عشتار البغيُّ المقدسة
يربط الفكر الأسطوري دومًا حركة الحياة والمادة بحركة الآلهة التي تشكل أرضية ماورائية لكل ما يجري على مسرح الكون. لا يشذ عن هذه القاعدة حياة الإنسان، وكل ما يتعلق به من غرائز وعواطف ودوافع تجد أصلها ومنشأها أيضًا في فعالية إلهية كونية، وعلى رأسها الدافع الجنسي.
قدَّس الإنسان الدافع الجنسي واعتبره قبسًا إلهيًّا يربطه بالمستوى النوراني الأسمى؛ ففي الفعل الجنسي، يتجاوز الإنسان شرطه الزماني والمكاني ليدخل في حالٍ هو أقرب ما يكون إلى الآن الأبدي، فينطلق من ذاته المعزولة ليتَّحد بقوة كونية تسري في الوجود الحي. يفتح مخزون الطاقة الحبيسة لترجع إلى مصدرها الذي منه شعَّت، وفي أجساد الأحياء أُودِعت. لم يكن الفعل الجنسي متعة فردية ونشاطًا شخصيًّا معزولًا، بل طقسًا يربط الإنسان المتناهي بالملكوت اللامتناهي، عبادة يكرر فيها الفرد على المستوى الأصغر، ما قامت به القدرة الخالقة على المستوى الأكبر. ففي البدء تحرك السالب والموجب في رحم الأوروبوروس الأعظم وتناكحا فأنجبا، وفي البدء ولد من رحم المياه الأولى جبل السماء والأرض، وسرت بين قطبيه الرغبة فاتحدا وتباعدا ونشأ عنهما الكون. وفي البدء وقعت الريح في حب مبادئها، فكانت كتلة المادة الأولى، وفي البدء كان روح الإله المذكر يرفُّ فوق المياه المؤنثة. وفي الأزمان الأولى خلقت عشتار من نفسها زوجها واتحدت به، وبقي نشاطها الجنسي الدائم يولِّد الطاقة التي لا غنى عنها لاستمرار شتى أشكال الحياة وتكاثرها.
لم يرَ الإنسان القديم في الدافع الجنسي نتاجًا لحركة التعضِّي الحي، بل رأى فيه نشاطًا صادرًا عن قوة جنسية شاملة متمثلة في عشتار، تودعها في الأجساد ثم تستثيرها فتطلقها. ولم يرَ في الفعل الجنسي استجابة لغرض دنيوي وتحقيقًا لمتعة فردية، بل استجابة لنداء مبدأ كوني شامل؛ لذلك ارتبط الجنس بالطقس والعبادة، وكان الاحتفال الديني في بعض جوانبه مناسبة يُظهر فيها البشر انسجامهم مع ذلك المبدأ وتحقيقهم لأهدافه وأغراضه، وذلك بالممارسات الجنسية التي تشكل جزءًا من الطقوس المقدسة، حيث يتلقَّون الطاقة من مصدرها ويعيدون شحن ذلك المصدر بطاقة معاكسة في حركة تناوبية؛ فالفعل الجنسي على المستوى الإنساني هو مدد من القوة الجنسية الكونية، ودعم لها في آنٍ واحدٍ. تمامًا كما هو الأمر في الطقوس الدينية الأخرى التي تهدف إلى عون القوى الإلهية ومساعدتها على إتمام دورها. فكهنة المصريين القدماء كانوا يُصلون طوال الليل لمعونة الشمس على الخروج من رحلتها في باطن الأرض والشروق من جديد. وكان البابليون يعتقدون بالقوة السحرية لاحتفالات رأس السنة الجديدة التي تعين الإله مردوخ على مقاومة قوى العماء، وتجديد الكون الذي يبلى في نهاية العام. وكان الكنعانيون يؤمنون بأنَّ البكاء على أدونيس وتمثيل عذاباته وموته، سوف يعينه على فك قيوده والصعود من عالم الموتى؛ ذلك أن العلاقة بين الإنسان القديم وآلهته لم تكن علاقة اعتماد من طرف واحد، بل كانت علاقة اعتماد متبادل.
وفي ترتيلة بابلية إلى عشتار من القرن السادس ق.م. نقرأ عن سيدة الحب والدافع الجنسي:
يُظهر هذا النص كل خصائص جمال عشتار وجلالها؛ فهي المرأة العذبة الفاتنة التي يضطرم جسدها بالحب والشهوة، وهي كذلك السيدة القوية المسيطرة، ربة نفسها وربة جسدها. إنها صورة المرأة في الثقافة الأمومية، عذبة ورقيقة ولكنها قوية متماسكة، يأتي جمالها مكملًا لخصائصها الأخرى لا حاجبًا لها، كما هو الحال في الثقافة الذكرية عندما صارت المرأة حبيسة جسدها وجمالها.
أما الأسطورة الذكرية فتُحدثنا عن جنسانية عشتار بطريقة مختلفة تنسجم وروح الثقافة البطريركية؛ ففي ملحمة جلجامش تقع الإلهة في حب البطل نصف الإله العائد من معركته المظفرة مع وحش غابة الأرز وتعرض عليه وصالها:
هذا الانهماك الدائم في الجنس الذي تأخذه الأسطورة الذكرية على عشتار هو عين فضيلتها؛ ذلك أن الألوهة في المفهوم العشتاري ليست تحريكًا للكون عن بعد، بل هي عين حركته. وعشتار ليست آمرًا للدافع الجنسي، بل هي الدافع الجنسي ذاته في ديناميكيته الكونية الدائبة. ورغم الأخلاقية الجنسية البطريركية التي توَّجتها في الشرق القديم الشرائع اليهودية، بقيت الأخلاقية الجنسية العشتارية حية في الثقافة الأمومية الصغرى التي تركَّزت حول العبادات العشتارية في قلب الديانات البطريركية السائدة، وبقيت طقوس الجنس المقدسة قائمة في معابد الخصب وفي أعياد الربيع السنوية.
بعيدًا عن منطقة الشرق القديم، نجد التقاليد الفنية في كل الثقافات وقد نحت منحى الفنون الشرقية في تمثيل الأم الكبرى كسيدة للدافع الجنسي، وذلك بالتأكيد على عريها ومنطقتها الجنسية. ويبلغ جمال العري الأنثوي قمته العليا في تماثيل أفروديت اليونانية، إلهة الحب الجنسي في ثقافة الإغريق، التي كانت تثير ضرام الشبق في أجساد البشر والآلهة على السواء، عن طريق ابنها ورسولها إيروس (الشبق أو الرغبة) الذي لا تخطئ سهامه أهدافها أبدًا.
كان الإنسان القديم يلبي نداء الطاقة العشتارية ويرفدها بفعله الجنسي الخاص من خلال ثلاثة أشكال من الممارسات الجنسية: الشكل الأول: هو الممارسة الجنسية الفردية بين شريكين يربطهما رباط مؤقت أو دائم، والشكل الثاني: طقوس الجنس الجماعي في المناسبات والاحتفالات الدينية، والشكل الثالث: هو البغاء المقدس الذي كان يُمارَس بصورة شبه دائمة في معابد الأم الكبرى. وسنبحث فيما يأتي كل شكل من هذه الأشكال على حدة.
-
الممارسة الجنسية الفردية: احتوت الثقافة الذكرية هذا النوع من الممارسة
الجنسية ضمن إطار الزواج الأحادي ومؤسسته التي يسود
فيها الرجل، وفرضت على الشريكين رباطًا دائمًا يهدف
إلى تكوين الأسرة وإنجاب الأولاد، وتحول الفعل الجنسي
إلى ممارسة دنيوية بعد أن كان طقسًا مقدسًا وعبادة
وتواصلًا مع القوى الإلهية. أما في الثقافة الأمومية
واستطالاتها في عبادات الخصب، فقد كانت الممارسة
الجنسية مع الشريك المختار إرضاءً للنوازع الجنسية من
جهةٍ، ورفدًا لقوى الخصوبة الكونية المنبثة في الحياة
الإنسانية والحيوانية والنباتية، من جهة أخرى. وهنا لا
يكون الفعل الجنسي مجرد إسكات لدافع متمرد، بل تمتعًا
بمنة إلهية، وتفتيحًا للجسد المبارك الذي وهبته
السماء، لا لجمًا للجسد الخاطئ الذي لعنته السماء. إن
الأفعال الجنسية التي يمارسها الناس أزواجًا، لتتجمع
في رافد واحد يصب في بحر الطاقة الجنسية
الكونية.
تقدم لنا الممارسات الشائعة لدى الشعوب البدائية اليوم صورة عن معتقد الإنسان القديم في قدرة الفعل الجنسي البشري على شحن الطاقة الإخصابية الكونية. ففي بعض مناطق جزيرة جاوا يمضي الرجل وزوجته إلى حقل الأرز عند ابتداء نضج الشتلات، فيمارسان الجنس هناك في العراء للإسراع في نمو النبات وزيادة المحصول.١٢ ولدى قبائل البيبيليز في أمريكا الوسطى، جرت العادة أن يمتنع الأزواج عن مقاربة أزواجهم فترة لا بأس بها من الزمن قبل موسم البذار، ثم يأتونهنَّ قبل البذار فيباشرونهن بتوق ورغبة، ويشع عن لقائهم طاقة تشحن الحقل المستعد لاستقبال البذار. وهذا اللقاء واجب ديني لا تصح مباشرة البذار بدونه. كما أنَّ أزواجًا معينين كانوا يخصصون لممارسة الجنس في الحقل لحظة وضع البذار في الأرض.١٣ ولدى قبائل البانجادا في أفريقيا الوسطى يقوم الزوجان اللذان أنجبا توأمين بممارسة الجنس في حقلهم وحقل الأقارب والأصدقاء، لشحنها بطاقاتهم الإخصابية الفياضة.١٤ مثل هذه الممارسات كانت قائمة إلى عهدٍ قريب في أوروبا القرن التاسع عشر؛ ففي يوم القديس سان جورج كان أهل أوكرانيا يأتون بالأزواج الجدد، ويخرجون بهم إلى الحقول المحروثة فيتدحرجون عليها لشحنها بطاقاتهم الجنسية الإخصابية التي ما زالت في أوجها.١٥هذا ورغم التركيب المدني والاقتصادي لرابط الزوجية في الثقافة البطريركية، فإن هذا الرابط قد حافظ على قدسيته الدينية عبر التاريخ ولدى جميع الشعوب، وبقي الزواج أمرًا دينيًّا يُعقَد لإرضاء الآلهة وتحت رعاية رجال الدين، ولم تستطع حتى الآن سوى ثقافات قليلة التخلص من الزواج الديني والتحول إلى الزواج المدني البحت. ولعل الدين الإسلامي من أكثر الديانات العالمية الكبرى القائمة اليوم اهتمامًا بتنظيم الأمور الجنسية للإنسان تحت مظلة الزواج، وإضفاء الطابع الديني عليها. وفي حديثٍ صحيحٍ عن النبي ﷺ نقرأ: «عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أن أناسًا قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور١٦ بالأجور؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة، وفي بُضع١٧ أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر.»١٨
-
طقوس الجنس الجماعي: كانت هذه الطقوس تتم بصورة خاصة في أعياد الربيع
عندما كان الناس يحتفلون بصعود روح الخصوبة الغائبة في
عالم الأموات، وعودة عشتار، أو ابنها، إلى الحياة
حاملة معها كل نتاج الأرض من باطن التربة، فكانت
الممارسات الجنسية في هذه الأعياد مدادًا للقوة
الإخصابية النائمة التي بدأت تستعيد نشاطها، ودفعًا
لها لتعود سيرتها الأولى. وقد ارتبط هذا النوع من
الممارسات الجنسية بعبادة الأم الكبرى وابنها في جميع
أنحاء آسيا الغربية وقبرص وكريت، وانتقل إلى العالم
اليوناني الروماني حيث ارتبطت طقوس سيبيل وديمتر
وديونيسيوس بالبغاء الجماعي، سواء في الأعياد
العشتارية السنوية أو في الاحتفالات الطقوسية السرية.
ولعل العبادة الديونيسية كانت أكثر عبادات العالم
القديم تركيزًا على الطقس الجنسي باعتباره وسيلة اتصال
بالقوى الإلهية؛ فبالخمرة والممارسة الجنسية يتوصَّل
التصوف الديونيسي إلى الاتحاد بديونيسيوس، روح الخصوبة
الكونية المنبثَّة في العالم ومخلوقاته. «إن انطلاق
الديونيسية من المادي والحسي إلى المستويات الروحانية
العليا قد لاءم الطبيعة الأنثوية، فكانت النساء في
العالم اليوناني الروماني عماد هذه العبادة، وسندًا
لها حتى النهاية، وكان ديونيسيوس بحقٍّ سيد النساء،
لهنَّ يدين بانتصار عبادته المؤزَّر على الديانة
الأبولونية الأوليمبية.»١٩مثل هذه الطقوس الجنسية ما زال قائمًا لدى كثير من الثقافات البدائية الحديثة. ففي بعض الجزر الواقعة غربي غينيا الجديدة وأجزاء من شمال أستراليا، يعتقد الأهالي بأن إله الشمس المذكر يهبط من عليائه مرة في كل سنة ليحضن إلهة الأرض المؤنثة، وذلك قبل بدء موسم الأمطار، فيجتمعون رجالًا ونساءً تحت شجرة التين؛ حيث يعتقدون أن الجماع الإلهي يتم هناك، ويمارسون الجنس الجماعي الذي من شأنه حث الطبيعة على إطلاق خيراتها الكامنة، فيهطل المطر وتنبت الأرض وتتكاثر الماشية وتخصب أرحام النساء. ويجري الطقس في جو ديني رصين لا يوحي برغبة المشاركين في إرضاء نوازعهم الجنسية الفردية.٢٠استمرت طقوس الجنس الجماعي قائمة بعد انتشار المسيحية في الشرق الأدنى والعالم الهيليني تحت أشكال مختلفة ومضامين متنوعة. وقد وصلتنا تفاصيل عن هذه الطقوس لا يمكن الركون إليها تمامًا؛ لأن ناقليها قدموها دفاعًا عن العقيدة المسيحية وتسفيهًا للمذاهب المنافسة التي نازعتها السيادة فترة طويلة قبل أن تندحر أمامها. يروي القديس أبيفانيوس ما شاهده بأمِّ عينه من طقوس إحدى فرق المسيحية الغنوصية السورية، عندما انتمى إليها وهو شاب خلال تقلبه بين العقائد السائدة في زمانه بحثًا عن الحقيقة، قبل تحوله للعقيدة القويمة؛ فقد زين له تلك الفرقة عدد من النساء الفائقات الفتنة والجمال، اللواتي اكتشف فيما بعد أنهنَّ لسن إلا أداة في يد الشيطان. يجتمع أفراد هذه الفرقة رجالًا ونساء في مكانٍ معين فيصافحون بعضهم بعضًا بطريقة خاصة يتعارفون بها؛ لاكتشاف أي غريب أو فضولي لا علاقة له بالمذهب. فإذا اطمأنوا بسطوا مائدة عارمة باللحوم والخمور فأكلوا وشربوا، ثم قاموا فافترق الأزواج عن زوجاتهم، وقال كل رجل لامرأته: هيَّا إلى مأدبة الحب مع أحد إخوانك. ثم يختلط الحابل بالنابل ويتضاجع الرجال والنساء، فإذا انتهوا أخذوا ما يسكبه الرجال خارج أرحام النساء في أيدهم وتظاهروا برميه من أكفهم وراء ظهورهم في حركة ابتهالية توحي بنكران المتعة الشخصية، ثم لا يتورعون عن رفع أيديهم النجسة بالصلاة إلى الإله الأب مبدأ الأشياء، مقدمين له ما في أكفهم قائلين: لك نقدم هذا القربان الذي هو عين جسد المسيح، ثم يضعونه في أفواههم، ويفعلون الشيء نفسه بدم النساء الحائضات قائلين إنه دم المسيح، وذلك تفسير خاص منهم لما ورد في (سفر رؤيا يوحنا الإصحاح ٢: ٢٢) «وأراني نهرًا صافيًا من ماء حياة، لامعًا كبلور خارجًا من عرش الله. وعلى النهر هنا وهناك شجرة حياة تضع اثنتي عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها وورق الشجر لشفاء الأمم.» وهم إذ يمنعون بذورهم عن الأرحام إنما يتفادون إنجاب الأطفال، مكرسين فسقهم لإرضاء شبقهم.٢١وفي أوروبا المسيحية استمرت طقوس الجنس الجماعي إلى مطلع العصور الحديثة، من خلال عبادة سرية لا نعرف عنها شيئًا حتى الآن، كانت تُعرف في العصور الوسطى بعبادة الشيطان، التي انتشرت محافلها السرية في طول أوروبا وعرضها. وكان عباد الشيطان يجتمعون في ليالي القمر الكامل ويمارسون الجنس الجماعي.٢٢ ولكن محاكم التفتيش المسيحية كانت لهم بالمرصاد، وكانت تلاحق وتحرك كاهنات هذه العبادات بتهمة ممارسة السحر، فهل كان أتباع هذه الديانة المجهولة يعبدون الشيطان فعلًا، أم أن ديانتهم كانت استمرارًا لمعتقدات الخصب القديمة؟ إن الشيطان في الكتابات والأعمال الفنية المسيحية يبدو على هيئة إنسان مكسو بشعر الماعز، له ساقا تيس وقرنان صغيران وأذنان مدببتان. هذه الملامح العامة للشيطان المسيحي هي ذاتها ملامح الإله «بان» وفصيلة الآلهة الثانوية المعروفة باسم الساتيرز. كان الساتيرز في الميثولوجيا الإغريقية أشبه بجن الغابات يمثلون الروح البدائية للأحراش والجبال، وكانوا يحبون الطرب والرقص والموسيقى وحياة العبث واللهو، يقضون أوقاتهم في مطاردة وإغواء الحوريات، كما كانوا من أتباع الإله ديونيسيوس، يرافقونه ويلعبون دورًا في طقوس الجنس الجماعي أثناء الاحتفالات الديونيسيوسية. وتروي الأساطير أن أكبرهم وحكيمهم «سيلينيوس» كان مرشدًا لديونيسيوس ومعلمًا له.٢٣ أما الإله «بان» فكان ابنًا لهرمس من إحدى الحوريات، وكان إلهًا للطبيعة البرية والأحراش والرعاة، كما كان من آلهة الموسيقى، وهو الذي ابتكر مزمار الرعاة المعروف حتى اليوم باسم بان-فلوت. وقد تغلَّب في إحدى المباريات الموسيقية على أبولُّو إله الموسيقى الأول. تجعله الأساطير أبًا للساتير سيلينيوس معلم ديونيسيوس.٢٤ وفي تفسيري، فإن ديانة السحر والشيطان التي كانت سائدة في أوروبا في القرون الوسطي ليست إلا امتدادًا، تحت ظروف الضغط والإرهاب، للعبادة الديونيسية، وليس الشيطان الذي كانت محاكم التفتيش تلاحقه وتحرق كاهناته، سوى ذلك الساتير الظريف الذي كان يشارك أتباع تلك العبادات السرية طقوس الجنس الجماعي التي تقام لإخصاب الأرض الطبيعية. وربما كان حضور بان والساتير بين المحتفلين يُمثل بأفراد يلبسون جلد الماعز، ويضعون قرون التيس وأذنيه.
-
البغاء المقدس: في مطلع العصور الزراعية التي ظهرت فيها، كما رأينا
سابقًا، الأسرة الثنائية والعلاقة المديدة بين شريكين
في ظل حق الأم. كان هذا الاختصاص الجنسي الذي قد يدوم
العمر كله، أمرًا مخالفًا لطبيعة عشتار. فالمرأة لم
تُعطَ كل جمالها وفتنتها لتبلغ أرذل العمر في أحضان
رجل واحد، فكان لا بد من التسوية بين النظامين
واسترضاء الإلهة بإعطاء الحرية الجنسية للفتيات قبل
الزواج، وفرض الإخلاص الزوجي عليهنَّ بعده. وقد تم
تقليص هذه الحرية تدريجيًّا حتى تحولت فعلًا إلى نوع
من الكفارة الدينية التي تقدمها المرأة لقاء اختصاصها
برجلٍ واحدٍ. وصارت هذه الكفارة تقدم مرة واحدة في
العمر في معابد الأم الكبرى كشرط لصحة الزواج، وبعد
ذلك أعفيت عامة النساء من تقديم هذه الكفارة، وصار
البغاء المقدس في المعابد وقفًا على البغايا
المقدَّسات اللواتي كنَّ يمارسن الجنس نيابة عن كل
النساء، وأخذت المرأة تقدم في المعبد شعرها بدل جسدها
لإلهة الدافع الجنسي.٢٥ هذا وقد وصف مؤرخو اليونان من أمثال
هيرودوتس وسترابو، في فترة نضج المجتمع الذكري
الإغريقي، بعض عادات الشعوب غير المتحضرة التي
احتكُّوا بها، والتي كانت أشكال مختلفة من الكفارة
الجنسية ما زالت شائعة بينهم. من ذلك مثلًا: أن العروس
في ليلة زفافها كانت تضاجع كل مَن يجلب إليها هدية
زواج، أو كانت تضاجع أقارب العريس واحدًا واحدًا
مبتدئة بأكثرهم قرابة، فإذا انتهى الأقارب جاء دور
الأصدقاء، وأخيرًا يأتيها عريسها لأول مرة وتصبح صالحة
للإخلاص الزوجي.٢٦كانت طقوس البغاء المقدس شائعة في جميع أرجاء الشرق القديم؛ ففي قبرص التي يروي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أنَّ الفينيقيين كانوا أول من أوجد فيها معابد أفروديت، كان على كل فتاة أن تخدم في معبد أفروديت كبغيٍّ مقدسة تعطي جسدها للغرباء فترة من الزمن قبل أن تتزوج، حيث كان الجنس يمارس بكل أبهة الطقس الديني وجديته بعيدًا عن أيِّ مظهر من مظاهر الدعارة الرخيصة أو إرضاء الميل الشخصي. ويُروى أن سيزينياس الفينيقي ملك قبرص الأسطوري هو الذي أوجد هذه الطقوس، وكانت بناته من بين بغايا المعبد. وفي بابل كان على كل امرأة أن تستسلم في معبد عشتار لأول غريب يطلبها، وتأخذ منه أجرًا رمزيًّا غير محدد تسلمه إلى الهيكل هبة منها لإلهة الحب، وتوكيدًا على انعدام الأهداف الفردية لفعلها الجنسي. ولم تكن المرأة بقادرة على العودة إلى بيتها قبل أن يمر بها ذلك الغريب. لذا كان فناء المعبد مليئًا على الدوام بنسوة في الانتظار، ولربما قضى بعضهنَّ سنوات قبل أن يقع عليهن اختيار أحد. وفي بعلبك وبيبلوس وغيرها من مراكز الثقافة السورية، سادت عادات مشابهة في معابد الإلهة عستارت، وبقيت قائمة إلى ما بعد انتشار المسيحية. وتروي الأخبار أن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين هو الذي ألغى البغاء المقدس في بعلبك، وهدم معبد عستارت فبنى فوقه كنيسة. وفي أرمينيا، كانت العائلات النبيلة تقدم بناتها للخدمة كبغايا مقدسات في معبد أنايتيس إلهة الخصب، حيث يمكثن هناك فترة لا بأس بها قبل الزواج، وعند انتهاء خدمتهنَّ كنَّ يمضين إلى بيوتهن ويتقدم لخطبتهن أكابر القوم.٢٧يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوتس إن كل الشعوب القديمة ما عدا الإغريق والمصريين، كانت تمارس الجنس المقدس في المعابد. وهذا القول مقارب للحقيقة في جزئه الأول ومجافيًا لها في جزئه الثاني. فالإسبارطيون قد ألحقوا بمعبد ديونيسيوس بيتًا خاصًّا للدعارة.٢٨ وأفروديت في بعض أشكالها كانت تُدعى بأفروديت-بورني؛ أي العاهرة، وكانت حامية للبغاء من كل صنف ونوع. وفي مدينة كورنثة، كانت عاهرات المدينة يُعتبرن بمثابة بغاياها المقدسات.٢٩ وفي ليديا المتأثرة بالثقافة الإغريقية بقي البغاء قائمًا حتى القرن الثاني الميلادي.٣٠إلى جانب هذا النوع من البغاء المقدس الذي كانت تقوم به كل النساء لمرة واحدة، أو لفترة قد تطول أو تقصر من حياتهن، كان في معابد عشتار كاهناتها الدائمات المكرسات على الدوام لإبقاء جذوة الجنس متقدة لا يخبو لها أوار، تمامًا كشعلة النار التي كانت دائمة الاتقاد في هياكلها. وكن يحظين باحترام المجتمع وتقديره. فها هو الملك الأكادي العظيم «صارغون» مؤسس أول إمبراطورية سامية امتدت من حدود إيران إلى شواطئ المتوسط في أوساط الألف الثالث قبل الميلاد يفخر بأنه ابن بغي مقدسة: «أمي كانت بغيًّا مقدسة، ولم أعرف لي أبًا، وضعتني في سلة وأحكمت غطاءها، ثم أسلمتني للنهر الذي حملني، التقطني آكي، ناظر ماء القرابين وتبناني. رباني حتى شببت فصرت أُعنى ببستانه. هناك رأتني عشتار، فأحبتني وجعلتني ملكًا.»٣١
عشتار في التوراة
تسللت سيدة الحب الجنسي إلى كتاب التوراة العبرانية، وشغلت سفرًا كاملًا من أجمل أسفاره، ألا وهو نشيد الأنشاد المنسوب للملك سليمان الذي كان طيلة حياته من عبدة الآلهة السورية، وخصوصًا عشتاروت (عشتار) وبعليم (بعل). فالسفر بكامله أنشودة حب وعشق دنيوي متقد، مرفوعة إلى عشتار مهما حاول اللاهوتيون إقحام تفسيراتهم الروحية ورموزهم الدينية عليه. إنه واحة عذبة في جدب الشرائع والقوانين البطريركية التي يطفح بها الكتاب. وفي تفسيري، يشكل السفر تردادًا لأنشودة خصب عشتارية قديمة تصف لقاء عستارت وأدونيس بعد انقضاء فصل الشتاء وحلول الربيع، خصوصًا وأن مشاهد العشق فيها تترافق مع مشهد حياة الأرض بعد انقضاء موسم الأمطار. وهذه منتخبات منه:
«كالسوسنة بين الشوك، حبيبتي بين البنات، كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة في حلقي. أدخَلَني إلى بيت الخمر وعَلَمُه فوقي محبة. أسنِدوني بأقراص الزبيب، أنعِشوني بالتفاح فإنني مريضة حبًّا. يساره تحت رأسي ويمينه تعانقني، أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا توقظن الحبيب حتى يشاء … صوت حبيبي هو ذا آتٍ، طافرًا على الجبال قافزًا على التلال. حبيبي شبيه بالظبي أو بِغُفْرِ الأيائل، هو ذا واقف وراء حائطنا: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي؛ لأن الشتاء قد مضى والمطر مَرَّ وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضْبِ، وصوت اليمامة سُمع في أرضنا. قومي يا جميلتي، وتعالي يا حمامتي أريني وجهك، أسمِعيني صوتك؛ لأن صوتك لطيف ووجهك جميل … ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان من تحت نقابك، شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد، أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، كل واحد مُتْئِمٌ وليس فيهنَّ عقيم، شفتاك كسلسلة من القرمز وفمك حلو، خدك كفلقة رمانة تحت نقابك. عنقك كبرج داود المبني للأسلحة، ثدياك كخشفتي ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن … شفتاك يا عروس تقطران شهدًا، تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة اللبان. أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، نبع مختوم، أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة، ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان. استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب، هُبِّي على جنتي فتقطر أطيابها، ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس. دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعته يدا صناع، سُرَّتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيَّجة بالسوسن، ثدياك كخشفتين، توأمي ظبية، عنقك كبرج لبنان الناظر نحو دمشق. ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات، قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد، قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، ويكون ثدياك كعناقيد الكرم.»
هذا ما جرى به لسان باني هيكل الرب في أورشليم، الذي أعطاه الرب ما لم يعطِهِ لغيره من ملوك الأرض: «أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميزًا حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظير، وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله غنًى وكرامة، حتى إنه لا يكون رجل مثلك في كل الملوك كل أيامك» (سفر الملك الأول ٣: ١٢–١٣). هذه الحكمة نفسها هي التي فتحت عين سليمان الداخلية على حكمة الأفعى وسر عشتار: «فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونين» (سفر الملوك الأول ١١: ٥).