ولقد صورت الأسطورة هذه الحركة الدائبة بين النقيضين المتعاونين
بلغتها الخاصة، فخلقت صراعًا بين إله الموت وإله الحياة، وبين القوة
التي تهدم والقوة التي تبني. ولعل أسطورة بعل وموت الأوغاريتية، تقدم
لنا أكثر أشكال هذا الصراع وضوحًا ودرامية. ففي هذه الأسطورة، يبدأ
الصراع بين إله الحياة والدورة الزراعية بعل وإله الموت والعالم الأسفل
موت، عقب انتصار بعل على العماء الأول المتمثل بالإله يم، المياه
البدئية، وتوطيد أركان مملكته الجديدة؛ إذ ينبري موت من عالمه السفلي
صائحًا:
فيبعث إليه بعل برسله طالبًا منه التعايش بسلام، ولكن
موت يرفض عروض بعل، ويسلط عليه التنين الهائل لوتان ذا الرءوس السبعة،
فيسحقه بعل مسجلًا بذلك انتصارًا كونيًّا ثانيًا على قوى الفوضى. هنا
يثور موت ثورة عارمة ويطلب إلى بعل تسليم نفسه والهبوط إلى العالم
الأسفل، فيقبل بعل وهو في قمة سلطانه وجبروته الاستسلام للموت، والنزول
إلى عالم الظلمات من فم الإله موت الفاغر لابتلاعه:
وهكذا يقدم بعل نفسه طواعية للموت في استسلام يذكِّرنا
باستسلام إنانا في الأسطورة السومرية. وبعد موت بعل تقضي حبيبته الإلهة
عناة فترة حزن وحداد عليه، ثم تمضي في محاولة يائسة إلى الإله موت
طالبة استعادة بعل إلى الحياة ولكن عبثًا. وبعد تكرار المحاولة وتكرار
الرفض، قررت التصدي بنفسها للإله موت، فدخلت معه في صراعٍ حاسمٍ
ودحرته:
فيعود بعل إلى الحياة، ويلتقي الحبيبان على سطح الأرض
حيث يرتقي بعل عرشه من جديدٍ فوق قمة جبل الأقرع، بينما كانت السماوات
تقطر زيتًا والوديان تجري بالعسل، ابتهاجًا بعودة سيد الطبيعة إلى
الحياة. ولكن موت لا يغيب إلى الأبد، والأمور لا تستقيم لبعل على
الدوام:
إلا أن هذا الصراع الذي يطفو على سطح الأسطورة، ليس في
حقيقته وغاياته إلا تعاونًا بين القوتين من أجل حفظ الوجود، ومنعه من
العودة إلى هاوية السكون والعدم. وهذا ما تعبر عنه المستويات السرانية
للأسطورة. ففي النص الآنف الذكر نجد في مشهد قتال عناة وموت، أن عناة
تقوم بقتل موت وتقطيعه بالسيف وتذريته بالمذارة وشيِّه بالنار وطحنه
بالطاحون، وطمر أجزائه تحت التراب في الحقول لكيلا تأكلها العصافير.
وفي ذلك كله إشارة إلى مراحل عملية حصد القمح بالمنجل ثم تذريته
بالمذارة فطحنه فخبزه وتوفير بعضه لدفنه تحت التراب من أجل زراعة
الموسم القادم الجديد. وما تريد الأسطورة هنا أن تقوله، هو أن الإله
موت هو حبوب القمح اليابسة التي تهاوت تحت مناجل الحصادين؛ فقدمت غذاء
للبشر ودُفن بعضها من أجل إعطاء الحياة الجديدة، في فصل الربيع القادم،
وإن الإله موت ليس إلا الوجه الآخر للإله بعل الذي يمثل السنابل
الخضراء، فموت هو بعل الميت، وبعل هو موت الحي. من هنا رأينا في نظرية
تكوين سانخونياتن التي نسبها فيلو للفينيقيين، أن الإله موت هو الخميرة
الأولى وبذرة الخلق.
وبعد خلق الكون يأتي خلق الإنسان الذي تنشأ حياته أيضًا من الموت؛
ففي الأسطورة الإغريقية يخلق زيوس الإنسان من رماد آلهة التيتان الذين
ضربهم بصواعقه. وفي أسطورة التكوين البابلية يأمر الإله مردوخ بعد قتله
تعامة، أن يصنع الإنسان من دماء زوجها كينغو الأسير:
(ثم يطلب أن يحضر أمامه كينغو، ويطلب إلى الإله «إيا»
أن يتعهد خلق البشر من دمائه):
وفي أسطورة بابلية أخرى عن خلق الإنسان، نجد الآلهة
وقد كلَّت من عناء العمل اليومي، تأتي إلى الأم الكبرى طالبةً منها خلق
الإنسان ليحمل عبء العمل؛ فتفعل ذلك مستخدمة دم إله قتيل:
وفي أسطورة بابلية ثالثة، نجد الآلهة وقد اجتمعوا بعد
انتهاء خلق العالم للتشاور فيما يمكن لهم فعله بعد ذلك:
لقد ظهر الوجود من لجة العماء بالقتل، وظهرت مظاهر الحياة الأولى
بالقتل، وبدأت حياة الإنسان بالقتل. ثم لاحظ الإنسان أن استمرار بقائه
يعتمد على القتل، فكان اقتطاع الشجرة بالنسبة إليه قتلًا، وصيد
الحيوانات قتلًا، وحصد القمح قتلًا، وصيد الحيوانات قتلًا. الحياة
تستمر بالقتل، تتغذى على الموت، والموت فاغر فاه يتغذى على الحياة. من
الجثث المتفسخة تنطلق ديدان حية نشطة، وفوق القبور وبقايا النباتات
تنبت أعشاب وسيقان خضر. لهذا عمل الإنسان القديم على رفد الحياة
بالموت، ورفد الموت بالحياة، من خلال طقس القرابين البشرية والحيوانية.
فما نشأ عن الموت لا يستمر إلا بالموت، وحياة الجماعة لم تكن لتقوم إلا
بتقديم بعض أفرادها لقمة للموت، ومزروعاتها لم تكن لتنتعش من باطن
الأرض إلا بدم الأحياء الذي يراق فوق التربة حاملًا أرواح الضحايا إلى
العالم الأسفل. لذلك كانت الأضاحي البشرية تُذبح في الحقول، وتؤخذ
أجزاؤها فتُدفن تحت التراب بين البذور المزروعة، وتؤخذ دماؤها فترشُّ
فوق الوريقات الصغيرة الخضراء. ورغم أنَّ القربان البشري قد تمَّ
استبداله بالقربان الحيواني لدى كثير من الثقافات في أزمنة مختلفة من
تاريخها، إلا أن هذا الطقس قد استمر قائمًا إلى مطلع القرن العشرين لدى
بعض الثقافات التي هي أبعد ما تكون عن البدائية، كما هو حال الثقافة
الهندوسية في شبه القارة الهندية.
هذه الأرض التي فتحت فاها لتتلقف جسد هابيل هي التي جُبل منها جسد
أبيه آدم، وهي التي سوف تتلقف جثث الموتى إلى نهاية الأزمان. إنها الأم
الكبرى التي تأخذ باليسار ما أعطته باليمين. سيدة القوتين الكونيتين.
قوة الحياة النشطة وقوة الموت الساكنة، قوة النور وقوة الظلام، قوة
الخير وقوة الشر، اليانج والين في دورانهما الأبدي. وذراعا الصليب
المعقوف في تناوبهما السرمدي.
الأم الكبرى سيدة الموت
إن الإله الكوني الشمولي، عندما لا يجرد من نفسه ظلًّا له يحمله
مسئولية الموت وشرور الحياة، لا بد له من الإمساك بخيوط القوتين
الكونيتين بذراعيه الاثنتين، فباليمنى يمسك قوة الحياة والخير،
وباليسرى قوة الموت والشر. وهنا تغدو مسألة استرضاء وجه الإله
الأبيض، واتقاء غضب وجهه الأسود، الموضوع الأساسي للعبادة والطقوس.
من هنا نستطيع أن نفهم الخصيصتين المتناقضتين للأم الكبرى للعصر
الحجري، أول إله شمولي عبده الإنسان. كما نستطيع أن نفهم استمرار
هاتين الخصيصتين في وريثات الأم الكبرى.
تدل الاكتشافات
الأركيولوجية الحديثة من منطقة الشرق الأدنى، على أن الأم الكبرى
للعصر النيوليتي قد عُبدت كسيدة للموت كما عُبدت كسيدة للحياة.
٢١ وتدل طقوس الدفن التي مارسها سكان المستوطنات الزراعية
النيوليتية، على أن الموت لم يكن بالنسبة إليهم سوى مَعبرٍ للعودة
إلى أحضان سيدة الموت التي كانت في نفس الوقت سيدة للحياة. ففي
مستوطنة شتال حيوك، كان النسر، ذلك الطائر الذي يعيش على جثث
الموتى، رمزًا للأم الكبرى في وجهها الأسود. وكانت معابد المستوطنة
ملأى بالرسوم الجدارية التي تمثل نسورًا عملاقة منقضة على جثث
الموتى (شكل رقم
٧-٢). ويستدل علماء الآثار،
اعتمادًا على هذه الرسوم، وعلى دراسة بقايا الهياكل العظمية لسكان
تلك المستوطنة، على أن الموتى كانوا يوضعون على مصاطب عالية في
أماكن بعيدة خاصة، تأتيها النسور فتلتهم لحم الجثث وتترك الهيكل
العظمي سليمًا. وكانت المصاطب العالية تحمي الجثث من الكلاب
والضباع وما إليها من الحيوانات القمَّامة، وتتركها وقفًا على طيور
الأم الكبرى. فإذا انتهت النسور من عملها حملت الهياكل العظمية إلى
مستودعات خاصة تترك فيها إلى فصل الربيع، حيث تأخذ كل عائلة موتاها
فتدفنهم في منزلها تحت مصاطب النوم والجلوس. كما كانت أرضيات
المعابد تستخدم لدفن الموتى من ذوي المكانة الخاصة.
٢٢
ورغم أنَّ فريقًا آخر من علماء الآثار يطرح تفسيرًا مغايرًا
لمشاهد النسور في الرسوم الجدارية، فإن كلا الفريقين متفق على أن
النسر هو رمز للأم الكبرى لشتال حيوك باعتبارها سيدة للموت؛ ذلك أن
الفريق الثاني يرى أن تلك المشاهد ليست تمثيلًا لطقس، بل تمثيل
لأسطورة تتعلق بعالم ما بعد الموت، وأن نسور الأم الكبرى هي التي
تتلقى الموتى بعد عبورهم إلى العالم الآخر.
٢٣ هذا وقد وجد المنقِّبون في شتال حيوك أن مناقير النسور
كانت مدفونة في الأثداء الأنثوية المشكَّلة من الصلصال، التي كانت
تزين بعض جدران معابد المدينة. وفي ذلك إشارة بليغة إلى سلطة الأم
الكبرى على عالمَي الموت والحياة في آنٍ معًا.
٢٤
إن عادة دفن الموتى تحت أرضيات بيوت الأحياء لم تكن وقفًا على
موقع شتال حيوك، بل يبدو أنها كانت عادة شائعة في معظم أنحاء الشرق
القديم خلال العصر النيوليتي. ولنا في عادات الدفن في موقع تل
المريبط، وموقع أبي هريرة على نهر الفرات وغيرهما أمثلة على ذلك.
٢٥ كما كان من عادات الدفن في بعض المواقع (ونموذجها موقع
أريحا) أن تؤخذ جماجم الموتى بعد تحلل الهيكل العظمي، فيعاد تشكيل
ملامح أصحابها بواسطة الجص، وتوضع الأصداف في محاجر العيون، ثم
تنصب في أمكنة بارزة في البيوت،
٢٦ وهذه الممارسات إنما تدل على إحساس إنسان العصور
الحجرية العميق بوحدة الحياة والموت. فالموت لم يكن أمرًا بغيضًا
يتناساه الإنسان ما عاش، ثم يلقاه فجأة إذا ما بلغت روحه الحلقوم،
بل هو حقيقة قائمة وحضور دائم، هنا والآن. والخط الفاصل بين
العالمين وهم سراب.
ولعلنا واجدون في المعتقدات القمرية القديمة منبعًا أساسيًّا من
منابع الاعتقاد بوجهَي عشتار المتناقضين والمتعاونين؛ ففي طوره
الأول، عندما يرتفع الهلال فوق الأفق الشرقي آخذًا بالتزايد حتى
الاكتمال، تدير عشتار نحو العالم وجهها المضيء؛ وجه الحياة والخصب
والحب. وفي طوره الآخر، عندما يأخذ البدر بالتناقص منحدرًا نحو
الأفق الغربي، تدير عشتار وجهها الأغبر، فترسل الأمراض والأوبئة
الفتاكة والعواصف المدمرة، وتعتلي مركبتها الحربية لتقود المعارك.
فإذا ابتلعت القمرَ بوابةُ الغرب، انتصبت عشتار السوداء خلفًا
لعشتار البيضاء فتقبض إليها باليد اليسرى ما أطلقته يدها اليمنى،
وتتحول العذراء الطروب الأنثى الجميلة الرقيقة، الأم الواهبة
المعطاء، إلى شيطانة مولعة بالقتل، ترسل بأحبابها إلى الموت حيث
يحل القبر محل سرير اللذة. في طورها المنير هي التي أنشدت أعذب
أغاني الحب: «في الليلة الفاتنة، أنا الملكة، كنت ألتمع في كبد
السماء. كنت أرتع في أرجاء السماء وأغني عندما التقاني دوموزي.
السيد دموزي التقاني فوضع يده في يدي وعانقني.»
٢٧ وفي طورها المظلم هي التي رمت دوموزي بنظرات الموت،
مهيبة بعفاريت العالم الأسفل أن تحمله إلى العالم الأسفل: «فانقضت
عليه العفاريت وجرَّته من ساقيه، فانقطع الراعي عن نفخ نايه
ومزماره. ثم ركزت إنانا عليه أنظارها، ركزت عليه أنظار الموت،
ونطقت ضده بالكلمة التي تعذب الروح وصرخت في وجهه قائلة: أمَّا هذا
فخذوه. وبذلك أسلمت إنانا الطاهرة دوموزي الراعي إلى أيديهم.»
٢٨ في نص سومري آخر نقرأ:
أيها الابن الملكي، يا أخي ذا الوجه الأجمل بين
الوجوه،
نهايتك باتت قريبة، وقُدِّر عليك مصير بائس،
أيها الحبيب، الرجل الذي يسكن القلب،
لقد قَدَّرتُ عليك مصيرًا بائسًا يا ذا الوجه الأجمل بين الوجوه.
٢٩
وقد عبر إنسان العصر الحجري الحديث عن وجهَي عشتار
المظلم والمنير بأن مثَّلها في هيئة مزدوجة؛ ففي معابد شتال حيوك
نجد الأم الكبرى في بعض المنحوتات الجدارية وقد ازدوجت في شكلين
اثنين متطابقين يولد منهما الإله الابن-الثور (الشكل رقم
٧-٣). وهذان الشكلان ليسا تعبيرًا عن إلهتين
منفصلتين، بل هما تعبير عن الإلهة الواحدة للعصر النيوليتي ذات
الوجهين؛ وجه تديره نحو الحياة وآخر نحو الموت، وهي التي سوف تستمر
فيما بعد في شخصية أم القمح الإغريقية ذات الوجهين: ديمتر وبيرسفوني.
٣٠
وفي ميثولوجيا الشعوب البدائية، بقي مفهوم عشتار المزدوجة قائمًا
إلى العصر الحديث؛ فالأم القمرية ما زالت حية لدى كثير من القبائل
البدائية تحت أسماء شتى. فهي «المرأة الخالدة» و«المرأة المتغيرة»
و«المرأة التي تبدل جلدها» و«المرأة المضيئة». وهذه الأم القمرية
تلد توأمين؛ الابن الأبيض، والابن الأسود، الأول سيد الحياة
والثاني سيد الموت، وهما في صراعٍ دائمٍ لا ينتهي. فما إن يخر
أحدهما صريعًا حتى يستجمع قواه وينهض من جديدٍ.
وفي بعض هذه الأساطير تزدوج الأم القمرية نفسها متحولة إلى
إلهين؛ إله الخير والحياة، وإله الشر والموت،
٣١ وهذا يذكِّرنا بصراع بعل وموت في الأسطورة السورية،
وأوزوريس وأخيه سيت في الأسطورة المصرية، وأهورا مازادا ونقيضه
أهريمان في الأسطورة الفارسية الزرادشتية. كما تلقي هذه الأساطير
ضوءًا على ظهور فكرة الشيطان لدى كثير من الديانات. فصورة الإله
الأسود قد بدأت تزداد قتامة وتنفصل عن صورة الإله الأبيض، حتى زالت
عنها صفة الألوهة متحولة إلى نقيضها؛ ذلك أن التركيز المتزايد على
الوجه المضيء للقوة الإلهية واستبعاد وجهها الأسود، قد أدى
بالضرورة إلى ظهور الشيطان مرافقًا للرحمن، وقام كل إله أبيض
بابتكار شيطانه الأسود، فحمَّله شرور العالم. ففي التقليد المسيحي
(والإسلامي أيضًا مع اختلافٍ في التفاصيل) كان الشيطان من الملائكة
المقربين الذين يعكسون مجد الله وعظمته، قبل أن تحل عليه اللعنة
ويهبط من السماء إلى عالم الظلمات، ومعه آلاف الملائكة الذين وقفوا
في صفه وتحولوا إلى شياطين. وكان اسم الشيطان قبل الهبوط «لوسيفر»
الذي يعني «حامل الضياء».
٣٢ وفي خرافة هنغارية تعتمد تقاليد أسطورة موغلة في
القِدَم أن الإله كان يتمشى وحيدًا في أحد الأيام عندما رأى ظله
يتبعه، فالتفت إليه قائلًا: قم إليَّ أيها الصديق. فنهض الشيطان من
ظل الإله وتقدم طالبًا أن يُقسم العالم فيما بينهما، فيأخذ إليه
الأرض ويترك السماء للإله. فكان أن وافق الاثنان على تلك القسمة
ووقَّعا اتفاقًا بذلك.
٣٣ وهذه الفكرة تتكرر في أسطورة من أواسط آسيا تقول: إن
الإله كان يجلس وحيدًا على صخرة عندما حدَّث نفسه قائلًا: لو كان
عندي أخ لتعاونت معه على خلق العالم. وما إن أنهى كلامه حتى بصق
على وجه البحر، ومن بصاقه ظهر جبل من وسط الماء، فقام إليه وشقَّه
بسيف فخرج منه الشيطان الذي تقدم من الإله قائلًا: يجب أن نصبح
أخوين. فقال الإله: لا بل سنكون رفيقين. وهنا شرعا معًا في خلق العالم.
٣٤
رغم تشظِّي صورة الأم
الكبرى للعصر النيوليتي، وتحول أسمائها وصفاتها إلى ذوات منفصلة
ظاهريًّا متطابقة باطنيًّا، فإن كل اسم من أسمائها، وكل تجلٍّ من
تجلياتها قد حافظ على خصائص وجهها الأسود. فعشتار البابلية
٣٥ كانت تدعو نفسها في بعض النصوص «بسيدة الليل» و«سيدة
النواح». تظهرها الأساطير تارة ابنة لسن إله القمر، وتارة ابنة
لآنو إله السماء. فكابنةٍ لآنو، كانت عشتار إلهة للدمار وسيدة
للحروب والمعارك. من ألقابها «نجمة العويل» التي تختطف الأصحاب
وتفرق بين الأحباب، ومن ألقابها «سيدة المعارك». تمثلها الأعمال
الفنية في عدة الحرب الكاملة، تعتلي مركبة تجرها سبعة أسود وفي
يدها قوسها المشدود. وكانت تعين أختها إريشكيجال إلهة العالم
الأسفل على ملء جهنم من الناس أجمعين. وفي بعض النصوص تبدو ذات
سلطة على العالم الأسفل تعادل سلطة أختها إريشكيجال نفسها، الأمر
الذي يؤكد تفسيراتنا السابقة حول الوحدة السرَّانية للإلهتين،
وتحدُّرهما معًا من أصل مشترك لم تكن الأسطورة قد نَسِيَته في تلك
الأيام. ففي ملحمة جلجامش، تطلب عشتار من أبيها آنو أن يعطيها ثور
السماء لتُهلك به جلجامش الذي أهانها، وتهدد بأن تفتح بوابات
العالم الأسفل، فتطلق كلَّ من ماتوا منذ بدء الخليقة ليأكلوا
ويشربوا مع الأحياء، لتعم المجاعة ويشرف الكل على الهلاك:
أبتاه اخلق لي ثور السماء أُهلك به جلجامش،
فإن لم تخلق لي ثور السماء،
أحطم بوابات العالم الأسفل، أنزع رتاجها،
أترك أبوابه مفتوحة على مصاريعها،
فيصعد الأموات ليأكلوا مثل الأحياء،
وسيربو عدد الأموات على عدد الأحياء.
٣٦
وفي ترتيلة بابلية إلى عشتار، نجد وجهها الأغبر
كسيدة للدمار والمعارك مختلط مع وجهها الأبيض الذي يمنح البركة
للبشر:
لك أرفع صلاتي، يا سيدة السيدات، يا إلهة
الإلهات.
أي عشتار، يا مليكة كل الشعوب وحاكمة البشر.
أي «إرنيني» العالية، سيدة أرواح السماء.
أنت الجليلة القاهرة، واسمك الأعلى بين الأسماء.
أنت نور السماوات والأرض، أيتها الباسلة يا ابنة إله
القمر.
أنت ربة كل سلاح، ولك الأمر الفصل في المعارك.
أنت مستنَّة الشرائع، وعلى رأسك تاج السلطان.
أي سيدتي، إن قدرك العظيم ليسمو فوق كل الآلهة.
أنت سبب العويل والنواح، تزرعين العداوة وتفرقين بين
الإخوة.
أي «جوتبرا» أنت متمنطقة بالمعارك، متشحة بالرعب
والهول.
لذكر اسمك تهتز السماوات والأرض.
يرتجف الآلهة وتترنح أرواح البشر.
٣٧
وفي صلاة إلى «إنانا» من أواسط الألف الثالث قبل
الميلاد، تبدو إلهة الخصب السومرية في أعتى أشكالها كسيدة للغضب
والدمار والهلاك:
سيدة النواميس الكونية، أيها النور المشع،
واهبة الحياة، صفية الإله «آن» وحبيبة الشعب.
لقد ملأتِ الأرض بالسم كما التنين.
احتبس الزرع لصوتك الراعد كصوت أشكور (إله
العاصفة).
أسَلْتِ مياه الطوفان من علالي الجبال،
أمطرتِ الأرض حممًا من نار.
أعطاكِ «آن» النواميس يا ممتطية الوحوش الكاسرة،
فمن يسبر غور طقوسك العظيمة.
أمدمرة البلاد العاصية، لقد وهبتِ العاصفة
جناحًا.
صفية «إنليل» لقد سلطتِ الرياح على الأصقاع،
وحملت مشيئة آن.
مليكتي، إن البلاد العاصية لترتعد من صيحتك.
يرتفع إليك صراخ البشر،
هلعًا من رياح الجنوب العاتية.
يعولون أمامك وينتحبون في الطرقات،
وفي غمار الوغى، كل شيء يكون حطامًا عندك.
مليكتي، أيتها الملتهمة الشرسة،
لقد تابعتِ هجومك كعاصفة زاعقة،
تهدرين برعد فاق صوت أشكور،
تعولين بأعلى من صوت الرياح الشيطانية.
مليكتي، إن الآلهة الكبار،
فرَّت أمام وجهك الغضوب،
لم ترفع نظرًا إلى جبينك المهوب،
فما من سبيل لتهدئة جَنانك الثائر،
مليكتي، أنت الجذلى الطروب،
ولكن، يا ابنة سن، غضب قلبك بلا حدود.
مليكتي، سيدة البلاد، من يستطيع إعطاء طاعتك
حقها؟
أنت من يمنع الزرع والإنبات عن أراضي العصاة،
تسحقين بواباتها المنيعة،
تُجْرين أنهارها دماء فلا يجدون ما يشربون،
وتملئين مرابع لهوها نكبات.
تحجبين عنها كلماتك الطيبة،
فتبتعد المرأة عن زوجها،
لا تُسمعه في الليل كلام الحب،
ولا تفضي له بسريرة قلبها.
أيتها البقرة البرية الجموح،
أنت أعظم من كبير الآلهة آن،
وأعظم من الأم التي ولدتكِ.
فيا مليكة البلاد الحكيمة العارفة،
يا مُكثرة المخلوقات والناس،
هذه أغنيتي أرفعها بحمدك.
٣٨
إلى جانب
تجلي القوة الإلهية الأنثوية المدمرة في الوجه الأسود لكل من عشتار
البابلية وإنانا السومرية، فإننا نعثر في بلاد الرافدين على إلهة
ثالثة تلعب دورًا هامًّا في عالم الشر والظلام والعالم الأسفل هي
الإلهة «ليليث» عفريتة وشيطانة القفار المظلمة. تصورها الأعمال
الفنية التشكيلية على هيئة امرأة مجنَّحة عارية، جميلة الجسد
مكتنزة الصدر، تقف فوق لبوتين، وتنتهي ساقاها بمخالب الطيور
الكاسرة عوضًا عن القدمين، وعن يمينها ويسارها بومتان. وهكذا تقوم
رموز الأم الكبرى المضيئة بدور معاكس عندما تدير عشتار وجهها
المعتم. فالأجنحة التي كانت رمزًا لسماوية الأم، هي الآن رمز
لعالمها المظلم. وحمامات عستارت وأفروديت، التي مثلت خفق القلوب
بالعواطف، هي بومات وغربان تمثل خفق القلوب بالرعب، وتبشر بالفراق
والشقاق والموت. ففي بلاد الرافدين نعثر على زمرة من الرموز
المتعلقة بالأجنحة والطيور، وقد عكس مدلولها لتغدو رمزًا للطاقة
السالبة في الكون بعد أن كانت رمزًا للطاقة الموجبة. فمن الألف
الثالث قبل الميلاد، وصلتنا مجموعة من الأختام الأسطوانية التي
تمثل بوابة مجنحة يحملها على ظهره ثور راكع أمام الأم الكبرى
الجالسة على عرشها، وفي يدها كوب فوقه الهلال في يومه الأول. هذه
البوابة المجنحة هي رحم الأم الكبرى الذي يطلق إلى العالم شتى
مظاهر الحياة مع إشراق الهلال الجديد، وهي بوابة الغرب التي يدلف
منها الموتى إلى عالم الظلمات، مع هبوط القمر درجات الموت السبعة.
وفي الأساطير المتعلقة بالعالم الأسفل، نجد عفريت الموت قابض
الأرواح على هيئة طائر، كما نجد الموتى هناك وقد تغيرت أشكالهم
واستعاروا بعضًا من هيئة الطيور وملامحها. ففي ملحمة جلجامش، على
سبيل المثال، نقرأ على لسان إنكيدو:
ظهر أمامي إله معتم الوجه.
ملامحه كوجه طائر الزو،
ومخالبه كمخالب العقاب،
وثب عليَّ، فتمكن مني، ثم غاص بي،
قام بتحويل شكلي،
فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش.
ثم قادني إلى بيت الظلام، إلى مسكن إرجالا،
إلى دار لا يرجع منها داخل إليها،
إلى مكان لا يرى أهله نورًا،
فالتراب طعام لهم والطين معاش،
لباسهم كالطير، أجنحة من ريش،
لا يرون نورًا وفي ظلمة يعمهون.
٣٩
وفي الميثولوجيا والطقوس السورية، لا تبدو الإلهة
«عستارت» أقل تعطشًا للدماء، من صنوها عشتار البابلية. فحول الحجر
المقدس الذي يمثل عستارت في معابد الكنعانيين، ثم العثور على عشرات
الهياكل العظمية لأطفال تم تقديمهم قربانًا للإلهة.
٤٠ وفي قرطاجة الكنعانية، ارتبطت عبادة الإله الثور ابن
الأم الكبرى بالتضحية البشرية، فكان الأطفال يرمون إلى داخل تمثال
برونزي مجوف هائل الحجم له رأس الثور، تتأجج في داخله النيران.
وهذا التمثال يمثل الإله مولوخ، صنو الإله بعل.
٤١ وفي أوغاريت الكنعانية، تكشف إلهة الخصب عناة عن وجهها
الأسود في أحد نصوص أسطورة بعل وعناة:
هي ذي عناة تقاتل بضراوة.
إنها تذبح أبناء المدينتين،
إنها تصارع أبناء شاطئ البحر،
وتبيد أبناء مشرق الشمس.
تحتها الرءوس تتطاير كالنسور،
وفوقها تتناثر الأذرع كالجراد.
إنها تخوض في دماء الأبطال حتى الركب.
إنها تغوص في دماء الناس حتى العنق.
كبدها يتفجر سرورًا،
وقلبها يمتلئ حبورًا.
تغسل يديها في دماء الجنود،
وأصابعها في دماء البشر.
٤٢
فإذا انتقلنا إلى الميثولوجيا المصرية، التي لقيت
فيها صورة الأم الكبرى من التشظي ما لم تلقه في ميثولوجيا الثقافات
الأخرى، لوجدنا الوجه الأسود للأم الكبرى الأولى وقد تجلى في كل
صورها المبعثرة اللاحقة. وفي الحقيقة فإن هذا التشظي في صورة الأم
المصرية، إن هو إلا ظاهرة سطحية ساعد على توضيحها للعقل الحديث
دارسو الأسطورة الأكاديميون، ممن لم يلمحوا الرابطة السرانية بين
جميع تجليات الأم المصرية وأسمائها، وهي رابطة قدمت لنا الأسطورة
مفاتيحها بطريقة لا تخفى على البصيرة، وإن خفيت على البصر الكليل.
وسوف نجد أن كل تجلٍّ من تجليات الأم الكبرى يفضي إلى الآخر، وكلها
تصب أخيرًا في الإلهة الواحدة للعصر النيوليتي، سيدة الحياة
والموت.
نقرأ في كتاب الموتى المصري، فصل البوابات السرية، وهي بوابات
العالم الأسفل السبع، عن الأم الكبرى ذات الوجهين: «سيدة الرعدة،
عشيقة الدمار، حاكمة السماوات، سيدة العوالم، ملتهمة بنارها متسلطة
بحد السيف، سيدة الشعلة، سيدة النور، لا يعرف لها امتداد، وليس
كمثلها شيء منذ البداية. نار موقدة لا يخمد أوارها، ألسنتها تطال
القاصي. مهلكة لا يقف في وجهها شيء، ولا يدرك الإنسان برشده وعقله
سر أذاها، راعدة الصوت مدمرة، سيدة البوابات لها ترفع الابتهالات
يوم الظلمة، ملتهمة أجساد الموتى، سيدة القتل والمذابح حاصدة
الرءوس واسمها قاطع كحد السكين.»
٤٣ من التجليات القديمة لهذه الإلهة الأم، الإلهة «نيخبت»
وهي إلهة الأُسر الفرعونية الأولى. كان النسر رمزًا لها، كما
صوَّرتها الأعمال التشكيلية على هيئة امرأة برأس نسر. كانت نيخبت
إلهة الميلاد، وفي نفس الوقت كانت طائر الموت الذي يمزق الجثث
ويلتهمها. وفي العالم الأسفل كانت راعية الموتى.
٤٤ وبعد أن أفل نجم هذه الإلهة، نجدها تنبعث في إلهة أخرى
تحت اسم «مت» الذي يعني «الأم». وقد صورتها الأعمال التشكيلية على
هيئة امرأة تضع على رأسها تاجًا مصنوعًا على هيئة رأس النسر. كما
صورت على هيئة بقرة سماوية، هي البقرة التي ارتقى ظهرها إله الشمس
الأكبر عندما ولد من البيضة الكونية، وخرج من أعماق الأوقيانوس
المائي الأول، صاعدًا نحو قبة السماء، وصُوِّرت أيضًا على هيئة هرة
وهيئة لبؤة.
٤٥ وهذه الهيئات جميعًا، سوف تتكرر في تجليات الألوهية
المؤنثة اللاحقة في الميثولوجيا المصرية. فالإلهة «نيت» والتي
تنافس في القدم الإلهة «نيخبت» كانت البقرة السماوية من قبل أن
توجد الأشياء، وهي أم الآلهة جميعًا التي أنجبت إله الشمس «رع»، ثم
أتبعته بقية الآلهة. وإلى جانب هذا الدور الكوني، تظهرها النصوص
والأعمال التشكيلية كإلهة للحروب وراعية للأموات في العالم الأسفل
تقدم لهم الخبز والماء عند وصولهم. كما تظهر في وضع الإلهة النساجة
التي تغزل خيوط القدر وتحيك مادة الكون. وفي الدرام الأوزوريسي
نجدها أحيانًا وقد حلت محل الإلهة إيزيس كحبيبة للإله أوزوريس القتيل.
٤٦ وفي ذلك توكيد على أن قدماء المصريين كانوا يطابقون
بين الإلهة القديمة «نيت» والإلهة الجديدة «إيزيس»، رغم اختلاف
الأسماء الذي فرضته عوامل الصراع الدينية والسياسية عبر حياة
الحضارة المصرية المديدة.
تظهر «إيزيس» غالبًا وعلى رأسها قرنا بقرة، وفي أحيان قليلة برأس
بقرة، أما الإلهة «هاتور» وهي أحد أشكال الإلهة «إيزيس» فتحمل
غالبًا رأس البقرة، وتبدو في أحيان قليلة برأس بشري يحمل قرني
بقرة. وكانت هاتور تُدعى في بعض النصوص «بأم حوروس» وهو لقب إيزيس
نفسها. ونجدها في النصوص والأعمال التشكيلية على هيئة بقرة سماوية
أنجبت الشمس والكون، وهي مرضعة كل الأحياء من لبنها، وأيضًا راعية
كل الأموات. فتحت اسم «سيدة المغارب» تظهرها الرسوم وقد نهضت من
أطراف الصحاري القاصية عند حدود الغرب حيث تغيب الشمس، لتستقبل
الأموات وتقدم لهم الخبز والماء، ثم تحملهم على ظهرها إلى العالم
الأسفل. وهي تمسك بسلم الصعود إلى السماء، الذي يتسلقه كلُّ من
مروا بسلامٍ عبر امتحانات العالم الأسفل القاسية.
٤٧ وربما كان هذا السلم هو الذي رأينا إيزيس العارية
ممسكة به في الشكل رقم (
٦-٦) من فصل البغيِّ
المقدسة. ومن ألقاب هاتور لقب «سيخمت» الذي يعني الجبارة، وقد تحول
هذا اللقب إلى إلهة مستقلة تحمل اسم «سيخمت»، وتحت هذا الاسم تبدو
الأم المصرية الكبرى في أقسى أشكالها كإلهة للحروب والمذابح
الجماعية. نراها في أحد النصوص وقد باشرت حملة إبادة ضد الجنس
البشري انتقامًا للإله رع الذي تنكَّر له الناس. ولكن الإله رع
يخشى فناء البشرية فيتدخل لدى الإلهة، لتوقف حملتها دون أن يلقى
منها أذنًا صاغية؛ إذ تجيبه وهي سكرى بالدماء بأن قلبها ينشرح
للذبح وسفك الدم. عند ذلك يأتي بسبعة آلاف برميل من شراب مسكر أحمر
اللون مصنوع من مزيج الجعة وعصير الرمَّان، فيسكبها في ساح
المعمعة، فتشربها «سيخمت» عن آخرها، معتقدة أنها تشرب من دماء
البشر المسفوحة، وهنا تبدأ قواها بالتخاذل وتعجز عن إكمال المجزرة.
٤٨ هذا وقد اختلطت بهذه الإلهة إلهة أخرى اسمها «باست»
التي تبدو على شكل هرة، أو على شكل امرأة برأس هرة. وكانت في أصلها
كزميلتها «سيخمت» لبؤة أو امرأة برأس لبؤة.
٤٩
وفي الجزيرة العربية، نجد في أسماء الأم الكبرى المثلثة، ما يشير
إلى وجهها الأسود. فاسمها «اللات» هو اشتقاق من اسمها السوري
«إيلات» مؤنث «إيل»، واسمها «العُزَّى» يعني في العربية القوية
المرهوبة الجانب، ويعادل اسم «سيخمت» الجبارة عند المصريين. أما
اسمها «مناة» فمشتق من المنية؛ أي الموت. وقد رأينا في رواية سابقة
عن قتل خالد بن الوليد للعُزى صورة باهتة قدمها الإخباريون
المسلمون عن وجه الإلهة الأسود (راجع فصل عشتار القمر). وكان العرب
يحملون صورة العُزى قائلين: ألا لنا العُزى ولا عزى لكم. فيجيب
المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. وكانوا يقدمون لها القرابين
البشرية؛ فقد ذكر مؤرخ سرياني قديم أن الملك المنذر قد ضحى للعُزى
بابن الحارث ملك غسان وقد وقع بيده أسيرًا، كما ضحى لها ببعض
الراهبات المتنسِّكات في بعض أديرة العراق.
٥٠ وجاء في أخبار أحد المؤرخين عام ٤٠٠ق.م. عن طقوس
القرابين البشرية للعزى بين عرب الشمال: أنهم كانوا يكرمون كوكب
الصبح ويخرُّون له ساجدين، ويضحُّون له بأجود أسراهم الذين أخذوهم
في الغزوات. وهم يفضلون لذلك الشباب إذا كانوا في عز الصبا وصبيحي
الوجوه، فيُعدون لهذه الغاية مذبحًا من الحجارة والصخور التي
يكومونها في انتظار الفجر، حتى إذا لاح كوكب الصبح ضربوا ضحاياهم بالسيوف.
٥١
فإذا انتقلنا من الشرق القديم نحو ثقافات الغرب، وجدنا أول تجلٍّ
لوجه الأم الكبرى الأسود في الإلهة رحيا، الأم الكريتية الكبرى
التي رأيناها أمًّا للكون وسيدة للفصول وخصب الأرض وجميع مظاهر
الطبيعة. فهي «بريتومارتيس» أي: العذراء العذبة، ومع ذلك كانت سيدة
الموت وحاكمة العالم الأسفل،
٥٢ وقد نسج الإغريق على منوالها إلهتهم «جايا» الأم ذات
الأثداء، والأرض التي ترضع كل الأحياء، أم الآلهة وأم البشر. ورغم
بقاء هذه الإلهة في الميثولوجيا الإغريقية كصورة باهتة بلا عبادة،
عقب انتصار آلهة الأوليمب على الديانة الأمومية الأقدم، فإن
تجلياتها المختلفة قد بقيت عكس وجهيها القديمين؛ وجه الحياة الأبيض
ووجه الموت الأسود.
لعل الإلهة «ديمتر» أكثر إلهات الإغريق في عصور الكتابة قربًا
إلى الصورة الأولى للأم النيوليتية. فهي الأم-الأرض، سيدة المحاصيل
وربة خصب الطبيعة. وفي عهودها الأولى، وقبل ظهور أسطورة ابنتها
بيرسفوني، كانت سلطتها تمتد إلى العالم الأسفل.
٥٣ من ألقابها كأم بيضاء «الأم العظمى» و«الأم الجبل»
و«أم الآلهة». ومن ألقابها كأم سوداء «الغضوبة» و«السوداء».
٥٤ إلا أن وجهها الأسود قد انفصل فيما بعد عن وجهها
الأبيض متمثلًا في ابنتها بيرسفوني التي غدت إلهة للعالم الأسفل
وزوجة للموت هاديس. وباختطاف بيرسفوني ونزولها إلى العالم الأسفل
يظهر القمح إلى الوجود؛ ذلك أن الموت في الأسطورة العشتارية ليس
قدرًا مظلمًا تفرضه قوى عمياء، بل هو بذرة كامنة في صميم كل حياة،
والحياة بذرة كامنة في أعماق كل موتٍ.
أمَّا أرتميس إلهة الصيد والغابات والبراري الوحشية؛ فقد عُبِدت
في بعض المدن اليونانية خارج أرض اليونان على أنها الأرض الأم. في
مدينة إفسوس الإغريقية بآسيا الصغرى نجد أرتميس العذراء الرشيقة
القد، وقد صورت في هيئة سيدة ممتلئة يندفع من صدرها عشرات الأثداء.
وكانت تماثيلها تدهن باللون الأبيض وباللون الأسود آنًا آخر (راجع
الشكل رقم
٢-١٥ فصل الأم الكبرى). منذ ولادتها
أسرعت أرتميس إلى أبيها زيوس طالبة تزويدها بقوس وجعبة سهام وصندل
يساعدها على الجري في الغابات. ثم انطلقت تجوس الأحراش وتطوف
البراري بصحبة كلابها المتوحشة. من ألقابها: «المدمرة» و«سيدة
الموت المفاجئ»، تطلق سهامها فتصيب وتقتل وترسل الأمراض الفتاكة
فتفني المواشي والسكان. وكانت تسر بالأضاحي البشرية؛ ففي إلياذة
هوميروس نجد «آغاممنون» يذبح ابنته «أفيجينيا» قربانًا لأرتميس
السوداء لتقوم بتحريك الريح أمام سفن الإغريق في طريقهم إلى
طروادة. وفي رواية أخرى للحادثة نفسها، أن الإلهة قد أنقذت
«أفيجينيا» في اللحظة الأخيرة من الذبح وحملتها إلى منطقة تاوروس،
حيث جعلت منها كاهنتها الأولى المشرفة على الأضاحي البشرية التي
تقدم هناك لأرتميس … ومنطقة تاوروس هذه كانت معروفة بالأضاحي
البشرية التي يتقرب بها العابد لأرتميس السوداء الشرهة للدماء، حيث
كان الغرباء ممن قضى حظهم العاثر الاقتراب من تلك الشواطئ
يُقدَّمون على مذبح الإلهة. وفي مناطق أخرى جرت العادة في فترات
قديمة من تاريخ الإغريق على تقديم عددٍ من الفتيان قربانًا لأرتميس
كل خمس سنوات، ثم استبدل طقس القرابين بطقس الجلد بالسياط أمام
تمثال الإلهة، فكان الشبان يساقون في مناسبات معينة إلى معبد
أرتميس حيث يتم جلدهم بقسوة أمام تمثال الإلهة المحمول من قبل
كاهناتها على محفة خاصة. وكان وزن التمثال، كما تروي الأخبار،
يزداد ثقلًا إذا توانى المكلفون بالجلد عن أداء مهمتهم على الوجه الأكمل.
٥٥
إن الوجه الأسود لأرتميس لا يتجلى بشكله الكامل إلا تحت اسمها
الذي استقطب كل خصائصها السوداء، وهو أرتميس-هيقات سيدة الموت
والظلام وعالم السحر والأشباح. تشترك هيقات مع الإلهة بيرسفوني
باسم الأب «بيرسيس». كما تظهر في النصوص والطقوس السرية الديمترية
مرتبطة بالإلهة ديمتر؛
٥٦ مما يشير إلى كونها شكلًا من أشكال الإلهة بيرسفوني نفسها.
٥٧ من ألقابها: «القهارة» و«بريتانيا» سيدة الموت التي
ترسل عفاريتها إلى الأرض لتعذيب الرجال. وتظهر في الليل بموكب مرعب
مصحوبة بحشدٍ من شيطاناتها وكلابها المتوحشة، فتجوس المناطق
المحيطة بالمقابر، وتظهر عند تقاطع دروب السفر، حيث كان الإغريق
والرومان ينصبون صورتها المثلثة، ويقدمون لها الأضاحي لاسترضائها
وكف غضبها. من شاراتها المفتاح الذي يرمز للتكاثر والتناسل؛ لأنها
إلهة للميلاد ولغروب الحياة في آنٍ معًا.
٥٨ ولما كانت هيقات إلهة قمرية، فإن الأعمال التشكيلية قد
مثلتها في هيئة مثلثة (الشكل رقم
٧-٤). هذا
وقد بقي اسم هيقات مرتبطًا بالسحر وطقوس الظلام في الفلكلور والأدب
الأوروبي إلى فترات متأخرة من العصور الحديثة. نقرأ في مسرحية
ماكبث لشكسبير على سبيل المثال: «… في هذه الساعة، تهدأ الطبيعة في
شطر من شطرَي هذه الكرة هدوء الموت، وينخدع النيام بأحلام سيئة
تخامرهم في مضاجعهم. في هذه الساعة تقدِّم الساحرات للهرة الصفراء
الجنية هيقات قربان الظلام.»
٥٩
وقد كان للإلهة أفروديت التي احتفظت لنفسها بمعظم الخصائص اللينة
للأم الكبرى، وجهها الأسود أيضًا. فأداتها التي تزرع بواسطتها الحب
في قلوب البشر هي نفس السهام التي تؤدي إلى التهلكة. وقد عُبِدت في
إسبرطة وقبرص كإلهة للحرب والمعارك، وصُوِّرت في عدة الحرب الكاملة.
٦٠ كما عُبِدت كإلهة للموت تحت اسم «أفروديت المقابر».
٦١ ويجب أن نلاحظ فيما يتعلق بأفروديت أيضًا أن كل
خصائصها الدنيوية كإلهة للحب ومتع الجسد لم تحجب ذكراها القديمة
كأم كونية. وها هي تقول عن نفسها في أسطورة إيروس وسايكي، كما
رواها «أبوليوس»: أنا الأم الكونية ومصدر العناصر الخمسة …
٦٢
إلى جانب هذه الأشكال الرئيسية لتجليات الأم الكبرى السوداء، فإن
الميثولوجيا الإغريقية زاخرة بأشكال إلهية ثانوية تنتمي إلى ذات
الطاقة الأنثوية التدميرية. من هذه الأشكال: الإلهة البحرية
المرعبة «سكيلا» ذات الرءوس السبعة والأسنان الحادة، التي كانت
تكمن عند الشاطئ بين سلاسل الصخور البحرية، فإذا مرت بها سفينة مدت
أعناقها الطويلة والتهمت بكل رأس بحَّارًا. وقد فقد أوديسيوس بعض
رجاله عند مروره قرب شواطئها.
٦٣ وصوَّرتها الأعمال الفنية الرومانية بطريقة مختلفة،
فنراها على هيئة امرأة جميلة لها ثلاث سيقان على شكل كلاب ضارية،
ويتعلق بوركيها أفعوانان بحريان خرافيان، وترفع بيدها سلاحًا
ماضيًا فتاكًا (الشكل رقم
٧-٥). ومثل «سكيلا»
أيضًا الإلهة «كاربيديس» ابنة الأرض جايا والبحر بوسيدون. كانت
«كاربيديس» سيدة الدوامات المائية التي تسحب السفن نحو الأعماق،
كما كانت سيدة الأمواج تقبع في أعماق المحيط وتبتلع الماء في جرعات
هائلة ثلاث مرات في اليوم، ثم تعيده ثانية من جوفها، مسببة الأمواج
العاتية التي تضرب شواطئ اليابسة.
٦٤
وإلى ذات الطبيعة الأنثوية المائية ينتمي «السيرينيات»، وهن
جنيات متعطشات للدماء كنَّ يسكنَّ جزرًا اسمها «سيرين». صورتهن
الأساطير والأعمال التشكيلية على هيئة نساء برأس آدمي وجسد طائر،
أو على هيئة نصفها آدمي ونصفها الآخر سمكي. وكنَّ ذوات صوت عذب
وأغانٍ ساحرة ينشدنها على أنغام القيثار والفلوت، فتجذب إليها
السفن العابرة، وينقاد الرجال نحوهن دون وعي أو إرادة ليلقوا
مصيرهم الأسود، ويتحولوا إلى عظام نخرة تتجمع أكوامًا على شواطئ الجزيرة.
٦٥ وقصة أوديسيسوس في الأوديسة مع السيرينيات معروفة،
عندما سد آذان بحارته بالشمع، وطلب منهم ربطه إلى سارية السفينة،
ليستطيع سماع السيرينيات دون أن يكون قادرًا على الفكاك والانقياد
لسحرهنَّ.
كما تبدو القوة العشتارية المدمرة في هيئة إلهات ثلاث، هنَّ
استمرار للأم القمرية المثلثة. وقد عرفت الميثولوجيا الإغريقية
عددًا من هذه الثواليث؛ منها الإيرينيات الثلاث، ربات الانتقام
اللواتي ولدن من الأرض جايا بعد أن أخصبتها دماء أورانوس الذي خصاه
ابنه كرونوس وارتقى مكانه عرش الأوليمب. من ألقابهنَّ: «كلبات
الجحيم» و«بنات الليل الأبدي». وكنَّ إذا وقعت جريمة تواجدن في
مكانها بلمح البصر وقد تحول شعرهنَّ إلى أفاعٍ وتسلَّحن بالمشاعل
والسياط، فيطاردن المجرم حتى يطلنه ويرسلنه إلى الجحيم، حيث يتابعن
مهمة تعذيبه هناك.
٦٦ وفي الحقيقة، يبدو أن الإيرينيات لسن إلا تجريدًا لبعض
خصائص الإلهة ديمتر، يدلنا على ذلك نشوء أسطورتهنَّ الأولى في
أركاديا حيث كانت ديمتر تُعبد تحت اسم ديمتر إيريني، ومنه اشتُق
اسم الإيرينيات.
٦٧ وتظهرهن بعض الأساطير كمساعدات لبيرسفوني إلهة العالم
الأسفل، لا يمكن لإله أو بشر قهرهنَّ طالما بقيت على الأرض جريمة
تستحق العقاب.
٦٨ وإلى جانب ذلك كانت الإيرينيات بنات الظلمة التحتية،
والقوة الباطنية التي تولِّد الحياة من أعماق الأرض وتعطي الغذاء.
فهنَّ كأمهن الأرض جايا، يتحركن بين القطبين الناظمين لحركة
الوجود؛ قطب الميلاد وقطب الفناء.
٦٩
ومن الثواليث المرعبة
الجورجونات الثلاث: «ستينو، وإيريالا، والميدوزا»، الأخوات اللواتي
تنبت الأفاعي من رءوسهن بدل الشعر، ويتدلى لسانهنَّ الطويل خارج فم
ذي أنياب حادة، ولهنَّ أذرع من معدن البرونز، وأجنحة من الذهب.
كانت نظرتهن تحوِّل كل حركة إلى سكون، وإذا وقعت أبصارهنَّ على
بشرٍ صار حجرًا جامدًا لا حياة فيه. وقد قام البطل الأسطوري
«بيرسيوس» بقتل الميدوزا كبيرتهنَّ، واجتث رأسها في صراع دامٍ
تفادى خلاله نظراتها بأن جابهها وهو ينظر إلى انعكاس صورتها على
ترسه اللامع.
٧٠ وكان للجورجونات أخوات ثلاث أيضًا اسمهن: الخوف والرعب
والهلع، يعشن على شاطئ الغرب الأقصى عند حدود الليل ومملكة الموت.
٧١ إن نظرة الجورجون التي تحول الرجال إلى حجارة هي نظرة
الموت التي توقف جريان الحياة فتعيده إلى سكون الفناء، وتُذكِّرنا
بنظرة الموت التي ركزتها إنانا السومرية على تموز فأرسلت به إلى
درك الجحيم. أمَّا لسان الجورجون الممتد خارج الفم؛ فهو رمز
لدينامية طاقة الفناء المقابلة لطاقة الحياة عند الأم الكبرى؛ فهو
دائم الحركة لالتهام مظاهر الحياة، وإعادتها إلى أعماق الصمت
والسكون عبر الأسنان الحادة التي تحيل المادة الحية إلى مادة
متحللة.
يقدم لنا الفن الإغريقي حشدًا من الرسوم والمنحوتات التي تمثل
الجورجون في أوضاع ومشاهد مستوحاة من الأسطورة. في إحدى المنحوتات
البارزة، نراها جالسة على الأرض تحيط بها أفعى هائلة، وقد فتحت
ذراعيها اللتين يتعلق بكل منهما أسد يشب على قائمتيه الخلفيتين،
وباعدت ما بين ساقيها. وهذه الجلسة تُذكِّرنا بجلسة عشتار البغيِّ
المقدسة التي رأيناها في الشكل رقم (
٦-٥)
والشكل رقم (
٦-٦) من فصل البغيِّ المقدسة؛ فكل
ما في وضعية الجورجون هنا يقابل وضعية عشتار، ولكنه نقيض له في
الوقت نفسه؛ فالعينان متسعتان جاحظتان، والفم مفتوح يتدلى منه
اللسان الطويل، والنهدان متدليان حتى البطن دلالة العقم والجفاف.
أما الذراعان اللتان تفتحهما عشتار البغيُّ المقدسة للعناق، فإن
الجورجون تفتحهما من أجل الخنق والقتل، ويتعلق بهما الأسدان إشارة
للطاقة الافتراسية العمياء، والساقان اللتان تباعدهما عشتار مبرزة
عضوها الجنسي المرسوم بدقة رمزًا لطاقة الحياة دافع الجنس، فإن
الجورجون تباعدهما عن مساحة سوداء غير متمايزة وهوة لا قرار لها،
رمزًا للطاقة المعكوسة التي تسترد إلى الرحم كل ما صدر عنه من
حياةٍ.
إن هذا الرمز الجنسي للوجه الالتهامي للأم الكبرى لتعبر عن
أساطير الأقوام البدائية الحديثة بطريقة أكثر مباشرة؛ ففي بعض
التماثيل الأنثوية الأفريقية نجد فرج المرأة وقد افترَّ عن أسنان
قاطعة. وهذا التمثيل كان معروفًا في حضارة الأزتيك في أمريكا
الوسطى فيما يتعلق بالأم الكبرى السوداء. وفي بعض أساطير الهنود
الحمر في أمريكا الشمالية، نجد أن سمكة مقدسة شرسة تسكن فرج الأم السوداء.
٧٢ ولدى قبائل الهنود الحمر في نيو مكسيكو، تقول
الأسطورة: إن أول نساء ظهرن إلى الوجود كنَّ أربع نساء كل واحدة
منهنَّ على شكل فرج ذي أسنان قاطعة، له رأس وأطراف. وعندما سمع
الرجال بوجودهنَّ جذبهم إليهن الدافع الجنسي فتقاطروا إلى بيتهنَّ.
غير أن الداخل إلى ذلك البيت لم يكن يرجع منه إلى صحبه؛ لأنهنَّ كن
يعانقن الرجال ثم يلتهمنهم في غمرة الفعل الجنسي، الأمر الذي أثار
حيرة الرجال وخوفهم دون أن يستطيعوا منع أنفسهم عن قصد ذلك البيت.
إلى أن أتى يوم تصدى فيه شاب جريء لكشف لغز السنوة، فدخل عليهنَّ،
واقتلع الأسنان من فروجهن فحولهنَّ إلى نساء عاديات.
٧٣
وعندما نتحدث عن القوة الأنثوية المدمرة في الميثولوجيا
الإغريقية لا ننسى «باندورا» المرأة التي لعبت في الأسطورة
اليونانية دورًا مشابهًا لدور حواء في الرواية التوراتية. فعندما
عهد الإله زيوس إلى الإلهين بروميثيوس وأخيه أبيميثيوس بخلق
الحيوان والإنسان، قام أبيميثيوس بوهب الحيوان كل ما وهبه برميثيوس
للإنسان. وهنا أعطى بروميثيوس النار للبشر إعلاء لشأنهم، ولكن زيوس
سحبها منهم؛ مما دفع بروميثيوس إلى اقتحام السماء وسرقة شعلة من
النار لإعطائها للبشر ثانية. وهنا قرر زيوس الانتقام من بروميثيوس
ووضع حدٍّ لطموح البشر، فطلب من الإله هفستوس أن يصنع امرأة من
طين، وطلب من بقية الآلهة أن يهدوها صفات وخصائص متميزة؛ فخرجت آية
في الجمال والروعة. ثم إن زيوس أعطاها صندوقًا لتحتفظ به شريطة ألا
تفتحه أبدًا، وقدمها هدية لبروميثيوس وأخيه. رفض بروميثيوس قبول
باندورا، أمَّا أخوه فرحب بها وتزوجها. وعندها تاقت باندورا إلى
فتح الصندوق، وما إن رفعت غطاءه حتى انطلقت منه كل شرور العالم، من
أوبئة وأمراض وكوارث وما إليها مما ابتليت به البشرية إلى يومنا
هذا. وعندما أفلحت باندورا في إغلاق الصندوق، لم يكن قد بقي فيه
إلا شيء واحد هو: الأمل. وقد تابع زيوس انتقامه من بروميثيوس بأن
ربطه إلى قمة جبل وسلط عليه صقرًا ينهش كبده كل يوم، وبقي على هذه
الحال حتى قام هرقل بفك قيده وتخليصه من لعنة كبير الآلهة.
٧٤
فإذا تابعنا رحلة الأم الكبرى غربًا حتى شواطئ الأطلسي في العالم
القديم، إلى مواطن الثقافة السلتية في جنوب بريطانيا وفرنسا
وإسبانيا، وفي أيرلندا التي تتحدث أساطيرها عن قدوم السلت من الشرق
الأدنى القديم عبر إسبانيا،
٧٥ التقينا بالوجه الأسود للأم الكبرى، متمثلًا في الإلهة
الثلاثية «بريجيت»، التي عرفنا وجهها الأبيض كأم قمرية وأم الآلهة
وسيدة الخصب والنار. فكانت بريجيت في طورها الأسود تُدعى ﺑ «آنو
السوداء» ملتهمة البشر التي تضرب الرجال بالجنون، وكانت الأضاحي
البشرية تقدم على مذبحها باستمرار.
٧٦
إذا انتقلنا من الشرق الأدنى القديم إلى القارة الهندية التي
ازدهرت فيها ثقافة العصر البرونزي، فيما بين أواسط الألف الثالث
وأواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وفي توقيت متزامن مع ازدهار
الثقافة البرونزية في كريت وبحر إيجة، بتأثير النبضات الحضارية
الأولى في سوريا وبلاد الرافدين،
٧٧ نجد عشتار السوداء في أبهى تجلياتها تحت اسم «كالي»
الأم الهندية الكبرى ذات الأسماء المتعددة. فتحت اسم «برافاتي»
نجدها امرأة شابة فاتنة تطارح زوجها «شيفا» الغرام. وتحت اسم
«دورجا» نجدها إلهة للحرب على هيئة امرأة ذات وجه هادئ وأذرع عشر،
تحمل بكل ذراع منها سلاحًا فتاكًا. وقد تصدَّت تحت هذا الاسم
لعملاق خرافي هدد كل الآلهة فتغلبت عليه وحدها. وتحت اسم «كالي-ما»
أي: الأم السوداء، تصدت لجيش العفاريت وأبادته عن آخره عدا قائده
الذي كانت كل قطرة تسيل منه تتحول إلى ألف عفريت جديد، فما كان
منها إلا أن شربت دماءه كلها ورمته جثة جامدة، وراحت ترقص بجنون
حتى زلزلت الأرض تحت قدميها، وكادت تميد بالبشر والآلهة. وعندما
حاول زوجها شيفا التدخل لتهدئتها لم تستطع تمييزه في نشوتها
الدموية، فألقته بين جثث العفاريت ووطئت جسده بقدميها. من أسمائها
أيضًا «ساختي» ذات الجبروت و«بهارافي» المرعبة و«أمبيكا» الخلاقة
و«ساتي» الزوجة الطيبة، و«ساتي» المتألقة و«دورجا» التي لا يمكن
الاقتراب منها.
٧٨
يعتبر معبد كالي من أكثر
المعابد دموية عبر التاريخ؛ فمنذ أواسط القرن التاسع عشر بدأت طقوس
القرابين البشرية للإلهة كالي بالاختفاء تدريجيًّا حتى زالت اليوم.
إلا أن كمية القرابين الحيوانية التي كانت تقدم لها، تجعل من
معبدها مكانًا أقرب إلى بيت لذبح الماشية منه إلى معبدٍ. ففي عيدها
السنوي في كلكتا، يذبح الحجاج تحت قدميها ما يقارب الثمانمائة رأس
من الماشية، واهبين دماءها للإلهة التي وهبت كل حي دمه، ويكومون
الرءوس في أهرامات عالية أمام تمثال الإلهة، ثم يعود كل منهم ببقية
الذبيحة إلى بيته ليقيم الوليمة المقدسة. وقد جرت العادة في الماضي
القريب أن يقام المذبح وسط باحة رملية عميقة، حتى إذا تشبعت الرمال
بالدماء، رُفعت ومُلئت الباحة برمال جديدة، وكانت عملية تبديل
الرمال تتم مرتين في كل يوم من أيام عيدها السنوي، وتؤخذ الرمال
الدامية إلى الحقول حيث تمزج بالتربة من أجل إخصاب الأرض وزيادة المحصول.
٧٩
تظهر تماثيل الإلهة كالي خصائصها الدموية ووجهها الأسود بطريقة
لا يمكن لأي نص مكتوب أن يعبر عنها. تبدو في إحدى المنحوتات
البارزة بوجه مفزع أقرب إلى وجوه الجثث، بعيون جاحظة وفم مشدود
متقلص ينفتح عن فجوة مظلمة، وتضع في أذنيها قرطًا من جثث الموتى،
وفي عنقها طوقًا من الأفاعي الملتفة، وفي وسطها حزامًا من الجماجم.
وفي منحوتة أخرى نراها في هيئة مشابهة وقد جلست القرفصاء فوق جثة
مفتوحة البطن تأكل من أمعائها. وفي الثالثة يتدلى لسانها الطويل
خارج فمها ليصل إلى بطنها في هيئة تُذكِّرنا بالجورجون الإغريقية.
وفي أحد التماثيل، تبدو منتصبة فوق جسد شيفا المسجى على الأرض، في
هيئة امرأة سوداء داكنة البشرة، مكتنزة الجسم ناهدة الصدر، تكشر عن
قواطع حيوانية تبرز خارج فمها، وتزين عنقها بإكليل من رءوس الرجال
المقطوعة، ووسطها بحزامٍ من أذرع بشرية. أمَّا أذرعها الأربعة
فبواحدة ترفع سيفًا هائلًا وبأخرى وعاء تشرب به الدماء، وتضم إليها
قبضة الثالثة إظهارًا للقوة، وتبسط الرابعة لتلقي صلوات
البشر.
يقدم لنا نص من أواخر القرن التاسع عشر مكتوب بيد كاهن كالي
الأكبر، صورة حية عن الوجوه المتعددة لهذه الأم الكبرى: «كالي هي
الزمن الجليل، كالي هي الزمن السرمدي، كالي هي الإلهة السوداء. قبل
الوجود وقبل الشمس والقمر والنجوم والأرض، عندما كان وراء الظلام
ظلام، وحدها كانت كالي. واهبة العطايا والخيرات هي، ومصدر الخوف
والرعب هي. هي الإلهة الحامية في أزمان الشدائد والمصائب وكوارث
الزلازل والطوفان والأوبئة، وهي القوية ذات البأس سيدة الدمار.
مسكنها عند محارق الموتى تحيط بها الأشباح الأنثوية المخيفة. من
فمها يفيض تيار من الدم، ومن عنقها يتدلى عقد من الرءوس، وفي وسطها
حزام من الأيدي البشرية. بعد خراب العالم في نهاية الدورة الكونية
العظمى، تقوم الأم كالي بزرع بذور الحياة من جديدٍ، وتُخرج إلى
الوجود عالم المظاهر المتنوعة. هل هي سوداء إلهتي كالي؟ إنها
سوداء، عن بعد، ولكنها بيضاء لمن عرفها عن قرب. وبها يجد البشر خلاصهم.»
٨٠ وهكذا تربط كالي، العشتار القائمة في عالم اليوم،
ديانة العصر النيوليتي بإحدى أكبر ديانات العصر الحديث.
إذا عبرنا المحيط نحو العالم الجديد وجدنا أنفسنا مرة أخرى على
أرض مألوفة، حيث الأم الكبرى الكونية ذات الوجهين الأبيض والأسود،
تحكم السماء والأرض في ميثولوجيا حضارة الآزتيك تحت أسماء وتجليات
متعددة، كما هو شأنها في ميثولوجيا شعوب العالم القديم. ففي
المكسيك، نجد الأم الكبرى تحت اسم «أم الفتح» و«قلب الأرض» و«أم
الآلهة». وكإلهة كونية نشأت عنها مظاهر الوجود المختلفة نجدها تحت
اسم «الأم القديمة». كانت إلهة للمتع الجسدية وإلهة للخلق المتجدد
وخصب الطبيعة. وكانت أيضًا القمر وكانت الأرض. وفي شكلها كإلهة
للغرب، كانت سيدة للموت وللعالم الأسفل، لباطن الأرض المظلم الذي
يصرخ دومًا من أجل مزيد من الدماء وقلوب الضحايا، ليستطيع
الاستمرار في دفع الخيرات نحو ظاهر الأرض. لم تكن تكتفي بجثث
الأحياء، بل كانت تبتلع أيضًا الشمس كلما مالت نحو بوابة الغروب،
والنجوم عندما تأفل. يرافقها ويعينها حشد من أرواح الظلام الأنثوية
التي تتوسط بين قوى الغرب البدئية والعالم القائم، وتجمع في
تركيبها بين جوهر الميلاد وجوهر الفناء. وفي منتصف النهار، تصعد
هذه الأرواح إلى خط السمت فتجذب الشمس إلى مقرها عند بوابة الأفول.
وفي اليوم الأخير عندما تدنو نهاية العالم تنتشر لالتهام الجنس البشري.
٨١
تمثل الأعمال الفنية التشكيلية إلهة الآزتيك في طورها الأسود،
وقد ارتدت عباءة من جلود الأفاعي، تقبض على خنجر من حجر الصوان
المقدس وقد نبتت من أصابعها مخالب النمر، وبرزت أسنان فكيها العلوي
والسفلي نحو الخارج من فمها المفتوح. ومثلها الأم الكبرى لحضارة
المايا في الجنوب «أكشيل» التي كان من أسمائها «امرأة القمر»
و«امرأة البحر» و«سيدة الظلمتين»: ظلمة السماء المعتمة، وظلمة
أعماق المحيطات. رمزها الجرة الفخارية المقلوبة التي تشير إلى
الهلاك والدمار، بعكس الجرة الفخارية المستوية التي تشير في يد
الأم الكبرى إلى الخلق والعطاء. نراها في طورها الأسود (الشكل رقم
٧-٦) على هيئة عجوز شمطاء تمسك جرتها
المقلوبة، وعلى رأسها أفعى هائلة فاغرة فاها.
٨٢
وأخيرًا، تشكِّل حواء في التوراة بديلًا عن الأم الكبرى السوداء
سيدة الموت، فهي التي ابتدأت الموت في الوجود، وبغلطتها الأولى
جرَّت كل ذريتها إلى باطن الأرض وظلمة العالم الأسفل، ولذلك تُدعى
في اللاهوت المسيحي ﺑ «أم الموتى». ولم تُرفع اللعنة التي جرَّتها
خطيئتها على البشر إلا بظهور السيدة مريم، حواء الثانية، التي قدمت
للبشر خلاصًا من الموت. نقرأ للقديس غزيناوس: «أن البشرية المحكوم
عليها بالموت بسبب عذراء، قد خُلِّصت بعذراء أخرى …»
٨٣ كما نقرأ للقديس أوغسطينوس: «كانت حواء الأولى أم
الأموات فصارت حواء الجديدة أم الأحياء. خاطب ملاك الظلمة حواء
الأولى ولكن مريم خاطبها ملاك النور. دعا ملاك الظلمة حواء إلى
الثورة على الله، ولكن ملاك النور دعا مريم إلى طاعته. حواء الأولى
قدمت لنا الثمرة المميتة، أما مريم حواء الجديدة فمنحتنا ثمرة
أحشائها يسوع المسيح رب القيامة والحياة.»
٨٤ وللقديس الشهيد يوستينوس نقرأ: «نحن ندرك أن المسيح
صار إنسانًا عن طريق عذراء حتى ينتهي التمرد الذي دفعت إليه الحية
بالطريقة نفسها التي بدأ بها. والحقيقة أن حواء العذراء إذ حبلت
بكلام الحية ولدت التمرد والموت، أما العذراء مريم فقد حملت
إيمانًا وفرحًا، حين بشرها الملاك جبريل بأن روح الرب يحل عليها
وقوة العلي تظللها، حتى إن المولود منها يكون ابن الله.»
٨٥
ورغم أن السيدة مريم العذراء، تبدو في كل النصوص المسيحية أمًّا
بيضاء، فإن الخيال الشعبي الذي رفعها أمًّا كبرى قد أعطاها وجهًا
أسود، شأنها في ذلك شأن كل أم كبرى عبدها البشر. ففي أوروبا نعثر
على كثيرٍ من تماثيل العذراء وقد صنعت من مادة سوداء، أو طليت
باللون الأسود تمامًا، وتُدعى هذه التماثيل بماري السوداء، وتلقى
من التقدير ما لا تلقاه تماثيل ماري البيضاء، حيث يسود الاعتقاد
بالقوة الغامضة لماري السوداء وقدرتها العجيبة على إتيان المعجزات.
من أشهر هذه التماثيل التمثال الموجود في كنيسة نوتردام دي لاكورنس
بأورليانز، والذي يحمله الناس في أوقات الشدائد والمصائب ويطوفون
به الشوارع. والتمثال الموجود في كنيسة نوتردام دي مونسيرات الذي
يصور العذراء وابنها وقد طليا باللون الأسود. هذا ويربو عدد مزارات
ماري السوداء في أوروبا عن المائتي مزار.
٨٦ تنسج تماثيل ماري السوداء على منوال تماثيل إيزيس
السوداء وابنها حورس، والتي كانت معروفة في مصر وفي روما بعد
انتقال عبادتها إلى هناك. ولربما نشأت مزارات ماري السوداء في
الأصل حول مزارات أقدم منها كانت مخصصة لإيزيس.
٨٧
عندما انهارت الديانات العشتارية وارتفع على أنقاضها آلهة الشمس
الذكور، فاحتكروا وجه الألوهة الأبيض ورموا بوجهها الأسود للأبالسة
والشياطين، تحللت صورة عشتار السوداء الجليلة، وتفتتت إلى صور
مبعثرة مبتذلة يلوكها الخيال الشعبي، ويعجنها على طريقة الحكايا
الفولكلورية. ففي الغرب هي الساحرة العجوز الشمطاء التي تركب عصا
المقشة طائرة في الهواء. وفي بلادنا هي «النهالة» مصاصة الدماء،
وهي «السِّمَّاوية» خاطفة الأطفال، وهي «الغولة» آكلة البشر التي
احتفظت بلقب «الأم» حيث يشير إليها الناس دومًا على أنها أمنا
الغولة.