الفصل الثالث
عشتار القمر
مثلما وجد الإنسان القديم في الأرض تجسيدًا للأم الكبرى، كذلك وجد في
القمر؛ فالاثنان يشفَّان عن حقيقةٍ واحدةٍ وينتميان لمبدأ واحد، وفي كل
مكان نعثر على ثنائية الأرض والقمر وعلى الاعتقاد بصلتهما الخفية.
١ فالقمر هو الأرض السماوية الأكثر شفافية ونقاء.
٢ ويسود الاعتقاد لدى كثيرٍ من الشعوب بأن القمر قد جُبِل من
أديم الأرض، والإغريق يطلقون عليه فعلًا اسم الأرض العليا.
٣
ورغم أن الخصائص القمرية للأم الكبرى تبدو واضحة في نصوص وفنون عصر
الكتابة، فإن ميثولوجيا الحضارات الكبرى لم تمدنا بأسطورة قمرية
متكاملة عن الأم الكبرى. ولذا فإن جهودنا في هذا الفصل ستصب في
اتجاهين؛ الأول إعادة بناء الأسطورة القمرية النيوليتية التي نؤمن
بوجودها، والاتجاه الثاني إعادة تفسير أساطير عصر الكتابة لإظهار
الجوانب القمرية للأم الكبرى، سواء في النصوص المكتوبة أو في الأعمال
الفنية التشكيلية. وسنبدأ من تحليل أسطورة سومرية معروفة، هي أسطورة
هبوط إنانا إلى العالم الأسفل:
من الأعلى العظيم تاقت إلى الأسفل العظيم،
من الأعلى العظيم، تاقت الربة إلى الأسفل العظيم،
من الأعلى العظيم تاقت «إنانا» إلى الأسفل العظيم،
هجرت سيدتي السماء، وتركت الأرض،
«إنانا» هجرت السماء والأرض،
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
بهذه الفاتحة الجميلة، يبدأ نص الأسطورة السومرية
«هبوط إنانا إلى العالم الأسفل»،
٤ وهو النص الذي يعد من أجمل ما أنتجه الأدب المشرقي القديم.
تبدو الأم السومرية في هذه الأسطورة تواقة إلى ترك كرسيها السماوي
وهجرة الأرض التي ترعاها، في رحلة إلى العالم الأسفل، عالم الظلمات
الذي تهبط إليه أرواح الموتى، والذي تحكمه أختها الإلهة «إريشكيجال».
وهي إذ تشرع في هبوطها عبر بوابات الموت السبع، توصي تابعها «ننشوبار»
أن ينتظر عودتها ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن لم ترجع عليه أن يمضي إلى
مجمع الآلهة طلبًا لعونهم في استرجاعها إلى العالم الأعلى. تنزل إنانا
درجات العالم الأسفل السبع بكامل حللها وزينتها السماوية، ولكن حراس
البوابات يطلبون منها أن تخلع عند كل باب جزءًا من ثيابها تنفيذًا
للشرائع المتبعة، إلى أن تعبر البوابة الأخيرة وتمثل عارية تمامًا أمام
ملكة الموت إريشكيجال، التي تأمر بموتها حالًا وشد جثتها إلى عمود
خشبي. حتى إذا انقضت ثلاثة أيام وثلاث ليال، مضى تابعها ننشوبار إلى
الآلهة طالبًا عونهم، فيتلكئون إلا «إنكي» إله المياه العذبة الذي يصنع
لتوِّه مخلوقَين يزوِّدهما بطعام الحياة وماء الحياة، ويرسلهما في
إثرها حيث يفلحان في إعادة الحياة إليها، وتصعد من جديدٍ درجات العالم
الأسفل. ولدى صعودها تستعيد ثيابها وحليها حتى تخرج في الهيئة التي
دخلت بها.
لقد حار علماء السومريات ممن تصدوا لترجمة هذا النص وحل رموزه
اللغوية، في حل رموزه الأسطورية المعقدة. فلماذا اشتاقت ربة السماوات
إلى زيارة عالم الظلمات؟ ما الذي دفعها إلى ترك عرشها الإلهي والشروع
في رحلة مجهولة العواقب؟ إلامَ يشير موتها؟ وماذا يعني صعودها وتغلبها
على الموت؟ في الحقيقة، إننا لا نستطيع فهم أي نص أسطوري اعتمادًا على
سطوره ومنطوقه ومكانه وزمانه؛ فالنص الواحد هو جزءٌ من جُماع التجربة
الأسطورية، ومكانه ساحة العالم كلها، وزمانه تاريخ الإنسان. والأسطورة
الواحدة ليست نتاج إبداع فني جمالي لشخص بعينه، بل هي محصلة خبرة بشرية
طويلة، وتاريخ طويل يمتد إلى أغوار الماضي السحيق، وتطور بطيء. كل هذا
يجعلها لذهننا العصري مثقلة بالرموز الصعبة، حافلة بكل عصي غريب. من
هنا، ففهم أي أسطورة يتطلب إعادة بنائها، والكشف عن تاريخها وأشكالها
السابقة المتضمنة في شكلها الأخير، وصولًا إلى حلتها الأولى وباعثها
الأساسي.
إن النص الذي بين أيدينا الآن قد تم تدوينه في أواسط الألف الثالث
قبل الميلاد، إلا أن أصوله البعيدة ترجع إلى أعماق العصر الحجري، عندما
كان الإنسان يتأمل حائرًا في مظاهر الكون العجيبة، محاولًا إيجاد
التفسير لما يجري من حوله. رفع رأسه إلى السماء منذ أن انتصب على
قائمتين، وراقب حركة أجرامها وسير شمسها وقمرها وتتابع ليلها ونهارها،
فكان القمر أول ما رمى في نفسه الروع والرهبة بتألقه وسط الليل الغامض،
وتعارضه مع القبة المعتمة التي يسبح فيها، وغلبته على جميع الأجرام
المنيرة المنتشرة في أرجاء السماء، فكان أول جرم سماوي توجه إليه
بالعبادة. كان الإنسان محاطًا بالألغاز من كل جانب وكل ما حوله سرٌّ
مكنون، لا يستطيع التمييز بين أحلامه وواقع يومه. وشعوره لم يتمايز
تمامًا عن لا شعوره، محكومًا بغرائزه وملكاته الفطرية لا بعقله، موجهًا
بمشاعره وأحاسيسه لا بمنطقه. كان الليل يطمس له بصره ويتركه في ظلمةٍ
ورعبٍ من نفسه ومما حوله، ينتظر القمر سيد الليل المترامي الأطراف
والكون الممتد بلا نهاية، وسيد ظلمة النفس وخوافيها.
عظَّم الإنسان الشمس، ولكنه لم يجد فيها ندًّا للقمر. لم تُثر في
نفسه من العجب والتساؤل ما أثاره القمر. الشمس تشرق كل يوم من نفس
المكان وتغرب من مكانٍ محدد آخر، في حركة رتيبة منتظمة. أما القمر فكل
يوم هو في شأن؛ يشرق اليوم من مكان، وغدًا يشرق من مكان آخر، يغرب
اليوم في مكان، وغدًا يغرب في مكان آخر. في يومه الأول يبدأ هلالًا
نحيلًا ثم يأخذ في الامتلاء والاكتمال والتزايد حتى يستدير محيطه
ويتوسط قبة السماء بدرًا شعشعًا جميلًا مهيبًا. ولكن اكتماله مؤقت؛ إذ
ما يلبث أن يبدأ في الانحدار والتناقص قطعة قطعة، حتى يختفي تمامًا في
آخر الشهر غائصًا نحو العالم الأسفل. وفي اليوم الثالث لغيابه، وبعد
تسعة وعشرين يومًا من شروقه السابق، تظهر قرونه عند الأفق من جديدٍ
مبشرًا بميلادٍ آخر. حركة طبيعية كونية، أشبه ما تكون بالحركة الطبيعية
الداخلية لجسد الأنثى في دورته الشهرية. فكان القمر بحق أنثى كونية
عظمى، وكان هو ذاته الأم الكبرى والدة الكون، والأرض الخصبة وقد ظهرت
في تجليها الجديد: القمر.
فكما أن «آ»، وفق المنطق الأسطوري، يمكن أن تكون «ب» أو «ج» في الوقت
نفسه، طالما أن الجميع يعكسون مبدأ واحدًا، كذلك هي عشتار الآن. إنها
تتجلى في القمر الذي يهبط من الأعلى العظيم على درجات ومراحل إلى
الأسفل العظيم، القمر الذي يحمل توقًا دائمًا كلما توسط السماء بكامل
حلله وزينته، إلى الانحدار عنها والنزول إلى عالم الظلمات، نازعًا عنه
زينته قطعة قطعة حتى يغيب تمامًا في اليوم الأول ويظهر في اليوم
الثالث. وهو في هبوطه هذا، لا يموت كما يموت الأحياء، وإنما يغادر
العالم الأعلى كسيِّدٍ له، ليلبث أيامًا في العالم الأسفل سيدًا له
أيضًا. فعشتار الأولى كانت سيدة للسموات والعالم النوراني، وسيدة لعالم
الموت وظلمات العالم الأسفل. في أسطورة العصر الحجري، لا تهبط إنانا
لتموت في العالم الأسفل ثلاثة أيام، بل لتمارس دورًا إلهيًّا آخر، دور
ربة الموت. وفي أسطورة العصر الحجري لا وجود لأختها إريشكيجال؛ لأنها
هي بالذات إريشكيجال، الوجه الآخر المعتم للقمر. في طورها الأعلى هي
إنانا، وفي طورها الأسفل اسمها إريشكيجال. تهبط وتصعد دون معرفةٍ من
إله آخر، وفق حركة طبيعية تلقائية لا تحكُّم لأحدٍ فيها من
خارجها.
لعل أسطورة هبوط عشتار هي أول أسطورة منظمة صاغها خيال الإنسان؛ إلا
أن شكلها الأخير الذي دوَّنه قلم الكاتب السومري على الفخار، ليس إلا
نتاجًا لتطور طويل، يعكس لنا بحقٍّ تاريخ الأسطورة وتبدلاتها عبر مراحل
تطور المجتمعات الإنسانية. في شكلها الأخير، حافظت الأسطورة على هيكلها
الأمومي العام رغم تداخل العناصر الذكرية اللاحقة، ورغم تقطيع أوصال
الأم الكبرى وتشظِّي صورتها الأولى. ولنعد إلى النص من جديدٍ، محاولين
فهمه على ضوء ما تقدَّم.
لا يقدم النص سببًا لهبوط عشتار إلى العالم الأسفل؛ لأن هبوطها هو
جزء من قانون طبيعي، ولأنها سيدة العالمين تترك الواحد لتنتقل إلى
الآخر. وقد كان عبَّاد عشتار وكهنتها ممن حافظوا على أسرارها تحت طغيان
الديانات الذكرية يعرفون المعاني الخفية الكامنة وراء زخرف النص، وشكله
الخارجي ذي الصيغة الذكرية الواضحة. قبل أن تهبط عشتار لبست ووضعت
زينتها:
شدَّت إلى وسطها ألواح الأقدار السبعة،
وعلى رأسها وضعت تاج السهول،
فمن محياها يشع الألق والبهاء،
بيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زينت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رصعت بخاتم ذهبي،
وجسدها وشحت بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب،
ثم مشت إنانا في طريقها إلى العالم الأسفل.
يُمثل هذا المقطع اكتمال البدر في منتصف الشهر القمري،
وتربُّعه على عرش السماء بكامل ألقه وبهائه. ولأن القمر لا يكتمل إلا
لكي يهبط متناقصًا خلال الجزء التالي من دورته، فإن عشتار هنا تتخذ
زينتها وتلبس أثواب السيادة والسلطان، وتضع الأحجار الكريمة المتلألئة
استعدادًا للهبوط إلى العالم الأسفل، يشيعها خلال المرحلة الأولى من
الطريق تابعها ورسولها «ننشوبار» الذي صار فيما بعد رسول الآلهة
السومرية والبابلية، وانتقل إلى اليونان تحت اسم «هرمز». وقبل أن
يغادرها راجعًا، تقوم عشتار بإعطائه تعليماتها بأن يمضي إلى الآلهة
طالبًا عونهم إذا لم تعد من رحلتها في اليوم الثالث، ثم تتابع سيرها
حتى تصل بوابة الظلمات الأولى:
افتح يا حارس البوابة، افتح البيت،
افتح الباب يا «نيتي». وحيدة سوف ألج منه،
«نيتي» كبير حجاب العالم الأسفل،
أجاب إنانا الطاهرة:
– مَن يا ترى تكونين؟
– أنا ملكة السماء، ذلك المكان الذي تشرق فيه الشمس.
– فما الذي أتى بك إذن إلى الأرض التي لا عودة منها؟
وإلى الطريق الذي لا يرجع منه مسافر، كيف حفزك قلبك؟
إن لقب ملكة السماء الذي تدعو به عشتار نفسها في هذا
النص، هو من ألقابها الرئيسية التي لازمتها طيلة عهدها وتحت كل أسمائها
وتجلياتها، إلى جانب ألقاب وأوصاف أخرى معظمها يشير إلى علاقتها
بالقمر. فهي عابرة السماوات، وهي نور السماوات، وهي الساطعة المنيرة،
وهي اللامعة. وهذه هي إيزيس تتخذ ألقابًا مشابهة؛ فهي سيدة السماوات،
وسيدة الشعلة المضيئة، وسيدة النور، والنار الساطعة، وواهبة النور. حتى
إذا وصلنا إلى السيدة مريم العذراء وجدناها تحمل نفس الألقاب القمرية.
فهي سلطانة السماء،
٥ وهي قمر الروح، والقمر الخالد، وقمر الكنيسة. ويشير البابا
إنوست الثالث في بعض كتاباته إلى العلاقة بين مريم العذراء والقمر
عندما يقول: إلى القمر يجب أن يرفع رأسه ذلك الغارق في الخطايا. لقد
غاب عنه النهار، ولم تعد له تشرق الشمس. ولكن ها هو القمر عند الأفق.
فليتوجه إلى مريم التي يجد عندها الآلاف في كل يوم طريق الخلاص.
٦ وفي البرتغال يدعو الأهالي القمر ﺑ «أم الإله»، وفي فرنسا
يدعو الفلاحون في كثيرٍ من أنحائها القمر باسم «السيدة العذراء».
٧
بعد أن يسمع كبير حجاب العالم الأسفل حديث عشتار، يتركها عند الباب
ويهرع إلى سيدته «إريشكيجال» ربة عالم الأموات وأخت سلطانة السماء؛
لينقل إليها خبر الزيارة. تمتعض إريشكيجال لزيارة عشتار وتعطي
تعليماتها إلى «نيتي» وقد أضمرت شرًّا:
– أي نيتي، يا كبير حجاب العالم الأسفل اقترب مني،
وأعطِ أذنًا صاغية لما آمرك به،
ارفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبع،
وعند بوابة جانزير، واجهة العالم الأسفل أعلن
قوانيننا.
(يصدع الحاجب بما أُمر، ويمضي إلى عشتار المنتظرة عند
البوابة الأولى):
– تعالي فادخلي يا إنانا.
ولدى دخولها من البوابة الأولى،
خلع عن رأسها الشوجار، تاج السهول،
– ما هذا الذي تفعلون؟
– أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية
واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثانية،
اقتلع من كفها الصولجان اللازوردي،
وهكذا يستمر عبور عشتار بوابات العالم الأسفل، وعند كل
بوابة تفقد جزءًا من زينتها وثيابها، حتى تمثُل عارية في حضرة
إريشكيجال:
إريشكيجال، كانت مستوية على عرشها،
يحيط بها الأنوناكي السبعة الذين يصدرون الأحكام،
ركزوا عليها أنظارهم، أنظار الموت،
وبكلمةٍ منهم، الكلمة التي تعذب الروح،
تحولت المرأة المتعبة إلى جثة،
ثم شُدَّت إلى وتد مغروس،
ثلاثة أيام مرت وثلاث ليال.
يشير هذا المقطع والذي سبقه بوضوحٍ إلى تناقص البدر
قطعة قطعة، وانحداره عن وسط السماء تدريجيًّا في كل ليلة. وليست درجات
الموت السبعة التي تخلع عندها إنانا جزءًا من زينتها سوى الأيام
الأخيرة السبعة من الشهر القمري؛ حيث يفقد القمر بوضوح قطعه الكبيرة،
حتى يغيب تمامًا في الأيام الأخيرة. عند هذه المرحلة من النص، تبدأ
المداخلة الذكرية بالظهور. فعشتار لم تعد قادرة كما كان شأنها في
الماضي على الصعود من العالم الأسفل وحيدة، معتمدة على قواها الذاتية،
بل لا بدَّ من معونة الآلهة الذكور في هذه المهمة. وهنا يأخذ رسولها
ننشوبار بالطواف على الآلهة الأخرى في أرجاء السماء، وقد ملأ الكون
صراخه وعويله طالبًا عونهم على إرجاع سيدته إلى الحياة:
رسولها ننشوبار،
ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتها الحقة،
أخذ يملأ السماء صراخًا من أجلها،
وبكى عليها في حرم المجمع،
في بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلها،
ذبلت عيناه وتغير وجهه من أجلها،
وكفقير شريد لبس ثوبًا واحدًا من أجلها،
وإلى إيكور بيت «إنليل» اتجه وحيدًا.
بكى في حضرته قائلًا:
أيها الأب إنليل، لا تدع ابنتك تموت في العالم
الأسفل،
لا تترك معدنك الثمين يلقى في تراب العالم الأسفل،
لا تترك لازوردك الغالي يُكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يُقطع كخشب النجارين،
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.
فأجاب الأب إنليل ننشوبار قائلًا:
ابنتي في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل
العظيم،
إنانا في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل
العظيم،
وشرائع العالم الأسفل، أنت تعرف ما شرائع العالم
الأسفل،
ومن يا ترى بقادرٍ على الوصول إلى ذلك المكان.
بعد إنليل يطوف ننشوبار على عددٍ آخر من الآلهة ليلقى
نفس الموقف غير المبالي، إلى أن يصل إلى «إنكي» إله الماء العذب الذي
يسرع إلى نجدة الإلهة الميتة. يصنع إنكي مخلوقَين ويعطيهما طعام الحياة
وشراب الحياة، ويزودهما بالتعليمات اللازمة لعبور العالم الأسفل
واستعادة إنانا إلى الحياة. يُفلح المخلوقان في اقتحام العالم
الأسفل:
على الجثة المشدودة إلى وتدها وجِّها أشعة النار،
ونثرا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة
ستين،
فنهضت إنانا،
وصعدت من عالم الأموات.
هنا يبدأ ظهور القمر مجددًا أول الشهر كخيطٍ رفيعٍ
يتزايد يومًا بعد يوم؛ لأن عشتار تضع لدى صعودها عند كل بوابة ما خلعته
في نزولها:
ولما مرَّ بها عبر البوابة الأولى أعاد إلى ثياب
جسدها،
ولما مرَّ بها عبر البوابة الثانية أعاد الأساور إلى يديها
وقدميها،
ولما مرَّ بها عبر البوابة الثالثة أعاد إلى وركها تعويذة
الولادة،
ولما مرَّ بها عبر البوابة الرابعة أعاد إلى صدرها جميع
الحلي،
ولما مرَّ بها عبر البوابة الخامسة أعاد إلى جيدها
العقود،
ولما مرَّ بها عبر البوابة السادسة أعاد إلى أذنيها
الأقراط،
ولما مرَّ بها عبر البوابة السابعة أعاد إلى رأسها التاج العظيم.
٨
وهكذا يتربع القمر من جديدٍ على عرش السماء. إن هذه
الأسطورة المدونة منذ مطلع عصر الكتابة، تعود في أصلها إلى أعماق
العصور الحجرية المجهولة، كما ألمحنا منذ قليل، ولكنها في شكلها الأخير
نتاج عملية تطورية تركيبية. فالإنسان النيوليتي قد ورث الأسطورة
القمرية عن العصر الباليوليتي وطورها، ثم ألهمته هذه الأسطورة أسطورة
هبوط أخرى تقوم بها عشتار سنويًّا إلى العالم الأسفل من أجل ضمان دورة
الزراعة، وما لبثت الأسطورتان أن أُدمجتا في أسطورة واحدة عندما صار
الإله الابن بطل الهبوط بدلًا من الإلهة الأم في الأسطورة الزراعية.
فأخذت عشتار تهبط في كل عامٍ إلى العالم الأسفل لفك أسر تموز المحتجز
هناك طيلة فترة الخريف والشتاء، فتغيب في اليوم الأول لتصعد في اليوم
الثالث ومعها الابن القتيل، وقد بُعث حيًّا، ولسوف نعمل على توضيح هذه
البنية المعقدة والمتشابكة تدريجيًّا في الفصول القادمة.
تظهر درجات الموت التي يهبطها القمر في بعض الأعمال الفنية على هيئة
سلَّم مؤلف من أربع عشرة درجة؛ كل درجة تمثل يومًا من أيام النصف
الثاني للشهر القمري؛ من هذه الأعمال: الرسم المصري الموضح في (الشكل
٣-١)، حيث نجد القمر على قمة زهرة اللوتس
المقدسة وبين قرنيه عين أوزوريس (أو ابنه حورس) التي ترمز إلى القمر
المتناقص أو القمر المتزايد حسب اتجاه فتحة العين في شكلها الجانبي،
وأمامه سلَّم هابط نحو الأسفل هو الطريق الموصل إلى عالم
الظلمات.
البقرة السماوية
منذ أن رأى الإنسان في
القمر تجسيدًا لعشتار ربط في ذهنه رمزيًّا بين قرون البقر وقرنَي
الهلال، وصور في خياله الأم الكبرى على هيئة بقرة سماوية يرسم
قرناها هلالًا في السماء، وقد استمرت هذه الصورة الباليوليتية
والنيوليتية مرتبطة بالأم الكبرى في عصور الكتابة، فعندما لا تظهر
الأم الكبرى في الأعمال التشكيلية على هيئة البقرة الكاملة تظهر
برأس البقرة أو بقرون البقر، أو تشير إليها النصوص الميثولوجية
والطقسية بلقب البقرة؛ فالإلهة «نوت» المصرية التي هي قبة السماء،
كانت تصور في هيئة بقرة كاملة، والأم المصرية «نيت» كانت تُدعى
بالبقرة السماوية، والإلهة هاتور كانت تظهر دومًا برأس بقرة،
والإلهة إيزيس إن لم تظهر برأس بقرة ظهرت وعلى رأسها قرنان كبيران
غالبًا ما يحتويان قرص القمر البدر بين طرفيهما (الشكل
٣-٢). كذلك الأمر فيما يتعلق بعشتار البابلية
وعشتار الكنعانية التي تظهر في الرسوم والمنحوتات وعلى رأسها
قرنان.
ولعل من أجمل هذه الأعمال، ذلك المحفوظ في متحف دمشق والذي يمثل
الإلهة عشتار المجنحة تُرضع من ثدييها العاريين إلهين صغيرين، وعلى
رأسها تاج يزينه قرنان، وقد يعمد الفنان إلى إظهار الهلال ذاته بدل
القرون فيتوج به رأس الأم الكبرى.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن بعض ألقاب الأم الكبرى التي عُرفت بها في
عصور الكتابة، تظهر صلتها بذلك التصور القديم، فهي البقرة وهي
العِجلة، نقرأ في صلاة سومرية إلى إنانا من عصر صارغون الأول:
«أيتها البقرة البرية الجموح، أنت أعظم من كبير الآلهة آن».
٩ وفي بعض ألواح أوغاريت نجد الإلهة عناة تحمل لقب العِجلة،
١٠ وفي نصوص بعل وعناة الأوغاريتية نجد الإله بعل يضاجع
الإلهة عناة وهي في هيئة العِجلة قبل أن يهبط إلى الأسفل.
١١ هذا وقد بقي لقب البقرة أو العِجلة يطلق على الأم
الكبرى وصولًا إلى السيدة مريم العذراء. نقرأ في طقوس عيد تقدمة
مريم إلى الهيكل: «إن والدة الإله بالجسد لما قدموها للرب عِجلة
ذات ثلاث سنين، تقبَّلها زخريا كاهن الله ووضعها في الهيكل.»
١٢ وأيضًا: «فليسر يواكيم الجد، ولتبتهج حنه؛ لأنهما
قدَّما لله السيدة البريئة من كل عيب كمثل عِجلة ذات ثلاث سنين.»
١٣ وفي التراتيل البيزنطية التي تُتلى يوم الجمعة الحزينة
نقرأ: «لما رأت العِجلة ابنها معلقًا على الصليب ناحت وأعولت.»
١٤ وأيضًا: «أنت الآن في باطن الأرض أيها المخلِّص،
والقمر الذي أنجبك يتلاشى حسرةً لغيابك.»
١٥ وتدعم الأعمال التشكيلية هذه النصوص الطقسية المتعلقة
بالسيدة مريم حين تربطها أيضًا بالبدر أو الهلال. من هذه الأعمال
لوحة الحبل بلا دنس للفنان موريو من عصر النهضة المحفوظة في متحف
مدريد، والتي تظهر السيدة واقفة ويداها مضمومتان إلى صدرها والهلال
يتقاطع مع جسمها.
وعندما ظهر الإله الابن أخذ عن أمه صفاتها القمرية والرموز
المتعلقة بها، فصار يرمز إليه برأس الثور الوحشي ذي القرنين
الكبيرين. وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن تقديس الثور كان قائمًا
في المستوطنات الزراعية الأولى في سوريا وخصوصًا تل المريبط،
١٦ حيث يتزامن ظهور الثور مع ظهور الإلهة الأم. ولسوف نجد
هذا الثنائي بعد ألفي سنة في شتال حيوك، ثم في حضارة تل حلف شمال
سوريا. ففخاريات تل حلف حافلة بالأشكال التزيينية لقرون الثور الوحشي.
١٧ وخارج منطقة الشرق الأدنى القديم نعثر على هذا الثنائي
المقدس في كريت حيث يزين رأس الثور الوحشي جدران القصور والمعابد،
كما نعثر عليه في مطلع عهود مدن يونانية كثيرة مثل طيبة ودلفي، وفي
مكدونيا، وتراقيا.
١٨ هذا وربما تلقي أسطورة الميناتور الإغريقية أضواء على
عبادة الثور في كريت. فالميناتور، كما تروي الأسطورة،
١٩ كان مخلوقًا عجائبيًّا نصفه ثور ونصفه الآخر رجل، صنع
له ملك كريت مينوس قصرًا خاصًّا على شكل متاهة لا يستطيع الداخل
إليها أن يعثر على طريق خروجه منها. وكان الميناتور لا يتغذى إلا
بلحوم البشر. وخصوصًا لحوم أسرى الحروب. كما كانت له وجبة دورية من
أهالي أثينا، التي فرض مينوس على أهلها جزية قوامها سبعة فتيان
وسبع فتيات تقدم طعامًا للميناتور. وقد استمرت هذه الجزية قائمة
حتى تمكن البطل ثيسيوس من دخول قصر التيه وقتل الميناتور، بعد أن
تطوع للخروج مع فريق الفدية إلى كريت. إن هذه الأسطورة ليست في
الواقع إلا ذكرى لعبادة الثور في كريت، والميناتور الذي تصوره ليس
كائنًا حيًّا، بل تمثالًا في المعبد تقدم له الأضاحي البشرية التي
كانت معروفة في كريت، وربما كان بين تلك الأضاحي شبان إغريق يجري
اصطيادهم لهذه الغاية أو يرسلون بالفعل كجزية.
وقد بقيت قرون الثور النيوليتي تزين رءوس الآلهة الأبناء حتى
العصور المتأخرة، فهذا هو الإله بعل الكنعاني يظهر في رسومه
ومنحوتاته بقرون بارزة نحو الأمام، وكذلك أوزوريس المصري الذي
تصوره بعض الأعمال الفنية برأس الثور، وهو نفسه الإله سيرابيس الذي
انتقل فيما بعد إلى العالم الكلاسيكي، والذي يعني اسمه «الإله الثور».
٢٠ وكان الفرس القدماء يعتقدون أن روح العالم مقيمة في
ثور بدئي يسكن السماء.
٢١ وفي الثقافة الهندية كان الثور تجسيدًا لكلٍّ من الإله
«إندارا» والإله «شيفا».
٢٢
أنوثة القمر وقمرية المرأة
إن الاعتقاد بأنوثة القمر وتمثيله للأم الكبرى، قد ساد الحضارات
القديمة وبقيت آثاره في ثقافات الأقوام البدائية في عالمنا الحديث.
فبعيدًا عن مسرح الحضارات الكبرى في الهلال الخصيب ومصر والعالم
اليوناني، التي تخللت عناصر الأسطورة القمرية الأولى أساطيرها
ودياناتها، فإن معظم الثقافات البدائية تنظر للقمر باعتباره أنثى
وتعتقد بتجسيده لإلهة أنثى. يسود هذا الاعتقاد في ثقافة الهنود
الحمر في أمريكا الشمالية والجنوبية، ونجده لدى معظم الثقافات
الأفريقية، ولدى أكثر الشعوب البدائية في أستراليا وبولونيزيا
وغرينلاند. ويحمل الفلاحون الأوروبيون معتقدًا مشابهًا يتجلى في
الفلكلور والحكايا الشعبية.
٢٣ تُحدثنا أسطورة من غينيا الجديدة عن القمر الأنثى،
الذي يهبط إلى باطن الأرض ثلاثة أيام، ثم يبعث ساطعًا من جديدٍ
فتقول: «إنه في الأزمان السحيقة، كان القمر فتاة جميلة اسمها
«رابية» تعيش على الأرض بين أهلها وقومها. ثم إن الرجل الشمس
«نويل» وقع في حبها ولكنها صدت عنه، فقرر الانتقام. قام رجل الشمس
بتغييب رابية في الأرض عند جذور شجرة، وباءت كل جهود أهلها في
إنقاذها، فلبثوا ينظرون إليها وهي تغيب ببطءٍ في جوف الأرض. عندما
تأكدت الفتاة من مصيرها المحتوم وبلغ منها التراب العنق، طلبت من
أهلها أن يذبحوا خنزيرًا ويقيموا مأدبة على روحها، ولكنها طمأنتهم
إلى أنها لن تلبث في باطن الأرض طويلًا. ففي مساء اليوم الثالث
عليهم أن يراقبوا السماء؛ لأنها ستكون قد انتقلت إلى هناك على شكل
جرم سماوي منير.»
٢٤ تحتوي هذه الأسطورة على الكثير من العناصر الرئيسية
لأسطورة هبوط إنانا، ولعلها ليست سوى صدًى بعيدٍ من أصداء الأسطورة
النيوليتية الأولى، حيث اختلطت الأسطورة القمرية بالأسطورة
الزراعية. فالفتاة في هذه الأسطورة تغوص عند جذور الشجرة، دلالة
على الصلة بين الأنثى الكونية وخصب الأرض، وهي تغيب ثلاثة أيام في
العالم الأسفل، وتظهر في الأفق هلالًا منيرًا، تمامًا كنموذجها
الأول عشتار.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن حياة المرأة الفيزيولوجية والسيكولوجية ذات
طبيعة قمرية وإيقاع قمري، فهي مرتبطة بدورة شهرية معادلة لدورة
القمر الذي يبدأ هلالًا في أول الشهر ليتلاشى في آخره، بعد أن يمر
في فترةٍ تقع في منتصف الشهر عندما يبلغ البدر تمامه. وقد كان سكان
بلاد الرافدين
٢٥ يعتبرون تمام البدر يومًا تحيض فيه عشتار وتستريح من
كل أعمالها. لذا فقد ارتبطت بهذا اليوم مجموعة من المحرمات؛
كالشروع في السفر، وأكل الطعام المطبوخ، وإشعال النار، وهي نفس
الأمور التي تستريح منها المرأة الحائض. وقد دعي هذا اليوم بيوم
«السباتو» أي يوم الراحة، وكانوا يحتفلون به في كل شهر، ثم مرة في
كل ربع من أرباع الشهر القمري، وعنهم أخذ اليهود هذه العادة أيام
السبي، فجعلوا يوم السبت يوم راحة للرب فيه استراح من عناء الخلق،
ودعوا ذلك اليوم بيوم اﻟ «سبات»، وفرضوا على أنفسهم فيه محرمات
مشابهة ما زالت تسيطر على سلوكهم حتى اليوم.
وفي اللغات الحديثة، نجد أثرًا للاعتقاد القديم بعلاقة طمث
المرأة بدورة القمر؛ ففي اللغة الإنكليزية نجد أنَّ كلمة
menstruation الدالة على الطمث
إذا ما أُرجعت إلى أصولها تعني «التغير القمري». وفي الفرنسية من
الشائع أن يشار إلى الحيض على أنه «وقت القمر»، وفي ألمانيا يطلق
الفلاحون في بعض المناطق على فترة الطمث بشكل مباشر اسم القمر. وفي
الكونغو يستعمل الأهالي كلمة واحدة للدلالة على الطمث والقمر،
وكذلك في بعض مناطق الهند. وكثير من اللغات البدائية تستعمل تعبير
«المرض القمري» للدلالة على الحيض.
٢٦
ولعل اقتران المرأة بالقمر له ما يبرره في نظر الإنسان القديم،
فكلاهما ينتميان إلى المبدأ السالب في الطبيعة والكون، ذلك المبدأ
الذي أطلق عليه الفكر الصيني اسم اﻟ «ين» ويقابله اﻟ «يانغ» المبدأ
الموجب الذي ينتمي إليه كلٍّ من الشمس والذكر. من تفاعل هاتين
القوتين المتكافئتين تستمر حركة العالم ومكوناته، التي تتداخل فيها
القوتان فتتعادلان أحيانًا، وتغلب إحداهما أحيانًا أخرى، دون أن
تلغي الواحدة نظيرتها. ففي قبة السماء يسود اليانغ، وفي الأرض
الين. في الماء يسود الين وفي النار يسود اليانغ. في المرأة يسود
الين وفي الرجل يسود اليانغ … إلخ. فالين هو العتم، الظل، الرطوبة،
الغموض. واليانغ هو النور الساطع، الحرارة، الجفاف، القوة،
الإنجاز، الوضوح.
٢٧ أما الفكر اليوناني فقد أطلق على المبدأ السالب اسم اﻟ
«الإيروس»، والمبدأ الموجب اسم «اللوغوس». فالإيروس هو عالم
الطبيعة والرغبات والغرائز وخفايا النفس؛ أما اللوغوس فهو التسلط
على الطبيعة، والمنطق، والتفكير المنظم البارد. إلى الإيروس تنتمي
المرأة وإلى اللوغوس ينتمي الرجل. وفي علم النفس الحديث أطلقت
المدرسة اليونغية على الطاقة الموجبة في النفس البشرية اسم
«الأنيموس»، والطاقة السالبة اسم «الأنيما». فالأنيما هي الأنثى
الكامنة في كل رجلٍ، والأنيموس هو الرجل الكامن في كل
امرأة.
كما يحكم إيقاع القمر حياة
المرأة، فإن الرجل يحكم حياته إيقاع الشمس؛ فالشمس هي مصدر منتظم
للنور والحرارة، تخضع في شروقها وغروبها لنظام وقانون دقيق؛ تشع في
النهار وتختفي في الليل لتظهر ثانية في الصباح، ولا أحد يشك في
شروقها التالي. أما القمر فنوره متبدِّل متغيِّر، يشرق في الليل،
ولكن شروقه لا يتواقت مع ابتداء الليل مثلما يتواقت شروق الشمس مع
ابتداء النهار، بل يبدو أن شروقه تابع لمزاجه الخاص؛ فقد نراه مع
المغيب، ثم يغوص نحو الغرب، وقد يطلع من الشرق في أوائل الليل، أو
في أوسطه، أو نحو نهايته، أو لا يطلع أبدًا تاركًا سماءنا في ظلام،
أو يظهر، ويا للغرابة، في وسط النهار مؤكدًا وجوده سابحًا في أرجاء
السماء المملوءة بنور الشمس. إنه الأنثى المتقلبة المزاج، الغامضة
الأطوار، التي تستلهم في سلوكها خصائصها الطبيعية لا قوانين
التنظيمات الاجتماعية المحكمة. أمَّا الشمس فهي الذكر، واضع
القوانين وعبدها، يصوغ الغايات والأهداف المتعالية على نظام
الطبيعة، ولا يخلص من ربقتها طوال حياته. الرجل نظام المجتمع، ينظر
دومًا نحو الأعلى، راغبًا في مزيد من الإنجاز وتحقيق عظائم الأمور،
أمَّا المرأة فهي حكمة الطبيعة، تنظر دومًا نحو الأرض، تنشد
السعادة التي تحققها حركة الجسد في إيقاعه الطبيعي، لا حركة الذهن
في إيقاعه المجرد المتعالي.
يتبع الرجل في حياته منحًى
ثابتًا لا يكاد يتغير، تمامًا كمنحنى الشمس. أما المرأة فحياتها
مليئة بالتغيرات الجذرية التي تبدل كيانها وتهزه، وبالمنعطفات
الحاسمة التي تحمل لها تحولات أساسية لا تستطيع لها تبديلًا أو
عنها رجوعًا. إن التغيرات التي تطرأ على جسد المرأة وروحها عند
البلوغ لا تقارن، كمًّا ونوعًا، بالتغيرات التي تطرأ على الذكر،
وفعل الحب الأول في حياة المرأة ليس كفعل الحب الأول في حياة
الرجل؛ فهو يجعل من المرأة مخلوقًا جديدًا من الناحية الجسدية
والنفسية، بينما لا يكاد يترك في نفس الرجل أو جسده أثرًا أو
علامة، يتجاوزه بثبات دون أن ينظر نحو الوراء. والمرأة قبل الحيض
هي غيرها أثناءه وغيرها بعده. وهي قبل الحمل غيرها بعد الولادة. ما
إن تلد المرأة حتى تغدو أمًّا … لا يهم إن مات ابنها أو عاش بعد
ذلك، لقد صارت أمًّا مرة واحدة وإلى الأبد، وبذرة الحياة دومًا
هناك، تنبض تحت القلب كما نبضت طوال تسعة أشهر. يُقبل الرجل على
فعل الجنس كما يُقبل على أي نشاط آخر من نشاطات الحياة؛ أمَّا
المرأة فهي عذراء قبل الجنس، ولكنها أمٌّ بعده، تهب نفسها في كل
مرة وكأنها المرة الأولى.
أسبقية عبادة القمر
لقد كان مشهد الليل الجليل وقبة السماء الحالكة بنجومها وشهبها
ومذنباتها السابحة، من أكثر المشاهد تأثيرًا في نفس الإنسان
القديم. فكان الليل بالنسبة إليه هو الأصل والنهار هو الفرع. الليل
هو الأزلي، والنهار هو الحادث. عن عتمة الليل القديمة، أخذ الكون
بالتمايز، وعن العماء الأول ظهرت الموجودات وترتبت كما تظهر نجوم
السماء في كل يوم من جوف الليل، وعن الظلمة الخافية ظهرت المرئيات
الواضحة. الخلق فعل سري يسمو على الإفهام، ولذا فإنه يصدر عن الليل
والظلمة، لا عن النهار والنور، والعتم هو الرحم البدئي الذي حبل
بالكون وأنجبه.
بتأثير هذه النظرة القديمة، تؤكد معظم أساطير الخلق والتكوين على
ظهور النشأة الأولى من لجة الظلمة الأزلية؛ ففي أسطورة التكوين
البابلية، كانت تعامة هي الرحم المائي المظلم الذي نشأ عنه الكون
والآلهة. وفي الأسطورة المصرية نجد «نون» العماء البدئي المظلم
والرحم المائي الذي أنجب أول الآلهة «رع». وعند الكنعانيين نجد أنه
في البدء لم يكن هناك سوى ريح عاصفة وخواء مظلم.
٢٨ وفي التكوين التوراتي نجد أنه في البدء خلق الرب
السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة،
وروح الرب يرف فوق الماء.
٢٩ وفي الأسطورة السومرية، تنبثق الأجرام السماوية من
ظلمة العالم الأسفل عندما يهب الإله إنليل سيد مجمع آلهة سومر إلى
العالم الأسفل، ويضاجع الإلهة ننليل التي تتبعه إلى هناك عند كل
بوابة من بواباته السبع، فكان القمر أو مولود لها من إنليل، ثم إن
القمر نفسه صار بعد ذلك أبًا للشمس.
٣٠
ومن المثير للتأمل حقًّا، أن العديد من أساطير التكوين لم يربط
بين الشمس والنور، ولم يجعل صلة بينها وبين تتابع الأيام؛ ففي
أسطورة التكوين البابلية تظهر دورة الأيام واختلاف الليل والنهار،
قبل ظهور الشمس إلى الوجود. وفي التكوين التوراتي، يقوم يهوه بخلق
النور وتمييز الليل عن النهار قبل أن يخلق الشمس؛ فخلق النور قد
تمَّ في اليوم الأول من أيام التكوين: «وقال الرب ليكن نور فكان
نور، ورأى الرب النور أنه حسن وفصل الرب بين النور والظلمة. ودعا
الرب النور نهارًا والظلمة دعاها ليلًا.»
٣١ أمَّا خلق الشمس فلم يتم إلا في اليوم الرابع من أيام
التكوين: «وقال الرب لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار
والليل وتكون لآيات وأوقات وسنين، وتكون أنوار في جلد السماء لتنير
على الأرض وكان كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين؛ النور الأكبر
لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل … وكان مساء وكان صباحٌ
يومًا رابعًا.»
٣٢
إن أولوية الليل على النهار تستدعي أولوية القمر، سيد الليل على
الشمس، وأسبقية الديانات القمرية على الديانات الشمسية. ففي جميع
الثقافات كانت الميثولوجيا القمرية سابقة على الميثولوجيا الشمسية.
٣٣ ويكاد يجمع دارسو الأسطورة، في يومنا، على هذه
الحقيقة، وكذلك علماء الأنثروبولوجيا ممن درسوا الثقافات البدائية
المعاصرة التي تسود فيها الديانات القمرية أو أشكال أخرى متطورة عنها.
٣٤ ففي ميلانيزيا بشتى مناطقها، تُجمِع الأساطير على أن
الأم القمرية الكبرى هي خالقة الكون وسيدته، وإلى جانبها يعبد
الأهالي ابنيها القمر المتزايد والقمر المتناقص، وليس للشمس في
دياناتهم إلا مكانة ثانوية. وفي غينيا الجديدة، يسود اعتقاد مشابه
بسيدة القمر وابنيها. وعندما نزل الإسبان في إندونيسيا وجدوا القمر
هو المعبود الرئيسي لكثيرٍ من قبائلها، وما زالت عبادته قائمة
اليوم لدى بعض قبائلها البدائية. وفي بولونيزيا لا تكاد الشمس تلعب
دورًا مهمًّا في الدين والأسطورة اللذين يتركزان حول القمر. ولدى
قبائل الإسكيمو تقوم الشمس مقام الأخت بالنسبة للقمر الذي تدور
حوله دياناتهم، ويعتقدون أن نور الشمس وحرارتها قد استُمدت منذ
القديم من القمر. ويؤمن الهنود الحمر في أمريكا الشمالية بالأم
القمرية الكبرى ويدعونها بالمرأة القديمة، والمرأة المتغيرة،
والمرأة الأبدية. وفي أمريكا الوسطى والجنوبية، التي يعتبرها البعض
الموطن التقليدي للديانات الشمسية، لم تكن هذه الديانات، في حضارات
الآزتك والإنكا، إلا من خلق الطبقة الحاكمة الأرستقراطية التي كانت
تجبر الناس على بناء هياكل الشمس، أمَّا الطبقات الشعبية فقد بقيت
على معتقداتها القمرية السابقة. وفي أفريقيا بقي كثيرٌ من القبائل
البدائية حتى وقت قريب أمينًا للديانات القمرية وسيدتها
الكبرى.
مع انهيار الثقافات الأمومية وصعود الثقافات الذكرية، غلبت الشمس
القمر، وتوطدت الديانات الشمسية السماوية، وراح آلهة الشمس وآلهة
السماء السامية يبنون أمجادهم بعد معارك حاسمة مع سيدة العتم
وابنها الثور. فقتل مردوخ الأم تعامة في صورة تنين رهيب، ومثله
إندارا في الهند الذي ارتفع على أشلاء تنينه أيضًا، وزيوس في الغرب
الذي قتل التنين طيفون ابن الأرض، وميترا الفارسي الذي شاعت عبادته
في العالم اليوناني الروماني بعد الميلاد والذي قتل الثور السماوي،
فأحل نور الشمس محل ضوء القمر. وإلى جانب آلهة الشمس وآلهة السماء
السامية، قام الأبطال الشمسيون أنصاف الآلهة بأفعال مشابهة ترمز
إلى قيام الطبقات العسكرية الحاكمة الأوليجاركية بإحلال عبادة
الشمس محل عبادة القمر عند أعتاب الحضارة. إن أساطير هؤلاء الأبطال
بشكلها المزخرف الأخير وبهائها الأدبي لا تخفي أصلها القديم وشكلها
الأول الذي صاغه آباء الانقلابات الدينية قبل مطلع عصور الكتابة،
وكل أفعالهم تتركز على قهر الرموز القمرية. فهذا جلجامش البابلي
حبيب «شَمَشْ» إله الشمس، يسير برعاية إلهه وتوجيهه فيقتل مع صديقه
أنكيدو تنين غابة عشتار. وتجعل الأسطورة الذكرية من عشتار امرأة
لعوبًا تقع في حب جلجامش الذي يُعرض عنها ويقوم بتحقيرها وتعداد
مثالبها، فترسل ضده ثور السماء الذي يقتله جلجامش دون عناء. إن هذه
الأسطورة التي دُونت مع أسطورة تعامة ومردوخ في مطلع الألف الثاني
قبل الميلاد، وهو عصر صعود الملك حمورابي وإرساء دعائم
الإمبراطورية البابلية، ليست إلا تردادًا لأسطورة شفهية قديمة
تُظهر الصراع بين البطل الشمسي من جهة والأم الكبرى وابنها الثور
من جهة أخرى. ولعلها في الأصل ليست إلا صراعًا بين شَمَشْ نفسه
وعشتار.
ومثل جلجامش هرقل، البطل الإغريقي ابن زيوس من امرأة بشرية، الذي
يوجه معظم أعماله الخارقة ضد الرموز القمرية. يقتل هرقل «هيدرا»
التنين ذا الرءوس السبعة، ويمرغ أنف الإلهة أرتميس في التراب عندما
يقبض على أيلها البري المقدس الذي لم يقدر عليه أحد من قبل، ويقبض
على الخنزير البري الشرس، وهو من الرموز التقليدية للأم الكبرى،
ويصرع الثور الإلهي المتوحش، ويتغلب على قبيلة النساء الأمازونيات.
وبعده يأتي «ثيسيوس» ابن الإله بوسيدون من امرأة بشرية، الذي يقتل
الميناتور، الثور الكريتي ساكن قصر التيه. إن أسطورة قتل الميناتور
ليست في الحقيقة سوى صياغة أسطورية لواقعة تاريخية تتعلق بهجوم
القبائل البطريركية اليونانية على كريت، وتقويض ثقافتها الأمومية
وهدم هياكلها القمرية، وتحطيم تماثيل الإله الثور الابن وإحلال
عبادة الآلهة الآباء. ومن الشواهد الباقية في الأساطير اليونانية
على الصراع القديم بين الآلهة الشمسية والآلهة القمرية، تلك القصص
التي تروى عن صراع آلهة الأوليمب مع العمالقة؛ فكلُّ إلهٍ أوليمبي
كان له معركة مع عملاق أو أكثر، تنتهي بانتصاره المؤزر الذي يعزز
مكانته في مجمع الآلهة العلوية. إن المعنى الكامن وراء هذا الصراع
ضد العمالقة لا يتضح إلا إذا رجعنا إلى الأصول اللغوية لكلمة
العملاق. فالكلمة الدالة على العملاق في اللغة اليونانية واللغات
الأوروبية الحديثة هي
(giant)
جيانت المستمدة من «جايا» الأم-الأرض. فالعملاق والحالة هذه هو ابن
الأرض جايا، التي كانت تُصوَّر في بعض المشاهد وقد انبثقت من
الأعماق لتحمي ابنها من عدوان الإله الأوليمبي.
٣٥
لقد أخذتِ الميثولوجيا
الشمسية ببناء نفسها على الأسس السابقة للميثولوجيا القمرية، وأخذ
الآلهة الشمسيون يتبنون خصائص وصلاحيات الأم القمرية وابنها. كما
استطاعت الميثولوجيا الشمسية تحويل بعض الآلهة القمرية إلى آلهة
شمسية. فمردوخ-بل، سيد آلهة بابل ليس إلا بعل الكنعاني، الإله
القمر بالأصل الذي أتت به سلالة حمورابي السورية. كما أن بعل قد
تحوَّل إلى إله شمسي في كثير من مناطق عبادته الأصلية، وذلك كبعلبك
وتدمر حيث أقيمت له هياكل الشمس على أنقاض هياكل القمر. وزيوس
الإغريقي أعتى الآلهة الذكور وسيد البانثيون الإغريقي، ليس إلا
زيوس الثور، ابن الأم الكريتية الكبرى الذي حمله معهم الآخيون إلى
أرض اليونان عقب دمار الحضارة المينوية. ولعل التعمق في دراسة
شخصية ومنحى تطور بعض الآلهة التي اعتُبرت شمسية منذ ظهورها،
يوصلنا إلى أصلها القمري القديم. وهذه نقطة لا نستطيع التوسع في
بحثها هنا.
القمر والخصوبة
وجد الإنسان القديم علاقة بين القمر وخصب الأرض ونمو الزرع، قبل
أن يكتشف العلاقة الفعلية بين الشمس والحياة النباتية. فضوء القمر
الأصفر اللين، وطراوة الليل الذي تترك أردانه، قبل أن ينجلي، ندى
يمد أوراق النبات بالحياة، ورطوبة تنعش الأرض، كانت في تصور
الإنسان أكثر ملاءمة لحياة الزرع من أشعة الشمس الحارقة ونور
النهار الساطع. ومن ناحيةٍ أخرى؛ فقد لاحظ الإنسان أن تتابع الفصول
هو الذي يهيئ الشروط لتستكمل الدورة الزراعية غايتها، وأن تتابع
الفصول بدوره نتاج دورة القمر الشهرية التي تضع علامات الزمن. فكان
القمر بالنسبة للإنسان خالق الزمن وسيده، ورب الفصول التي تتوج
حركتها بفصل الربيع الذي يحيي الأرض بعد سباتها.
وقد عبَّرت الأعمال التشكيلية للحضارات الأولى في ثقافات الشرق
القديم عن علاقة القمر بخصب الأرض ونمو الزرع والشجر، مدفوعة إلى
ذلك بالأفكار التي ورثتها عن الثقافات النيوليتية، فنجد في كثيرٍ
من الرسوم أن القمر والشجرة يندمجان في وحدة تشكيلية جمالية؛ ففي
الشكل
٣-٤، يبدو القمر وكأنه جزء عضوي من
أجزاء الشجرة التي رسمها الفنان البابلي بأسلوبٍ زخرفي تبسيطي
جميل.
وفي الشكل
٣-٥ يكرر الفنان الآشوري نفس
العناصر، متبعًا نفس الطريقة الزخرفية، مع إضافة الحيوانات إلى
الوحدة التشكيلية؛ لأن القمر مسئول أيضًا عن تكثير الحيوانات وعن
توالد الإنسان.
إن مسئولية القمر عن نفخ الحياة في البذور الجامدة، وإرسال مياه
المطر، وتوزيع الندى، وتفجير الينابيع، هي فكرة ميثولوجية شائعة
نستطيع تتبعها في كل الثقافات، ولعل دراسة معتقدات الشعوب البدائية
الحديثة تعطينا صورة عن بقايا معتقد الإنسان القديم؛ ففي كولومبيا
البريطانية يرسم الأهالي صورة القمر، وقد علقت على أطرافه أباريق
الماء التي يسكب منها على الأرض. ويعتقد الهنود الحمر في أمريكا
الشمالية بأن القمر مسئول عن هطول الأمطار والإنبات ويدعونه بأم
الذرة، المحصول الرئيسي لديهم. وفي البرازيل تدعو القبائل القديمة
القمر بأمِّ المحاصيل. وفي الهند هو حامل البذور، وأيضًا حامل
النباتات. وفي الإسكيمو يعتقد الأهالي بأنَّ القمر هو الذي يرسل الثلج.
٣٦
وإضافة إلى خصوبة الأرض، فإن القمر مسئول عن خصوبة النساء؛ ففي
غرينلاد يسود الاعتقاد بأنَّ القمر هو الذي ينفخ الحياة في أرحام
النساء؛ لذلك فإن المرأة غير الراغبة في الحمل لا تنام على ظهرها
ليلًا دون أن تغطي منطقتها بإحكام؛ خوفًا من تسلل شعاع القمر. وفي
نيجيريا يقتصر دور الفعل الجنسي الذي يمارسه الرجل على تسهيل مهمة
القمر الذي يعتبر المسئول الحقيقي عن الحمل. ولدى قبائل الماوري في
أمريكا الشمالية يسود الاعتقاد بأن القمر هو زوج النساء جميعًا.
وتعتقد بعض القبائل في منغوليا ومناطق أخرى من العالم بأن القمر
قادر وحده أحيانًا ودون تدخُّل الرجل على إخصاب النساء.
٣٧ وتقوم المرأة المتزوجة حديثًا، لدى بعض هنود تكساس،
بالوقوف عارية في وعاء مملوء بماء تمَّ تعريضه لضوء القمر. وفي بعض
روايات ولادة البوذا أنه قد وُلد من عذراء لقَّحها ضوء القمر. ويصف
الفُرس القمر بأنه حافظ بذور الثور؛ لأن أسطورة قديمة تقول بأن
الإله الثور قد أودع بذوره المخصبة في القمر. وفي أنحاء كثيرة من
العالم ما زالت النساء ترفع المولود الجديد عاليًا نحو القمر
ليبارك نموه. وفي أوروبا الوسطى اليوم تحذر الفتيات بعضهنَّ البعض
مازحات من الشرب من ماء بركة ينعكس عليه خيال القمر لكيلا تحملن.
وفي مقاطعة بريتاني بفرنسا يتندر الناس بالقول: إن على المرأة ألا
تكشف جزءها الأسفل تحت ضوء القمر وإلا حملت منه.
٣٨ ومما لا شك فيه أن هذه المعتقدات المتشابهة، إنما ترجع
في أصولها إلى الإيمان القديم بالقوة الخالقة للأم القمرية الكبرى،
التي تنفخ الحياة في أرحام النساء وتهب الجنسين خصوبتهما، كما تفعل
في الطبيعة النباتية.
إلى جانب مسئوليتها عن حمل النساء، فإن الأم القمرية ترعى حياة
النساء الحوامل، وتكون حاضرة فوق سرير الولادة لتسهيل عملية الوضع،
وكانت نساء بابل يتوجَّهن بالدعاء إلى عشتار وهنَّ على فراش الوضع.
ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ لأن الأم الكبرى أيضًا، ولدى كل
الثقافات، راعية النساء في شتى مراحل حياتهنَّ، وكانت إلهتهنَّ
الأولى. نقرأ في ترتيلة بابلية إلى عشتار:
تعين النساء، فتاة أو امرأة أو أَمَة.
نافذة شرائعها سامية محكمة.
٣٩
لهذا السبب كان أهل حران في سوريا يقولون إن
الشعوب التي تعتقد بأنوثة القمر وتعبده في هذه الصفة، تُسلِم
قيادها لنسائها، أمَّا الشعوب التي تعتقد بذكورة القمر وتعبده في
هذه الصفة، فإن لرجالها الغلبة على نسائها، ومثل هذه الفكرة كانت
شائعة لدى قدماء الأنكلوساكسون الذين اعتقدوا بأن النظر إلى القمر
باعتباره أنثى يؤدي إلى غلبة النساء في المجتمع.
٤٠
كل هذه البركات التي
يمنحها القمر، قد جعلت من ظهوره في أول الشهر بشرى طيبة يترقبها
الناس في كل مكان. وما زال التفاؤل برؤية القمر الجديد قائمًا إلى
يومنا هذا لدى كل الشعوب دون أن يدركوا تفسيرًا لذلك. وفي بلادنا
يفضل الناس رؤية القمر الجديد مع شخصٍ يحبونه لتحمل لهم أيام الشهر
المقبلة حظًّا طيبًا، فيقول أحدهم: لقد رأيت القمر على وجه فلان أو
فلانة، فإذا رأوه في صحبة غير محببة تطيَّروا وتوقعوا حظًّا
عاثرًا.
الأطوار الثلاثة للقمر
إذا كانت الشمس تبدد الظلام وتمحوه، فإن القمر يتآلف معه ويتعايش
معه جنبًا إلى جنب. انظر إلى السماء في ليلة مقمرة، تجد ضوء القمر
يلج في العتم ويتشابك معه، والعتم يعشعش في ضوء القمر ويسكن بين
أجزائه؛ فالنور والظلام لا يتنافران عند سيدة القمر بل يتجاذبان
وعندها يلتقيان. نحو النور تدير وجهًا، ونحو الظلام تدير وجهها
الآخر، وفي دورة حياتها الشهرية تظهر الضدين، وتوحد بينهما من خلال
تعاقب أطوارها الثلاثة: الطور المتزايد، والطور الكامل، والطور
المتناقص.
يمر القمر في ثلاثة أطوار منذ ظهوره في أول الشهر وحتى اختفائه
تمامًا في آخره؛ الطور الأول هو الفترة التي يقضيها الهلال في
التزايد التدريجي والتحول من خيطٍ رفيعٍ إلى قرص مكتمل، والطور
الثاني هو فترة القمر البدر الذي يتوسط كبد السماء بكامل استدارته
وتألقه، والطور الثالث هو الفترة التي يقضيها القمر في التناقص
والميلان عن كبد السماء حتى التلاشي والغوص في أعماق الظلام. وقد
اعتقد الأقدمون أن بركة القمر وخصائصه الإيجابية إنما تكمن في طوره
المتزايد؛ طور اكتمال النور؛ لذلك كانوا يباشرون تحضير حقولهم
للموسم الزراعي، ويقومون بفلاحتها وبذرها خلال أيام القمر
المتزايد، ويشرعون في كل عملٍ يريدون له نجاحًا خلال هذه الفترة،
فإذا ابتدأ القمر بالتناقص كان ذلك نذيرًا بكل سوء محتمل، فكانوا
يقلعون عن مباشرة الأعمال الزراعية والشروع في أيِّ نشاط يأملون له
فلاحًا؛ ذلك أنَّ الأم القمرية الواحدة، مسئولة عن القوى السالبة
في الكون مسئوليتها عن القوى الموجبة، وعن الخير مسئوليتها عن
الشر، وعن الحياة مسئوليتها عن الموت. وهي في طورها المتناقص قد
تأخذ ما أعطته في طورها المتزايد. وعندما تختفي تمامًا في الأعماق
ترسل عفاريت العالم الأسفل لقبض أرواح من وهبتهم الحياة. إن ديانة
تؤمن بإله واحد ولا تؤمن معه بوجود إبليس يحمل عنه مسئولية الشرور
في العالم، ستتوصل ولا شك إلى إيمانٍ بوحدة النقيضين في تركيبٍ
واحدٍ.
لقد عبرت الأعمال التشكيلية القديمة عن هذه الوجوه الثلاثة
لعشتار سيدة القمر بأساليب رمزية مختلفة؛ ففي سوريا رمز الفينيقيون
إلى أطوار عشتار الثلاثة، بثلاثة أعمدة متفاوتة الطول يعلوها
الهلال، أو بثلاثة أعمدة يتخذ كل واحد منها هيئة صليب يعلوه هلال
(الشكلان
٣-٦ و
٣-٧). وقد
يرسم القمر على شكل دائرة تحتوي على ثلاثة أهلة، يرمز كل منها
لطورٍ من أطواره، كما هو الأمر في بعض النقوش البابلية (الشكل
٣-٨).
وعندما تحول القمر إلى إله مذكر في بلاد الرافدين تحت اسم «سن»،
بقيت الأعمال التشكيلية تعبِّر عن وجوهه الثلاثة. ففي الشكل رقم
٣-٩ نجد إله القمر جالسًا في الوسط حاملًا
قرص البدر يحيط به الهلال، وأمامه حيوان مقبل يشير إلى القمر
المتزايد ووراءه آخر مدبر يشير إلى القمر المتناقص. إضافة إلى هذه
الرموز التشكيلية، فإن الأم القمرية قد صُورت أحيانًا في هيئة
مثلثة، كما هو الحال في الشكل (
٧-٤) الذي يمثل
الإلهة الإغريقية أرتميس — هيقات بثلاثة رءوس يلتفت أولها إلى
اليمين دلالة القمر المتزايد، والثاني نحو الأمام دلالة القمر
التام، والثالث إلى اليسار دلالة القمر المتناقص، ويتعلق بيدها
اليسرى كلب الجحيم الضاري واثبًا على قائمتيه الخلفيتين. هذا وسوف
ندرس مزيدًا من الأعمال التشكيلية المعبرة عن ثلاثية الأم القمرية
في فصل عشتار السوداء اللاحق.
وقد يؤدي تثليث سيدة القمر
إلى عبادتها في ثلاثة أشكال، كما هو الحال في الأم الكبرى لحضارة
السلت «بريجيت». كانت بريجيت أم الآلهة وسيدة الطبيعة، ومن ألقابها
«الأم الطيبة». وكانت أيضًا أمًّا قمرية تُدعى ﺑ «المتألقة» وﺑ
«مونا»، وهو الاسم الذي بقي قائمًا في اللغات الأوروبية للدلالة
على القمر. وقد عُبدت هذه الإلهة في ثلاث إلهات، اسم كل منهنَّ
بريجيت. وفي الفترات المسيحية الأولى اختلطت هذه الإلهة بالسيدة
مريم، فدعاها البعض بمريم الغوليين نسبة إلى الغول من سكان فرنسا
القدماء، كما دعيت بأم المسيح.
٤١
وربما كان تثليث الأم الكبرى لجزيرة العرب هو الذي أدى إلى
انقسامها إلى ثلاثة من اللات والعُزَّى ومَناة، اللواتي كنَّ أعلى
آلهة العرب شأنًا، وكان اسمهنَّ يُذكر أثناء الطواف حول الكعبة.
ورغم استقلال كل قبيلة عربية بعبادة واحدة من هذه الإلهات، فإن كل
إلهة على حدة كانت تظهر خصائص تثليثية واضحة. ففي كتاب «الأصنام»
لابن الكلبي نقرأ عن تثليث الأم العربية الكبرى إن: «العُزَّى قد
عُبدت مجسمة في ثلاث شجرات من شجر السُّمَّار بوادٍ اسمه حراض،
وتقول الروايات إن الرسول قد أمر خالد بن الوليد بهدم بيت العُزى
وقطع سُمَّراتها الثلاث؛ فأتاها فقطع الشجرة الأولى ثم الثانية،
وعندما همَّ بالثالثة خرجت عليه امرأة حبشية عريانة، نافشة شعرها،
واضعة يدها على عنقها، تصرُّ بأنيابها، وخلفها سادنها ينشد:
أعُزَّاء شُدِّي شَدَّةً لا تكذبي
على خالد ألقي الخمار وشمري
فقال خالد:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها وقتل السادن وقطع الشجرة، ثم أتى رسول الله
فأخبره، فقال: تلك العُزَّى، ولا عُزَّى بعدها للعرب، أما إنها لن
تُعبد بعد اليوم.»
٤٢
وقد حاول الفن المسيحي اتباع أسلوب التثليث في رسم المسيح، إلا
أن الكنيسة كانت ضد هذا الاتجاه في أحيان كثيرة؛ لأنها رأت فيه
نوعًا من الوثنية المقنَّعة. وقد قام البابا أوريان الثامن عام
١٦٢٨ بإزاحة هذا النوع من التماثيل أو التصاوير من كنائس إيطاليا
وأمر بإحراقها علنًا،
٤٣ إلا أن بعضها قد بقي قائمًا حتى فترات قريبة جدًّا
كالأيقونة الموضحة في الشكل (
٣-١١).
هذا وقد عُبدت الأم
القمرية من خلال رمز الكتلة الحجرية؛ فالصخر الذي هو رمز الأرض هو
في الوقت نفسه رمز للقمر. وكان لون الحجر الذي تُعبد فيه عشتار
يعكس طورها المنير أو طورها المظلم؛ فالأم الكبرى لجزيرة العرب كان
لها أكثر من حجرٍ مقدَّس؛ من ذلك الحجر الأسود للإلهة مناة الذي
كانت تعظِّمه العرب وخصوصًا الأوس والخزرج، ولم تزل على ذلك حتى
خرج الرسولُ من المدينة عام الفتح وبعث عليًّا فهدم الحجر.
٤٤ وكان للات حجر مربع أبيض في الطائف هدمه المغيرةُ بن شعبة.
٤٥ وكان للأم الكبرى لآسيا الصغرى «سيبيل» حجر مقدس أسود
في مقر عبادتها الرئيسي في فرجيا نقله الرومان إلى عاصمتهم في
احتفال تاريخي مشهود، أرَّخ لانتقال عبادة سيبيل إلى روما. (وسوف
يأتي حديث هذا الحجر بتفصيل أكثر في موضعٍ لاحقٍ). وعشتار
الكنعانية كان لها حجر أبيض في بيبلوس ومثله في قبرص.
٤٦ وقد يتحول شكل الكتلة الحجرية إلى عمود متطاول أو
مخروطي، يظهر في النصب أو المنحوتات البارزة وقد علاه هلال.
القمر والصليب
يظهر رمز الصليب أكثر
ارتباطًا بالأم الكبرى في تجليها القمري. فخطَّا الصليب المتقاطعان
ربما يرمزان إلى الامتداد اللانهائي للحضور الإلهي، وإلى شمولية
الأم الكبرى. وإذا كان الصليب قد وجد مرسومًا على جدران المعابد
النيوليتية ومنقوشًا على خزفيات تل حلف وسامراء، فإن الأم الكبرى
نفسها قد نُحتت وصُوِّرت في هيئة الصليب، كما هو الأمر في مستوطنة
شتال حيوك التي صورت فيها الأم الكبرى بالطريقة الكلاسيكية
المعروفة لذلك العصر، وبطريقة تبسيطية رمزية؛ ففي النوع الثاني
يشكل جسم الإلهة خط الصليب العمودي، بينما ترسم الذراعان خطه
الأفقي، أمَّا الساقان فمبسوطتان على مدهما ومتقاطعتان مع الجسم
الذي لا يظهر من تكوينه الواقعي سوى السرة (الشكل
٣-١٢).
ومع مطلع عصور الكتابة
يتابع الصليب اقترانه بالقمر؛ ففي أهرامات الجيزة عثر على أشكال
زخرفية تمثل الأم الكبرى في هيئة الصليب الذي يعلوه الهلال، حيث
استبدل الرأس بالهلال (الشكل
٣-١٣). وهذه
الأشكال استمرار للصلبان الزخرفية التي وجدت على جدران معابد شتال
حيوك (الشكل
٣-١٤). وفي بلاد الرافدين كانت
شارة عشتار البابلية عبارة عن دائرة مكتملة يعلوها صليب. وهذه
الشارة بالذات هي التي استعملها الفن الديني المصري للدلالة على
الحياة الأبدية، والتي لا يخلو منها رسم أو تمثال. وفي جميع حضارات
الشرق الأدنى والبحر المتوسط يقترن الصليب بالهلال، أو يستعمل كرمز
تبادلي له؛ فقد يرتكز الهلال على قمة الصليب في النصب المقدسة
والنقوش (الشكل
٣-١٥). وقد نجد الصليب إلى جانب
الهلال أو في وسطه (الشكل
٣-١٦). هذا وقد
استمدت الرموز المسيحية هذا التكوين؛ حيث نعثر على الهلال الذي
يرتكز في وسطه عمود، أو صليب في بعض الكنائس اليونانية الأولى
(الشكل
٣-١٧).
لم يقتصر رمز الصليب على الحضارات القديمة، وبعض الديانات
العالمية، بل نراه رمزًا قائمًا لدى كثيرٍ من الديانات البدائية
الحديثة؛ فالهنود الحمر في كاليفورنيا يمثلون الأم الكبرى، وقد
امتدت أطرافها الأربعة على هيئة صليب. وتتخذ قبائل هندية أخرى
الصليب كرمز للاتجاهات الأربعة وللرياح الأربعة، ويضع أفراد قبائل
الماوري الصليب في أعناقهم كرمز للأم القمرية. وفي جزيرة إستير
المهجورة في المحيط الهادي والتي لا تحتوي إلا على تماثيل ضخمة لم
يُعرف صانعوها، نجد الصليب محفورًا في مواضع مختلفة من تلك
التماثيل، وتسود لدى قبائل بدائية كثيرة عادة رسم الصليب على
الأشجار لتحميهم من الأرواح الشريرة، كما يرفعون الصلبان في مكان
تقديم ذبائحهم للقمر.
٤٧
لقد رافق صليب الأم السورية الكبرى الإنسان منذ بدايات مغامرته
الروحية الكبرى، وما زال قائمًا بيننا يؤكد وحدة التجربة الروحية
للبشرية عبر العصور.
سيدة الموقف، سيدة الأقدار والمصائر
كانت حركة القمر الشهرية بالنسبة للإنسان القديم، هي المؤشر
الرئيسي على مرور الزمن، فكان مرور الأيام يحسب بالليالي، ومرور
الشهور يحسب بظهور القمر الجديد، وانقضاء العام يحسب بانقضاء اثني
عشر قمرًا متتاليًا. ولم تكن حركة القمر هذه مجرد ساعة كونية ترصد
الوقت؛ بل كانت بالفعل هي التي تصنع حركة الزمن؛ فالأم القمرية
الكبرى هي التي ابتدأت زمن الكون المنظم بعد أن خرجت به من أزمان
الهيولى الأولى، وهي سيدته القيِّمة على استمراره وتدفقه. ورغم
غلبة الآلهة الشمسية على سيدة القمر القديمة، فإنهم لم يستطيعوا
السيطرة على الزمن ولم يضعوا تقويمهم وسنتهم الشمسية إلا في وقتٍ
متأخر جدًّا من تاريخ الحضارة، حيث بقي التقويم القمري الأداة
الوحيدة التي استخدمها الإنسان لحساب الوقت وترقب حركة الفصول. فها
هو مردوخ بعد قتله الأم الكبرى في أسطورة التكوين البابلية، يؤكد
سيطرته على القمر ويأمره أن يبقى مقياسًا للوقت:
ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله بالليل،
وجعله حلية له وزينة، وليعين الأيام:
أن اطلع كل شهر دون انقطاع مزينًا بتاج،
وفي أول الشهر بقرنين يعينان ستة أيام،
وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك،
وفي المنتصف من كل شهر ستغدو بدرًا في كبد السماء.
٤٨
لقد كان البابليون يمثلون شهور السنة القمرية
بأبراج السماء الاثني عشر التي أسموها منازل القمر، كما أطلقوا اسم
زنار السيدة عشتار على دائرة الأبراج التي يقطعها القمر أثناء
عبوره في السماء. ومثلهم في ذلك كل شعوب الحضارات القديمة التي
بقيت على تقويمها القمري، إلى أن تمَّ اكتشاف التقويم الشمسي،
فتحول البعض إليه وحافظ البعض الآخر على التقويم القمري حتى العصر
الحديث، كالشعوب الإسلامية التي ارتبطت الشهور القمرية عندها
بالعبادات والمناسبات الدينية؛ نقرأ في القرآن الكريم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (البقرة: ١٨٩)، كما
نقرأ أيضًا عن وظيفة القمر كمؤشر للوقت: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس: ٣٩) عن هذه الآية يقول
تفسير ابن كثير: أي جعلناه يسير سيرًا يُستدل به على مضي
الشهور.
وفي اللغات الحديثة نجد آثارًا باقية من توقيت القمر، وحساب
الأيام بالليالي؛ ففي اللغة الإنكليزية ما زالت
(fortnight) تستعمل للدلالة
على أسبوعين. والكلمة اختصار ودمج لكلمتين هما
(fourteen) التي تعني أربعة
عشر، و(night) التي تعني ليلة. وفي
كثير من التعابير ما زالت كلمة
(moon) أي قمر تُستعمل للدلالة
على الشهر؛ من ذلك مثلًا كلمة
(Honeymoon) التي تُترجم
حرفيًّا إلى قمر العسل، ولكن المعني بها شهر العسل. وفي العربية ما
زلنا نقول: سأقضي ليلتين في هذا المكان، بمعنى سأمكث يومين. فإذا
عدنا إلى القواميس نستطلع أصل كلمة (الشهر) لوجدناه في ظهور القمر؛
فشهر الشيء إظهاره وإخراجه، وذلك كقولنا شهر سيفه؛ أي أخرجه من
غمده، والشهرة هي وضوح الأمر. وفي القرآن الكريم نقرأ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ. إن الشهر كعدد من الأيام لا تمكن
مشاهدته، وإنما يشاهد القمر عند ظهوره. وقد استُعملت هذه الكلمة
هنا بمعنًى مزدوج للدلالة على القمر وعلى أيام الشهر
القمري.
يستتبع سيطرة عشتار على الزمن، سيطرتها على الأقدار والمصائر
والنهايات. في لحظة الميلاد يكتب للإنسان مسار حياته وتحدد ساعة
فنائه، وفي نسيج الحياة تغرس الخالقة خيط الموت. في بداية الأزمان
ظهرت المادة البدئية، ومن هذه المادة الخام انبثقت مظاهر الكون من
الأدنى إلى الأعلى، ومن البسيط إلى المركب نسجت الأم الكبرى مادة
الكون في رحمها بإحكام وأطلقتها إلى خارج. ثم تابعت في رحمها
الأرضي المظلم وفي رحم وكيلاتها النساء، حبك نسيج التعضي الحي
وإظهاره مكتملًا. ولكن خيط الحياة مجدول بخيط الموت، وبداية
الأشياء تقود إلى نهايتها، وناسجة الحياة هي ناسجة المصائر
والنهايات. إن تيار الحياة الدائم الجريان، أشبه بنهر متدفق محكوم
بحركته الداخلية التي تحمل مياهه من نبعه إلى مصبه، حيث يتلاشى في
خضمِّ المحيط الواسع عائدًا إلى رحم المياه البدئية الأولى.
لهذا كانت عشتار، في ميثولوجيا معظم الحضارات، تحمل ألواح
الأقدار، وهي الألواح المحفوظة التي نُقشت عليها مصائر الأشياء
والأحياء، والتي اغتصبها الإله الذكر بعد إنزاله الأم الكبرى عن
عرشها السماوي. نقرأ في ملحمة التكوين البابلية، في مشهد استعداد
الأم تعامة للقاء مردوخ في ساح المعركة:
ومن الجيل الأول للآلهة في مجلسها،
اختارت كينغو، وجعلته عليًّا وعظيمًا،
وضعته أمام جيشها قائدًا،
فيشهر السلاح للمعركة ويبدأ الصراع.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار وزينت بها صدره
قائلة:
سيكون أمرك نافذًا وكلمتك ماضية.
ولكن النصر يكون أخيرًا لمردوخ الذكر، الذي يصرع تعامة
في مجابهة ثنائية، ثم ينثني على جيشها فيشتت شمله ويقبض
على قائده فيسلبه ألواح الأقدار التي أودعتها الأم بين
يديه.
أمَّا كينغو الذي وُضع رئيسًا عليهم،
فقد كبَّله وأسلمه إلى إله الموت.
جرَّده من ألواح الأقدار التي حازها دون حق،
فمهرها بخاتمه وزيَّن بها صدره،
ثم عاد إلى تعامة المقهورة.
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
٤٩
وها هي «إنانا» تشد إلى وسطها ألواح الأقدار قبل أن تهبط
إلى العالم الأسفل:
شدت إلى وسطها لوحات الأقدار السبع،
وبقية الأقدار المقدسة جعلتها إلى يدها.
وعندما تبدأ بهبوط درجات العالم الأسفل، وتخلع عند
كل درجة جزءًا من ثيابها وزينتها. لا يورد النص ذكرًا لألواح
الأقدار، ولا يشير إلى قيام عشتار بخلعها والتخلي عنها. وفي هذا
دلالة على أن ألواح الأقدار ليست ألواحًا مادية يمكن حملها باليد
أو شدها إلى الوسط فعلًا، بل هي رمز إلى خصيصة من خصائص الأم
الكبرى، كسيدة للمصائر.
وتشير بعض أسماء الأم الكبرى إلى علاقتها بالقدر والمصير، فلقد
رأينا أنَّ الأم الكبرى لجزيرة العرب قد عرفت بأسماء ثلاثة هي
اللات والعُزى ومَناة. عن هذه الأسماء ومعانيها نقرأ في القواميس
العربية: إن اسم اللات هو مؤنث لفظ الجلالة الله، والعُزَّى من العزيز،
٥٠ أمَّا مَناة فالاسم مشتق من المنيَّة. وقد استعمل
العرب كلمة المنية بمعنى الموت، ولكنها في الحقيقة لا تعني الموت
بحد ذاته، بل صفة له باعتباره أمرًا مقدرًا لا مهرب منه.
٥١ هذه السيطرة على المصائر والأقدار، قد أعطت الأم
الكبرى في جميع الحضارات اسم «النساجة»، وأيضًا «الغزَّالة»، فهي
التي تحيك نسيج الحياة، وتغزل خيط القدر. وهي إذ تحضر إلى سرير
الميلاد كربَّة للولادة، فإنها في نفس الوقت تحضر كسيدة للمصير،
وتكتب لكل مولود أقداره. ولا يقتصر دورها على قيادة مصائر البشر،
بل هي التي تغزل أيضًا خيط أقدار الكون برمته. وقد مثَّل الفكر
الأسطوري هذا الجانب من جوانب الأم القمرية بربات ثلاث: هنَّ ربات
القدر، يظهرن في فن بلاد الرافدين واقفات على تيس ذي قرنين كبيرين،
وفوقهن يتوسط الهلال المشهد. وفي الثقافة الإغريقية يظهرن تحت اسم
«الموريا» ربات القدر الثلاث المولودات من الليل البدئي، اللواتي
يحلقن فوق آلهة الأوليمب. وتبدو أفروديت نفسها في بعض أشكالها
ككبرى الموريا الثلاث.
٥٢
والسيدة مريم العذراء تصور في كثير من الأيقونات البيزنطية التي
تعالج قصة البشارة، وقد أمسكت بيدها خيطًا يمر من وسط جسدها
ملفوفًا على مغزل، وموضوع البشارة من أحب الموضوعات الدينية إلى
قلب صانعي الأيقونات البيزنطية وأكثرها انتشارًا؛ نظرًا لأهمية سر
التجسد في المعتقد المسيحي ونتائجه الخلاصيَّة. ويورد لنا دليل
التصوير الأثوسي التقنية التي يترتب على الرسام اتباعها في رسم هذه
الأيقونة:
«تمثل العذراء جالسة على عرش مواجهة الملاك، أو مديرة ظهرها
قليلًا ناظرة إليه أو خافضة عينيها تتأمل. تمسك بيدها اليسرى
الموضوعة على ركبتها خيط حرير أحمر ملفوفًا على مغزل، يمر بين
سبابة وإبهام يدها اليمنى الموضوعة على صدرها، وفي أعلى الأيقونة
دائرة داكنة تحوم وسطها حمامة بيضاء رمز الروح القدس، وتنحدر منها
ثلاثة شعاعات نور على البتول القديسة.»
٥٣ وفي بعض لوحات عصر النهضة، تظهر بوضوح علاقة الخيط
الذي تغزله العذراء بخيط القدر؛ ففي إحدى هذه اللوحات وهي من
ألمانيا القرن الرابع عشر، تظهر السيدة جالسة إلى مغزل وقد أمسكت
بيديها خيطه الذي يتقاطع عند سرتها مع دائرة تحتوي الجنين
الإلهي.
تستمر الأسطورة دائمًا حية في الخيال الشعبي بعد زوال تأثيرها
الديني والروحي، من خلال الحكايا الفلكلورية وحكايات الأطفال. فبعد
تفكك الأسطورة العشتارية، لم يبقَ من الأم الكبرى سوى جانبها
السالب المعتم الذي ما فتئت الأسطورة الذكرية تكرسه وتفرزه عن بقية
الوجوه العشتارية، حتى لم يبقَ من عشتار سوى جنيَّة الظلام،
والغولة والنهالة، والساحرة العجوز. وقد استمر مغزل عشتار متداولًا
إلى يومنا هذا في حكايات الساحرات الشريرات اللواتي يغزلن به دومًا
المصائر السوداء. وفي إحدى قصص الأطفال المتداولة حاليًّا في
بلادنا، والمستمدة من الفولكلور الأوروبي، يُرزق أحد الملوك بابنة
جميلة بعد عقم طويل فيقيم احتفالًا كبيرًا يدعو إليه نبلاء الدولة
وأعيانها. وكان في البلاد اثنتا عشرة ساحرة، كلهنَّ طيبات إلا
واحدة كان همها الأذى وتدبير الشر. دعا الملك الساحرات الطيبات إلى
الحفل، وأخذت كل واحدة منهن تهب الفتاة نعمة من النعم، فأعطتها
إحداهن الجمال والأخرى الصحة، والثالثة الخلق الحسن … وهكذا حتى
انتهين. عند ذلك هبَّت على المكان عاصفة قوية، ودخلت الساحرة
الشريرة العجوز، فوقفت عند سرير الطفلة مقدمة بدورها هديتها،
فقدَّرت على الفتاة أن تموت بوخزة من إبرة المغزل. أمر الملك
بإحراق كل المغازل في الدولة لكيلا تتحقق النبوءة. ولكن الساحرة
استطاعت بمكرها وبعد سنوات من الدأب، أن تضع في طريق الصبية مغزلًا
فأمسكت به وماتت.
إن حضور الساحرات الاثنتي عشرة إلى سرير الميلاد في هذه الحكاية،
هو تكرار للحضور العشتاري القديم في لحظة الميلاد كربَّة للولادة
وسيدة للمصير. وما نطقت به الساحرة الشريرة، ليس في الواقع إلا
تكملة طبيعية لما نطقت به الساحرات الطيبات. هنَّ رسمن مسار حياتها
الأبيض، وعيَّنَّ لها الصفات والخصائص الطبيعية المولودة معها، وهي
غرزت خيط مغزل القدر في نسيج الحياة، ورسمت مصيرها الأسود، مصير كل
كائن حي. أمَّا حصر عدد الساحرات باثنتي عشرة، فلأن هذا الرقم
بالتحديد يمثل الزمن الذي يحمل في طياته وجريانه المصير. إنه عدد
شهور السنة، وهو المثلث القمري مضروبًا في أربعة، وعدد شهور الفصل
الواحد مضروبًا بعدد فصول السنة.
عشتار، كوكب الزهرة
توجت الثقافة الذكرية انتصارها بإجلاء عشتار عن القمر، وإعطائها
كوكب الزهرة، ثالث الأجرام المنيرة في السماء. وصار القمر تجسيدًا
لإله مذكر هو الإله «سن» في بلاد الرافدين وأشباهه في الثقافات
الأخرى. وفي الثقافات التي بقي القمر فيها تجسيدًا لإلهة أنثى، فإن
مكانته في العبادات والأساطير قد أنزلت إلى المرتبة الثانية. وبقيت
إلهته ثانوية كما هو الأمر في الثقافة الإغريقية التي تركت في
القمر وجهًا عشتاريًّا باهتًا هو الإلهة «سيلين». أطلق البابليون
اسم «عشتار» على كوكب الزهرة، ولم يكن يعرف إلا بهذا الاسم.
والكنعانيون أطلقوا عليه اسم «عشتارت»، واليونانيون «أفروديت»،
والرومان «فينوس»، وأفروديت «أو فينوس» ليست في الحقيقة سوى عشتار
الكنعانية التي جاءت إلى قبرص مع الفينيقيين إبان سيادتهم على
البحر المتوسط. ويُجمع دارسو الميثولوجيا الإغريقية
٥٤ على أن اسم أفروديت يرجع إلى أصول سورية، وأن عبادتها
انتقلت من قبرص إلى سائر أنحاء بلاد اليونان والرومان، وأنها كانت
في الأصل إلهة الخصب والأرض والطبيعة بكل مظاهرها، ثم اقتصرت
وظيفتها على الحب بشتى أنواعه. تحكي الأسطورة مولد أفروديت الكثيرة
الزخارف، عن أصلها القبرصي، فتقول: إن الإله «كرونوس» قد تمرد على
أبيه «أورانوس» وقام بمساعدة أمه «جايا» بإخصاء الأب، ورمى بأعضائه
التناسلية في البحر، فأخصبت الماء المالح مكونة زَبَدًا أبيض
انبثقت منه أفروديت، التي خرجت إلى شاطئ قبرص في أبهى شكل أنثوي
وقع عليه بصر إنسان أو إله من قبل.
وعند العرب ارتبط كوكب الزهرة بالأم الكبرى، وكانوا يعبدونه لدى
ظهوره ويسمونه «العُزَّى». كما كانوا يتفاءلون لرؤيته ويعتقدون
بقدرته على جلب الحظ وإشاعة السرور والسعادة. ونسبوا إليه دوافع
العشق والجنس عند البشر، وأسموه كوكب الحُسن.
٥٥ وتروي أساطير المنطقة في الفترات المتأخرة، أن كوكب
الزُّهرة كان امرأة جميلة فاتنة تعيش على الأرض، قبل أن تصعد إلى
الأجواء العليا وتتحول إلى ذلك الكوكب الأحمر البراق؛ من ذلك مثلًا
ما نقرؤه في تفسير الطبري
٥٦ عن الملكين هاروت وماروت. ورغم أن القرآن الكريم قد
أورد اسم المَلَكين دون الإشارة إلى أية قصة تتعلق بهما، فإن خيال
المفسر قد استمد قصصًا كانت شائعة ومتداولة في ذلك العصر، وتعود في
أصولها إلى أساطير قديمة؛ فالملائكة، كما أورد الطبري، قد أخذت
تشكو فجور البشر وضلالهم بعد آدم، فأراد الله ابتلاء الملائكة
فأرسل مَلَكين من أكثرهم نقاوة، هما هاروت وماروت، وأنزلهما إلى
الأرض ليأمرا بالمعروف وينهيا عن المنكر. ولكن امرأة فائقة الحسن
والجمال عرضت لهما، فأقبلا عليها وراوداها عن نفسها، فأبتْ واشترطت
عليهما الخروج عن دينهما وعبادة الأوثان فامتنعا. ثم أتياها ثانية
فتمنعت واشترطت عليهما ارتكاب إحدى معاصٍ ثلاث: فإما عبادة
الأوثان، أو قتل النفس، أو شرب الخمر؛ فاختارا شرب الخمر، فسقتهما
حتى لعب برأسيهما فواقعاها! هنا مرَّ بهما رجل فخافا افتضاح أمرهما
فقتلاه. ثم إنهما أرادا العودة إلى السماء فما استطاعا، فطلبت
منهما المرأة تعليمها الكلام الذي يصعدان به إلى السماء ففعلا،
فعرجت ولكنها بقيت معلقة هناك على هيئة كوكب الزهرة. وكما نستطيع
أن نلاحظ بسهولة، فإن شخصية المرأة في الرواية تحتوي على آثار
دراسة من بعض جوانب شخصية الإلهة عشتار كإلهة للحب والجنس وككوكب
الزُّهرة.
والأدعية المريمية حافلة بأوصاف السيدة العذراء باعتبارها
النجمة، ونجمة البحر، ونجمة الصبح.
٥٧ نقرأ في صلاة للقديس برنردوس بعنوان يا نجمة الصبح:
«إن ثارت عليكم رياح التجارب، أو صدمتكم المحن؛ فالتفوا إلى النجمة
وادعوا مريم. وإن أحاقت بسفينتكم القلقة أمواج الغيظ أو البخل أو
الشهوة، فارفعوا النظر إلى مريم.»
٥٨
لقد لفت نظر الكنعانيين تحول عشتار من نجمة للمساء، تظهر عند
مغيب الشمس، إلى نجمة للصبح تسطع بنورها الأحمر قبل طلوع الشمس،
فكان ظهورها الصباحي بشارة الميلاد وتجدد الحياة. لذلك كانوا
يحتفلون ببعث الإله أدونيس ابن الأم الكنعانية وحبيبها، في اليوم
الأول الذي تظهر فيه عشتار كنجمة للصبح في الربيع، وكان ظهورها
بشارة بإسراعها لإيقاظ الإله الميت ورفعه من العالم الأسفل.
٥٩ وقد ظهرت هذه النجمة مرة أخرى، وفي نفس الأماكن التي
كانت تحتفل بميلاد أدونيس، لتبشر بميلاد السيد المسيح؛ نقرأ في
العهد الجديد: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس
الملك؛ إذ مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو
المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في الشرق وأتينا لنسجد له.
فلما سمع هيرودوس الملك، اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء
الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا في بيت لحم
اليهودية؛ لأنه هكذا مكتوب … حينئذٍ دعا هيرودوس المجوس سرًّا
وتحقق من زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم وقال: اذهبوا
وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له
أيضًا. فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق
يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا
فرحًا عظيمًا وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع أمه مريم فخرُّوا
وسجدوا له.»
٦٠
لقد كانت بلدة بيت لحم من المراكز الهامة لعبادة أدونيس،
٦١ وفوق المغارة التي ولد فيها المسيح قام الإمبراطور
أدريان بوضع تمثال للإله أدونيس ليمحو ذكر المسيح،
٦٢ ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يظهر في السماء كوكب
الأم الكبرى ليرعى الميلادين.
الأم القمرية، أم واحدة
لم يتم بالفعل تحطيم صورة الأم الكبرى وتشتيتها إلى صورٍ مختلفة
تحت أسماء متعددة، إلا على النطاق الديني الرسمي؛ لأن صورتها
الأولى كأمٍّ واحدة للكون والبشر قد استمرت في الضمير الشعبي،
واستمرت معتقداتها وطقوسها وعباداتها قائمة إلى جانب العبادات
الرسمية. ثم تحولت في الفترات المتأخرة إلى عبادات سرية تمارس في
الخفاء، كما سنشرح ذلك مفصلًا في فصلٍ لاحق مستقل. وها هو الكاتب
الروماني «أبوليوس» الذي دخل في ديانة إيزيس بعد شيوعها في
الإمبراطورية الرومانية، وصار أحد كهنتها سنة ٢٠٠ بعد الميلاد،
يعلن في كتابه الكلاسيكي المشهور The Golden
Ass وحدة التجليات العشتارية جميعًا في الأم
القمرية الكبرى، الذات الإلهية الواحدة التي تختصر كل الآلهة
والإلهات. وفي النص الذي سأنقله فيما يأتي: تظهر عشتار بكل أبهتها
وعظمتها للنبيل «لوكيوس» تلبية لدعواته وصلواته، وترفع عنه لعنة
السحر الذي حوَّله إلى حمارٍ سنواتٍ طويلة:
«لم يمضٍ وقت طويل، حتى هزني خوف مفاجئ، فتحت عيني ورأيت قمرًا
بدرًا متألقًا يطلع من البحر، في هذه الأوقات السحرية تستكمل إلهة
القمر، السيدة الوحيدة للجنس البشري قوتها وجلالها. إنها الإلهة
المشعشعة التي تسند بقواها المقدسة كل الموجودات الحية والجمادات،
التي يحكم مدها وجزرها إيقاع الحياة في كل الأجسام، سواء في الأرض
أم في الهواء، أم تحت البحار. كنت أعلم ذلك كله، ولذا فقد انتويت
أن ألجأ إلى تجلِّي الإلهة المرئي، فلعل إلهة الحظ قد قررت أخيرًا
أنني عانيت من الآلام ما يكفي، وأن فرصتي للخلاص قد لاحتْ. قفزت من
مكاني ونزلت إلى البحر حيث تطهَّرتُ سبع مرات، ثم توجهت إلى الإلهة
بهذه الصلاة وكلي أمل وفرح، ودموعي تغمر وجهي:
«يا ملكة السماء المباركة، بأي اسم تحبين أن أدعوكِ؟ هل أدعوكِ
«سيريس» أم المحاصيل التي لعثورها على ابنتها «بيرسفوني» أعطت
الناس قمحًا وخبزًا بعد أن كانوا يلتقطون جذور البلوط البسيط
طعامًا؟ هل أدعوك «فينوس» النورانية، التي منذ بدء الخليقة جمعت
بين الذكر والأنثى برباط الجنس والحب؛ فقدَّرت بذلك استمرار نسل
البشر إلى الأبد؟ هل أدعوكِ «أرتميس» أخت أبولو المنير، مخففة آلام
النساء عند المخاض؟ هل أدعوكِ «بيرسفوني» المخيفة التي يصرخ إليها
البوم في المساء، ذات الوجه الثلاثي الذي يرعب الأشباح ويتركهم تحت
الأرض؟ أي إلهتي، يا مَن ترتعين في غاباتك المقدسة، ويتعبدك الناس
بطقوس مختلفة متنوعة، يا مَن ترسلين ضوءك الأنثوي فينير جدران كل
مدينة، وشعاعك الرقيق فيغذي البذور تحت التربة، يا مَن تحكمين مسار
الشمس وقوة شعاعها، أتضرع إليك بأي اسم وبأي وجه أو هيئة، وبأية
طقوس، رأفة بي وبيأسي، أنعشي آمالي المحطمة وهبيني أمنًا وسلامًا
بعد طول العذاب، أو فهبيني نعمة الموت».»
عندما أنهيت صلاتي وأفرغت ما في صدري المثقل، عدتُ إلى مكاني حيث
عاودني النعاس، وقبل أن أغلق أجفاني، بدأ خيال امرأة يطلع من وسط
البحر. كان لها وجه لو رآه معي جميع الآلهة لسجدوا تعبُّدًا
لجماله. طلع رأسها أولًا، ثم أخذ جسدها اللألاء يظهر تدريجيًّا حتى
انتصبت أمامي بتمامها فوق سطح الماء. إن الكلام البشري ليعجز عن
وصف ما رأيت. ولكن لعل الآلهة نفسها تسعف خيالي بنفخة شعرية تكفي
لإعطاء ومضة مما شهدت عيناي.
كان شعرها الطويل الغزير ينسدل جدائل مستدقة الأطراف على عنقها
الجميل، فوقه إكليل شبكت إليه كل أنواع الورود، وحول الرأس قرص
نوراني يسطع كمرآة أو كوجه القمر البهي؛ مما أنبأني عن حقيقتها.
وكان أفعوانان ينتصبان من يديها اليمنى واليسرى ليسندا ذلك القرص.
على جانبهما تنطلق سنابل القمح، أما ثوبها فمن قطن متعدد الألوان؛
بين أبيض ناصع وزعفراني وأحمر متقد، مزينة حواشيه بأصناف الزهور
والفاكهة، تتعلق به وتتأرجح مهتزة مع النسيم، فوق الثوب عباءة ذات
سواد لماع، تتقاطع مع جسدها من الورك الأيمن إلى الكتف الأيسر، ذات
طيات كثيرة، مطرزة بالنجوم عند الأطراف، وفي الوسط منها يشرق قمر
ناري ملتهب، وفي قدميها نعل من ورق النخيل. ابتدأت الإلهة كلامها
إليَّ، ففاحت كل عطور الجزيرة العربية وملأت الجو، قالت: أنا
الطبيعة، الأم الكونية وسيدة الموجودات جميعًا، ابنة الزمن البدئي
وربة كل شيء حي، ملكة الأموات، وملكة أهل الخلود. أنا التجلي
الأوحد لكل الآلهة والإلهات، حاكمة السماوات العليا وبحار الأرض،
والعالم الأسفل. يعبدني الجميع في وجوه متعددة وتحت أسماء كثيرة،
ويتقربون إليَّ بطقوس مختلفة في جميع أرجاء الأرض. يطلق عليَّ
الفريجيون اسم «بيسنيوتيكا» أم الآلهة، والأثينيون «أرتميس». في
قبرص أنا «أفروديت»، وفي كريت «ديكتينا»، وفي صقلية «بيرسفوني»،
وفي إيلوسيس الإغريق أنا «أم القمح». البعض يدعونني «جونو» والبعض
«بيلونا» سيدة المعارك، والبعض «هيقات»، والبعض «هارمونيا». أمَّا
الأثيوبيون الذين تشرق الشمس من أرضهم، والمصريون المتفوقون في
الحكمة القديمة، فيدعونني باسمي الحقيقي: الملكة «إيزيس»،
ويعبدونني بالطقوس اللائقة بي.»
٦٣