لعبت المرأة دور المعلم الأول في تاريخ الحضارة؛ فالمرأة أكثر حسًّا
بالخفي والماورائي من الرجل، وأكثر منه تدينًا وإيمانًا بالقوة
الإلهية، وأكثر شفافية روحية. فبينما يتجه عقل الرجل للتعامل مع ظواهر
المادة، تتجه نفس المرأة إلى تحسس العوالم الروحانية وتلمس القوى
الباطنية؛ مما جعلها الكاهنة الأولى والعرافة الأولى وناطقة الوحي
الأولى، في المجتمع الأمومي القديم القائم على حق الأم وسيادة المرأة
الاجتماعية وسلطان عشتار الكونية. لذلك تأنست المرأة قبل الرجل وقادته
بيده من إيقاع المادة الرتيب إلى ملكوت الروح الإنسانية الرحيب. إن
العلاقة بين إنكيدو رجل البراري المتوحش في ملحمة جلجامش، والمرأة التي
روضته، هي نموذج أسطوري لما تم بالفعل عند جذور التاريخ والممارسة
الجنسية التي تمت بينهما، والتي كشفت بصيرة إنكيدو فجعلته حكيمًا
عارفًا، وأبعدت عنه رفاق الأمس من الحيوان، لم تكن باللعبة الجنسية
التي يمارسها الإنسان كل يوم، بل كانت رمزًا للكدح الذي بذلته المرأة
من أجل أن تكشف للرجل العوالم التي اكتشفتها قبله، وجذبه من دارة الجوع
والشبع المغلقة، التي يشترك فيها مع الحيوان، إلى دارة الجمال المفتوحة
على الأبدية.
كانت الديانات النيوليتية في
المستوطنات الزراعية الأولى من خلق النساء، وكانت المرأة كاهنة الأم
الكبرى وقيِّمة على طقوسها وشعائرها. وتشير البيِّنات الأركيولوجية إلى
أن وظيفة الكهانة كانت وقفًا على النساء، رغم عدم إمكاننا أن ننفي
تمامًا وجود كهنة من الذكور.
١ ويغلب الظن، أن بعض الذكور كانوا يلعبون دورًا مساعدًا لا
دورًا رئيسيًّا في المؤسسة الدينية النيوليتية. وقد كان لمكانة المرأة
الدينية أثر كبير في دعم مكانتها ونفوذها في المجتمع، وتعزيز موقفها
أمام الرجل الذي بقي خاضعًا لها ما دامت ممسكة بمفاتيح قوة الغيب،
وجعلها لآجال طويلة في موقف المتفوق على قوة الرجل الجسدية، المروض لها.
٢ ورغم تمكن الرجل، بعد صراع طويل، من السيطرة على المؤسسة
الدينية، ورفع آلهته الذكور الذين أعطوه وظيفة الكهانة، فإن هذه
الوظيفة قد استمرت وقفًا على النساء في بعض الديانات العشتارية، كما هو
الحال في عبادة أرتميس، وديانا، وهستا-فيستا. أما في العبادات
العشتارية التي شارك الرجل في مهام كهنوتها فإن شرائعها كانت تقضي بأن
يلغي الكاهن ذكورته ويخصي نفسه تشبهًا بالكاهنات اللواتي احتكرن خدمة
الآلهة منذ فجر الديانات. كما كان على الكهان أن يلبسوا ملابس النساء
التي تنقل لهم قوى وخصائص الجنس الآخر. هذا وما زالت عادة ارتداء ملابس
النساء قائمة لدى الكثير من كهان وعرَّافي القبائل البدائية الحديثة،
الذين يعتقدون بقدرة هذه الملابس على خلق مناخ ملائم للاتصال مع القوى الخفية.
٣ وإلى جانب الملابس، احتفظ الكهان الذكور بأسماء نسائية
أيضًا تشير إلى سيطرة النساء القديمة على الحياة الروحية؛ فلدى بعض
القبائل الأفريقية يحمل كبير الكهنة اسم «المرأة القديمة»، ويشار إليه
بضمير المؤنث هي.
٤ وفي ثقافة الآزتيك في أمريكا الوسطى، نجد إلى جانب الملك
مساعدًا يحمل اسم «المرأة الأفعى»، وهو موكل بالشئون الدينية.
٥
لقد كانت سيطرة المرأة على الحياة الدينية سيطرة على عالم يموج
بالأسرار والخفايا. فإلى جانب المستوى الطبيعي للديانة العشتارية، الذي
تعطي عشتار عنده ثمار الأرض، وخيرات الطبيعة، هناك المستوى السراني
الذي تعطي عنده الأم القمرية، راعية الليل، ثمار الروح. في المستوى
الأول، هي أم القمح تهب أهل الظاهر قوت يومهم، وفي المستوى الثاني هي
أم الخمر التي تهب أهل الباطن قوت قلوبهم، وتفتح بصائرهم على حكمة
الليل. فعند الخمر والمستحضرات المخدِّرة المستخلصة من النباتات، ينقلب
الطبيعي والمادي إلى روحاني علوي، وتضع عشتار سرها كسيدة لعالم الضوء
وعالم العتم في آنٍ معًا؛ عالم الطبيعة وعالم الروح. وقد كشفت سرها هذا
للمرأة في مراحل الحضارة البشرية الأولى، عندما كانت المرأة تخزن
الثمار وتبحث عن الجذور والأعشاب، وتم على يديها لأول مرة تحويل نتاج
الأرض إلى وسط ناقل إلى مستويات الروح. ففي نشوة الخمر وتهويم المخدر،
نموذج لكل ما ستنتزعه المرأة من أعماق الظلام؛ من شعر وفن وعرفان
وإلهام ومعراج واستنارة.
ولكن انطلاق الروحاني من
المادي، ليس قطيعة عن الطبيعة وذوبانًا في نيرفانا إلهية تنكر كل رابط
أرضي؛ لأن روحانية المرأة، على عكس روحانية الرجل، تنطلق من المادي
وتبقى مخلصة له. إن كل تصعيد لديها يبدأ من حركة الجسد الدينامي، لا من
حركة الذهن المجرد، والعقل التأملي البارد. وكل ارتقاء نحو الأعلى يبدأ
في نزول نحو عتمة النفس، عن طريق الرقص والموسيقى والمسكر والمخدر
والجنس. ولعلنا واجدون في العبادات والطقوس الديونيسية، التي شكَّل
النساء سواد أتباعها، أوضح تعبير عن هذا الاتجاه الذي يتوسل إلى الروحي
بالمادي، وإلى سكون النفس بصخب الجسد. لذا كان ديونيسيوس، بحق، إلهًا
للنساء، قدم لهن في فترات الضياع المتأخرة إطارًا دينيًّا استوعب تصوف
الجنس الأنثوي، فأعاد إليه حرارة الأيام القديمة. فهو إذ يحرض طاقة
الجسد الحبيسة، ويجلو حسية الأعضاء واضعًا الكيان العضوي في مساره
الصحيح كظاهرة طبيعية، إنما يدفع في نفس الوقت إلى تجاوز حركة الجسد
الظاهرة نحو أسرار الطبيعة الخافية التي لا يستطيع العقل إلا أن يمس
أطرافها. ففي البدء لم يخرج الكون من لجة العماء بواسطة العقل، بل
بحركة الجسد. وعشتار لم تخلق مظاهر الطبيعة بكلمتها، بل بتحول جسدها
الذي نشأت عنه السماوات والأرض. إن حركة الطبيعة، جسد الأم الكبرى،
لتستوعبها حركة الجسد الإنساني لا سكونية العقل. وما يقوم به دراويش
المتصوفة اليوم من رقص دوراني على إيقاع الموسيقى، ليصلنا بالتصوف
العشتاري القديم، حيث يستنير الجسد بأنوار الرحمن وهو في ذروة أفراحه
الأرضية.
سيدة الحكمة
تدعو الشمس إلى التفكير المنطقي الصاحي، أما القمر فهو سيد
الإلهام الذي يهبط دون تصميم أو تدبير. لذلك يتلمس الرجل طريقه
للمعرفة بالتأمل العقلي المنطقي، أما المرأة فتتلمس طريق الإحساس
الباطني والغريزة والكشف القلبي. طريقان لفاعلية العقل، أطلق
عليهما التصوف الإسلامي اسم المعرفة للأول والعرفان للثاني. تسير
المعرفة بخطًى بطيئة من المقدمات إلى نتائجها؛ أما العرفان فيضيء
النفس في ومضات تشتعل وتنطفئ، كأنما تصدر عن تماس مع قوة خفية
إلهية عبر قناة صافية مباشرة؛ قوة رآها الأقدمون في عشتار الحكمة
الأنثوية الخالدة.
عشتار هي أصل الكون، مبدأ الأشياء، عماد الحياة. هذا ما يعرفه
عنها العموم، وعند هذا الحد يتوقف سعيهم. السير وراء هذا التخم
دخول في منطقة محرمة موصودة في وجه الكثرة، مغلقة أمام الباحثين
بالعقل عن الأصول ونظام الأشياء؛ لأن مثل هذا السير رحلة عرفانية
يطرح الشارع فيها خلفه كل المعارف السابقة وأدوات الفهم المبذولة
للجميع. يغتسل من صحو النهار ويقظة العقل، ليدخل في ملكوت الليل
فيهبط مدارج النفس التي تقود إلى مركز السر الأعظم، فإذا آب المريد
من رحلته سالمًا غانمًا، دخل في ثلة العارفين، وإلا بقي مع
العابدين المحجوبين.
في شكلها كإلهة للحكمية الأنثوية، تتخذ عشتار ألقابًا شتى؛ فهي
«آنتيا» أي سيدة الرؤى، وهو لقب عرفت به كلٌّ من سيبيل، وأرتميس-هيقات،
٦ الإلهة المرعبة السوداء وسيدة الظلام وواهبة الحكمة للبشر.
٧ وهي «معات» أي: سيدة الحقيقة عند المصريين.
٨ وهي سيدة النبوءة التي تتحدث بلسان عشتار البابلية
فتقول: «بكل اكتمالي أتجلى فأعطي النبوءات للبشر.»
٩ وعند الإغريق هي «صوفيا» ومنها جاءت كلمة (فيلو-صوفيا)
أي: حب الحكمة التي أطلقت على الفلسفة بمعناها المعروف فيما بعد.
يصور عمل فني من العصور الوسطى «صوفيا» جالسة على رأسها تاج على
هيئة ثلاث رءوس أنثوية؛ واحد يتجه نحو الأمام، وآخر نحو اليسار،
وثالث نحو اليمين، رمز التثليث العشتاري القديم، وحولها الفنانون
والأدباء والشعراء والفلاسفة يستمدون منها وحيهم. وفي عمل آخر
نراها في هيئة سيدة جليلة القدر كاملة اللباس، تُخرج ثدييها فتُرضع
منهما رجلين جاثيين حليب الحكمة. وفي عمل ثالث نراها على هيئة
امرأة متوَّجة تمسك بيدها اليسرى صولجانًا وباليمين كتابًا
مفتوحًا، ومن قلبها يتفجر تيار من الماء يتلقفه تحتها بأفواههم
موسيقيون وعلماء وفلاسفة وجنود. وهكذا يتحول حليب الأم الكبرى الذي
رأيناه في أشكال سابقة ينبثق من ثدييها ليسقي الأرض ويعطي البشر
غذاءهم الأرضي، إلى حليب الحكمة الذي يهبهم غذاءهم الروحي.
تظهر علاقة الحكمة بعالم الليل والظلام، في أسطورة تيريسياس حكيم
الإغريق المشهور، الذي لم تَخِبْ له نبوءة قط، والذي تنبأ لأوديب
الملك بمصيره الفاجع في الأسطورة والتراجيديا المعروفة. كان
تيريسياس يتجول في الغابة عندما رأى حيَّتين تتجامعان فضربهما
بعصاه. عند ذلك تحول تيريسياس بتأثير سحر غامض إلى امرأة، وعاش في
حالته الأنثوية سبع سنوات. وفي السنة الثامنة كان يتجول في نفس
الغابة عندما رأى نفس الحيتين تتجامعان فضربهما مرة ثانية لعل
السحر يزول عنه، وكان كذلك؛ إذ عاد تيريسياس إلى حالته الذكرية.
وكان بعد مدة، أن وقع جدال بين كبير الآلهة زيوس وزوجته هيرا، حول
موضوع المتعة الجنسية، وأي الجنسين أكثر استمتاعًا بالجماع من
الآخر. فاستدعى زيوس تيريسياس للفصل في هذه المسألة؛ لأنه أكثر
الناس مقدرة على الحكم في ذلك، لكونه قد عاش الحياة الجنسية
بشكليها الذكري والأنثوي. حكم تيريسياس إلى جانب زيوس وقرر أن
المرأة أكثر استمتاعًا من الرجل بالعملية الجنسية. وهنا ثار غضب
هيرا، وضربت تيريسياس بالعمى، ولكن زيوس تعويضًا له عما فقد من
بصر، وهبه الحكمة وقدرة على النبوءة ومعرفة الغيب.
١٠ لقد كف بصر تيريسياس عن نور الشمس ولكن بصيرته
الداخلية فتحت على حكمة الظلام؛ إذ لا حكمة دون الانكفاء على عالم
الأم القمرية المعتم.
إلا أن زيوس الذي وهب تيريسياس الحكمة، لم يكن هو نفسه يملك حكمة
أصيلة؛ فحكمته كانت مكتسبة من أحد الأشكال العشتارية السابقة على
تاريخ الإغريق المكتوب. تحكي الأسطورة الإغريقية:
١١ أن إلهة الحكمة القديمة «ميتيس» ابنة الزوجين المائيين
«أوقيانوس» و«ثيتيس»، كانت أولى زوجات زيوس، وهي التي وصفها هزيود
صاحب كتاب «أصول الآلهة» بأن لها من الحكمة أكثر مما لكل الآلهة
مجتمعين. وعندما حملت ميتيس من زيوس، جاءته نبوءة مفادها أن زوجته
ستضع له أطفالًا يفوقونه قوة ويتحدَّون سلطانه. عند ذلك قام زيوس
بابتلاع ميتيس قبل أن تضع له مولودها. وعندما جاء ميتيس المخاض وهي
في أعماق زيوس، انتابه صداع أليم لم يهدأ حتى عمد الإله هيفستوس
إلى شج رأسه بفأس، ومن الشق العميق ولدت «أثينا» منبثقة بكامل
عدتها الحربية، أما أمها ميتيس فقد بقيت في جوف كبير الآلهة تمده
بفيض حكمتها وإلهامها.
تمدنا هذه الأسطورة بفيض من الدلالات والمعاني؛ فكبير الآلهة
زيوس، رغم اعتلائه عرش الأوليمب، وسلطانه المطلق على عالم البشر
والآلهة، كانت تنقصه حكمة الإلهة الأنثى التي جرَّها عن عرشها، ولم
يكن أمامه لاكتساب تلك الحكمة سوى أن يستوعب الإلهة القديمة
بابتلاعها وامتصاص قواها. كما أنه، وهو الذكر الأسمى، ما زال يشعر
بالحسد تجاه وظيفة الولادة التي تتمتع بها المرأة، وهو حسد ميَّز
موقف الرجل من المرأة طيلة تاريخه؛ لأن في الحمل والولادة صلة
بالقوى الكونية الخلاقة، وانتماء إلى عالم الألوهية. وإذا كان هذا
الحسد قد زال من عقل الرجل الواعي في العصور التاريخية، فلأنه قد
وضع جُل همه في التقليل من قيمة هذه الوظيفة. إن علم النفس
الفرويدي الحديث ليعزو إلى المرأة إحساسًا بالنقص والحسد تجاه
الرجل لامتلاكه القضيب، وهو لا يعلم، أو يتجاهل، أن دهورًا طويلة
قد مرت على الرجل وهو يشعر بالنقص تجاه وظائف المرأة الخلاقة. لقد
أرادت أسطورة ميتيس أن تعزو لكبير الآلهة القدرة على الولادة،
شأنها في ذلك شأن الرواية التوراتية التي عزت الشيء نفسه إلى آدم
الذي أخرج حواء من جسده. فعانى زيوس آلام المخاض في رأسه؛ لأنه لا
يستطيع معاناتها في مكان آخر؛ فهو الرجل المفكر لا المرأة
المتَّحدة مع إيقاع الطبيعة، التي تشعر آلام المخاض في بطنها وتلد
بالعناء وفيض الدماء طفلها المتعلق بها بحبل السرة. وعندما انفتح
رحم زيوس العلوي، انطلقت منه أثينا كإلهة للذكاء، وحكمة الشمس، في
مقابل حكمة الظلام التي بقيت في داخل زيوس تمده بفيضها الأنثوي، لا
كأفكار تنبثق من الرأس كما انبثقت أثينا، بل كعرفان ينير
النفس.
ومثل ميتيس، حكمة الآلهة، كذلك «ديوتيما» حكمة الفلاسفة التي
نصبها سقراط أبو الفلسفة اليونانية معلمة له في محاورة المأدبة،
وعزا إليها تعليمه فلسفة الحب، وكيف ينتقل الإنسان من معاينة
الجمال المادي الطبيعي إلى معاينة الجمال الأعلى السرمدي. فديوتيما
هذه، لم تكن كائنًا بشريًّا موجودًا في زمن سقراط، كما يُفهم من
ظاهر النص، بل قناعًا لحكمة الأم الكبرى؛ حكمة الأنثى التي بقيت
تمد قلوب الرجال حتى في عصر الفلسفة وتراجع سطوة الأسطورة.
وحكمة الأنثى التي أدَّبت سقراط، هي التي نقلت من قبل إنكيدو من
مستوى الحيوان إلى مستوى الإنسان، كما ألمحنا منذ قليل. فالبغيُّ
المقدسة التي أرسلها جلجامش لتلين من عريكته وتقوده إلى المدينة،
ليست إلا رسولة عشتار ووكيلة حكمتها:
ستة أيام وسبع ليال قضاها إنكيدو مع فتاة اللذة.
روى نفسه من مفاتنها،
ثم غادرها نحو رفاقه من الحيوان،
فولَّت لرؤيته الغزلان هاربة،
حيوانات الفلاة فرَّت أمامه،
جعلته في حيرة من أمره. ثقيلًا كان جسده،
خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولَّوا بعيدًا.
تعثَّر إنكيدو في جريه، صار غير ما كان،
لكنه غدا عارفًا، واسع الفهم عميقه.
قفل عائدًا إلى المرأة، جلس عند قدميها،
رافعًا بصره إليها،
هذه الجلسة التي جلسها إنكيدو يستمع إلى حكمة
المرأة، هي ما يجب أن تتعلمه أخيرًا حضارة اليوم، فلقد أمضينا آلاف
السنين نعلِّم المرأة، وآن الأوان اليوم كي نستمع إليها قليلًا،
فلديها الكثير لتقوله لنا، ولعل في بعضها خلاصنا من الطريق المسدود
الذي وصل إليه سعي حضارة الرجل.
وكما فتحت رسولة عشتار عين
إنكيدو على عالم المعرفة، كذلك فتحت رسولة عشتار، في هيئة الأفعى،
عين آدم وحواء على المعرفة، فأعطتهما ثمار شجرة المعرفة القائمة في
وسط الجنة ونقلتهما من عالم يعيشان فيه شبحين بلا ظل، إلى عالم
الطبيعة الحافل بأفراح الجسد، وجيشان الروح التي لا تدرك ماهيتها
إلا بولادتها في الجسد، وذلك مثل عين كانت مفتوحة على الفراغ
اللانهائي، ثم وُضع أمامها فجأة قوس قزح.
وشجرة المعرفة هذه، هي شجرة الأم الكبرى التي جلس تحتها البوذا
وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة، وتُفتح بصيرته على
الحقيقة: «هنا، وفي هذا المكان، سأجلس حتى يبلى جسدي ويجف جلدي أو
أصل إلى المعرفة. هذا ما قاله البوذا، وهو يأخذ مكانه تحت شجرة
الاستنارة، والأرض اهتزت ست مرات … وما إن حل المساء حتى بدأ قلب
البوذا بالاستنارة الكاملة كزهرة كونية تتفتح.»
١٣
وفي حكاية ألف ليلة وليلة، حاسب الدين وملكة الحيات، التي لخصتها
في فصل عشتار الخضراء، نجد الأفعى رمز عشتار كواهبة للحياة والموت،
وكواهبة للحكمة في الوقت نفسه. فبعد أن أعطى حاسب الدين جزء الأفعى
الذي يقتل للوزير، وجزأها الذي يحيي للملك، أخذ لنفسه جزأها الثالث
الذي يهب الحكمة «ففجر الله في قلبه ينابيع الحكمة، ورأى السماوات
السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى.»
١٤
هذا وترتبط حكمة الأم الكبرى بالعرافة وكشف حجب المستقبل. فكانت
كاهنات عشتار أول العرافات وأول من رجم بالغيب، وبقيت هذه المهمة
محصورة بهن إلى وقت متأخر من تاريخ العالم القديم. ولنا في معبد
دلفي الإغريقي وعرافته المشهورة، التي بقيت تتنبأ لليونانيين
وغيرهم من الأقوام حتى الفترات المتأخرة من التاريخ الكلاسيكي،
أوضح مثال على ذلك. ورغم أن معبد دلفي صار فيما بعد مكرسًا للإله
أبولو بعد أن اغتصبه من إلهة الأرض «جايا» وقتل حيَّتها العملاقة
هناك، فإن عرافتها وناطقة وحيها قد استمرت عرافة لأبولو، ولكنها
بقيت مخلصة لتقاليد الأرض القديمة، فكانت تنطق بالنبوءات وهي جالسة
على صخرة فوق الأرض تمضغ ورق الغار، وتتنشق من كفيها حفنة من تراب الأرض.
١٥
ولما كان التنبؤ مرتبطًا بتدفق الزمن وبأقدار الناس ومصائرهم،
فإن عرافات الأم الكبرى كن يستمددن قدرتهن على كشف الغيب من عشتار
القمرية، بادئة الوقت وسيدة الزمن وحاكمة الأقدار التي تقر لكلٍّ
مصيره، أو كن يستمددن هذه القدرة من تجلياتها المثلثة التي تعكس
أطوارها القمرية، وذلك كالموريات الثلاث والهوريات الثلاث
والكاريتس الثلاث. وكلهن من إلهات القدر في الميثولوجيا اليونانية، والرومانية.
١٦ ويقابلهن عند المصريين الهاتوريات نسبة إلى
هاتور-إيزيس، اللواتي كن يظهرن في عدد من أضعاف الثلاثة، وهو
التسعة، عند سرير الطفل لحظة الميلاد، فيتنبأن له ويكشفن مستقبل أيامه.
١٧ وتبدو الإلهة أفروديت نفسها أحيانًا كأم للكاريتيس الثلاث،
١٨ وأحيانًا كالأخت الكبرى بين الموريات الثلاث،
١٩ أما في بلاد الرافدين فنرى نجمة عشتار تتوسط إلهات
القدر الثلاث وهن يعتلين صهوة الثور.
٢٠ وفي كل ذلك إشارة إلى أن هذا النوع من التثليث الأنثوي
لا يشكل ذواتًا مستقلة لها كيانها الألوهي الخاص، بل هو تجسيد
لخصائص عشتار المثلثة، فهن لا يظهرن إلا معًا ولا يعملن إلا معًا،
ولا تملك أيٌّ منهن شخصيةً واضحة وسيرة منفصلة.
وكسيدة للحكمة الليلية الخافية، كانت عشتار أيضًا سيدة للإلهام
الذي ينير نفوس الشعراء والفنانين، فكانت راعية للفنون والآداب
والشعر؛ ذلك أن الفنون بشتى ألوانها تمنح من مصادر الحكمة الليلية،
لا من مصادر الحكمة الشمسية التي تصدر عنها العلوم. والفنان المبدع
إنما يغلق بوابات الصحو ويفتح بوابات المحو، فيسلم نفسه للرؤى
والخيالات النابعة من دخيلته المعتمة، لا من رشده النقدي اليقظ.
وهنا يظهر الحضور العشتاري مرة أخرى على هيئة إلهات ثلاث، هن مصدر
الإلهام ومنبع الإبداع الفني والأدبي بشتى صوره وأشكاله، حكمة
الأنثى المتدفقة من نبع الأم الكبرى الصاعد من أعماق اللاشعور. من
هذه الثواليث العشتارية النعم الثلاث (=
Graces) والميوز الثلاث. كانت
النعم الثلاث مرافقات لأفروديت وهن اللواتي كن يشرفن على زينتها
كلما أرادت أن تبدو في أكثر أشكالها بهاءً وإغراء، كما كن مسئولات
عن تفتح الأزهار والبراعم في الربيع ونضج الثمار في الصيف. اسم
الأولى أجلايا، أي المتألقة، والثانية تالايا، واهبة الأزهار،
والثالثة أفروزينا، مسرة القلوب. تصورهن الأعمال التشكيلية عرايا
تضع كل منهن يدها على كتف الأخرى.
٢١ أما الميوز الثلاث فهن عرائس الشعر والموسيقى، وربات
للينابيع والذاكرة، يظهرن في الأساطير الإغريقية أحيانًا كثلاث في
العد، وأحيانًا كتسعة. وتظهرهن الأعمال التشكيلية على هيئة حسان
لابسات أردية طويلة، مبتسمات أو مستغرقات في التأمل. وتشير أسماؤهن
التسعة إلى توزيع الاختصاصات بينهن؛ فواحدة للتاريخ، وثانية لآلة
الفلوت الموسيقية، وثالثة لأشعار الحب، والرابعة للتنجيم …
٢٢
وفي الميثولوجيا الفيدية في الهند كان القمر صوما الذي ولد من
زبد الأوقيانوس الهائج، هو الثور السماوي سيد مملكة النبات وحاكم
حركة المياه في الطبيعة. وكان في الوقت نفسه أميرًا للشعر وسيدًا
للإلهام والإبداع والخلق الفني.
٢٣ كما كانت إلهة السلت بريجيت التي التقينا بها مرارًا
عبر صفحات هذا الكتاب كأم قمرية مثلثة، إلهة للشعر والحكمة والمعارف.
٢٤ وعند العرب كانت جنيات وادي عبقر بمنزلة عرائس للشعر،
منها يستمد الشعراء إلهامهم، وإليها يُعزى كل أمر معجز. ومن وادي
عبقر جاءت كلمة عبقري، وعبقرية.
فإذا انتقلنا إلى التقليد المسيحي وجدنا آباء الكنيسة وقد طابقوا
بين السيدة مريم العذراء، وبين الحكمة الموجودة مع الرب منذ الأزل.
ورأوا في بعض نصوص العهد القديم التي تتحدث عن الحكمة الإلهية،
إشارة إلى السيدة العذراء، وخصوصًا سفر الأمثال، من الإصحاح الأول
إلى الإصحاح التاسع.
٢٥ نقرأ في سفر الأمثال: «طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة
وللرجل الذي ينال الفهم، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها.
في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد. طرقها طرق نِعَم وكل
مسالكها سلام. هي شجرة الحياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط. الرب
بالحكمة أسس الأرض، أثبت السماوات بالفهم. بعلمه انشقت اللجج
وتقطَّر السحاب ندى» … «أنا الحكمة، أسكن الذكاء وأجد معرفة
التدابير. أنا مخافة الرب بغض الشر. أبغضت الكبرياء والتعظيم وطريق
الشر وفم الأكاذيب. لي المشورة والرأي، أنا الفهم لي القدرة. بي
تَملك الملوك وتقضي العظماء عدلًا» …
«الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. منذ الأزل
مُسِحْتُ من الأول قبل أن كانت الأرض. ولدت حين لم تكن الغمار
والينابيع الغزيرة. من وجدني وجد الحياة ونال مرضاة الرب» …
«الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبحها، مزجت خمرها،
أيضًا رتبت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة،
من هو جاهل فليمل إلى هنا، والناقص الفهم قالت له: هلموا كلوا من
طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها.»
٢٦
فالسيدة العذراء هي صوفيا، حكمة الرب التي صاغها اللوغوس منذ
الأزل، فكانت معه قبل تجسيدها في الزمان والمكان، وعادت إلى
السماوات بعد فناء جسدها الأرضي لتأخذ مكانها إلى جانب الثالوث المقدس،
٢٧ من ألقابها «مقر الحكمة»،
٢٨ ومنها استمد القديسون حكمتهم. يروي القديس يوحنا الفم
الذهبي أن انكشاف بصيرته قد تم بخارقة من خوارق السيدة العذراء.
فبينما كان أمام تمثالها يومًا يصلي وهو ما زال طفلًا، فإذا
بالحياة تدب في التمثال وتخاطبه العذراء قائلة: يوحنا، تعال قبِّلْ
شفتي ولسوف تحل عليك بعد ذلك المعرفة. فتقدم منها بعد تردد، ثم طبع
على شفتيها قبلة كانت كافية لأن تملأ كيانه حكمة ومعرفة.
٢٩
سيدة الجنون
«خذوا الحكمة من أفواه المجانين» قول عربي مأثور، يصل عالم
الحكمة بعالم الجنون، ويلخص نظرة الثقافات القديمة إلى بعض أنواع
الجنون، التي ليست في حقيقتها سوى شكل من أشكال الحكمة العشتارية.
إن حكمة الليل التي تدير وجه صاحبها عن صحو النهار ومنطق الشمس، هي
انفصال عن الواقع وإيغال في عوامل الباطن حيث يخفت تدريجيًّا إيقاع
الزمن الأرضي، وتخبو تكتكات الدقائق والساعات، لينفتح عالم الصمت
وتزحف استطالات الزمن الراكد. حيث المعرفة غير المنطوقة، ولذاذات
الروح التي لم تكن لذاذات الجسد إلا مقدمة لها وبشارة. حيث
المهابط، التي تشد السالك إلى مركز السر الأعظم، معارج للصعود نحو
الملكوت الأعلى؛ حيث اللحظة الزمنية، آنًا بلا نهاية في أعماق جسد
عشتار الليلي.
حكمة الشمس زاد لواقع اليوم، تدبير لشئونه، وحكمة القمر زاد للغد
الآتي حيث يحجب الموت نور الشمس فاتحًا بوابة الظلمة المديدة. حكمة
الشمس ترويض للعقل وحكمة القمر ترويض للروح، تهيئة في هذا العالم
لما سيأتي وراءه. في حكمة الشمس إضعاف للروح، وفي حكمة القمر إضعاف
للعقل. وتناوس السالك بين عالم النور وطوايا الظلام قد يتوقف
ليختار الفرد عالم الظلام، ويغلق على نفسه تمامًا في رحلةٍ لا عودة
منها، رحلة يسميها الناس جنونًا، ويختبرها أهلها انجذابًا وكشفًا.
ولنا في مجاذيب التصوف خير مثال على هذه الخبرة، وفي كلمة «مجذوب»
أفضل دليل على أصل الجنون المقدس الذي يعانيه أصحابه «انجذابًا»
نحو قوة داخلية علوية في آنٍ معًا.
تقول الأم المصرية قديمًا عن نفسها: «أنا ما كان، وما هو كائن،
وما سوف يكون، وما من بشرٍ قادر أن يرفع عني برقعي.»
٣٠ ذلك أن معارف عشتار وحكمتها لا يمكن كشفها بالفهم
العقلي وقواعد المنطق. بل بالذوبان فيها والفناء بها، والدخول تحت
حجابها دون رفعه، إن الاستنارة التي تتحدث عنها حكمة البوذا،
والكشف الذي يحكي عن مذاقه المتصوفة، ليسا إزاحة لبرقع الحقائق
الربانية بالجهد العقلي المنظم، بل كدح روحي يُدخل صاحبه مملكة
الظلام خلف برقع إيزيس، لتنكشف له أنوار عالم آخر عند مركز السر أو
سدرة المنتهى. عند ذلك يغادر عالم الدورة الشمسية التي تحدد الأيام
وزمن الأرض، ويدخل دارة مفتوحة على الأوقيانوس الكلي.
تظهر خاصية الأم الكبرى كسيدة للجنون في أوضح أشكالها لدى كلٍّ
من إلهة السلت بريجيت، وهيقات، وسيبيل. فبريجيت التي رأيناها إلهة
قمرية مثلثة ووالدة للآلهة جميعًا وسيدة لخصب الأرض وملتهمة
للرجال، هي أيضًا من يضرب العقل بالجنون.
٣١ ومثلها هيقات سيدة الرؤى،
٣٢ وكذلك سيبيل التي ضربت ابنها وحبيبها آتيس بالجنون،
فخصى نفسه تحت شجرة التين ونزف حتى الموت.
٣٣ إن في أسطورة سيبيل وآتيس رمزًا لثلاثة معابر أو برازخ
يمر بها الذكر في علاقته بالروح الأنثوية الكونية. فالجنون برزخ
لتحصيل الحقائق الخفية، تخلٍّ عن الصحو، ودخول في مملكة السكرة.
والخصاء تكريس لحكمة الليل وتوحُّد صوفي مع المبدأ الأنثوي. والموت
برزخ أخير يجتازه من أجل البعث في عالم جديد، وهو بعث يتم أيضًا
تحت جناح الأم الكبرى، كما سنرى في فصل عشتار المخلِّصة.
إن ارتباط الجنون بالأم القمرية قديمًا، قد ترك آثاره اللاحقة في
معظم الثقافات التي تربط بين القمر وحالات الجنون. وما زلنا في
العالم العربي نعتقد بتأثير البدر على حالات معينة من الجنون التي
تشتد في ليالي القمر الكامل. كما وأننا نجد آثار هذا الاعتقاد
باقية في بعض اللغات. فمن الكلمات الدالة على الجنون في اللغة
الإنكليزية كلمة Lunacy، وهي مشتقة
من كلمة Luna اللاتينية الدالة على
القمر. فالجنون وفق هذا الاشتقاق هو المرض القمري، وهو المرض الذي
أصاب رواد مركبة أبولُّو التي حطت على سطح القمر، بعد عودتهم إلى
الأرض، دون أن يتم شفاء بعضهم كاملًا حتى الآن.
سيدة الغيبوبة
تدعو حكمة الشمس إلى تركيز الحواس وشحذها للتعامل مع الواقع
بأعلى كفاية ممكنة، أما حكمة القمر فتدعو إلى بلبلة الحواس
الخارجية من أجل تفتيح الحواس الداخلية. تدعو حكمة الشمس إلى بناء
الجسد وتوجيهه لأداء وظائفه العلمية، أمَّا حكمة القمر فتدعو الجسد
إلى اللعب الحر، إلى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعًا لنفسه، ويعكس
طاقته نحو نفسها، محولًا الحركة المادية إلى نشوة روحية ووجد صوفي.
فالإنسان في الديانة العتشارية لا يعرف الصلاة، بل يعرف الرقص. وفي
المناسبات الداعية للصلاة في الديانة الشمسية، نجد الإنسان
العشتاري يرقص. وهو في رقصه لا يعبد إلهًا بعيدًا منفصلًا، بل يعيش
إلهه ويتلمسه في أعماق نفسه. وفي قمة النشوة، عندما يتحقق للراقص
الانفصال التام عن مبدأ الواقع، ويشعر أن حركته تتلاشى عند نقطة
ثابتة في مركز ذاته، يتوقف الزمن في ومضة عند شاطئ الأبدية، ثم تشع
الحركة من جديد وتفيض نحو المحيط الذي منه انطلقت. رحيل من محيط
الذات إلى مركزها الذي يتطابق مع مركز السر الأعظم … «فمن عرف نفسه
عرف ربه» — حديث شريف.
ويساعد الخمر المستحلب من الثمار، والمخدر المستخلص من الأعشاب
المقدسة، على ولوج عالم الليل والتحرر من عالم النهار. فكما أعطت
عشتار حبوبًا ونباتًا، معاشًا للإنسان، كذلك أودعت في نتاج الأرض
سرًّا من أسرار الألوهة ونُذرًا من جنات الخلد. فالمخدر يهب المريد
مركبة سحرية تجتاز به تخوم الصحو نحو العوالم المقدسة، يحرره من
كثافة المادة وشروط الواقع ليضعه على مشارف الإلهي وتخوم الحرية،
في بارقة مؤقتة هي قبس من ملكوت آت. لذلك كانت نبتة الخشخاش
٣٤ التي يستخلص منها أقوى أنواع المخدرات، رمزًا من رموز
الأم الكبرى في ثقافات المتوسط وفي ثقافات بعيدة تمامًا كثقافة
الآزتيك في أمريكا الوسطى. فنجد الإلهة ديمتر في بعض الأعمال
التشكيلية تحمل بيديها باقتين من سنابل القمح ونبت الخشخاش، رمزًا
لسلطتها على عالم الغذاء المادي والغذاء الروحي في آنٍ معًا. وفي
الشكل رقم (
٤-٤) الموضح في فصل عشتار الخضراء،
نجد الأم الكريتية الكبرى جالسة تحت شجرة الكرمة التي تتدلى
عناقيدها، وقد حملت بيدها باقة من نباتات الخشخاش.
ولقد أعطت عشتار أول ما أعطت سر المخدر إلى المرأة؛ فالمرأة التي
اكتشفت كل أسرار مملكة النبات، فصنعت الغذاء واستحضرت الدواء
واستخلصت السموم، قد اكتشفت أيضًا نباتات المخدر وعرفت خصائصها
واستعمالاتها المختلفة. وما زالت نساء القبائل البدائية حتى يومنا
هذا، موكلات بتحضير الأكاسير المخدرة، حافظات لأسرارها. وهناك من
الأدلة ما يشير إلى أن نبات الخشخاش قد تمَّ استخدامه منذ العصر
الحجري إبان العصر الجليدي.
٣٥ ومنذ ذلك الوقت استمر تناول المخدرات باعتباره طقسًا
أساسيًّا من طقوس ديانات الخصب في الشرق الأدنى القديم وثقافات
المتوسط؛ ففي سومر كان كهنة ديانة الخصب يبحثون عن أنواع معينة من
الفطر المخدر الذي اعتُبر ابنًا للسماء، وذلك بسبب نموه السريع تحت
جنح الليل بعد المطر المصحوب بالرعد والبرق. وكانوا يصنعون منه
أكاسير تجعل شاربها يمضي في رحلةٍ روحية يرى خلالها جنات النعيم ثم
يعود إلى الأرض.
٣٦ وقد استمرت هذه الطقوس قائمة بشكل سرى في أنحاء مختلفة
من الشرق القديم، ويُقال: (ولسنا متأكدين من ذلك) إنها ظهرت لدى
إحدى الفرق الدينية الإسلامية المعروفة باسم الفرقة الحشيشية، وهي
الفرقة التي بدأت دعوتها في إيران ثم انتقلت إلى بقاع أخرى في فترة
خريف الخلافة العباسية. والحشيشية اسم أطلقه العامة على هذه
الفرقة، وهو مستمد من نبات الحشيش، المخدر المعروف في معظم بقاع
الشرق، وذلك ظنًّا منهم أن أتباع هذه الفرقة إنما يتناولون الحشيش
في طقوسهم واحتفالاتهم. إلا أنَّ كل البينات تشير إلى أن المادة
المخدرة التي يستعملها هؤلاء كمحرضٍ على النشوة الصوفية، هي مادة
أقوى بكثيرٍ من الحشيش. وأغلب الظن أنها المادة التي نقل السومريون
أسرارها كمحرضٍ على النشوة الصوفية إلى أجيال الفرق الباطنية
اللاحقة.
إلى جانب المواد المخدرة لعب الخمر دورًا كبيرًا في طقوس
واحتفالات الديانات العشتارية، وكانت إنانا السومرية تُدعى ﺑ «الأم
النورانية إلهة الخمر».
٣٧ وقد بلغت طقوس السَّكرة العشتارية قمتها في عبادات
ديونيسيوس، إله الخمر في العالم الكلاسيكي؛ ذلك الإله الغريب عن
البانثيون الإغريقي، والذي أتى بلاد اليونان من «تراقيا» في مواكب
معربدة صدمت لأول مرة ذوق اليونانيين الأبولوني. ولكن هذا الإله
الجديد ما لبث أن أخذ مكانه بين آلهة الأوليمب، وتحولت إليه
الاتجاهات الباطنية اليونانية.
٣٨ وبقي اسمه إلى يومنا هذا علمًا لاتجاه السكرة في مقابل
اتجاه الصحو، كتيارين موجهين لسلوك الإنسان ونتاجاته.
سُكْر ومخدر وموسيقى ورقص، تلك هي عِدَّة الغيبوبة العشتارية
التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس إلى نداوة القمر. عِدَّة كانت عبر
تاريخ الثقافة الذكرية، وسيلة للتمرد والحلم، تمرد على النظم
العقلانية المسيطرة التي تجعل من الفرد عبدًا مسخرًا للقوى
الاجتماعية الطاغية وديانتها البطريركية، وحلم بعالم أمومي جديد
وفردوس عشتاري أرضي يعيد للجسد الإنساني قدرته على اللعب الحر،
ولروحه طاقاتها غير المتناهية. ولنا في حركة «الهيبي» التي اجتاحت
العالم الغربي إبان ستينيات القرن العشرين، خير مثال على
ذلك.
سيدة السحر
كواهبة لجرعة الحليب الأولى التي تُسلم الطفل إلى أولى لحظات
الحياة، كانت المرأة تجسيدًا على مستوى الواقع لمبدأ الحياة الكلي.
ومنذ عصر قبيل الصيادين البدائي إلى عصر المستوطنات الزراعية
المستقرة، كانت المرأة مركزًا للناشطات الرامية إلى حفظ البقاء،
مستعينة بقدراتها الخفية على تحويل المادة وتغيير خصائصها؛ فقد
رأينا المرأة مسئولة عن التقاط الثمار وخزنها واستخلاص أكاسير
الأعشاب وعصير الكرمة، ورأيناها موكلة بالاستفادة من منتجات
الحيوان، والغزل والنسيج والحياكة، وبإبقاء النار التي اكتشفتها
مشتعلة، واستخدامها في تحويل الطين إلى فخار وخزف، وتحويل الطعام
النيئ إلى غذاء شهي، والعجين الفظ إلى خبز ناضج. إن هذه النشاطات
وغيرها، مما تحول فيما بعد إلى أعمال دنيوية يومية عادية، لم تكن
في الماضي كذلك؛ ذلك أن الشروط البيئية والمناخية الصعبة، والصراع
المستميت الذي دخله الإنسان ضد أنواع الحياة الأخرى من أجل البقاء،
قد جعل من نشاطات حفظ الحياة مهمة مستحيلة دون عون الأم الكونية
الذي تبذله عن طريق وكيلتها على الأرض. لذلك كانت المرأة تمارس كل
نشاطات حفظ الحياة وتأمين الغذاء والمأوى والكساء، باعتبارها
طقوسًا تحويلية مقدسة لا تتم إلا بمعونة جسدها الخلاق، وكان
التحويل نوعًا من السحر.
ومن التحويل الأصغر المتمثل في نشاطات المعاش، إلى التحويل
الأكبر المتمثل في السلطة على عالم المادة والطبيعة، كانت المرأة
مسئولة عن الاتصال بالعوالم السرية عن طريق السحر. إن الأنثى بواقع
تكوينها الجسدي والنفسي أكثر قدرة، كما أسلفنا، على تحقيق مثل هذه
الصلة. فنفسها أكثر شفافية ورقة من نفس الرجل الصلبة، وإحساسها
الباطني دومًا لا يخيب، وأحلامها نبوءة وكشف، أمَّا جسدها فمستودع
الأسرار العشتارية، يعمل بطريقة هي أقرب لفعل السحر منها للفعل
الطبيعي. لذلك كانت المرأة الساحرة الأولى، وبسحرها كانت تمارس
سيطرتها على الرجل وتعزز مكانتها ضمن الجماعة. فليس من المستغرب أن
يبدأ الرجل أولى خطواته في التحرر من سلطة المرأة باغتصاب صلاحيات
السحر.
لقد كان من الإنجازات الأولى لجماعة الرجال التي حققت الانقلاب
التاريخي ضد سلطة المرأة، قيامهم بالسيطرة على نشاطات السحر،
وتجريد المرأة من أحد أسلحتها الأساسية،
٣٩ وما زالت ذكرى هذه الانتفاضة محفورة في بعض أساطير
القبائل البدائية في العصر الحديث، والتي حققت انقلاباتها الذكرية
في أزمنة متأخرة؛ ففي أمريكا الجنوبية، تروي قبائل «أونا» أسطورة
مفادها: أنه في الأيام القديمة كانت فنون السحر وقفًا على النساء
اللواتي كنَّ يجتمعن في محافل سرية خاصة، لا يجرؤ الرجال على الدنو
منها. وكانت البنات الصغيرات يُلَقَّنَّ أسرار السحر عندما يقتربن
من سن النضج، ويتعلمن كيف يجلبن الأذى والمرض وربما الموت لكل مَن
يسيء إليهنَّ، ثم سرعان ما يلتحقن بالمحافل ليرثن إدارتها عن
متقدماتهن. أما الرجال فكانوا يعيشون في خضوع كامل للنساء، وخوف
مما يمكن لسحرهن أن يجلب عليهم من كوارث. لقد كان في حوزتهم
الأقواس والسهام والرماح يصطادون بها الطرائد من أجل غذاء الجماعة،
ولكن سلاحهم لم يكن ينفع في مواجهة قوى السحر. إلى أن كان يوم أجمع
فيه الرجال على التخلص من النساء بقتلهن جميعًا، فخططوا لمذبحة
كبيرة وقاموا بتنفيذها، فقتلوا كل امرأة وكل فتاة، ولم يبقوا إلا
على البنات الصغيرات في أعوامهنَّ الأولى، ممن لم تتَح لهن بعدُ
أية فرصة للاطلاع على فنون السحر ومعرفة ما يجري في محافل النساء.
ثم قاموا بعد ذلك بتشكيل محافلهم الخاصة المحظورة على الإناث،
وبدءوا بتحضير جيل جديد من النساء غير قادر على التواصل من جديد مع
قوى السحر المخيفة، قابل لسلطة الرجال خاضع لهم.
٤٠ هذا وتتحدث أساطير أخرى من أمريكا الجنوبية أيضًا عن
انقلابٍ ذكريٍّ ضد سلطة النساء اللواتي كنَّ يحكمن بالسحر، دون أن
يكون لهذا الانقلاب نفس الطابع العنيف. كما أنَّ شيوع هذا النوع من
الأساطير في أنحاء متفرقة من العالم ليشير بكل وضوح إلى مرحلة
حقيقية من مراحل التاريخ البشري.
٤١
ولربما كان توكيد المرأة على نشاط السحر في المراحل المتأخرة من
حياة المجتمعات الأمومية، هو نوع من الدفاع الأخير عن النفس، أمام
تصاعد قوة الذكور واستعدادهم للانقضاض الحاسم. تقدم لنا مكتشفات
العصر الحجري بينات واضحة على نشاط السحر الذي كانت تقوم به
المرأة، والدور العملي الذي كان هذا النشاط يلعبه في حياة الجماعة.
ففي نقش على الحجر من العصر الباليوليتي (الشكل رقم
٨-٢)، نجد مشهدين جمعهما الفنان في حيزٍ واحد.
الأول مشهد يظهر الرجل في حقل الصيد، وسط مجموعة من الطرائد
الكبيرة، مستعدًّا لإطلاق سهمه. والثاني مشهد يظهر المرأة في كهف
تمارس طقسًا سحريًّا من شأنه إمداد الرجل بالقوة والتأثير على
الحيوان. تبدو المرأة في المشهد رافعة ذراعيها نحو الأعلى؛
لاستمداد الطاقة العشتارية الخفية وتمثلها في داخل جسدها، وإطلاقها
من ثم عبر بوابة رحمها في قناة خفية، تتصل بالمنطقة الجنسية للرجل
الضارب في البراري، فتسري فيه وتعطيه الغلبة على الطرائد الشرسة.
وقد قام الفنان بإظهار المرأة أكبر حجمًا من الرجل ومن حيوانات
الصيد؛ وذلك للدلالة على قيمتها وعلو مكانتها، تمامًا كما يقوم
أطفال اليوم بإظهار الأب في رسومهم أكبر حجمًا من كل المحيطين
به.
ويتكرر مشهد الصيد الممتزج بمشهد نشاطات السحر الأنثوية في عدد
آخر من الأعمال الفنية للعصر الحجري، وصولًا إلى عتبات عصور
الكتابة. ففي رسم على الفخار من مصر يعود إلى الألف الرابع قبل
الميلاد (الشكل رقم
٨-٣). نعثر على مشهد مماثل
لمشهد العصر الحجري الآنف الذكر، رغم ألوف السنين الفاصلة بينهما.
فهناك حقل واسع يرتع فيه عدد كبير من الطرائد، وأربعة رجال متأهبين
بأسلحتهم؛ بينهم ثلاث نساء يمارسن نشاط السحر برفع الذراعين نحو
الأعلى. ورغم تداخل أشكال النساء مع عناصر المشهد، فإن حيز الرسم
يجمع بين مكانين متباعدين: هما حقل الصيد ومكان إقامة الطقوس. تبدو
المرأة هنا أيضًا أكبر حجمًا من الرجل ومن الحيوانات على حدٍّ
سواء، مع التركيز على منطقة الحوض جريًا على التقاليد الفنية للعصر
الحجري السابق.
هذا وتقدم لنا الفترة التاريخية نفسها عددًا كبيرًا من الأشكال
الأنثوية في أوضاع مشابهة، وهي أشكال تمثل الأم الكبرى في حالة
ممارسة السحر، أو كاهناتها. كما تتضح القيمة السحرية لذراعي المرأة
المرفوعتين في عدد من الأشكال الأنثوية الفخارية التي تعود إلى عصر
تل العمارنة (أواسط الألف الثاني ق.م.) في مصر. وفي أحد هذه
الأشكال، وهو محفوظ في متحف بروكلين، نجد رجلين يقومان بإسناد
ذراعَي المرأة المرفوعتين؛ وذلك لإطالة مدة وقوفها على هذه الهيئة
وإدامة فترة تأثيرها السحري. وقد حفظ لنا كتاب التوراة ممارسة
سحرية مشابهة قام بها موسى الذي لم يكن قد مضى على مغادرته مصر وقت
طويل عندما واجه شعب العماليق. وإذا كانت ممارسات موسى السحرية في
مصر أمام الفرعون قد تمت بعون الرب، فإن ممارسته خلال حرب العماليق
كانت ممارسة سحرية بحتة، لا تعتمد القوى الإلهة. نقرأ في سفر
الخروج: «وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفديم. فقال موسى ليشوع:
انتخبْ لنا رجالًا واخرج حارب عماليق، وغدًا أقف أنا على رأس تلة
وعصا الرب في يدي. ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق. وأما
موسى وهارون وحور فصعدوا على رأس التلة. وكان إذا رفع موسى يده
أنَّ إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا
موسى ثقيلتين، أخذا حجرًا ووضعاه تحته فجلس عليه، ودعم هارون وحور
يديه الواحد من هنا والآخر من هناك، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب
الشمس، فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف.»
٤٢
إن ما كانت تقوم به نساء العصر الحجري من طقوس سحرية لمدد الرجال
بالقوة في حقول صيدهم، قد استمر في عادات وطقوس القبائل البدائية
الحديثة؛ ففي جزيرة مدغشقر إلى عهد ليس بالبعيد، كانت نساء القبيلة
إذا توجه رجالهن إلى الحرب، يبدأن رقصًا طقوسيًّا لا يهدأ ليل
نهار؛ اعتقادًا منهنَّ أن مثل هذا الرقص الطقوسي يهب الرجال في ساح
المعركة البأس والشجاعة والحظ الحسن. وفي ساحل العاج ومناطق أخرى
من أفريقيا الغربية، إذا خرج الرجال إلى القتال قامت النساء بدهن
أجسامهن باللون الأبيض، وزيَّنَّ أنفسهن بالريش وقرون الثور وأشياء
غريبة أخرى، وشرعن بحركات طقوسية سحرية. وفي كولومبيا كانت نساء
الهنود الحمر في المناسبات المشابهة يرقصن وفي أيديهن نصال مشحوذة
يمثلن بها عملية قتل الأعداء، ليتجلى فعلهن السحري على أرض القتال
حقيقة، ويقتل رجالهنَّ أعداءهم. وفي كاليفورنيا كانت نساء قبائل
اليوكي يُقمن حلقة رقص دائري لا تهدأ طالما كان رجالهنَّ غائبين في
الحرب؛ لأن فتور حركة الرقص يُضعف همَّة الرجال في القتال، بينما
يشدها استمراره وحرارته.
٤٣
في كل مكان وفي كل ثقافة عزا الناس إلى النساء استعدادًا فطريًّا
للسحر وقدرة على ممارسته.
٤٤ وإذا كانت الثقافة الذكرية التي بلغت قمتها في
المجتمعات الرأسمالية الحديثة، قد طمست كل ما يُذكِّر بخصائص القوة
عند المرأة، فإن القبائل البدائية الحديثة ما زالت رغم طابعها
الذكري الغالب تعزو للمرأة السيطرة على القوى الخفية ومن بينها
السحر، وتربط بين قدرة النساء على السحر وعلاقتهنَّ الغامضة
بالقمر. فهنود أمريكا الشمالية وشعوب الإسكيمو على حد سواء يعتقدون
بأن القمر هو مصدر لكل قوة سحرية.
٤٥ وتعتقد قبائل التتار في آسيا الوسطى، أن النساء لا
يستطعن ممارسة السحر إلا مرة في كل شهر، حين يكون القمر هلالًا في
يومه الأول. وفي ساحل العاج يستعمل القوم كلمة واحدة للدلالة على
السحر وعلى القمر. ويجري الاعتقاد لدى قبائل كثيرة وفي أماكن
متباعدة من العالم أن القمر هو الذي يهب للمرأة قدرتها على إتيان
السحر، ولذلك تستلقي النساء الساحرات تحت القمر ساعات طويلة
لامتصاص قوى القمر.
٤٦ وفي أوروبا القرون الوسطى كانت تهمة السحر لا تلصق إلا
بالنساء، وحتى القرن السابع عشر نجد بعض المؤلفات الدينية مهتمة
بتفسير ظاهرة استعداد النساء الفطري لممارسة السحر من دون الرجال.
٤٧
هذا القمر الذي يمد النساء بقدراتهن الخفية هو الأم الكبرى سيدة
الأسرار وربة القوى الغامضة، التي تتجلى في أبهى أشكالها تحت اسم
هيقات وإيزيس؛ ففي ثقافة اليونان استقطبت الربة القمرية هيقات
خصائص الأم الكبرى الساحرة؛ فهي سيدة السحر بشتى أشكاله وأنواعه،
٤٨ وكل عمل سحري يجري بمعونتها واستلهام قوى الظلام التي
تسيطر عليها.
٤٩ وفي مصر، تبقى على مر العصور اسمًا يبعث في النفس رهبة
الغوامض والخفايا والعوالم السرانية. تقص أسطورة مصرية كيف حصلت
إيزيس على سلطتها المطلقة من يد الإله الأكبر رع، بواسطة قواها
السحرية الخارقة. فالإله رع قد كبر وغدا طاعنًا في السنِّ، حتى إن
لعابه صار يسيل خارج فمه المتدلي. ولكنه بقي سيدًا للسموات والأرض
بقوة اسمه السري الذي لا يعرفه أحد. وكانت إيزيس تتوق إلى الصعود
إلى مرتبة السيد الأكبر رع كحاكمة للكون وسيدة للآلهة، فأحكمت خطة
تجبر الإله رع على إفشاء سره لها. قامت إيزيس بمزج لعاب الإله رع
بتراب الأرض، فصنعت حية من طين نفخت فيها الحياة وأرسلتها في
طريقه، فعضته في ساقه ودفعت سمها في جسده. سرى السم في جسد الإله،
فدعا كل آلهة الأرض والسماء لشفائه دون جدوى. ثم حضرت إليه إيزيس
التي تعبق أنفاسها بنسمة الحياة، وتطرد تعاويذها كل الآلام، فعرضت
على كبير الآلهة شفاءه مقابل أن يفشي لها باسمه السري. ولكنه تهرب
من ذلك قائلًا: أنا من خلق السماوات والأرض، من رفع الجبال وملأ
البحار وأسدل الأفقين. أفتح عينيَّ فأصنع نهارًا وأغلقهما فأصنع
ليلًا، وبأمري يرتفع ماء النيل ثم ينحسر. في الصباح اسمي خيبيرا،
وفي الظهيرة اسمي رع، وفي المساء اسمي توم. ولكن إيزيس تقول له: إن
أيًّا من هذه الأسماء ليس هو اسمه السري، وتمتنع عن علاجه. وعندما
تصل آلام الإله حدًّا لا يطاق، يرضخ لمشيئة إيزيس، ولكنه لا ينطق
باسمه السري، بل يجعله ينتقل من قبله إلى قلب إيزيس دون كلام؛ كيلا
يسمع به أحد غيرها. وهنا تقوم إيزيس باستخدام تعاويذها السحرية
لطرد السم من جسد رع، وتحوز بذلك على جميع قوى الإله الأكبر
بانتقال اسمه السري إليها.
٥٠