلها إلهة مرحلة تعيش في عالم المجردات بلا ظل ولا معبد ولا
ديانة منظمة، وترك الثانية لاسمها «إنانا» التي أدمجها في بانثيون
الإله الجديد برئاسة «آن»، وجعل لها نسبًا وأمًّا وأبًا في شجرة
عائلة الآلهة الذكرية.
وفي بابل نجد الشيء نفسه؛ ففي مقابل الإلهة الكونية «نمو» نجد
الإلهة الكونية «تعامة» المياه الأولى وأصل الكون وأم الجيل الأول
من الآلهة، التي تصفها الأسطورة بخالقة الأشياء جميعًا. غير أن
الفيض التلقائي الذي رأيناه في الأسطورة السومرية، التي كانت قريبة
زمنيًّا من الأسطورة النيوليتية، يتحول في الأسطورة البابلية إلى
انقسام بالإكراه والقتل يمارسه الإله مردوخ، الذكر الأسمى، على
الأم الكبرى. ففي البدء كانت الأم تعامة على شكل مياه بلا تخوم ولا
حدود؛ في أعماقها ولد الجيل الأول من الآلهة وتناسل، إلى أن خرج
جيل جديد من الآلهة الفتية، قرر التمرد على تعامة وإحلال نظام
جديد. فعقدوا اللواء لأشجعهم «مردوخ» الذي دخل في صراعٍ مميت مع
تعامة فقتلها، ثم قسم جسدها نصفين؛ فمن نصف رفع السماء، ومن نصف
ثبت الأرض. ثم أخذ بتنظيم الكون ليخرجه على صورته الحالية.
٢٩
إن إسطورة التكوين البابلية هذه، لتعترف بدور الأم الكبرى في
إخراج الكون من حيز الهيولى إلى حيز الوجود، ولكنها تجعل منه دورًا
سلبيًّا؛ لأن الأم الكبرى تغدو مادة لفعل الإله الذكر لا مصدرًا
تلقائيًّا للإشعاع، ومرحلة يتجاوزها مردوخ ليبني مجمع آلهته الجديد
على أشلاء جسدها الذي كان أصلًا خميرة الخلق، الخلق بمحبة المرأة
لا الخلق بقوة الرجل. ومن ناحيةٍ أخرى فإن قتل الأم في هذه
الأسطورة ليعكس رغبة الرجل، سيد الحضارة الجديدة، في الخروج من حضن
الطبيعة والتحكم فيها، وتوجيهها لمصلحته بعد تاريخ طويل من
الاستسلام والعيش في كنفها.
إضافة إلى تعامة التي غدتْ في الميثولوجيا البابلية إلهة — مرحلة
عاشت في الأيام الغابرة، ثم ماتت عند عتبة التاريخ، فإننا نجد في
بلاد الرافدين شكلًا آخر من أشكال الأم الكبرى، أكثر حضورًا يتمثل
في الأم — الأرض «نتو» أو «ننخرساج». فلما كان الإله الذكر لا
يستطيع الادعاء بقتل الأرض، ولو استطاع لفعل؛ فقد أضعف صورتها
الكلية القدرة وجعلها منفعلة لا فاعلة، فخصبها لا يفيض عنها بل
يأتي من خارجها، وماؤها الذي ينبع من أعماقها ويسقي تربتها لا
ينتمي إلى مملكتها بل إلى مملكة إله آخر هو «إنكي» إله الماء
العذب، الذي تجعله بعض الأساطير زوجًا لننخرساج، فنراهما يعيشان في
جنةٍ وارفة الظلال تفيض بكل شجر وثمر نتيجة لاتحاد الماء إنكي
بتربة الأرض ننخرساج. هذه الجنة البدئية هي النموذج الأول لكل أرض
مزروعة تعطي أُكلها بلقاح الماء للأرض. هذا، وقد احتفظت هذه الأم —
الأرض — ببعض خصائص الخلق القديمة، فنراها تلعب دورًا أساسيًّا في
خلق الإنسان ولكن بمعونة إنكي. نقرأ في نص بابلي طقسي كان يتلى
لتخفيف آلام الحوامل عند الوضع: «أنت عون الآلهة يا مامي الحكيمة،
أنت الرحم الأم أيتها الخالقة، اخلقي الإنسان. فقالت ننتو للآلهة
الكبار: لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي، ولكن بمعونة إنكي يخلق الإنسان.»
٣٠
وفي سوريا — كنعان وآرام — لم تعطنا الأساطير المعروفة حتى الآن
صورة عن الأم الأولى الخالقة، رغم أننا نجد بعض ملامحها في شخصية
الإله «عشيرة» زوجة إيل كبير الآلهة ورب السماء السابعة. ويبدو هنا
أن زواج إله السماء المبكر من الأم الكبرى قد ساعد على طمس وجهها
القديم ونقل خصائص الخلق كاملة إلى الإله المذكر. إلا أن الخصائص
المتعلقة بالخصب والتكاثر ودورة الزراعة تبقى في يد وريثات الأم
النيوليتية. ففي أوغاريت نجد الإلهة عناة، وفي بيبلوس ودويلات
المدن الكنعانية الفينيقية والفلسطينية نجد الإلهة عستارت التي يرد
ذكرها في التوراة تحت اسم عشتاروت، ولدى الأنباط وبعدهم التدمريون
نجد الأم الكبرى تحت اسم «اللات». هذا وقد نقل الجنود السوريون في
الفيالق الرومانية إلى الأرض الإيطالية عبادة هذه الإلهة ذات
الأسماء المتعددة، ولكن تحت اسم موحَّد هو «ديا-سوريا» أي: الإلهة السورية.
٣١
وفي مصر تظهر لعبة الأسماء بوضوح أكثر من أي مكان آخر؛ ذلك أن
الانتقال المستمر لمراكز القوة السياسية من منطقة لأخرى عبر تاريخ
مصر الطويل، وأرضها المترامية، كان يعطي الأم الكبرى في كل مرة
اسمًا جديدًا. إلا أن دارس الميثولوجيا المصرية يستطيع بسهولة، إذا
غاص قليلًا تحت القشرة الظاهرية للأساطير المختلفة، أن يدرك أكثر
من أي مكان آخر الوحدة الحقيقة لهذه الأسماء. وإن أول ما يلفت
انتباهنا في مجموعة تجليات الأم الكبرى في الميثولوجيا المصرية هو
الإلهة «نيت». فهذه الإلهة، إن لم تكن بذاتها واسمها الإلهة
النيوليتية المصرية، فإنها وريثتها المباشرة. وإلى جانبها نجد
الإله «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت».
إن شارة الإلهة «نيت» المؤلَّفة من سهمين متصالبين مرسومين على
جلد أو درع، هي ذاتها شارة قبائل الدلتا النيوليتية. ونجد أن اسمها
قد تسمَّت به أميرتان من الأسرة الأولى عند بداية التاريخ المصري.
كانت نيت أم الآلهة، وبالذات أم كبيرهم «رع» الذي أنجبته قبل أن
يكون للولادة وجود. وهي البقرة السماوية التي أنجبت السماء كأول
مظهر من مظاهر الكون. وهي التي نسجت فيما بعد مادة العالم بمغزلها.
وهي صاحبة القول الذي سقناه في الفصل الأول: «أنا ما كان وما هو
كائن وما سوف يكون، وما من أحدٍ بقادر أن يرفع عني برقعي.» هذا
وتختلط هذه الإلهة بالإلهة إيزيس في الطقوس الأوزيرية.
٣٢ أمَّا الإلهة نوت فلم تلعب دورًا في الدين والطقس، بل
بقيت إلهة — مرحلة. فهي قبة السماء المحدبة التي يتقوس ظهرها فوق
الأرض «جيب» المستلقي تحتها، وهي البقرة السماوية التي أنجبت الشمس
التي تشرق من حضنها وإلى حضنها تعود عند المغيب، أما بطنها فسقف
الكون الذي تزينه النجوم والكواكب. وبينما تأخذ نوت ونيت خصائص
الأم الكونية البدئية، تأخذ إيزيس وهاتور وسيخمت خصائصها الطبيعية
الدينامية. وهؤلاء الإلهات الثلاث لَسْنَ في حقيقة الأمر إلا
واحدة، كما سيجري تبيان ذلك في مواضع قادمة من هذا المؤلف.
فإذا انتقلنا من الشرق
الأدنى القديم نحو الغرب، عثرنا في جزيرة كريت على ظاهرة فريدة في
تاريخ الديانات القديمة؛ فكريت قد عرفت أول ثورة نيوليتية في
أوروبا، وتمت فيها أيضًا أول ثورة مدينية هناك؛ وذلك بتأثير
الهجرات الأولى النيوليتية من البر السوري والأناضولي، وبتأثير
الاحتكاك المباشر الدائم الذي استمر بين الجهتين،
٣٣ إلا أنَّ هذه الحضارة لم تعرف طيلة تاريخها سوى عبادة
الأم الكبرى وابنها، وذلك حتى نهايتها على يد البرابرة الإغريق
الذين دمروا حضارتها العظيمة حوالي عام ١٤٠٠ق.م. ويبدو أن نهاية
كريت المفاجئة قد تمت قبل أن يتمكن المجتمع الذكري فيها من تحقيق
انتصاره الكامل، رغم اكتمال ثورتها المدينية، وإحاطتها من كل جانبٍ
بالمجتمعات ذات الثقافة الأبوية. لهذا حفظت الأم الكريتية خصائص
الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي من خلقٍ وخصبٍ.
بسبب المصاعب التي ما زالت قائمة في قراءة اللغة الكريتية
القديمة، وندرة النصوص الأسطورية التي تعود إلى ما قبل فترة دمار
الحضارة الكريتية، فإن الاسم الحقيقي للأم الكريتية الكبرى ما زال
غير مؤكد، إلا أن النصوص اليونانية تشير إليها باسم «رحيا». كانت
رحيا الأم الكونية التي تجتمع عندها كل خصائص الألوهية في تركيب
واحد، ويمتد سلطانها فوق كل مظاهر الوجود. فإضافة إلى كونها والدة
الكون المتحكمة بأفلاكه ومدرات كواكبه، فإنها سيدة خصب الطبيعة
وتكاثر الحيوان والإنسان، وربة الفصول المتعاقبة. كما أنها تحكم
مملكة الأموات والعالم الأسفل. وإلى جانبها ظهر فيما بعد ابنها
الذي أطلق عليه اليونان اسم «زيوس»، والذي يبدو أحيانًا في هيئةٍ
بشريةٍ، وأحيانًا أخرى في هيئة الثور.
٣٤ وسوف نرى فيما بعد أن ابن الأم الكبرى كان يتخذ منذ
العصور النيوليتية في الشرق الأدنى هيئة الثور، ابن البقرة
السماوية.
من الأعمال الفنية الجميلة التي تمثل الأم الكريتية، الرسم
الموضح في الشكل
٢-١٤، حيث نجد الإلهة في وضعية
الوقوف ترفع بيديها الاثنتين فأسين مزدوجين، وتيارات من الحليب
تنثال من ثدييها العاريين فيسقيان الأرض، وعن يمينها وشمالها
زمرتان من العباد في وضعية الصلاة.
في الثقافة الإغريقية، بقيت الأم الأولى لما قبل العصر الهيليني
قائمة في شخصية الإلهة «جايا» الأم-الأرض، إلا أن هذه، كمثيلاتها
في الثقافات الذكرية الأخرى، قد استمرت شخصية أسطورية بلا ظل ولا
عبادة، بينما تقاسمت «ديمتر» و«أرتميس» و«أفروديت» الخصائص
الطبيعية للأم القديمة. فكانت «أرتميس» إلهة الغاب والبراري والأرض
البكر، «وديمتر» إلهة الأرض المزروعة ودورة الطبيعة، «وأفروديت»
إلهة التكاثر والحب الجنسي.
كانت «جايا» الأرض، أول من انبثق من الشواش والعماء الأول. أول
مواليدها كان كرونوس، السماء الذي غطاها من جميع جهاتها. بعد ذلك
تفرغت لخلق العالم فصنعت الجبال والأنهار والبحار، وبقية مظاهر
المادة، ومنها تناسل بقية الآلهة. ويبدو من ترتيلة هوميرية أن هذه
الإلهة كانت أول معبودات الإغريق. يقول مطلع الترتيلة: «غنوا
لجايا، أم الكون، وأقدم الآلهة.»
٣٥ ولعلنا واجدون في أرتميس مدينة إفسوس الإغريقية في
آسيا الصغرى، صورة عن الأم الشرقية الكبرى. فأرتميس هنا لا تبدو
كإلهة للطبيعة البكر، بل كأم زراعية كبرى تصورها تماثيل إفسوس في
هيئة ممتلئة وقد تزاحم في صدرها عشرات الأثداء (الشكل
٢-١٥) تمامًا كالجرة الفخارية الموضحة في الشكل
٢-١١.
غير أنَّ الديانات الذكرية المتطرفة قد حاولت أن تجتث تمامًا
صورة الأم الكبرى من نظامها الأسطوري، كما هو الحال في ديانة
العبرانيين بشكلها التوراتي المتأخر. فهنا لا نكاد نجد ما يذكِّر
بالأم الكبرى سوى أثر باهتٍ باقٍ في شخصية حواء التي حوَّلتها
الأسطورة التوراتية من مبدأ للكون إلى مجرد أم للجنس البشري. وحتى
أمومتها هذه ليست أمومة أصلية؛ لأنها هي نفسها مولودة من الذكر
آدم؛ مأخوذة من ضلعه. وبذلك يبلغ تحوير أسطورة الأم الكبرى أبعد
غاياته بتجريدها حتى من أمومة البشر، وإعطاء آدم فضل الأبوة
والأمومة، الأبوة لإنجابه الجنس البشري بواسطة حواء، والأمومة
لإنجابه حواء نفسها.
ولكن التقاليد المسيحية ما تلبث أن تعيد للأم الكبرى سابق مجدها
وسلطانها، وتبدأ مريم العذراء رحلتها من أم يهودية تقية، كما تبدو
في الأناجيل، إلى أمٍّ كونية ووالدة للإله الذي اقترب من البشر
بدخوله في تاريخهم وتجسده في عالمهم، ومروره عبر جسد الأم الكبرى
طفلًا لها. «فمريم العذراء التي ظهرت في فلسطين وعاشت هناك عددًا
من السنين ليست إلا تجليًا في المكان للأم الكبرى مريم الموجودة
قبل الزمان وقبل المكان، والتي ستبقى بعد فناء المكان وتوقف جريان الزمان.»
٣٦
نقرأ للقديس كيريليس
الإسكندري في شرحه لأمومة مريم الإلهية أمام مجمع إفسوس سنة ٤٣١م:
«السلام عليك يا مريم، يا أم الله، يا كنزًا يمجده العالم، يا
نورًا ساطعًا ويا إكليل البتولية، والصولجان الذي يحمي العقيدة
الصحيحة، والهيكل الذي لا ينقض. فيه سكن من لا يستطيع أن يحتويه
شيء. أنت التي فيك يتمجد الثالوث ويُعبد.»
٣٧ ونقرأ في بعض عظات الكنيسة: «إن من بنى السماوات
واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، الذي لا مقر له، قد جعل
نفسه فيها طفلًا صغيرًا، ويجعل منها مقر ألوهيته، الفسيح الذي يملأ
كل شيء وحيدًا، ولا حدَّ له، تجمع فيها دون أن يتصاغر.»
٣٨ ونقرأ للقديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية في القرن
الخامس الميلادي في شرحه لعقيدة انتقال مريم إلى السماء: «لقد كان
مستحيلًا أن يبقى ذلك الجسد الطاهر محجوزًا عليه داخل قبر الأموات،
ذلك الإناء الذي احتوى الله بالذات، ذلك الهيكل الذي مده بالحياة،
الإناء الذي امتلأ بالله، الذي حمل الله. كنت أيتها العذراء
المجيدة الجسد الذي استراح فيه هو.»
٣٩
أخيرًا إذا انتقلنا من أساطير العالم القديم إلى أساطير الشعوب
التي داهمها العصر الحديث قبل أن تحقق ثورتها المدينية، لوجدنا
صورة الأم الكبرى النيوليتية ما زالت مطبوعة على نقائها لدى الكثير
من تلك الشعوب، ولعل الأنشودة التي سنقدم مقتطفات منها فيما يأتي،
والمأخوذة من تراتيل قبيلة الكاجايا الهندية في كولومبيا بأمريكا
الجنوبية، تعطي صورة عن استمرار عشتار في ضمير الإنسان عبر العصور:
«سيدة الأناشيد والأغاني، أم النسل البشري، حملت بنا منذ البدء، أم
الأجناس جميعًا وأم القبائل المختلفة، سيدة الرعود والأمطار، أم
الأنهار والأشجار، سيدة الصخور والأحجار، أم الحبوب وكل شيء حي، أم
الشعوب المجاورة، وأم الأجانب والأغراب، سيدة الرقص والأغاني، ربة
المعابد كلها، أم الحيوانات، الواحدة المؤلهة، سيدة المجرة المضيئة
… لا أم لنا إلا هي.»
٤٠