وقف إنسان الكهف سنين طويلة يرقب بوجل، في الليالي العاصفة المدلهمة،
ألسنة النيران المتصاعدة من الأشجار التي تضربها الصواعق. لقد رأى في
النار قوة إلهية غامضة تنبعث من داخل الشجر، ورأى في لونها القمر المشع
نفسه، فكانت النار بالنسبة إليه قبسًا من قوة القمر، أودع في الحياة
النباتية، به يعيش العشب والشجر، فإذا استُلب منه زال وناله الفناء
متحولًا إلى رمادٍ. ثم تعلم بعد ذلك كيف يستثير تلك القوة من مكمنها،
عن طريق دلك غصنين جافين دلكًا دءوبًا يؤدي إلى انطلاق القوة القمرية
الهاجعة فيهما؛ لتعطيه دفئًا ونورًا بعد أن أعطته ثمرًا … عطية أخرى من
عطايا الأم القمرية. وقد استمر أسلوب استثارة النار بالدلك قائمًا ألوف
السنين، ومنه استمد رمز الصليب العشتاري، ربما، أول دلالاته. فالصليب
هو ذانك الغصنان الأولان اللذان أطلقا النار لأول مرة، وهو بذلك رمز
للقوة الإخصابية الكونية في تصوُّرها الأوَّلي.
لم تُعبد عشتار كروح للخصوبة وربة للحياة النباتية فقط مع اكتشاف
الزراعة. فمن زمن بعيدٍ راقب الإنسان التبدلات التي تطرأ على وجه الأرض
خلال الفصول، وظهور النبات وخضرة الأشجار في الربيع ثم اختفاءها في
الخريف. ولما كان يعتمد في جزءٍ من حياته على التقاط الثمار والنقب عن
الجذور، وفي جزئها الآخر على حيوانات الصيد التي تأكل من الأعشاب؛ فقد
كان ينظر بقلقٍ إلى جفاف الأرض وغياب مظاهر الخضرة في البراري
والغابات، ويلبث طيلة فترة الشتاء ينتظر بفارغ صبر عودة روح الإنبات
إلى الظهور، ويقيم الطقوس التي تعينها على ذلك. لم يكن هذا التناوب
الدوري مفهومًا لديه، فربطه بحركة قوة ماورائية.
تحولت عشتار الصيد والالتقاط والحياة البرية، إلى عشتار العصر
النيوليتي، عصر الزراعة والإنتاج المنظم للغذاء، ولكن دون أن تفقد
خصائصها القديمة، فصارت إلهة الطبيعة بنوعيها؛ الطبيعة البكر بغاباتها
العذراء وبراريها الوحشية وقطعانها البرية، والطبيعة المدجنة بحقولها
المحروثة ونتاجها المنظم وحيوانها الأليف، روح الغاب وروح القمح
والحبوب. إلا أن هذه الصورة الواحدة قد فقدت تماسكها تدريجيًّا وانفصمت
إلى صورتين: عشتار البراري القديمة ونموذجها أرتميس اليونانية وديانا
الرومانية، وعشتار الزراعية ونموذجها عشتار البابلية وديمتر
اليونانية.
روح الغاب
إن ستارًا كثيفًا يحول بيننا وبين عشتار النبع الصافي، حيث كانت
تستحم وحيدة في بحيرتها وسط الأدغال محاطة بحورياتها العذراوات، أو
تجري في البراري الوحشية على جناح الريح، فيسمع لخطوها فوق الأعشاب
الطويلة وسيقان القمح البري وقع خفيف، أو تهدأ في محرابها القائم
وسط الأحراش، قبل أن تقام لها المعابد في المدن الكبيرة، وقبل أن
يشاركها السلطان ذكور الآلهة. بيد أننا نستطيع اقتفاء آثارها،
والبحث عن ملامحها في بعض إلهات الثقافة الذكرية اللواتي حافظن على
شيء من صفاء الصورة الأولى. تقدم لنا الإلهة اليونانية «أرتميس»
نموذجًا حيًّا عن الأم الكبرى لعصر الصيد والالتقاط، والعصر الذي
تلاه وتعايش معه ردحًا؛ وأعني به عصر الاستقرار قرب حقول الحبوب
البرية، حيث كان الإنسان يحصد ما تجود به الطبيعة دون أن يعرف كيف
يعيد إنتاجه.
كانت أرتميس في الثقافة اليونانية ربة الغابات والبحيرات
والينابيع والنباتات البرية والحيوانات الطليقة وربة للصيد، تمثلها
الأعمال الفنية على هيئة امرأة شابة رشيقة القوام خفيفة الحركة،
قاسية الملامح، لا تعرف الابتسام رغم جمالها الفائق، ترتدي التنورة
القصيرة التي كشف عن ركبتيها وتمسك بيدها القوس وتضع على كفتها
جعبة السهام، وفي قدميها صندل الصيادين، يرافقها في حلها وترحالها
كلابها المتوحشة، ويشب عن يمينها ويسارها الأيائل والغزلان. لا
تقام لها المعابد في المدن والأماكن المأهولة، بل في الأحراش حيث
تتلقى قرابين عبادها من بكور مواشيهم وبواكير ثمار شجرهم. ومن بعض
الأساطير المتأخرة، نستنتج أن القرابين في الماضي كانت تتضمَّن
أيضًا أضاحي؛ ففي إلياذة هوميروس، تجعل أرتميس الرياح ساكنة أمام
سفن اليونان فلا يستطيعون تقدمًا حتى يذبح آغاممنون ابنته أفيجينيا
قربانًا لها. من ألقابها «العذراء» لم تتزوج طيلة حياتها ولم تعرف
رجلًا. ولم تكن تقبل في خدمتها سوى الفتيات العذراوات اللواتي كنَّ
يقمن دومًا على حراسة النار المقدسة، وإبقاء شعلتها حية في
هياكلها. وكان على هؤلاء الإبقاء على بكارتهنَّ طيلة الحياة، وإلا
تعرضن لانتقام الإلهة الرهيب. تروي الأساطير أنها قد وقعت في الحب
مرة واحدة، ولكنها قتلت من أحبته خطأً، عندما طلب منها أخوها
«أبولُّو» أن تصوِّب سهمها نحو نقطة تتحرك في البعيد، ليمتحن دقة
رمايتها، وهو عارف بأن تلك النقطة المتحركة لم تكن سوى الرجل الذي
أحبَّت، فكان أن قتلته. وكربَّةٍ لخصوبة الطبيعة البكر، كانت
أرتميس أيضًا ربةً لخصوبة النساء وإلهة الولادة والأمومة، تستغيث
بها الحاملات ساعة الوضع، لتكون حاضرة أمام سرير الميلاد.
٣ ولهذا تُصورها بعض الأعمال الفنية أحيانًا على عكس
صورتها الشائعة، ممتلئة الجسم، يبرز من صدرها عشرات الأثداء، وتزين
جيدها وثوبها الطويل برءوس حيوانات الغاب المختلفة (الشكل
٢-١٥، فصل الأم الكبرى).
هذا وتقدم لنا «ديانا»، روح الغاب عند الرومان، مثالًا آخر. فهي
إلهة للغاب والبراري الوحشية وحيوان الصيد؛ أُقيم هيكلها الرئيسي
في غابة «نيمي» تحت أقدام جبال ألبان على شاطئ بحيرة كبيرة تسمى
«مرآة ديانا». وما زالت الغابة وبحيراتها قائمة إلى يومنا هذا بكل
جمال صورتها السابقة عندما كانت مرتعًا للإلهة. وديانا الرومانية،
كزميلتها الإغريقية، كانت عذراء، وكانت النار المقدسة في هيكلها
مشتعلة ليلًا نهارًا، تحرسها عذراوات النار المنذورات، كما كانت
ربة للولادة تخفف آلام الحاملات عند الوضع. وفي وسط غابة «نيمي»
كان هناك شجرة كبيرة وارفة، اعتقد عباد ديانا بأنها تجسيد للإلهة نفسها.
٤
هذه العذراء المتوحدة الجميلة الصارمة، هي التي عبدها النساء
الأمازونيات؛ لأنها تمثل صورة الأم الكبرى للعصر الأمومي القديم،
عندما كانت عشتار ولا أحد معها، بلا زوج، أو ولد، تحكم وحيدة في
مركز الطبيعة الخصبة البكر، وحولها كاهناتها العذراوات، اللواتي ما
زلن يعشن بين ظهرانينا اليوم في ثياب راهبات السيدة مريم
العذراء.
شجرة الحياة
عبد الإنسان الأول روح الغاب ممثلة في الشجرة، ولم تكن عبادته
موجهة نحو الشجرة بذاتها؛ بل نحو الروح الكامنة فيها. ثم بدأت
عشتار تخرج من الشجرة في شكلها الإنساني الجميل، فحُفرت على الجذع
وصارت تُعبد شجرة وشكلًا إنسانيًّا مصورًا، ثم غادرت الشجرة تاركة
محراب الغابة الصغير، وحلت في التماثيل الرخامية التي تتصدر معابد
المدن الضخمة. ولكن الشجرة لم تفارقها تمامًا، بل بقيت رفيقتها في
كثيرٍ من الأعمال الفنية التشكيلية. ففي بلاد الرافدين، تظهر
الشجرة مرارًا خلف عشتار بشكل يوحي للناظر بالوحدة بين الشكلين
وإشارتهما تبادليًّا للقدرة الإلهية الواحدة. وفي الشكل رقم
٤-٣ مثال على ذلك. نرى في الرسم عشتار جالسة
وعلى رأسها تاج على هيئة قرنين، من خلفها تنتصب شجرة، وفي حضنها
تموز الوليد الذي يبدو منطلقًا من حجرها إلى الأمام، وكأنه قد
انبثق من جذع الشجرة ورحم الأم الكبرى في آنٍ معًا. وتؤيد الأسطورة السورية
٥ هذا المعنى الكامن في الصورة عندما تقول إن الإله
أدونيس قد ولد من شجرة المر التي حملته في جذعها عشرة أشهر، قبل أن
تنشق قشورها وتسمح للإله الوليد بالخروج. وقد قامت الأسطورة
اليونانية بزخرفة هذه الأسطورة القديمة على طريقتها فقالت إن شجرة
المر كانت فتاة جميلة وابنة لملك قبرص، حملت من أبيها سفاحًا ثم
تحولت إلى شجرة نما في داخلها الإله.
٦ هذه الشجرة أم الإله ليست في الحقيقة إلا عشتار نفسها
التي عبدها الإنسان القديم في هيئة الشجرة الممثلة لروح
الغاب.
وفي الفن الكريتي، والفن الإغريقي القديم إبان مرحلة تأثره
بالميثولوجيا الكريتية الأمومية، نجد الشجرة مرافقة للأم الكبرى في
كثير من الرسوم والنقوش؛ ففي الشكل
٤-٤ نجد
عشتار جالسة كجلستها في الشكل البابلي، وراءها شجرة تنوء بثمارها
التي تمتد إليها يد فتاة بالقطاف، وفي يدها غصن من الخشخاش،
وأمامها عددٌ من الكاهنات في أيديهن تقدمات من أغصان مورقة ومزهرة.
وفي وسط الشكل، الفأس المزدوج رمز الرعد والبرق والصاعقة، وفي
أعلاه حزام المجرة والقمر والشمس.
وقد عُبدت الأم الكبرى في جزيرة العرب مجسدة بالشجرة. يحدثنا ابن
هشام في روايته للسيرة النبوية أنَّ عرب نجران كانوا يعبدون نخلة
طويلة يأتونها كل سنة في يوم معين، فيعلقون عليها الثياب والحلي
النسائية ويعكفون عليها طيلة يومهم. وأن أهل قريش كل لهم شجرة
عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها
أسلحتهم ويعكفون عليها يومًا. وفي رواية عن ابن الحارث بن مالك
الليثي: «خرجنا مع الرسول إلى حنين ونحن حديثو العهد بالجاهلية:
فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق:
يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال الرسول:
الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة.»
٧ وقد رأينا في الفصل السابق كيف عبد العرب أيضًا إلهتهم
العُزَّى مجسدة في ثلاث شجرات، وهي العُزَّى التي أهداها الرسول
(ص) شاة عفراء عندما كان على دين قومه، وفق بعض أخبار
السيرة.
وكان جذع الشجرة لدى الكنعانيين يُنصب في محراب الأم الكبرى
عستارت أو «عشتاروت»، وتقدم له فروض العبادة باعتباره تجسيدًا
لإلهة الطبيعة. كما كانوا يقيمون طقوسًا خاصة تحت الأشجار الخضراء
في المرتفعات. وقد ورد ذكر هذا الجذع في كتاب التوراة في معرض
الحديث عن الصراع بين الديانة العشتارية الكنعانية والديانة
اليهودية، وأطلق مؤلفو التوراة عليه اسم السارية، وجمعها سواري،
وقد سار العبرانيون على خطى الكنعانيين في عبادة عشتار وشجرتها،
وكان كثير من السامرة ويهوذا على دين السوريين: «كان آحاز ابن
عشرين سنة عندما ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم، ولم يفعل
المستقيم في عينَي الرب كداود أبيه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل،
وعمل أيضًا تماثيل مسبوكة للبعليم (الإله بعل) وذبح وأوقد على
المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء.»
٨ «وكان منسي ابن اثنتي عشرة سنة حين ملك، وملك خمسًا
وخمسين سنة في أورشليم، وعمل الشر في عينَي الرب. وعاد فبنى
المرتفعات التي هدمها حزقيا أبوه وأقام مذابح للبعليم وعمل سواري.»
٩ «وعمل آخاب سواري، وزاد آخاب في العمل لإغاظة الرب إله
إسرائيل أكثر من جميع الملوك الذين قبله.»
١٠
إن الاعتقاد بتجسيد الشجرة لروح الخصوبة قد استمر في أشكال
مختلفة، وحفظت لنا معتقدات القبائل البدائية في العصر الحديث بعض
آثاره؛ ففي بورما جرت العادة لدى بعض القبائل أن يخرج أفرادها عند
انحباس المطر إلى الحرش القريب، فينتخبون أكبر الشجرات، ويطلقون
عليها اسم إلههم الموكل بالخصب والمطر، ثم يقدمون لها القرابين من
خبز وثمار وطيور ويتضرعون إليها قائلين: أيها الإله ارحم عبادك
الفانين لا تحبس عنهم المطر، أيها الإله تقبَّلْ قرباننا وهبْنا
مطرًا لا يكف ليل نهار. وتعقد بعض القبائل الأفريقية بأنَّ إلهة
الإنبات تتجسد في بعض الأشجار الطويلة الضخمة، فتخرج إليها في
مواسم معينة، فتصلي وتضرعُ طالبةً محصولًا وفيرًا وغلة، ثم يرقص
النساء والرجال في أزواج حولها، حاملين في أيديهم حزمًا من القمح.
وفي شمال الهند تعتقد بعض القبائل بقدسية شجرة جوز الهند؛ إذ يرون
فيها تجسيدًا لإلهة الخصوبة والتوالد، فيخرجون إليها ويسكبون فوق
جذورها ماء التقدمات المقدس، طالبين إليها مباركة نسل الإنسان والماشية.
١١
وفي أوروبا كانت عبادة الشجرة من العبادات الرئيسية عند الفتح
الروماني لها. وكانت شجرة البلوط من أكثر الأشجار قدسية وتجسيدًا
للقدرة الإلهية المخصبة.
١٢ وإلى يومنا هذا، ما زال أهل الريف في أوروبا يقومون
بشعائر لا تخفي طابعها العشتاري القديم. ففي أول شهر أيار (مايو)،
يقام في كثيرٍ من المناطق الريفية الأوروبية احتفال يبدؤه الفلاحون
بالتوجه إلى الغابة، فيقتطعون شجرة يحملونها إلى وسط القرية، حيث
ينصبونها في الساحة ويحتفلون حولها. أو يأتي كل منهم من الغابة
بغصن فيعلقه على باب بيته لاستمداد البركة من روح الشجرة. وقد
تُثبَّت هذه الأغصان على أبواب الحظائر لتكثِّر من مواليد الماشية
وتُجري اللبن غزيرًا في ضروعها، وقد توضع في حجرة نوم الأزواج
الجدد. تبقى شجرة أيار في ساحة القرية، وتبقى أغصانها معلقة على
أبواب البيوت والحظائر عامًا كاملًا؛ فإذا أتى ربيع آخر، آن وقتُ
استبدالها بشجرة أخرى عبقة بعطر الربيع الجديد، شجرة تحمل روح
الإنبات وقد تجددت بعد سبات. وفي عيد العنصرة، كان من عادة
الفلاحين في روسيا إلى مطلع القرن الماضي الذهاب إلى الغابات وسط
الأغاني المرحة والأهازيج، فيقطعون شجرة غضة من شجر البتولا،
ويضعون عليها ثيابًا نسائية يزينونها بالشرائط الملونة، ثم يعودون
بها إلى القرية فيضعونها في أحد البيوت طيلة فترة العيد، حيث
يترددون عليها كضيفة شرف. وفي اليوم الأخير يمضون بها إلى نهرٍ
فيلقونها فيه.
١٣
ولقد خلَّد فن الشرق الأدنى القديم عشتار الشجرة، من خلال
معالجته لموضوع شجرة الحياة التي تُظهرها الأعمال التشكيلية بشكل
زخرفي تبسيطي جميل، وعن يمينها ويسارها مخلوقات خرافية، تحرسها
آنًا، وتتعهدها بالسقاية والرعاية آنًا آخر (الشكل
٤-٥). وشجرة الحياة هذه التي مثلتها في
الميثولوجيا اليونانية الرومانية الشجرة الضخمة القائمة وسط غابة
ديانا-أرتميس، هي التي تظهر مجددًا في مركز الجنة التوراتية التي
غرسها يهوه: «وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم
الذي جبله. وأنبت الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل.
وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر.» ولكن آدم أكل
من شجرة معرفة الخير والشر بعد أن أغوت الحية حواء، وخاف الإله أن
تمتد يده إلى شجرة الحياة: «فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل في
الأرض التي أُخذ منها، فطرد «الرب» الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن
«ملائكة» الكروبيم، وسيف لهب متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»
١٤ إن الكروبيم الذين أقامهم يهوه لحراسة شجرة الحياة،
والذين نعرف من نصوص أخرى أنها مخلوقات مجنحة، هي المخلوقات
المجنحة نفسها التي نراها تحف بشجرة الحياة في الرسوم البابلية
والسورية.
تظهر العناصر الرئيسية لقصة آدم وحواء والحية، في الختم السومري
الموضح في الشكل (
٤-٦)، في وسط الشكل تظهر
الشجرة وقد تدلت منها ثمرتان يانعتان، وعن يمينها ويسارها يجلس رجل
وامرأة يمدان يديهما لاقتطاف الثمر، ووراء المرأة تنتصب الحية في
وضع الهامس الموسوس في أذن المرأة، فهل يحكي هذا العمل قصة سقوط
الإنسان قبل ألفي عام من قيام مؤلَّفِي التوراة بتدوينها؟
وشجرة الحياة التي ولد منها
ابن الأم السورية الكبرى عستارت، هي التي ترعى أيضًا ميلاد ابن
الأم السورية الكبرى مريم:
فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي
مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا
تَحْزَنِي
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
رُطَبًا جَنِيًّا.
١٥ إنها شجرة الميلاد التي توضع في كل بيت عشية ميلاد
المسيح، وتزين بالشموع والأضواء التي ترمز إلى الأجرام السماوية
المنيرة؛ ذلك أن شجرة الحياة هي في الوقت نفسه شجرة الكون، وسيدة
السماوات المعتمة، التي تتعلق الأجرام المنيرة بصدرها تعلُّق
الشموع بشجرة الميلاد.
روح القمح
عندما اكتشف الإنسان القمح البري وبدأ بالاستقرار النسبي قرب
حقوله، يتغذى ببعضها ويخزن البعض الآخر، صار لدورة الطبيعة أهمية
أكبر بالنسبة لحياته. لقد دخل الخبز في نظامه الغذائي، وغيَّر من
عاداته الاجتماعية، فاستقر في الأرض مودعًا حياة الصيد والالتقاط،
وتمركزت كل حياته ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حول دورة
الطبيعة، وتتابع الفصول الذي تعتمد عليه الدورة الزراعية السنوية.
عند أعتاب هذه المرحلة تجمعت الأفكار الأسطورية المبعثرة والغائمة،
عن غياب الأم الكبرى سيدة الطبيعة في الخريف، وعودتها مع خضرة
الربيع، في أسطورة متماسكة تركزت حولها حياة الجماعة الدينية، كما
تركزت حياتها الاجتماعية حول إنتاج الخبز.
إن نتائج الحفريات الحديثة في المواقع النطوفية والنيوليتية في
سوريا، لتظهر بشكلٍ واضح هذا الارتباط بين تطور البنى الروحية
للجماعة، وتطور أسلوبها في تحصيل الغذاء. ففي المستوطنات النطوفية
التي كانت تتحول إلى مستوطنات نيوليتية مع نهاية الألف التاسع قبل
الميلاد، يتزايد ظهور التماثيل الطينية الصغيرة الممثلة لأشكال
أنثوية رمزية، وذلك عند أعتاب التحولات الكبيرة التي ستشهدها
المنطقة السورية، والتي ستنقل البشرية من مرحلة الصيد والالتقاط
إلى مرحلة إنتاج الغذاء. هذه التماثيل الصغيرة هي النماذج البدئية
لما سوف يغدو في المستقبل الأم السورية الكبرى، والتي ستبزغ بكامل
أبهتها خلال الألف الثامن قبل الميلاد، وتتابع تحولاتها وتناسخاتها
حتى الفترات التاريخية.
١٦
إن الحبيبات الصغيرة
الجافة التي يدفنها الزُّرَّاع في باطن الأرض، فتظهر في أول الربيع
عشبيات خضراء تتحول مع فصل الصيف إلى سنابل ناضجة، لتختزل سر
الطبيعة كلها، وسر الحركة الإلهية الكامنة وراءها. فروح الغاب
والحياة البرية، هي الآن روح القمح التي تشكل دورة حياتها السنوية
خلفية ماورائية لما يجري على مسرح الحقل. وعشتار سيدة الطبيعة التي
لا تأمرها من علٍ، بل تشكِّل منها اللباب والروح والحركة الداخلية،
إنما تمثل بنفسها كل ما يبدو على مستوى الطبيعة، ولأول وهلة،
عصيًّا على الفهم والتفسير. إن دورة حياة القمح، ليست سوى دورة
حياة الإلهة التي تقضي جزءًا من السنة في العالم الأسفل وجزءًا في
العالم الأعلى. وجملة الأعمال الزراعية التي يقوم بها الإنسان من
حصاد وحرث وبذر وما إليها، ليست أعمالًا دنيوية، بل طقوس دينية
مقدسة يمارسها على هامش الدرام الإلهي الكوني، مساعدة لروح الطبيعة
على إتمام دورتها السنوية، والعودة مجددًا في الربيع لتهبه غذاء
عام آخر. فإذا كانت روح الطبيعة والإنبات في الماضي تغيب في باطن
الأرض، ثم تعود دون تدخل من أحد، فإن روح القمح والحبوب تتطلب
مساهمة من الإنسان وتدخلًا من خلال عمله المقدس وطقوسه وصلواته.
عند الحصاد، يندب الحصادون روح القمح الميتة، ثم يدفنونها في
التراب؛ إذ يدفنون حبوب القمح اليابسة، ويقضون فصل الشتاء في
الطقوس والصلوات لمساعدتها على صعود درجات العالم الأسفل. فإذا
لاحت تباشير الربيع وظهرت رءوس السنابل الصغيرة، عمَّ الجميع فرحٌ
طاغٍ، لقد عادت عشتار من جديدٍ بين طقوس العمل وطقوس الابتهاج. إن
الشكل رقم (
٤-٧) ليختصر هذا الدرام دون الحاجة
إلى كلمة منطوقة أو مكتوبة واحدة.
بالنسبة لإنسان المستوطنات
الزراعية الأولى، لم يكن هبوط عشتار إلى العالم الأسفل موتًا، ولم
يكن صعودها منه بعثًا؛ لأنها سيدة العالمين معًا. تمكث في العالم
الأعلى جزءًا من السنة لتهبه الخير والبركة والحياة، ثم تهبط إلى
العالم الأسفل في جزء السنة الآخر لتحكم مملكة الأموات تاركة عالم
الأحياء في جفاف. إننا لا نعرف الشكل الصافي الأول هذه الأسطورة؛
لأن ألوف السنين تفصل ما بينها وبين أول لوح مكتوب خطته يد
الإنسان، ولكننا نستطيع رسم خطوطها العريضة اعتمادًا على الأساطير
اللاحقة والتي بقيت، رغم التطوير والتحوير، تحمل في صميمها نواة
الأسطورة الأولى. ولكي نصل إلى هذه النواة يجب ألا يقتنصنا شكل
الأسطورة في حلته الأخيرة الزاهية الألوان، بل علينا أن نغادره إلى
مستوياته السرية، التي تقودنا عبر سراديب ضيقة شاقة المسالك إلى
الأصل والمنبع.
بين الأساطير العشتارية المختلفة، وتنوعاتها في شتى الثقافات،
تبدو أسطورة ديمتر وبيرسفوني اليونانية أقرب الأساطير كلها إلى
الأسطورة الأم؛ وذلك لمحافظتها على طابع أمومي أصيل، وبقائها في
منجاة، إلى حدٍّ ما، من المداخلة الذكرية.
كانت ديمتر عند الإغريق إلهة الحبوب بصورة عامة، والقمح بصوة
خاصة، وكانت تُدعى بالإلهة الشقراء كناية عن سنابل القمح الصفراء
الناضجة. تصورها الأعمال الفنية على هيئة امرأة ذات قوام جميل
ممتلئ بعض الشيء، ووجه جميل ولكنه قاسٍ وصارم في نفس الوقت، تضع
على رأسها إكليلًا مضفورًا من سنابل القمح، أو تحمل بيدها باقة
منه، وقد تحمل مشعلًا مضيئًا. تعزو إليها الأساطير اكتشاف القمح
وتعليم البشر زراعته والاستفادة منه في جميع بقاع الأرض المعمورة.
كما تعزو إليها تعليم ملوك البشر الأوائل شتى أنواع العلوم التي
يسرت لهم أسباب الحضارة. كانت عازفة عن الزواج وعن الرجال؛ ولكن
إله البحار بوسيدون استطاع النَّيل منها بعد أن فرَّت من وجهه
طويلًا، وكذلك نال منها كبير الآلهة زيوس. وعندما أحبت «إياسون»
أرسل عليه زيوس صاعقة قتلته.
١٧ هذه البقية الباقية، في التصورات الأسطورية الذكرية،
ما زالت تحمل خطوطًا واضحة من صورة عشتار القديمة كروح للقمح
والحبوب والإنبات. فروح القمح في هذه التصورات هي إلهة القمح وقد
خرجت من الطبيعة لتمارس سيادتها عليها كما يفعل الآلهة الذكور.
وليس اكتشاف ديمتر لزراعة القمح ونقلها للبشر إلا إشارة إلى كونها
هي نفسها روح القمح القديمة. وشقرة شعر الإلهة هي شقرة السنبلة
الأولى التي حلت بها روح القمر وتطابقت معها. أما قيام ديمتر بنقل
أسباب العلوم والحضارة إلى الملوك الأوائل، فإنه إقرار تاريخي من
جانب الأسطورة بأن زراعة القمح كانت الخطوة الحاسمة نحو الاستقرار
والحضارة. ومن ناحيةٍ أخرى فإن عزوف ديمتر عن الرجال وبقاءها على
الدوام دون زوج، شأنها في ذلك شأن أرتميس، إنما يعكس الصورة
القديمة للأم الكبرى المتوحدة. فالشاب الوحيد الذي أحبته قُتل في
وقت مبكر وقبل أن يتحول إلى زوج؛ وذلك إصرارًا من الأسطورة
الأمومية على بقاء عشتار إلهة متوحِّدة. ورغم المداخلات الذكرية في
الأسطورة؛ فقد حاولت الانتقاص من قدر ديمتر بأن جعلت آلهة الأوليمب
ينالونها واحدًا بعد آخر، إلا أن الأسطورة الأمومية الصافية تعود
إلى الظهور في رواية ديمتر وابنتها بيرسفوني، حيث نرى الأم الكبرى،
مجددًا، كسيدة عظمى ذات سطوة وجبروت، يخشاها كل الآلهة بمن فيهم
كبيرهم زيوس.
كانت بيرسفوني تجمع
الأزهار في البرِّية، عندما انشقت الأرض وظهرت عربة الإله هاديس
إله العالم الأسفل، الذي اختطفها ومضى بها إلى غياهب الظلمات. سمعت
ديمتر صرخات الاستغاثة التي ملأت أرجاء الأرض، وهرعت لنجدة ابنتها،
ولكن الأرض كانت قد التأمت وضاع كل أثر يدل على الحادث. اتشحت
الإلهة بالسواد وراحت تجوب أصقاع الأرض بحثًا عن ابنتها وقد أضاءت
الكون مشاعلها الملتهبة، ولكن من غير طائل. وعندما نال منها اليأس،
أشارت عليها الإلهة هيقات أن تستخير نبوءة الإله هليوس، الذي كشف
لها سر اختفاء ابنتها، وأخبرها بأن هاديس قد حملها إلى العالم
الأسفل لتكون زوجته وملكة على الأموات. عند ذلك قررت ديمتر
الانتقام من الآلهة جميعًا لسماحهم بما حدث، فمنعت قواها الإخصابية
عن الأرض التي تحولت إلى حقول مالحة لا تنبت ولا تزهر، وهددت
المجاعة كل الأحياء على وجه البسيطة. اضطرب الآلهة لما حصل، وجاءوا
إلى ديمتر واحدًا إثر آخر بمن فيهم كبيرهم زيوس، يرجونها أن ترفع
لعنتها عن الأرض، ولكنها اشترطت أن تعود إليها ابنتها أولًا. ولما
يئسوا من إقناعها، أمر زيوس الإله هرمز أن يمضي إلى هاديس فيبلغه
رغبة كبير الآلهة في رجوع بيرسفوني إلى أمها. نزل هاديس عند رغبة
زيوس وأطلق بيرسفوني، ولكنه أعطاها قبل ذهابها طعامًا يعيدها إلى
العالم الأسفل بعد خروجها. فرحت ديمتر بلقاء بيرسفوني، ولكن فرحتها
لم تدُم؛ لأنها عرفت بأمر الطعام، وامتنعت عن تنفيذ اتفاقها مع
الآلهة، ثم وافق الجميع على أن تقضي بيرسفوني ثلث السنة مع زوجها
في العالم الأسفل، وثلثيها مع أمها في العالم الأعلى. عند ذلك
أعطتْ ديمتر أوامرها للطبيعة، فأورقت الأشجار وازدهرت وملأت الخضرة
سطح الأرض. إلا أن ذلك لن يدوم طويلًا، فما إن يحين موعد عودة
بيرسفوني إلى عالم هاديس، حتى تيبس الأشجار مرة أخرى وتصفر
النباتات ويكفهر وجه الأرض؛ مشاركةً للأم في حزنها الجديد.
١٨
تبدو ديمتر وفق المنطوق الشكلي لهذه الأسطورة سيدة للحياة
الطبيعية، تأمرها فتنصاع لأمرها، تمامًا كما يفعل آلهة الأوليمب
الذكور الذين تحرروا من إسار الطبيعة وارتقوا إلى أعالي السماء.
ويجري تفسير دورة الحياة النباتية بحزن الإلهة السنوي على ابنتها
الغائبة وفرحها من ثمَّ بلقائها من جديدٍ. إلا أن المستوى الثاني
لفهم هذه الأسطورة يقودنا إلى الاعتقاد بأن بيرسفوني هي روح النبات
التي تهبط إلى العالم الأسفل جزءًا من السنة، وتعود إلى العالم
الأعلى في جزء السنة الآخر، فتغيب معها الحياة النباتية عن وجه
الأرض ثم تنتعش بعودتها. يجد هذا التفسير دعمًا له في طقوس ديمتر
المشهورة التي كانت تقام في معبدها الرئيسي في إيلوسيس، حيث كانت
تُتلى وتُمثل قصة اختطاف بيرسفوني وعودتها إلى أمها. ففي تلك
الطقوس كان المحتفلون يرفعون باقات القمح رمزًا للولادة الجديدة
للإلهة الغائبة. وهنا نجد أنفسنا أمام لغزٍ محيرٍ. فإذا كانت
بيرسفوني هي روح الإنبات وأم الطبيعة التي تعكس دورة حياتها
السنوية دورة الحياة الزراعية، فمن هي إذن الأم؟ وما علاقتها
بالابنة؟
إذا نزلنا إلى المستوى الثالث الأعمق لفهم هذه الأسطورة، لوجدنا
أنفسنا وجهًا لوجه أمام الأسطورة الأصلية الصافية، حيث لا وجود لأم
وابنتها، بل لعشتار المتوحدة التي تلعب ديمتر وبيرسفوني دورَيها
المتناقضَين المتكاملَين في آنٍ معًا؛ فعشتار في دورها الأعلى كروح
النبات هي ديمتر، وفي دورها الأسفل كسيدة لعالم الظلمات هي
بيرسفوني، زوجة الموت هاديس. تنحل ديمتر إلى بيرسفوني عندما تهبط
إلى العالم الأسفل، وتتحول بيرسفوني إلى ديمتر عندما تصعد إلى
العالم الأعلى، في جدلية دائمة ما دامت دورة الطبيعة قائمة. وليس
أكل بيرسفوني من النبات السحري الذي يعيدها إلى الموت كلما ارتدت
إلى الحياة، سوى إشارة من المستوى الأول للتفسير، على الحقيقة
الكامنة في المستوى الثالث. فالإلهتان أقنومان في واحدٍ وتجليان
لنفس الجوهر. كلما تحولت ديمتر إلى بيرسفوني تحولت بيرسفوني إلى
ديمتر، تمامًا كما يتحول قمح السنة الماضية الذي هبط إلى باطن
الأرض إلى قمح السنة الجديدة الذي يخرج من الأرض. إن ديمتر هي قمح
السنة الماضية، وبيرسفوني هي قمح السنة الجديدة، الذي سيغدو بدوره
قمح السنة الماضية في العالم المقبل.
إن العمل الفني التشكيلي
الذي اعتبرناه دومًا أصدق من الكلمة المنطوقة أو المكتوبة في شرح
المستوى الباطني للأسطورة، يلعب دورًا حاسمًا في دعم تفسيرنا
الثالث. ففي كل الرسوم والمنحوتات البارزة التي تظهر ديمتر
وبيرسفوني، لا يستطيع الناظر أن يميز بين الأم والابنة المتقابلتين
على الدوام، لتطابُقهما في كل شيءٍ فيما عدا الشارات المميزة لكل
منهما؛ فديمتر في معظم الأعمال التي تجمعها من بيرسفوني تحمل في
يدها الفاكهة الناضجة. أمَّا بيرسفوني فتحمل في يدها الأزهار.
الموسم القديم والموسم الجديد في مقابل بعضهما البعض. تتحول الزهرة
إلى ثمرة، والثمرة تموت للتتحول إلى زهرة. ومن الشارات المميزة
لكلتا الإلهتين أيضًا باقة القمح والمشعل، حيث تحمل ديمتر باقة
القمح وتحمل بيرسفوني المشعل. لكنهما في الأعمال التي تمثلها كلٌّ
على حدة، قد تتبادلان الشارات، فنرى ديمتر ومعها الشعلة وبيرسفوني
ومعها باقة القمح. في الشكل رقم (
٤-٨) تظهر
الإلهتان وبينهما الشاب تريبتوليموس الذي عهدت إليه ديمتر بمهمة
نشر القمح في جميع أرجاء العالم. تقوم ديمتر بتسليم الشاب باقة
القمح الأولى، ومن خلفه تقف بيرسفوني مقابل أمها وقد أمسكت بيديها
مشعلين، رمز النار المخصبة.
يظهر موضوع الأم والابنة،
قمح السنة الماضية وقمح السنة الجديدة، في عمل فني بابلي من أواسط
الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي قبل قرابة ألفي سنة من تدوين نص
أسطورة ديمتر وبيرسفوني في أشعار هوميروس. ففي الشكل رقم (
٤-٩) نجد عشتار كروحٍ للقمح جالسة على مقعد
ملتحم بالأرض ممتزج معها، من كتفيها تنبعث سنابل القمح وعلى رأسها
تنتصب حية ذات رأسين على هيئة قرنين، ومن خلفها إلهة أخرى أصغر
حجمًا ولكنها تتطابق معها في كل شيء، تطلع من هوة فوق مرتفع صغير
يبدو وكأنه يرتفع بها تدريجيًّا، وقد انبعثت السنابل من كل أجزاء
جسدها. لم يوجد في بلاد الرافدين أي نُصب مكتوب يحكي قصة هذا العمل
التشكيلي المحمل بالرموز، ولكنه يبدو واضحًا كل الوضوح على ضوء
تفسيرنا لأسطورة ديمتر وبيرسفوني. فهو بلا شك يحكي أسطورة مشابهة
لم تسجل نصوصها بسبب اقتحام الذكر مسرح الأسطورة. والأسطورتان، في
تفسيرنا، ترجعان إلى أصل مشترك واحد، إلى الأسطورة النيوليتية
الأم.
إن تفسيرنا لأسطورة ديمتر
وبيرسفوني، وللأسطورة المفترضة في العمل التشكيلي البابلي الموضح
أعلاه، ليلقي ضوءًا على أسطورة سومرية أقدم منهما، وهي أسطورة
اختطاف إريشكيجال من قبل إله العالم الأسفل السومري «كور» وجعلها
زوجة له وملكة على عالم الموتى. ورغم أن الألواح السومرية المكتشفة
لم تورد من هذه الأسطورة سوى مقدمتها، فإننا نستطيع فهم مسارها
العام ونهايتها، من معرفتنا لمجمل الميثولوجيا السومرية. تجري
أحداث الأسطورة بعد استقرار الكون وترسيخ أركانه وتقسيمه بين
الآلهة الذكور:
بعد أن أُبعدت السماء عن الأرض،
وفُصلت الأرض عن السماء،
وتم خلق الإنسان،
وأخذ آن السماء،
وانفرد إنليل بالأرض،
أخذ الإله كور إريشكيجال غنيمة له،
ولكن الإله إنكي أبحر،
أبحر الأب إنكي إلى كور،
قصد إلى كور مبحرًا،
رماه بالحجارة الصغيرة،
كما رماه بالحجارة الكبيرة.
١٩
لا يوصلنا النص الذي وردت فيه هذه المقدمة إلى
نتيجة القصة. ولكن النصوص السومرية والبابلية اللاحقة، تحدثنا عن
الإلهة إريشكيجال باعتبارها إلهة للعالم الأسفل، ويختفي ذكر كور
كشخصية إلهية، ليبقى اسمه دلالة على العالم الأسفل؛ مما يدل على أن
إنكي قد أخفق في مهمة إنقاذ الإلهة، التي بقيت هناك وارثة مملكة
الأموات، تمامًا كالإلهة بيرسفوني.
ولكن مَن هي هذه الإلهة المخطوفة؟ إن اسم إريشكيجال يعني باللغة
السومرية «سيدة العالم الأسفل». فهو والحالة هذه لقب لا اسم. فماذا
كان اسمها في العالم الأعلى؟ وهل كانت سوى عشتار نفسها، روح القمح
وأم الطبيعة في العصور النيوليتية، التي كان اسمها في العالم
العلوي عشتار، واسمها في العالم الأسفل إريشكيجال؟ أليست الفتاة
الصاعدة من هوة عالم الأموات في الشكل (
٤-٩)
هي إريشكيجال-بيرسفوني، سنابل السنة الجديدة التي سوف تتحول إلى
عشتار-ديمتر، السنابل الناضجة التي تموت هابطة إلى الأسفل من جديد؟
إن الأساطير السومرية والبابلية المكتوبة لا تتحدث عن صعود
إريشكيجال السنوي من العالم الأسفل، كما هو الحال في الأسطورة
الإغريقية، بسبب اقتحام الذكر مسرح الأحداث وحلول الإله تموز، ابن
عشتار وحبيبها، محلها في درام الهبوط والصعود، كما سنرى ذلك مفصلًا
فيما بعد. ولكن فرضيتنا هذه إنما تحاول إعادة بناء الأسطورة
النيوليتية الأم، عندما كانت عشتار تجر وراءها، وحيدة، دورة الفصول
تحت اسم واحد، ثم اتخذت اسمين؛ اسم لوجهها الأخضر المنير، واسم
لوجهها الأسود المعتم، ثم تحول الاسمان إلى ذاتين، ثم جاءت المرحلة
الأخيرة عندما حلَّ ابنها محلها كروح للقمح.
لم يُبدِّل اقتحام الذكر
أسطورة الأم الكبرى سيدة الطبيعة، شيئًا من خصائص عشتار الإخصابية؛
فقد بقيت سيدة للحياة النباتية وربة خصب الأرض، وكان الدور الذي
يلعبه ابنها وحبيبها تموز وأشباهه (أدونيس، أوزوريس، آتيس،
ديونيسيوس … إلخ) دورًا مكملًا لدورها الأساسي، فالأم عشتار هي
التي كانت تدفع بتموز إلى العالم الأسفل، حيث يبقى جزءًا من السنة
هناك، وهي التي تهبط إلى العالم الأسفل لاستعادته إليها، حيث يقضي
جزء السنة الآخر معها (وسنبحث هذه العلاقة بين الأم الكبرى وابنها
والأساطير المتعلقة بهما في فصل تموز الأخضر). لهذا فقد بقيت في كل
الثقافات، الإلهة الخضراء، سيدة الطبيعة النباتية دعاها البابليون
بعشتار الخضراء، ودعاها المصريون بإيزيس الخضراء، وسيدة الخبز،
وسيدة الجعة، وأم القمح، ودعاها اليونان بسيدة السنابل، وقد خلدت
الأعمال الفنية عبر التاريخ هذا الوجه الأخضر للأم الكبرى؛ حيث
نراها في معظم الرسوم والمنحوتات وقد أمسكت بيدها سنابل القمح أو
الأغصان المورقة أو الثمار الناضجة، من هذه الأعمال الفنية
الجميلة، ذلك النحت البارز المحفوظ في المتحف الوطني بدمشق، الذي
يمثل عشتار عارية الصدر، ترفع بيديها الاثنتين حزمتين من النبات،
وعن يمينها وشمالها يشب زوجان من الماعز. وقد ينوب الإناء الفخاري،
وهو الرمز القديم للأم الكبرى، منابها في الأعمال التشكيلية، حيث
نجد الجرة الفخارية والسنابل تنبعث من كتفيها، كما هو الأمر في
النقش الفينيقي الموضح في الشكل (
٤-١٠).
هذا وتنحو بعض الأعمال الفنية الممثلة للسيدة مريم العذراء منحى
الأعمال العشتارية القديمة؛ إذ تمثل العذراء كسيدة للسنابل وقد
زينت سنابل القمح ثوبها ونبتت الأرض تحت قدميها؛ من هذه الأعمال
قطعة جميلة من الحفر على الخشب من ألمانيا القرن الخامس عشر (الشكل
رقم ٤٣). يقول القديس أمبروزي عن السيدة مريم: «في رحم مريم المقدس
زرعت حبة واحدة من الحنطة، ولذا نحن ندعوها ببستان القمح.»
٢٠
إذا كانت الأم الكبرى هي المسئولة عن خصب الأرض ودورة الزراعة،
فإن وكيلاتها الأرضيات هنَّ امتدادٌ لخصائصها الإخصابية. إن اكتشاف
ديمتر للقمح ونشر زراعته في أنحاء الأرض، ومثلها في ذلك إيزيس التي
عهدت إلى أوزوريس تعليم البشر زراعة القمح، ليس إلا إقرارًا، على
مستوى الأسطورة، بفضل المرأة في اكتشاف الزراعة. لقد كانت مهمة
التقاط الثمار والبحث عن الجذور الصالحة للأكل من نشاطات المرأة
الأساسية، وهذا ما قادها إلى اكتشاف القمح البري كغذاء، وابتكار
أساليب إعداده من طحن وعجن وخبز. ثم أتاحت لها الأوقات الطويلة
التي كانت تقضيها في حقل القمح البري، فرصة الملاحظة المتأنية
لآلية نشاط الطبيعة، فعرفت أن السنبلة التي تنمو في الربيع، إن هي
إلا الحبة الميتة التي تسقط في الخريف، فحاولت تقليد آلهة الطبيعة
وتكرارها، وطمرت أول حفنة قمح مبتدئة بذلك تاريخ الحضارة. لقد رأى
الإنسان في هذا النشاط الجديد استمرارًا لخصوبة المرأة، وفيضًا آخر
لقواها المبدعة الخلاقة، وعطية من عطايا جسدها المرتبط بالقوى
الإلهية العشتارية. فالجسد الذي يهب من ظلماته الحياة ويغذيها
ويرعاها، وهو الذي مد سلطانه أيضًا إلى التربة ليضرم فيها جذوة
الخصوبة. ومنذ استنبات حفنة القمح الأولى، صارت الزراعة من مهام
المرأة الرئيسية، وصارت طقوس إحياء الأرض وقفًا على النساء من دون
الرجال. فإذا كان على الرجل المساهمة في العمل الزراعي، فإن
مساهمته تقتصر على المجهود العضلي المتمثل في شق الأرض وتحضيرها،
أما وضع البذرة في الأرض فيجب أن تقوم به المرأة التي تنقل للبذرة
وللتربة شحنة من خصب جسدها المتوحد مع إيقاع الطبيعة.
إن العادات القائمة في العصر الحديث لدى القبائل البدائية، والتي
حفظت في شكلها النيوليتي الصافي تدعم هذا الاستنتاج. فمن الشائع
لدى كثير من القبائل أن يقوم الرجل بكل الأعمال التمهيدية السابقة
للبذار، ثم تأتي المرأة فتضع البذور في الشقوق التي يسبقها الرجل
إلى تحضيرها.
٢١ كما تسود لدى كثير من القبائل البدائية في أنحاء
مختلفة من العالم، أسطورة اكتشاف الزراعة لأول مرة من قبل المرأة،
وتقوم النساء في هذه المجتمعات بطقوس استجلاب المطر واستثارة خصوبة الأرض.
٢٢ وفي فترة نضج الحضارة الإغريقية كانت المرأة مسئولة عن
استثارة خصوبة التربة وإحياء الأرض، وكانت تقام لهذه الغاية
احتفالات خاصة يمارس طقوس الخصب فيها نساء مهيآت لهذه المهمة.
٢٣
مع نمو وتوسع المستوطنات الزراعية البدائية، انتقلت روح القمح
إلى المعابد مغادرة محرابها الصغير في الحقل. وعندما تحولت
المستوطنة إلى مدينة، تركت عشتار سكنها القديم في السنبلة وجذع
الشجرة وحلَّت في التماثيل الرخامية الجميلة المتقنة الصنع، داخل
المعابد الضخمة التي تناطح أبراجها المدرجة السحاب، وتشبَّهت بآلهة
الذكور فانسلَّت من الحياة النباتية التي كانت روحًا لها، لتغدو
سيدتها الآمرة. ولكن زارع الحقل الأول الذي آمن بروح القمح وعبدها
وتغذى على جسدها، قد بقي على ولائه القديم، وبقيت روح القمح تسكن
في كوخه وتعايشه في حقله. لم يعرف أن عشتار قد انتقلت إلى بابل
والأقصر وأثينا وروما، ولم يسمع أساطيرها في حُلَّتها الجديدة بعد
أن انطلقت من حقله وصيغت في حلل أدبية منمقة. وعندما آمن، في
الفترات المتأخرة بالإله الفادي المخلِّص الذي يموت ليهب العالم
الحياة، لم يدُر بخلده أن هذا الإله الجديد ليس إلا إلهه هو، وقد
عاد إليه في حلة فلسفية قشيبة، وليس إلا روح القمح القديمة التي
كانت تموت في كل عام لتهب له الحياة.
ومن الملفت للنظر أن نجد روح القمح ما زالت تعيش في مواطنها
الأولى، حيث حقول القمح إلى العصر الحديث. إلا أننا لا نستطيع
تتبُّع آثارها اليوم في المعتقد الديني والطقس، بل في الفلكلور
الشعبي، الذي حفظ لنا على طريقته الهيكل العام لأسطورة زارع القمح
الأول وطقوسه.
فإلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان الفلاحون في كثير من
المناطق الأوروبية، يتحدثون عن «الأم القمح» التي تجوس حقول القمح
الناضج في الربيع والصيف، كلما تمايلت السنابل مع هبات الريح، فإذا
وصل الحصاد إلى نهايته، ولم يبق في الحقل سوى مجموعة من السنابل
قائمة في نهايته، قالوا: إن الأم القمح قد حلَّت في هذه المجموعة،
فإذا أجهز الحصادون على السنابل الأخيرة، جرت العادة في بعض
المناطق أن تُضم في حزمة واحدة، فتلبس زيًّا نسائيًّا، ويطلق عليها
اسم الأم القمح، ثم يؤخذ من هذه الحزمة أفضل باقاتها، فيُصنع منها
إكليل تلبسه أجمل فتاة في القرية. أمَّا الحزمة فتُعلق على عمود
يحمله شابان، ويسير الجميع وراءه في موكبٍ هازج تتقدمهم الفتاة ذات
الإكليل إلى بيت عمدة القرية، الذي يتسلم الإكليل من الفتاة فيعلقه
في بيته إلى يوم الأحد، حيث يقوم بتسليمه إلى الكنيسة، فيبقى هناك
إلى مساء عيد الفصح من العام المقبل. في ذلك الوقت يتم تسليمه إلى
فتاة صغيرة، فتجوس به في الحقل وتفرط حبات السنابل ناثرة إياها فوق
القمح الغض الجديد، كما جرت العادة في مناطق أخرى، على أن يُربط
الشاب الذي حصد الباقة الأخيرة من القمح إلى الحزمة، فيُضرب
تمثيليًّا ويدار به في شوارع القرية، ويشار إليه على أنه ابن الأم
القمح. وفي بعض المناطق لا تجري هذه الممارسات في الحقل، بل في
مكان دَرْس القمح. فروح القمح تهرب أمام الحصادين لتأوي إلى مكان
تجميع القمح المحصود، وهناك تُقتل تحت ضربات الدارسين أو تُهرَّب
إلى الحقل المجاور. وقد يُقبض على أول امرأة غريبة تظهر في حقل
القمح، فتربط إلى الحزمة الأخيرة، وتؤخذ إلى مكان الدَّرْس، حيث
يمثِّل الحصادون عملية درسها وتذريتها. وقد تُحمل المرأة التي قامت
بجمع آخر باقات القمح، فتوضع في مكان قريب، ويقوم الحصادون بتمثيل
عملية توليدها باعتبارها حاملة بروح القمح التي ستلد منها.
٢٤
سيدة الشعلة
كما كشفت عشتار سر الزراعة للمرأة، فكانت أول مَن بذر حبة القمح
في التراب، كذلك كشفت لها سر النار، تلك القوة القمرية المخصبة،
فكانت أول من استخرجها من مكمنها في أغصان الشجرة وحافظ على
اتقادها. يدلنا على ذلك كثير من أساطير الشعوب
٢٥ التي تحكي عن شعلة النار الأولى، وكيف جاءت بها إلى
الأرض امرأة سرقتها من القمر؟ وكذلك قيام المرأة عبر التاريخ ولدى
جميع الشعوب بحراسة النار والإبقاء على اشتعالها في البيوت
والمعابد، وذلك كاستمرار لفعلها الخلاق الأول. وفي بعض الأساطير
البدائية تنبعث شعلة النار الأولى من قيام إلهة القمر بإمرار يدها
بيد ساقيها.
٢٦ وهذا يذكِّرنا بعمل تشكيلي من الهند يمثل الأم الكبرى
وقد باعدت ما بين ساقيها المرفوعتين نحو الأعلى ومن رحمها تنبت الشجرة.
٢٧ فالأنثى الكونية المخصبة التي وهبت الشجر هي التي تهب
النار الكامنة فيه، قدرة نماء وطاقة ليبيدية كونية تشد الأحياء إلى
بعضهم بعضًا لاستمرار الفصائل والأجناس. وعشتار الخضراء روح الغاب
وروح القمر، هي الآن سيدة الشعلة الدائمة، رمز النفس الحية
المتوقدة للكون.
خشي إنسان العصر الحجري انطفاء النار لصعوبة الحصول عليها وإعادة
إشعالها، كما خشي انطفاءها لأنها قبس من الأم الكبرى وبركة، فكان
انطفاؤها انقطاعًا لما بينه وبينها، وانفصالًا للعهد الذي قطعته له
بالحفاظ على حياته ورعاية معاشه، لهذا كان للقبيل البدائي شعلته
الدائمة التي ترعاها النساء، حولها يجتمع أفراد الجماعة مساءً،
فتخفف من وحشتهم وتجمع شملهم. فالنار كالأنثى الأم، مركز جذب وعامل
تأليف. وعندما توسَّع القبيل، صار لكل بيت شعلته الدائمة التي لا
تنطفئ، رمز لوحدة العائلة واجتماعها حول الأم وحول موقد البيت؛
فإذا أراد أحد أفراد العائلة الزواج وتكوين بيت مستقل، حمل من موقد
أهله شعلة وضعها في سكنه الجديد؛ توكيدًا على صلته التي لن تنقطع
رغم بُعده. ومع اكتشاف الزراعة، صارت الشعلة العشتارية عنصرًا
أساسيًّا في طقوس الخصب، حيث كان المزارعون يطوفون الحقول ليلًا
بمشاعلهم المتقدة، لِبَثِّ روح سيدة الشعلة في الأرض، وتفجير
الحياة في البذور الصماء.
وقد استمرت هذه الطقوس قائمة في العصر الحديث لدى القبائل
البدائية، كما هو الحال لدى قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية
وقبائل البازوتو والزوني وغيرهم،
٢٨ مما يدل على أصولها المغرقة في القدم.
عندما انتقلت عشتار من بيت المزارع القديم وحقله إلى معابد
المدن، انتقلت معها شعلتها المقدسة الدائمة الاتقاد، وصار للنار
العشتارية كاهنات عذراوات متفرغات لحراستها والإبقاء على جذوتها،
وإقامة الطقوس الخاصة بها. وأخذت الأعمال التشكيلية تصور الأم
الكبرى وبيدها مشعل، كما هو الحال في تماثيل ورسوم ديمتر (شكل رقم
٤-١٤)، وأرتميس (شكل رقم
٤-١٢)، وبيرسفوني (شكل رقم
٤-٨) وهيقات وديانا.
يبدو رمز الشعلة أكثر التصاقًا بالإلهة الرومانية «ديانا» من
غيرها من تجليات الأم الكبرى، فلا تظهر في رسمٍ أو نحتٍ إلا وفي
يدها مشعلها المضيء. واسمها نفسه إذا أعيد إلى جذره القديم يعني «المضيئة»،
٢٩ وذلك إشارة إلى خصائصها النارية وطبيعتها القمرية. وفي
هيكلها الذي كان قائمًا وسط غابة نيمي عند أقدام جبال الألب، كانت
كاهناتها العذراوات يوقدن نارها المقدسة ويحفظنها مشتعلة ليلًا
ونهارًا على مدار السنة. وكانت النساء يأتين إلى الهيكل ومعهنَّ
المصابيح الزيتية التي توضع عند المحراب تقربًا، ووسيلة لاستجابة
الدعوات. أما في عيد ديانا الكبير يوم الثالث عشر من آب (أغسطس)،
فقد كانت غابتها المقدسة تضاء بالمشاعل التي تنعكس أنوارها على
صفحة بحيرة نيمي الهادئة، كما كانت طقوس النار في ذلك اليوم تقام
في جميع أنحاء إيطاليا حول مواقد البيوت.
٣٠
من ألقاب ديانا القديمة «فيستا»
٣١ الذي يعني أيضًا إذا أعيد إلى جذره القديم: «المضيئة»
أو «المشعَّة». ثم تحول اللقب إلى إلهة مستقلة موكلة بالنار
عمومًا، وبالنار المنزلية ونار الطقوس الدينية خصوصًا. كانت فيستا
أجمل إلهات الرومان إطلاقًا، وعذراء كصنوها ديانا، طاهرة كشعلة
النار التي ترمز إليها. وكانت كاهنات النار العذراوات يحرسن شعلتها
ويبقينها متقدة على مدار السنة ويُقمن طقوسها. وكنَّ يُنتقين من
أنبل العائلات الرومانية، ويخضعن لتدريب طويل مدته عشر سنوات يبدأ
في سن السادسة، ثم ينخرطن في خدمة الإلهة مدة عشر سنوات أخرى،
يتفرغن بعدها لتدريب جيل جديد من الكاهنات مدة عشر سنوات أخيرة،
فإذا أتممن ثلاثين سنة في خدمة المعبد، سمح لهن بالعودة إلى أهلهن
والزواج إذا أردن ذلك. غير أن معظمهنَّ كان يعزف عن الزواج للإبقاء
على مركزهنَّ المقدس في المجتمع الروماني الذي كان يكنُّ لهن أعظم
تقدير وإجلال.
٣٢ وكما جردت ديانا من نفسها الإلهة فيستا، كذلك جردت
أرتميس اليونانية من نفسها الإلهة هستيا. كانت هستيا إلهة النار
المنزلية ونار المعابد، وكانت شعلتها الأساسية في معبد دلفي تعتبر
الشعلة الكونية؛ لأن معبد دلفي نفسه كان لدى اليونان بمثابة مركز
للكون. كما كانت هستيا تجسيدًا للنار الباطنية التي تتقد في مركز
الأرض. وكرمز قديم للنار المنزلية ونار القرية، كانت هستيا حامية
للعائلة وحارسة للمدينة. حاول الزواج منها أبولُّو وبوسيدون،
ولكنها لجأت إلى زيوس الذي وهبها حمايته فحافظت على عذريتها إلى الأبد.
٣٣ هذا وقد ارتبطت النار بعبادة إيزيس المصرية، خصوصًا في
شكلها القمري الناري تحت اسم «باست»، التي كانت تُصوَّر على هيئة
سيدة برأس هرة.
٣٤ ولربما كانت هذه التسمية هي أصل اسم «البس» أو
«البسينة» الذي يطلق على القطة في كثيرٍ من اللهجات العربية
المحكية اليوم. وكانت طقوس النار تقام في معابد إيزيس لإيقاظ الإله
الميت أوزوريس، حيث يحمل الكهنة مشاعل الأم الكبرى، ويطوفون بها
حول تابوت الإله لتشتعل روحه من جديدٍ بالحياة، مستمدة من شعلة
الإلهة القمرية واهبة الحياة.
٣٥
كما ارتبطت النار بعبادة الأم الكبرى لحضارة السلت «بريجيت» التي
حافظت على وجودها في أيرلندا تحت اسم «القديسة بريجيت» بعد انتشار
المسيحية، كما رأينا سابقًا. وإلى يومنا هذا تقوم كاهنات الأم
القمرية، التي دعاها السلتيون بأم الآلهة، بحراسة نارها المقدسة
وهن في لباس راهبات السيدة مريم في دير كيلدر بأيرلندا.
٣٦ وفي يوم ٢ شباط يحتفل الأيرلنديون بيوم قداس الشموع،
حيث يتم إشعال نار الشموع الجديدة في الكنائس الكاثوليكية وتطفأ
نار الشموع القديمة. وهذا اليوم يتوافق في تاريخه مع عيد الإلهة
بريجيت القديمة، تمامًا كما يتوافق يوم المشاعل المخصص للإلهة
ديانا مع يوم صعود السيدة مريم في إيطاليا ومناطق كاثوليكية أخرى.
٣٧ وبشكل عام يمكن القول بأن طقوس إشعال الشموع في معابد
الديانات الكبرى اللاحقة، كما هو الأمر في الكنائس المسيحية
والمعابد البوذية والهندوسية وحول أضرحة الأولياء المسلمين، هي
استمرار للطقوس النارية للأم الكبرى القديمة.
وقد بلغ تقديس النار أوجَه في الديانة الزرادشتية، التي كان
أتباعها يقدسون النار باعتبارها التجلي الحقيقي للإله أهورا مزدا،
نور الكون والقدرة الكامنة وراءه. وفي الديانات التي تبدو بعيدة كل
البعد عن تقديس النار بصورة مباشرة غالبًا ما نجد هذه النار قائمة
خلف رموز القداسة والألوهية. فعند اليهود تجلى الرب لموسى أول مرة
على هيئة شعلة نارية: «فساق الغنم إلى البرية، وجاء إلى جبل حوريب.
وظهر له ملاك الرب بلهيب نار وسط عليقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد
بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا
المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال
لينظر، ناداه الرب من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا
ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع
الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة.»
٣٨ وهذا المكان من سيناء الذي تجلى عنده الرب لموسى في
هيئة نارية، لا يبعد كثيرًا عن معبد سيدة التوركواز الذي أقامه
السوريون في قفر سيناء للأم الكبرى سيدة الشعلة.
٣٩ وفيما بعد، كان حضور يهوه مرتبطًا بالنار، وكانت النار
تشتعل ليلًا فوق الخيمة التي كانت مسكن الرب ومقر تابوت العهد:
«وفي يوم إقامة المسكن، غطت السحابة المسكن خيمة الشهادة. وفي
المساء كان على المسكن كمنظر نار إلى الصباح هكذا دائمًا، السحابة
تغطيه ومنظر النار ليلًا»
٤٠ … «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه
بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون.»
٤١
وقد انتقل رمز الشجرة الملتهبة، كتجلٍّ قدسي، من التوراة إلى
التقاليد المسيحية التي وجدت في الشجرة رمزًا للسيدة العذراء، وفي
النار المتوقدة رمزًا للسيد المسيح: «رأى موسى العليقة في جبل
حوريب تتوقد بالنار وهي لا تحترق، فتحتفظ بين ألسنة اللهيب بنضارة
اخضرارها ورطوبة ماديتها. ومريم حبلت وولدت كلمة الله المتأنس:
النار الملتهبة، ومع ذلك لم تثلم البتولية ولم تفض البكارة، فحافظت
في أمومتها على ماهية بتوليتها، وجمعت في ذاتها بين ضدين: شرف
الأمومة وسناء البتولية. لقد أدرك موسى في العليقة سر ولادتك
العظيم، أيتها العذراء القدسية المنزهة عن الفساد.»
٤٢
هذا وقد بقيت طقوس النار القديمة مستمرة حتى الأزمنة الحديثة،
رغم أن الناس قد نسوا منشأها وضاعوا عن أصلها؛ ففي أوروبا الحديثة
نزولًا إلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان الفلاحون يقومون
بطقوس وشعائر لا تخفي طابعها العشتاري القديم. من ذلك مثلًا طقوس
نار الصوم الكبير.
٤٣ ففي فرنسا وأجزاء من أوروبا، كانت تشعل الحرائق في أول
آحاد الصوم الكبير. وكان البادئ بإشعال الحريقة الأولى رجل وامرأة
تزوجا حديثًا (لأن الجذوة العشتارية تكون مشتعلة بينهما وفي أوج
اتقادها، فيبادلان النار خصبًا بخصب، ويمدانها بشحنتهما الخاصة).
وعندما ترتفع ألسنة اللهب يقوم الناس بالرقص حول النار، ويأتون
بقطعان الماشية يسوقونها بين الحرائق والدخان؛ لتحصينها ضد المرض
وضمان تكاثرها، ثم يأتون بالمشاعل فيضرمون نارها من الحرائق
ويطوفون بها الحقول وبين الأشجار قائلين: أعطنا ثمرًا أكثر من
الورق.
وفي ألمانيا والنمسا وسويسرا كان الناس في نفس المناسبة يجمعون
القش والحطب، فيهيلونه كتلة ضخمة حول شجرة زان كبيرة، ثم يثبتون
عارضة خشبية طويلة على الشجرة بحيث تشكل معها هيئة صليب. بعد ذلك
يضرمون في هذه المجموعة النار، فإذا هبَّ دخان الحريق نحو حقول
القمح تفاءلوا خيرًا بموسمٍ جيدٍ. وفي بعض أجزاء من تلك البلدان،
كانوا يصنعون عجلة كبيرة من أغصان وأوراق الشجر اليابس (وفي ذلك
رمز للقمر)، ثم يسحبونها إلى أعلى تل قريب، فيضرمون فيها النار
ويتركونها تتدحرج مشتعلة نحو القرار، وكلما كان توهج العجلة
كبيرًا، تطلعوا إلى مواسم وفيرة.
ومن المناسبات الأخرى التي تشعل فيها النار المقدسة في أوروبا،
عيد الفصح. ففي السبت تشعل الكنائس الكاثوليكية كل شموعها المطفأة
من شمعة كبيرة وسط الكنيسة، هي شمعة الفصح، رمز الأم الكبرى مريم،
وقد تشعل النار في فناء الكنيسة الخارجي، ويأتي الناس بأغصان من
الزان أو البلوط يشعلونها من نار الفصح، ويأخذونها إلى بيوتهم
فيشعلون بها نارًا جديدة. أمَّا العصي المطفئة فقد توضع في الحقول
لضمان المواسم الجيدة. وفي أنحاء كثيرة من ألمانيا، تشعل الحرائق
عشية الفصح على أعالي التلال، وتتبارى القرى المجاورة في إيقاد
أكبر الحرائق وأكثرها توهجًا وإنارة؛ لأن المسافة التي يمكن أن يرى
منها نور حرائق الفصح، ستكون محصنة ضد الجفاف في العام المقبل. وفي
بعض المناطق لا تشعل نار الفصح بالوسائل العادية، بل لا بدَّ من
إشعالها بحك قطعتين من الخشب، وقد تدفن بقايا الحرائق في الحقول
لزيادة خصبها.
ومن المناسبات الأخرى التي تقام فيها طقوس النار المقدسة يوم
الأول من أيار، وهو احتفال كبير يقام في طول أوروبا وعرضها. ولعل
أوضح مثال على الطابع العشتاري لهذا الاحتفال ما كان يقوم به
المزارعون في منطقة ويلز ببريطانيا. ففي عشية أول أيار، يقوم بضعة
رجال بالتوجه إلى الغابة القريبة، فيحتطبون كمية من أغصان الأشجار
يأتون بها إلى القرية، فيشكلون منها صلبانًا صغيرة توضع حول دائرة
في الوسط (نفس الدائرة والصليب اللذين رمز بهما إنسان الثقافة
النيوليتية في سوريا إلى الأم الكبرى منذ الألف السابع قبل
الميلاد) ثم يقوم أحد الرجال بحك قطعتين من خشب البلوط ببعضهما،
فإذا اشتعلت فيهما النار، أوقد منها بقية الأغصان، وقام الناس
بالرقص حول النار والقفز من فوقها، وجلبوا قطعانهم إليها.
هذا وتتعدد المناسبات التي تقام فيها الاحتفالات المشابهة، فنجد
طقوس النار في يوم القديس يوحنا المعمدان في الرابع والعشرين من
حزيران، وهو اليوم الذي تصل فيه الشمس أقصى مدى لها في الارتفاع.
كما نجدها في عيد جميع القديسين، وفي يوم منتصف الشتاء، وكلها
مناسبات لا تخفي طابعها الوثني القديم.
وقد مارس العرب في جاهليتهم طقوسًا مشابهة تستهدف حث القوى
الإخصابية بواسطة النار، فكانوا إذا احتبس المطر خرجوا لصلاة
الاستسقاء، فأشعلوا نارًا في أذناب البقر وتركوها تنحدر من قمة جبل
وعر؛ اعتقادًا منهم بأن تلك النار سوف تستنزل عليهم الغيث. وبينما
كانت الأبقار تندفع نحو السفح في خوار وضجيج، كانوا يرفعون أصواتهم
بالصلوات والأدعية.
٤٤ وفي سوريا، مهد المسيحية الأول، ما زالت طقوس النار
تقام في بعض المناسبات الدينية وخصوصًا يوم عيد القديس مارجورجيوس
(الذي يشكل مع ولي الله الأخضر، سيدنا الخضر، استمرارًا للإله بعل
ابن الأم السورية الكبرى) وعيد الصليب، حيث تندلع الحرائق الصغيرة
في كل مكان احتفالًا بهاتين المناسبتين.
وأخيرًا، لا أدري أي رمز استلهم الفنان الفرنسي صانع تمثال
الحرية العملاق المنتصب أمام مدينة نيويورك في عرض البحر، ولكن إذا
أمعنَّا النظر إليه، ألا نرى عشتار سيدة الشعلة المقدسة مؤكدة
وجودها في قلب أعتى ثقافة ذكرية بطريركية عبر التاريخ؟
عشتار الأفعى
اعتقد الإنسان القديم بأن الحية خالدة لا تموت، وأن تبديلها
لجلدها القديم بجلد آخر، هو تجديد لحياتها كلما نال منها الهِرَم،
وربط بينها وبين القمر الذي يجدد حياته في دورة شهرية دائمة، فيسلخ
جلده القديم في طوره المتناقص ويلبس جلدًا جديدًا في طوره
المتزايد. فكانت الحية رمزًا للإلهة القمرية منذ الأزمنة السحيقة.
ومن هنا جاء اسم الأفعى في اللغة العربية على أنه الحيَّة مشتقًّا
من الحياة. وفي وصف بابلي للإلهة عشتار أن جسدها مغطى بحراشف الأفعى،
٤٥ وفي ذلك تعبير رمزي على صلتها بالحية، وتجديدها الدوري
لجلدها القمري. وقد اعتقد اليونان أن عدد أضلاع الحية تعادل عدد
أيام الشهر القمري،
٤٦ كما عبرت الأعمال التشكيلية للحضارات القديمة عن هذه
الوحدة الخفية بين القمر والأفعى بشكل واضح. ففي الشكل رقم (
٤-١٣)، وهو رسم على الفخار من سوسة في إيران، نجد
الأفعى منتصبة وعلى رأسها الهلال وأمامها الصليب؛ ثلاثة رموز
عشتارية في تأليف فني واحد.
هذه التصورات الميثولوجية التي تعود في أصلها إلى العصر
النيوليتي، ما زالت مستمرة في التصورات الميثولوجية للشعوب
البدائية الحديثة، فلدى كثير من قبائل ميلانيزيا وأستراليا
وإندونيسيا وأفريقيا، وهنود أمريكا، تشير الحية إلى القمر ويشير
القمر إلى الحية. وما زال رمز الحية التي تحمل الهلال على رأسها
قائمًا لدى بعض هذه القبائل؛ للدلالة على الحياة الأبدية، وتتم
الاحتفالات والطقوس الخاصة بالإلهة الأفعى في اليوم الأول لظهور
القمر الجديد. ومن علاقة القمر بالأفعى، انتقلت التصورات
الميثولوجية إلى الربط بين الأفعى والمرأة؛ فالمرأة في أصلها كانت
أفعى، والأفعى كانت امرأة. ففي أسطورة من الكونغو عند الطوفان
الكبير: أن الذعر الذي حلَّ بالبشر إبان تلك الكارثة قد أعاد
المخلوقات إلى أصولها، فتحول الرجال إلى قرود وتحولت النساء إلى
أفاعٍ. وهذه الأسطورة تنسج على منوال خرافات العصور الوسطى في
أوروبا التي تؤكد أنَّ النساء خلقن من أرجل الأفعى التي فقدتها لدى
تسللها إلى الفردوس.
٤٧
تبدو عشتار في كل الثقافات مصحوبة بالأفعى في كثير من الأعمال
التشكيلية التي تصورها؛ فعشتار البابلية تلبس على رأسها تاجًا على
هيئة أفعى ذات رأسين (شكل
٤-٩)، وديمتر تعطي
تريبتوليموس سنبلة القمح الأولى وراءها تنتصب الأفعى (شكل
٤-١٤)، والأم الكريتية الكبرى تمسك بيدها الأفاعي
أو تلتف حول جسدها (الشكل
٤-١٧)، وإيزيس ينتصب
عن يمينها ويسارها أفعوانان عملاقان، وفي أفق السماء يظهر الهلال
في يومه الأول (الشكل
٤-١٥).
وقد ينوب عن الأم الكبرى الإناء الفخاري، رمزها القديم، فتلتف
عليه الأفعى كما تلتف على جسد الأم الكريتية (الشكل
٤-١٦)، والنساء الجورجونات في الميثولوجية
الإغريقية تنطلق الأفاعي من رءوسهن بدل الشعر، وكذلك الميدوزا التي
تحوِّل نظرتها الرجال إلى حجارة. وفي هذا المجال نتذكر نص أبوليوس
السالف الذكر عن الأم القمرية الواحدة التي قدم لها صورة أدبية
رائعة وهي تطلع من البحر: «كان شعرها الطويل الغزير ينسدل جدائل
مستدقة الأطراف على عنقها الجميل. فوقه إكليل شبكت إليه كل أنواع
الورود، وحول الرأس قرص نوراني يسطع كمرآة، أو كوجه القمر البهي،
مما أنبأني عن حقيقتها. وكان أفعوانان ينتصبان من يديها اليمنى
واليسرى، ليسندا ذلك القرص وإلى جانبهما تنطلق سنابل
القمح.»
إن حية الأم الكبرى هي رمز معقد ومتشابك، ولكنه في جانبه الأساسي
يشير إلى خصائص عشتار القمرية وخصائصها الإخصابية أيضًا. ففي الشكل
(
٤-١٤) نجد الأفعى تنتصب خلف ديمتر في
اللحظة التي تُسلم فيها سنبلة القمح الأولى إلى الشاب الذي سيوزعها
في جميع أنحاء العالم. وفي وصف أبوليوس تنطلق سنابل القمح على جانب
الأفعوانين اللذين يسندان قرص القمر. كما اعتبرت الحية بمنزلة روح
للشجرة، وحارسة لمياه الينابيع، نجدها في كثير من الأعمال
التشكيلية وقد التفَّت حول الشجرة ومن تحتها تنبثق مياه الينبوع،
كما هو الحال في الشكل رقم (
٤-١٨) الذي يمدنا
أيضًا بمثال عن الحية ذات القرون. وهذه العناصر الثلاثة: الشجرة
والأفعى والنبع، تتكرر في كثير من الرسوم. وفي بعضها يغلب على
المشهد جو فردوسي تنتعش فيه كل أنواع النباتات، مما يشير إلى أن
الأفعى هي رمز لخصب الطبيعة بشكل عام، إلى جانب كونها روحًا للشجر
والغاب. وفي كثيرٍ من النقوش والرسوم، سواء في العالم اليوناني
الروماني أو في الشرق القديم، تبدو الحية محاطة بكل رموز الخصب،
وخصوصًا سنابل القمح؛ مما يدل على أنها كانت موضوع عبادة وتقديس
باعتبارها تجليًا لقوى الخصوبة.
٤٨
ففي بلاد اليونان كان معبد دلفي مكرسًا للأم — الأرض «جايا»
وكانت تحرسه، كما تروي الأساطير المتأخرة، الأفعى العملاقة بيثون،
إلى أن جاء الإله أبولُّو فقتل الأفعى واغتصب المعبد الذي صار منذ
ذلك الوقت مكرسًا لأبولُّو.
٤٩ إلا أن كاهنة دلفي التي كانت تُصدر النبوءات وتكشف
الغيب منذ القديم في معبد جايا، قد بقيت موكلة بالنبوءة في معبد
أبولُّو، وحافظت على اسم الحية بيثون.
٥٠ كما بقيت حيَّات الأم الكبرى ترتع في بعض معابد
أبولُّو على أنها من نسل أفعى جايا، وكان لها كاهنات مخصصات
يخرجنها من مخبئها في مناسبات خاصة، ويقدمن لها الطعام وهنَّ
عاريات. فإذا تقدمت الحيات بهدوء وسكينة فالتقطت طعامها دون أن
تخيف الكاهنة، كان ذلك بشيرًا بمواسم طيبة وسنة خالية من الكوارث
والأمراض. أما إذا حدث العكس، كان ذلك نذيرًا بشرٍّ مستطير قادم،
٥١ وهذه الطقوس بقية باقية من طقوس أفعى الأم الكبرى. وفي
الديانة الديونيسية — الأورفية، كانت الأفعى تُعبد باعتبارها الإله
ديونيسيوس نفسه، وهناك بعض الأعمال التشكيلية الأورفية تظهر الأفعى
المجنحة، ديونيسيوس، ملتفة حول نفسها وحولها عدد من الرجال والنساء
عراة في وضع التقديس والتعبد.
٥٢ وقد انتقلت عبادة الأفعى من ديانات الخصب إلى ديانات
الخلاص السرية التي انبثقت عنها. ففي الطقوس الخاصة ببعض هذه
الديانات، كان المحتفلون يحتفظون بحية في سلة ثم يخرجونها في لحظةٍ
معينة من الطقوس لتمثيل اتحاد العابدين بالإله المخلِّص. وقد تنوب
عن الأفعى الحقيقية أفعى مصنوعة من الذهب.
٥٣
هذه الأفعى الذهبية تُذكِّرنا بالحية التي صنعها موسى لقومه في
قفر سيناء: «فأرسل الرب على الشعب حيات مُحرقة فلدغت الشعب، ومات
قوم كثيرون من إسرائيل. فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: أخطأنا إذ
تكلمنا على الرب وعليك، فصلِّ إلى الرب ليرفع عنا الحيات، فصلى
موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى: اصنع حية مُحرقة وضعها على
راية، فكل من لُدغ ونظر إلى حية النحاس يحيا.»
٥٤ ومن الغريب فعلًا أن يقوم موسى بصنع تمثال نحاسي للحية
بعد أن تلقَّى أمرًا من الرب يقول: «لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا
ولا صورة ما، مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في
الماء من تحت الأرض.»
٥٥ والتفسير الوحيد لقيام مؤلَّفِي التوراة بإيراد هذه
الرواية، هو تبرير عبادة الأفعى التي كانت قائمة لدى اليهود، والتي
استمرت حتى زمن طويل بعد موسى بتأثير الديانات السورية المحيطة
بهم. فبعد ما ينوف عن الأربعمائة سنة من وفاة موسى، نجد نصوص
التوراة ما زالت تتحدث عن عبادة الأفعى؛ فهذا هو الملك حزقيا: «قد
عمل المستقيم في عينَي الرب حسب كل ما عمل داود أبوه وهو أزال
المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي
عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها
ودعوها نحشتان.»
٥٦ ولعل عبادة الأفعى لدى العبرانيين ترجع في أصولها إلى
تاريخ أبعد من موسى. يدلنا ذلك اسم القبيلة التي كانت تمسك بزمام
الكهنة في الديانة اليهودية وهي قبيلة اللاويين، أو بني لاوي؛ إذ
أن لاوي يشترك في جذره في اللغة العبرانية مع اسم لواياتان؛ أي:
الحية.
وكما كان لكل فردوس حيَّته التي تعبر عن روح الشجر والغاب، كذلك
كان فردوس يهوه الذي غرسه شرقي عدن. فبعد أن أينعت الجنة
التوراتية، وصُنعت حواء من ضلع آدم، تسلل رمز الحية لإكمال المشهد:
إن شجرة المعرفة التي زرعها الرب في وسط الجنة، والتي تظهرها
الأعمال الفنية منذ القرون الوسطى وقد التفَّت حولها توسوس في أذن
المرأة، لتبدو نسخة تامة الشبه بشجرة الأم الكبرى وحيتها الموضحة
في الشكل (
٤-١٨)، وغيره من الأعمال القديمة
التي تعالج الموضوع نفسه. ونحن هنا أمام تبديات للأم الكبرى في
مركز الفردوس التوراتي. فحواء هي نموذج إنساني مصغَّر لعشتار سيدة
الحياة، واسمها نفسه يعني الحية أو سيدة الحياة؛ لأن كل الحيوات
المقبلة إلى نهاية الزمن مودعة في صلبها، والشجرة هي أيضًا عشتار
مركز الفردوس النباتي. والحية هي روح الطبيعة التي تطلب من المرأة
أن تبقى لصيقة بها ولا تنصاع لشرائع الذكر الذي بدأ بالانفصال عن
الطبيعة. وليس الأمر الذي أعطاه الرب لآدم بألا يأكل من الشجرة،
إلا تعبيرًا عن شرائع الذكر نفسه، التي سنَّها وعمل على الالتزام
بها لتنظيم ارتقائه عن القانون الطبيعي، بلجوئه إلى قانون من صنعه.
ولكن شرائع الذكر تسقط أمام إصرار المرأة على الوفاء للطبيعة،
فتصغي لنداء عشتار الذي تهمس به الحية وتأكل من الثمرة المحرمة
متحدية شرائع الذكر، ثم ينسى الذكر شرائعه ويتحد بالأنثى تحت شجرة
عشتار، إلى أن يصحو على صوت الرب الغاضب، صوت ضمير الرجل الذي وضع
نصب عينيه الخروج من مملكة الطبيعة. يأخذ الرجل بيد أنثاه ويطرد
نفسه من جنة عدن، براءة الإنسان الأولى، ويدخل عالمًا من صنعه هو؛
عالم البناء والتشييد، عالم التصعيد، عالم حضارة لا تحاكي الطبيعة
بل تقف ندًّا لها.
وقد استمرت عبادة الحية التي عبدها العبرانيون تحت اسم نحشتان
قائمة في المذاهب الغنوصية، التي تشكلت نتيجة لقاء عدة روافد من
ثقافات الشرق القديم والفلسفة اليونانية والمسيحية الجديدة. يخبر
القديس هيبوليتوس عن معتقدات إحدى هذه الفرق في عام ٢٣٠م فيقول:
«كانوا يعبدون فقط الحية «نعاس» أو «نحاش»، ويؤمنون بأن كل معابد
الأرض يجب أن تكون مكرسة لها، وكل الطقوس يجب أن تقوم من أجلها
وبحضورها داخل المعبد.»
٥٧ ومن الملاحظ أن اسم نحاش ما زال يطلق في اللغة السورية
المحكية على الأفعى، مع بعض التعديل في ترتيب الحروف؛ إذ يسميها
الناس «حنش». وفي خبر آخر عن معتقدات بعض هذه الفرق أنهم: «كانوا
يحتفظون بحية في صندوق إلى يوم الطقوس، ثم يخرجونها ويدعونها تزحف
فوق أرغفة من الخبز موضوعة أمامها. بعد ذلك يكسرون الخبر ويوزعونه
بينهم، ويقوم كل واحد منهم بتقبيل الحية في فمها؛ ذلك أن الحية قد
تم تدجينها بتميمة سحرية، ثم يخضعون أمامها ويصلون، ويرسلون من
خلالها ترتيلة للإله الأب الذي في السماوات.»
٥٨
هذا وقد دخل رمز الأفعى في التفسيرات الماورائية لفرق غنوصية
أخرى. عن هذا يخبر القديس هيبوليتوس أيضًا: «يتألف الكون بالنسبة
لهم من الأب والابن والمادة. يتوسط الابن، وهو اللوغوس، بين الأب
والمادة، وهو الأفعى التي تنوس أبدًا بينهما، فتأخذ قوى الأب
وتطبعها على المادة التي كانت أصلًا بلا شكل أو هيئة. ولا يمكن
لأحد أن ينجز خلاصه وينهض من عالم الأموات إلى الأبدية بدون الابن،
الذي هو الأفعى؛ لأنه هو الذي زود هذا العالم بالصورة والشكل، من
الماهية العلوية الكائنة عند الأب، وهو الذي سيرفع معه المستيقظين.»
٥٩ هذه المعتقدات الغنوصية عن الابن — الأفعى، المخلِّص،
لم تتأثر بالعبادات العشتارية وبعبادات الخلاص المتفرعة عنها، بل
إنها لتجد سندًا لها في العهد الجديد نفسه. نقرأ في إنجيل يوحنا:
«وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان،
لكيلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه هكذا
أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كلُّ من يؤمن به،
بل تكون له الحياة الأبدية.»
٦٠ لقد فتحت هذه الفقرات من إنجيل يوحنا الباب على
مصراعيه لدخول رمز الأفعى إلى الفنون التشكيلية المسيحية. ففي
الشكل رقم (
٤-١٩) نجد الأفعى والصليب وحمامة
الروح القدس في تكوين رمزي واحد. أمَّا في الشكل (
٤-٢٠) فنجد الأفعى مرفوعة على الصليب رمزًا
للمسيح نفسه.
ولقد وجهت الميثولوجيا الذكرية، هنا أيضًا، هجومًا ضد هذا الرمز
العشتاري المرتبط بعبادة الأم الكبرى، ونكاد لا نعثر على إله شمسي
أو سماوي لم يدخل في صراع مميت مع أفعى الأم الكبرى. ولعل هذا
الصراع يعكس صدامًا موغلًا في القدم تمَّ عند مشارف التاريخ
المكتوب، بين الديانات الأمومية القديمة والديانات الذكرية
الصاعدة، وانتهى بتدمير معابد الأم الكبرى، وقتل كاهنتها التي
ترتدي جلد الأفعى وقناعها، وتحطيم تماثيل الحية المعدنية داخل
الحرم. فالإله أبولُّو، كما تروي الأسطورة الإغريقية،
٦١ قد تصدى بعد ولادته بأربعة أيام فقط للأفعى «بيثون»
أفعى الأم جايا وبنت الأرض. وفي المكان الذي قتلها فيه، بنى معبده
الجديد في دلفي. ولكننا نعرف من مصادر إغريقية أخرى أن معبد دلفي
قديم العهد جدًّا، وكان مكرسًا للأم — الأرض جايا قبل أن يصبح
معبدًا لأبولُّو، الأمر الذي يلقي ضوءًا على هذه الأسطورة، ويضعها
في سياقها التاريخي الصحيح. فالإله أبولُّو لم يبنِ معبدًا جديدًا،
بل اقتحم وراء كهنته معبد الأم جايا، وقتل حيَّتها، وجعله معبدًا
له.
وفي الميثولوجيا الإغريقية أيضًا، يصرع زيوس أفعى الأم الكبرى
ممثلة بالأفعوان الهائل «طيفون» أصغر أبناء الأرض جايا، الذي تصوره
الرسوم على هيئة أفعى مجنحة ذات رأس بشري وذراعين. أمَّا الأساطير،
فتخبر في وصفه أن رأسه يناطح النجوم، وذراعيه تمتدان من مشرق الشمس
إلى مغربها، ومن كتفه تنبعث مئات من رءوس الأفاعي، التي تمد ألسنة
طويلة يخرج منها اللهب الحارق، فإذا زمجر رددت الجبال صدى صوته
الرهيب واهتزت مساكن الآلهة في أعالي الأوليمب، وإذا تحرك ارتجت
الأرض وأضاء لهب أنفاسه الساخنة سطح بحر الظلمات، وغلت مياه
المحيطات فتفرقت أمواجها تلطم الشواطئ. وقد كاد هذا الأفعوان أن
يغدو سيد الخليقة، لولا أن تغلب زيوس على خوفه وتقدم لصراعه، فشطره
بالصواعق ودفع به إلى العالم الأسفل. ومن هناك بقيت تصدر منه
العواصف التي تحرك المحيطات وتغرق السفن وتحطم ما يبنيه البشر على السواحل.
٦٢
وفي بلاد الرافدين تكثر الأعمال التشكيلية التي تُظهر صراع الإله
مع تنانين أفعوانية. كما نجد في أسطورة الإله مردوخ والأفعوان لابو
جوًّا شبيهًا بجو أسطورة زيوس وطيفون. فكما كان طيفون ابنًا للأم
الأولى جايا، كذلك الأفعوان لابو الذي كان ابنًا للأم الأولى
تعامة، خرج من أعماق البحر البدئي القديم مهددًا مجمع آلهة بابل،
وكاد يقضي عليهم جميعًا لولا أن تصدى له أحد الآلهة (ربما مردوخ)
فصرعه بالزوابع والأعاصير، وترك أشلاءه في السماء باقية حتى الآن
مُشكِّلَة درب المجرة المضيء.
٦٣
وفي الميثولوجيا العبرانية، يقوم يهوه أيضًا بالصراع ضد الأفعى
«لوياتان» ويقضي عليها: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي
العظيم لوياتان الحية الهاربة، لوياتان الحية الملتوية، ويقتل
التنين الذي في البحر.»
٦٤ وأيضًا: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين
على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان جعلته طعامًا للشعب.»
٦٥
كما نجد وصفًا للوياتان يذكِّرنا بوصف لابو: «من يفتح مصراعَي
فمه، دائرة أسنانه مرعبة، عطاسه يبعث نورًا وعيناه كهدب الصبح، من
فمه يخرج مصابيح، شرار نار تتطاير منه. من منخريه يخرج دخان، عند
نهوضه تفزع الأقوياء، يحسب الحديد كالتبن، والنحاس كالعود النخر،
يضيء السبيل وراءه.»
٦٦
سيدة الحيوان
إن سيدة الغاب والبراري
الوحشية والطبيعة البكر، هي سيدة عالم الحيوان، تظهرها رسوم
ومنحوتات العصر النيوليتي في صحبة حيواناتها، أو ممتطية صهواتها،
أو حاملة أشبالها على كتفيها. ففي الشكل رقم (
٤-٢١) وهو منحوتة من شتال حيوك، نجد الأم الكبرى
في شكلها النمطي جالسة على الأرض وعلى كتفيها زوج من الفهود، التي
كانت في ميثولوجيا شتال حيوك رمزًا للحياة الطبيعية الوحشية،
ورمزًا لقوة الأم الكبرى وبأسها. وإضافة إلى ظهور هذه الحيوانات
إلى جانب الإلهة في تماثيلها ورسومها، فإن أشكالها تزين جدران
المعابد، لا باعتبارها موضعًا للتقديس والعبادة بذاتها، بل
باعتبارها رمزًا لسلطة الأم الكبرى على الحياة البرية، وكانت
الإلهة نفسها تبدو في بعض الأعمال التشكيلية لشتال حيوك وقد ارتدت
جلود الفهد، أو تجلس على عرش تحمله الحيوانات المختلفة.
٦٧
وفي عصور الكتابة اللاحقة تتابع عشتار ظهورها كسيدة للحيوانات في
جميع الثقافات؛ رغم الاتجاهات الدينية الجديدة التي تجعل الألوهة
المذكرة في صراع مع الحيوانات لا في وئام معها، شأن عشتار. ففي
مقارعة الحيوانات الكاسرة رمز لانفصال الرجل عن عالم الطبيعة
وترويضه لكل ما هو فطري وغريزي، سواء في داخله أو على المستوى
الطبيعي. وفي رعاية عشتار للحيوان رمز لوفاء المرأة لتكوينها
الأصيل كجزء من الطبيعة متحد معها لا منفصل ولا متسامٍ عليها. لقد
صرع إله الشمس تنانينه ووحوشه الخرافية، وبنى فوق أشلائها عالمًا
من صنعه، تحكمه شرائعه وقوانينه الموضوعة، بينما بقيت الإلهة
القمرية مع حيواناتها جزءًا من حكمة الطبيعة المتدفقة أزلًا
وأبدًا.
في بلاد الرافدين نجد
كثيرًا من الأختام الأسطوانية تعالج موضوع سيدة الحيوان؛ إذ نجد
إنانا السومرية أو عشتار البابلية في وضع عارٍ أو نصف عارٍ وسط حشد
من مختلف أنواع الحيوانات. وفي بعض الأختام السومرية، نجد سيدة
الحيوان واقفة فوق تيس، وفي نحت من أوغاريت نجد عناة عارية الصدر
تمسك بيدها حزمتين من أوراق النبات، وعن يمينها وشمالها يشب تيسان
على أقدامهما الخلفية. وفي نحت أوغاريتي آخر نراها عارية فوق أسد
وبيديها الاثنتين ترفع حزمتين من النبات (شكل رقم
٤-٢٢). وفي كريت تقف على مرتفع وعن يمينها
ويسارها أسدان (الشكل رقم
٢-١٢ فصل الأم
الكبرى).
وفي اليونان لا تكاد أرتميس تظهر في رسم أو نحت دون حيواناتها من
أيائل وغزلان وما إليها. والرسم الخزفي الموضح في الشكل رقم (
٤-٢٣) يظهر سيدة الحيوان واقفة وسط مجموعة متنوعة
من الحيوانات، باسطة ذراعيها في وضع من يهب الحماية والرعاية، وقد
زخرت أرضية الشكل برمز الصليب المعكوف. وجو العمل الفني هنا
يذكِّرنا بنص هوميري تبدو فيه الإلهة أفروديت كسيدة للحيوان: «من
ورائها مشت ذئاب غبراء تتمسح بها، وأسود ذات عيون متوحشة ودببة
وفهود ضامرة. وكانت الإلهة فرحة بها جميعًا فأهاجت الرغبة في
صدرها، فانفردت أزواجًا أزواجًا تتضاجع في الوديان الظليلة.»
٦٨ ومثل أفروديت تتجلى الحورية العشتارية «سيرسي» في
جزيرتها لأوديسيوس (= يوليسيس) الضارب في متاهات البحار: «حول
بيتها ترتع الذئاب وأسود الجبال. حيوانات لا تهاجم الرجل بل تشب
أمامهم وتتمسح بهم، محرِّكة أذيالها ككلب ينتظر خروج سيده من البيت.»
٦٩
وقد ارتبط بالأم الكبرى عدد من الرموز الحيوانية ذات الدلالة
العميقة، التي تشير إلى بعض خصائص الإلهة وسلطتها على مجالات معينة
من مجالات النفس الإنسانية والكون الأرحب. ولعل من أهم هذه الرموز،
رمز الأفعى الذي أفردنا له جزءًا خاصًّا من هذا الفصل، ورمز
السمكة، ورمز الحمامة.
إن السمكة السابحة في أعماق
البحار المظلمة، كالقمر السابح في السماء المعتمة، هي الرمز الأكثر
تعبيرًا عن الدوافع والغرائز الطبيعية الخافية للنفس. ومن ناحية
أخرى، فإن في رمز السمكة إشارة إلى المياه التي تشكل ثالث العوالم
الكبرى التي تقع تحت سيطرة الأم الكبرى، بعد عالم السماء والأرض.
فالأم الكبرى هي المياه البدئية الأولى التي تحرك المطلق في
أعماقها من حالة السكون إلى دينامية الخلق. وعلى المستوى الطبيعي،
هي مصدر المياه التي تتفجر ينابيعها وتجري أنهارًا تملأ البحيرات
العذبة والبحار والمحيطات المالحة. لذا فقد بقي رمز السمكة مرتبطًا
بالأم الكبرى رغم إعطاء عالم المياه للآلهة الذكور في ميثولوجيا
عصور الكتابة. فنرى السمكة مرسومة على رداء السيدة، كما هو الحال
في تمثال عشتار مدينة ماري السورية المعروف باسم ربة الينبوع، حيث
نراها في وضعية الوقوف ممسكة بجرة تميل فوهتها نحو الأمام وقد
اصطفَّت الأسماك على طول ثوبها الذي يلامس الأرض. وكما هو الحال في
الرسم الإغريقي الموضح سابقًا في الشكل رقم (
٤-٢٣). ففي هذا الشكل يتخذ جسد الأم الكبرى كله هيئة جرة فخارية
ينثال الماء من وسطها تيارًا نحو الأرض، وفي داخلها سمكة ترمز
للمياه الباطنية التي تولدها الجرة — الأرض جسد الأم الكبرى،
وتطلقها إلى الخارج. وفي سوريا كانت عشتار أحيانًا تظهر في الأعمال
التشكيلية في هيئة امرأة نصفها الأسفل سمكة، وتُدعى بعشتار — ديركيتو.
٧٠ وهذا التجلي العشتاري السمكي هو الذي أمد الأساطير
والخرافات الشعبية بعنصر حوريات البحر. وإلى جانب الأعمال
التشكيلية، نجد في بعض ألقاب الأم الكبرى توكيدًا على خصائصها
المائية البحرية؛ فعشتاروت الكنعانيين كانت تُدعى بسيدة البحار،
وكذلك إيزيس. وفيما بعد، رفع البحارة السيدة مريم العذراء راعية
للمحيطات وحافظة للملاحين تحت اسم «نجمة البحر».
٧١
يقوم الطائر كرمز لرحلة عشتار عبر السماوات من مشارق الأرض إلى
مغاربها. وعشتار المجنحة، هي القمر السابح في الأعالي في رحلته
اليومية. يمثلها الفن الكنعاني في نحت بارز محفوظ في متحف دمشق،
وقد نشرت جناحيها اللذين يملآن الصورة، وعن يمينها ويسارها إلهان
أقصر منها قامة، يتطاولان ويشرئب عنقاهما ليرضعا من ثدييها
العاريين، ومثلها في ذلك الإلهة إيزيس التي غالبًا ما يعيرها الفن
الفرعوني جناحين كبيرين، والتي تتحدث عنها النصوص الطقسية
والأسطورية بهذه الصفة:
إيزيس صاحبة السلطان وروح العدل، حمت أخاها،
بحثت عنه بلا كلل ولا أقعدها عناء،
ظللت جسده بريشها ورفت فوقه بجناحيها.
٧٢
وعندما لا تبدو الأم الكبرى في هيئة الطائر، فإن
الطيور تظهر إلى جانبها في الأعمال التشكيلية، وقد تدخل هذه الطيور
في صلب طقوسها وعباداتها كما كان الأمر في ثقافة شتال حيوك
النيوليتية. فطائر النسر كان رمزًا للأم الكبرى لشتال حيوك، نجده
في جميع معابدها وقد ملأ جناحاه جدار المعبد المقابل لتمثال الآلهة.
٧٣ وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن كاهناتها كنَّ يلبسن
أردية من ريش النسور، ويضعن أقنعة على هيئة رءوس النسر خلال الطقوس
وتقديم القرابين.
٧٤ هذا وقد بقي النسر رمزًا للأم الكبرى في بعض ثقافات
عصور الكتابة، كما هو الحال في مصر، حيث أظهرت الأعمال التشكيلية
أحيانًا الأم الكبرى برأس النسر. كما اعتقد المصريون قديمًا بأن
النسور كلها من جنس اﻹناث وأنها تحبل بواسطة الريح.
٧٥
وفي الأعمال التشكيلية اﻹغريقية تظهر الطيور مرافقة لأرتميس كما
هو الحال في الشكل (
٤-١٢) الموضح آنفًا. إلا
أنها تظهر على وجه الخصوص مرافقة للإلهة أفروديت المشهورة
بحماماتها التي تنتشر حولها أو تهدأ بين يديها. ومع أفروديت يتخذ
رمز الطائر دلالة إضافية، فهي إلهة الحب الذي يجعل أفئدة البشر
تخفق كخفق أجنحة الحمام عندما تضطرم الجنبات بالعواطف. وابنها
الإله كيوبيد هو الإله الحمامة، الذي يطير دومًا بجناحين أبيضين
فيرمي بسهامه قلوب البشر ليزرع فيها الحب والعشق.
وفي الأيقونات المسيحية منذ العصر البيزنطي، تبدو الحمامة كرمز
للألوهة، وللروح القدس الذي يهبط على السيدة مريم ليهبها غلامًا.
وفي هذا النوع من الأيقونات التي تُدعى بأيقونات البشارة، نجد
العذراء والملاك الذي يأتيها بالبشارة، ثم حمامة الروح القدس
البيضاء ترف داخل دائرة في الأعلى، تنحدر منها ثلاث حزم من نور على البتول.
٧٦ وهذه الأيقونات تعتمد حادثة البشارة الواردة في العهد
الجديد موضوعًا لها، عندما هبط الملاك يبشر مريم بمولودها: «فقالت
مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟ فأجاب الملاك وقال
لها: الروح القدس يحلُّ عليكِ وقوة العلي تظللك؛ فلذلك أيضًا
القدوس المولود منكِ يدعى ابن الله.»
٧٧ إن حمل مريم بابنها بعد هبوط الروح القدس عليها في
هيئة حمامة، هو استمرار (على المستوى السراني للحدث الأسطوري)
لفكرة الأم الكبرى المخصبة ذاتيًّا، والتي تلد ابنها دون معونة من
ذكر، بل بواسطة قواها الإخصابية المعكوسة نحو الخارج، والمستردَّة
إليها من ثَمَّ، وأم الإله هنا إنما تلتقي برمزها الخارجي الذي
يستقطب قواها الإخصابية ذاتها. ولسوف نعمل على توضيح هذه النقطة
الدقيقة في فصل «تموز الخضر» في هذا الكتاب.
وقد اعتمد رسامو الأيقونات البيزنطية على نصوص العهد الجديد
ذاتها، في إظهار الروح القدس، ثالث الأقانيم الثلاثة، في هيئة
الحمامة. نقرأ في إنجيل متى: «فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء،
وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا
عليه، وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.»
٧٨ وفي إنجيل يوحنا: «وشهد يوحنا قائلًا: إنني قد رأيت
الروح نازلًا عليه مثل حمامة من السماء فاستقر عليه.»
٧٩ وفي إنجيل لوقا: «وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل
عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء
قائلًا: أنت ابني الحبيب الذي به سررت.»
٨٠ وفي إنجيل مرقس: «وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة
الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن، وللوقت وهو صاعد من الماء رأى
السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلًا عليه.»
٨١
والروح القدس، الحمامة، هو أيضًا رمز للحب في اللاهوت المسيحي،
لا للحب بمعناه الأرضي والأفروديتي، وإنما للحب البدئي الإلهي
الكامن خلف تبديات الكون: «فقبل الخلق والتكوين كان الإله —
الثالوث مؤلفًا من الإله الأب، والإله الابن الذي هو الكلمة أو
اللوغوس قبل أن يتجسد فيما بعد على الأرض، والروح القدس، ومنذ
الأزل كان الابن موضع حب الأب ومسرته، وكان الروح القدس (=
الحمامة) هو الحب الساري بينهما.»
٨٢
وفي كتاب التوراة تظهر الحمامة كرمز للبشارة الكبرى بالحياة
الجديدة فوق كوكب الأرض. فبعد أن هدأ الطوفان الكبير الذي غمر
الأرض وقضى على مظاهر الحياة فيها إلا ما حمل نوح معه في السفينة
الكبرى، أطلق نوح حمامته لاستطلاع الأرض. فعادت وفي منقارها غصن
زيتون أخضر، دلالة على انخفاض مستوى المياه وظهور رءوس الجبال الخضراء.
٨٣ وما تزال حمامة عشتار هذه، التي بشَّرت بنجاة الحياة
فوق الأرض، رمزًا للبشارة بنجاة العالم من الحروب وابتداء عصر سلام
بين الشعوب يعيد أدوار العهود الأمومية القديمة.
وفي الفلكلور والمعتقد الشعبي الإسلامي، ما زالت حمامة عشتار
مقدسة في شكل الحمامة المعروفة باسم «الستيتية» أي: حمامة الست.
وهذه الحماة تعامل بكثير من الاحترام والإكرام ويُكره صيدها
وأكلها. فهي التي عزا إليها كتاب السيرة النبوية حماية الرسول
وصاحبه أبي بكر، عندما تواريا عن أنظار المشركين الذين طاردوهما في
هجرتهما إلى المدينة، فاختبآ في غار ثور، وجاءت الستيتية فاستقرت
عند باب الغار مطمئنة فوق بيضها؛ ما أبعد عن أذهان المشركين، لمَّا
وصلوا المكان، فكرة وجود أحدٍ داخله، كما ساعد على إنقاذ المتوارين
في الغار، نسيج القدر الذي تعزو نفس المصادر إلى العنكب بناءه فوق
مدخل غار ثور.
وأخيرًا لا تزال حمامات عشتار جزءًا من مملكة السماء في التقاليد
الدينية التي تصور الملائكة في هيئة مخلوقات نورانية، تخفق بأجنحة
الحمام.
سيدة الشفاء
خلال تجوالها الطويل في البرية بحثًا عن الجذور والأعشاب الصالحة
للأكل، اكتسبت المرأة معرفةً بفصائل الأعشاب وأنواعها وطرق الإفادة
منها، ثم قادتها الخبرات في هذا المجال إلى اكتشاف الخواص الشافية
لبعض الأعشاب، والخواص السامة المميتة لبعضها الآخر، فاستحلبتها
وصنعت منها الأكاسير، مضيفة بذلك نشاطًا جديدًا إلى نشاطاتها
التحويلية الخلاقة، ومتحكمة بسر آخر من أسرار الطبيعة، به تشفي وبه
تُميت، سر أودعته عشتار الخضراء في نباتاتها ولم تكشف عنه إلا
لوكيلاتها على الأرض. إن سيدة الحياة هي من يستعيد المريض إلى
الحياة، وسيدة النبات التي أخرجت الحَب والمرعى، فجعلته طعامًا
للبشر والحيوان، هي من وضعت فيه سرًّا آخر من أسرار الحفاظ على
الحياة.
تظهر عشتار البابلية كسيدة للشفاء في التراتيل والصلوات التي
تركتها لنا ثقافة بلاد الرافدين، كما نستطيع متابعة هذه الخصيصة
لدى معظم تجليات الأم الكبرى في شتى الثقافات. إلا أنَّ إيزيس
المصرية تقدم لنا أوضح مثال عن الأم الكبرى الشافية؛ فإيزيس
٨٤ هي التي اكتشفت الأدوية الشافية الأولى، وكانت حاذقة
في فنون الطب، تمد يد العون لكل جسد عليل يطلب رحمتها، وغالبًا ما
كانت تظهر في أحلام المرضى لتعطيهم الراحة وتدلهم على سبيل الشفاء،
ويقال إن الأعمى كان يبصر والكسيح يمشي بتأثير لمستها الشافية. وقد
وصلت قدراتها الشافية حد إقامة الموتى من مضجعهم. ومن بعدها برع
ابنها حورس في هذا المجال، فاكتسب منها أسرار الشفاء، وقدم للبشر
خدمات جُلَّى.
أمَّا السيدة مريم العذراء فقد حافظت على لقب «سيدة الصحة»،
٨٥ وتدعوها الصلوات المريمية بشافية أسقام النفس وأوجاع
الجسد. ويؤمن الناس إلى اليوم بالقدرة الشافية لبعض تماثيل
العذراء، كما يروون عن معجزات ظهورها في الحلم لبعض المرضى الميئوس
منهم، وشفائها لهم عن طريق اللمس. لمسة الشفاء هذه، يعزوها المعتقد
الشعبي الإسلامي إلى السيد «الخضر» فيقولون عن الدواء الشافي
الفعال بأنه يشبه لمسة الخضر. واسم الخَضِر، بفتح الخاء وكسر
الضاد، يعني الأخضر، وهي صفة قديمة للإله تموز البابلي ابن الأم
الكبرى عشتار، الذي كان من بعدها تجسيدًا لروح النبات. وليس الخضر
في الواقع إلا استمرارًا في الخيال الشعبي لذلك الإله الزراعي،
الذي يجدد حياته في كل عام بالموت والبعث، وهو مثله السيد الحي في
كل زمان ومكان.
كما كانت الحية رمزًا لعشتار الخضراء، روح الإنبات والخصوبة؛ فقد
كانت أيضًا رمزًا لعشتار الشافية؛ ففي سومر يظهر رمز الأفعوانَين
المتقابلَين الملتفَّين على عصا (الشكل
٤-٢٤)
كرمز لإله الشفاء ننجزيدا (وهو أحد أشكال الإله تموز)؛ وذلك منذ
أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وقد انتشر هذا الرمز نحو الهند
شرقًا منذ زمن مبكر جدًّا، وقبل اجتياح القبائل الهندو أوروبية،
وما زال قائمًا إلى اليوم في التقاليد الفلكلورية لوسط جنوب الهند
وبشكله السومري القديم؛ إذ يعتقد الهنود بقدرة هذا الرمز على إعطاء
الخصوبة للنساء العاقرات، فينحت على حجر يغمر مدة ستة أشهر بماء
البحيرة لإكسابه قوة الحياة، ثم يخرج فينصب تحت إحدى الأشجار. كما
انتشر الرمز غربًا نحو اليونان وصار رمزًا لإله الطب «أسكليبيوس»،
٨٦ وعند الرومان ارتبط بسنابل القمح كرمز للخصب،
٨٧ الشكل (
٤-٢٥).
وقد دعي هذا الرمز لدى اليونان والرومان بالكاديكيوس. ونستطيع
ملاحظة وجود واستمرار هذا الرمز حيًّا في الشرق القديم، من حكاية
حية النحاس التي رفعها موسى في القفر لشفاء العبرانيين، فتلك الحية
لم تكن سوى أفعوان ملتف على عصا.
عن أسكليبيوس إله الطب، تقول الأسطورة الإغريقية: إنه كان ابنًا
لأبولُّو، علمه السنتور (وهو مخلوق نصفه حصان ونصفه إنسان) الطب
فنشأ بارعًا فيه لدرجة أنه كان قادرًا على إحياء الموتى، كما كان
مدينًا ببراعته للأفعى التي علمته أسرار النبات وخصائصه. ولكن كبير
الآلهة زيوس قضى على إله الصحة والشفاء بصواعقه المميتة؛ لأنه كان
يهدد سلطان العالم الأسفل بإنقاصه عدد الموتى. إلا أن أسكليبيوس قد
تابع مهمته في شفاء الناس بعد موته، فكان يظهر في أحلامهم ويدلهم
على سبل الشفاء. تمثله الأعمال التشكيلية على هيئة رجل حكيم في
أواسط العمر، يتوكأ على عصا تلتف عليها أفعى. وقد تظهر الأفعى
وحدها باعتبارها إله الشفاء نفسه. ترك أسكليبيوس وراءه ابنته هيجيا
التي صارت من بعده إلهة للصحة.
٨٨
إلى جانب الأفعى التي علمت إله الطب أسرار النباتات والأعشاب
الشافية، نجد في الميثولوجيا الإغريقية، أفعى أخرى أعطته بعد موتها
دمها الذي يشفي والذي يميت. وهي المرأة الأفعى ميدوزا، التي قتلها
البطل نصف الإله بيرسيوس في جملة أعماله البطولية الخارقة. وقد
أعطى دمها لأسكليبيوس الذي جمع دماء أوردتها اليمنى في إناء آخر،
فكان بدم الجهة اليمنى يشفي وبدم الجهة اليسرى يعطي السم القاتل.
٨٩ ومن الملفت للنظر حقًّا أن نجد العناصر الرئيسية لهذه
الأسطورة تتكرر في حكايات ألف ليلة وليلة. فالأسطورة عندما تتدهور
وتفقد سيطرتها وتأثيرها، تتشظى إلى خرافات مبعثرة في الفلكلور
والحكايات الشعبية، إلا أن رموزها مع ذلك تبقى حية متوهجة رغم
الرماد المتراكم فوقها. ففي حكاية حاسب الدين نجد الميدوزا، الأفعى
العشتارية، في شخصية ملكة الحيات التي تُقتل ويؤخذ من جسدها مستحضر
يشفي ومستحضر يميت وثالث يهب الحكمة:
يجد حاسب الدين نفسه في بئر مهجورة مظلمة بعد أن خانه زملاؤه
وتركوه ليموت هناك، ولكنه يفلح في ثقب جدار البئر بحثًا عن مخرج،
فينفتح أمامه ممر طويل يسلكه ليصل إلى باب ذي مقبض ذهبي، يفتح حاسب
الدين الباب فيجد نفسه أمام حديقة عظيمة يضيئها نور باهر، وتتوسطها
بحيرة ماء في مركزها تل من الزبرجد الأخضر، عليه سرير منصوب من
الذهب حوله اثنا عشر كرسيًّا. يتجول حاسب الدين ممتِّعًا أنظاره
بمشهد الحديقة، ثم يصعد إلى السرير حيث يغفو زمنًا ليفيق على صوت
فحيح وصفير، ويرى على الكراسي حيات عظيمة، طول كل منها مائة ذراع،
والماء من حوله قد امتلأ بحيات صغيرة لا يعلم عددها إلا الله. ثم
تُقبل على المكان حية عظيمة على ظهرها طبق من ذهب في وسطه حية تضيء
مثل البلور ووجهها كوجه إنسان تتكلم بلسان فصيح، فيعلم أنها ملكة
الحيات، تطمئنه وتعطيه الأمان، ولكنها تخبره بأن في خروجه إلى سطح
الأرض خطرًا على حياتها؛ لأنه مكتوب منذ القِدَم أن نهايتها ستكون
على يد رجل يعرف مكانها ويدل عليها، ولذا فإن عليه أن يبقى ضيفًا
عليها وينسى إلى الأبد حياته السابقة. يمر عامان كاملان وحاسب
الدين في أسر وضيافة ملكة الحيات، لا ينقصه شيء سوى الحرية في
العودة إلى بيته وبلده. وكان لا يكف عن الشكوى إليها والتوسل من
أجل إطلاق سراحه، واعدًا إياها بحفظ سرها كما حفظت حياته. تلين
الملكة أخيرًا وتقرر الإفراج عن حاسب الدين تحت شرطٍ واحدٍ؛ هو ألا
يدخل أحد حمامات المدينة طيلة حياته، فيتعهد بحفظ الوصية، ويجد
نفسه عند فوهة البئر الذي تركه فيه رفاقه. بعد مدة من الزمن يضطر
حاسب الدين تحت ظروف قاهرة إلى دخول الحمام العام، وما إن يسكب
الماء على جسمه، حتى تظهر على بطنه بقعة زرقاء كبيرة، تلفت نظر
جواسيس الوزير، الذين بثَّهم في كل حمامات المدينة منذ زمن طويل؛
بحثًا عن رجل تظهر على بطنه مثل هذه البقعة؛ لأنه مكتوب منذ القديم
أن مثل هذا الرجل يعرف مكان ملكة الحيات التي لا شفاء للملك من
دائه العضال إلا بأكل لحمها. يأتي العسكر بعد قليل فيقتادون حاسب
الدين إلى ديوان الوزير، هناك وتحت الضغط والإرهاب، يفشي حاسب
الدين بمكان ملكة الحيات ويمضي مع الوزير إلى البئر التي نزل فيها،
حيث يتم استخراج الملكة عن طريق التمائم السحرية. في الطريق إلى
المدينة يعتذر حاسب الدين للأفعى عن خيانته للعهد، ويشرح لها
الظروف التي أكرهته على ذلك؛ ولكن الأفعى تطمئنه بأنها لا تكنُّ له
أي حقد أو ضغينة، وأنها تسلم أمرها للقدر المكتوب الذي لم يكن حاسب
الدين إلا أداة له ومطيَّة. ثم تكشف له عن سر خطير وهو أن جزءًا من
جسدها يشفي ويُحيي، وجزءًا يُميت، وثالثًا يهب الحكمة. وتطلب منه
أن يُشرف بنفسه على عملية ذبحها وتوزيع لحمها، فيعطي الملك الجزء
الذي يشفي، والوزير الجزء الذي يميت انتقامًا منه على اقتيادها إلى
حتفها، ويأخذ لنفسه الجزء الذي يهب الحكمة. يفعل حاسب الدين حسب
مشيئة الحية؛ فيُشفى الملك ويموت الوزير. أما هو فقد انفتحت له
أبواب السماء ورأى السماوات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى، وصار
أكثر أهل عصره حكمة ومعرفة.
٩٠
إن الأفعى في هذه الحكايا ما زالت محافظة على ثلاث خصائص للأم
الكبرى كإلهة للحياة والشفاء، وإلهة للحكمة، وقد درسنا إلهة الحياة
في هذا الفصل، وسنأتي إلى دراسة إلهة الموت وإلهة الحكمة في فصول
قادمة.
أخيرًا، إن أفعى عشتار الشافية ما زالت قائمة بيننا اليوم ورمز
الكاديكيوس السومري، شارة الطب والشفاء، ما زال إلى الآن رمزًا
للطب في جميع أنحاء العالم، نجده مطبوعًا على الوصفات الطبية
وعبوات الأدوية، من دون أن نتساءل عن معنى ذلك الشكل المؤلف من
أفعوانَين ملتفَّين بشكلٍ متقابل على عمود. كما أننا لا نتساءل عن
معنى رمز طبي آخر، نراه مرسومًا على أبواب الصيدليات ولافتاتها،
وهو الكأس التي تلتف حولها أفعى واضعة رأسها عند الفوهة. إن الكأس
هنا هو الإناء الفخاري، جسد الأم الكبرى، والحية حيتها وقوتها
الإحيائية وقدراتها الشافية. وهذا الرمز الطبي الثاني، قديم قدم
الرمز الأول، وعالجته الأعمال التشكيلية في الشرق القديم وكريت
واليونان. (شكل رقم
٤-٢٦).