وطنية الفلاح وآماله
«فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا، ولا يريدون الانتفاع بنا»
نكتب هذه المقالات مستمدِّين حقائقها من الكتاب الذي رقمته يد الزمن خلال ثلث قرن اجتازته مصر ووقفت اليوم على طرفه، تريد أن تستأنف عهدًا غيره، وتغلق بابه لتفتح لها باب حياة خير من حياتها فيه.
وإذ كانت الحجة القوية لخصوم مصر السياسيين أن المصري قضى ذلك العهد راضيًا، بل مقدِّسًا للذكر مسبحًا بالحمد، لا يجد سبيلًا للشكر غير الاعتراف بالعجز عن الشكر، وكانوا لا يرون هذا المصري الراضي المطمئن إلا في شخص الفلاح؛ حسن أن نبدأ الكلام في حال الفلاح وآماله، وشعوره ووجدانه، بل حديثه لنفسه وهواجس الرجاء الذي يناجي به قلبه وربه في خلوته وساعة ينبطح على أرض الحقل، وحين يَتَّصِلُ بصره بالسماء، فيرى جمال الجو ونعمة النيل وفيض الخير الدافق، فيقول في نجواه: يا رب لماذا لا يكون لي — أنا المصري — هذا الوطن الجميل خالصًا؟
قال المستر «أرثر هور» مُكاتب جريدة «التيمس» في الشرق الأوسط في أولى مقالاته التي كتبها عن «الاضطراب في مصر»:
«فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيانٍ أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
كذلك قال هذا الكاتب، وفي قوله معنى يدل عليه مفهوم عبارته، فكأنه أراد أن يقول: إن العصيان لم يكن منتظرًا لأنهم فوجئوا به؛ أي إن المظنون بل المعتقد كان خلافه، وقد كان هذا العصيان عامًّا، وكان مفاجأة، فلا بد أن يكون الشعور بأسبابه الطبيعية عامًّا أيضًا، ولا بد أن يكون الذين فُوجِئُوا به على خطأ في جهل أسبابه أو تجاهلها؛ إذن: لم يكن الفلاح الذي كان شديدًا في هذا العصيان راضيًا ولا مطمئنًّا، ولم يكن يجد من نعمة التمتع بحرية الوطن بديلًا.
بل يدل المفهوم على معنى أكبر من هذا المعنى، ففي العبارة ما ظهر من أن المصريين لا يحبون معارضيهم السياسيين، ولا يريدون الانتفاع بهم فكأن عدم الحب كان خفيًّا على هؤلاء المعارضين من قبل، وكأنهم يريدون أن يقولوا الآن: إن ما زعمناه من أن الفلاح حامد شاكر، وأن نور التقديس يسطع في جوانب نفسه كان زعمًا باطلًا.
ولا نظن المستر «أرثر هور» يرى بعد هذا أن يكون الحب ضربًا من ضروب الطاعة التي تقضي بها محكمة أو مجلس، أما إرادة عدم الانتفاع فإن لها سببًا تراه كل عين في الصورة التي تشهد بها حالة مصر العلمية والتجارية والصناعية والاجتماعية والأدبية؛ فإن لهذه الصورة لسانًا ينطق فصيحًا بشرح قيمة الانتفاع في ثلث قرن كامل.
وقد لا نعدم معترضًا يقول: إن هذا الكلام نظري، أو أثر حالة محدودة جاءت في الزمن الأخير اضطرارًا أو خطأ بغير قصد. إذن نرجع إلى الحقائق في حينها البعيد والقريب.
استقبلت مصر أيامًا قضى بها الزمن منذ سنة ١٨٨٢، ولم تكد تجتاز حوادث تلك السنة والسنتين قبلها حتى بسطت يدها للعمل، ورفعت صوتها بالحجة، وما كانت يدها المبسوطة في معاهد المدن بأسبق حركة منها في حقول الريف، ولا كان صوتها المرفوع في قصور العواصم بأعلى منه في أكواخ القرى، وكم بين هذا الزمن الذي نحن فيه الآن وبين الوقت الذي وقعت فيه حادثة «الجيش» يوم استعرضه سمو الخديو عباس في الحدود؟ لقد كان ذلك الوقت في أول عهدنا بما قضي به علينا، فليسألوا الحق: لماذا جَرَّ كبراء المصريين مركبة الخديو عباس يومئذٍ؟ ولماذا أغدق عليه البريد والبرق رسائل الشكر من أرجاء القرى وأعماق الريف؟ أما جواب الحق فهو أن وطنية الفلاح العريقة أرته موطن الشكر من الوجوب فأعرب عن شكره برسائله، وأن وطنية المتحضِّرين الراسخة أرتهم موطن الحمد من اللزوم، فجروا مركبة أميرهم الشاب.
كان الفلاح يخرج من داره إلى حقله وفي يده حبل ماشيته، فيلذُّ له أن يقف وتقف الماشية وراءه، إذا اتفق أن رأى قارئًا من أبناء القرية يطوي صحيفة في يده، وما كان يقف ليسأله ما بها من الأخبار لأول مرة، بل ليسأله: أية الصحف هي أمن الصحف الوطنية؟ فإذا علم أنها ضالته استحلف صاحبه أن يقرأ ليُسمعه آية الإخلاص لمصر، غير قانع بالسؤال عن أخبارها، وإذ ذاك يتهافت الفلاحون فيقف قارءوهم موقف المعلم، ولكنه لا يلقي درسًا، بل يتذاكر وإياهم سورة الوطنية المشتركة وآية الإخلاص للوطن.
يتناول وصف الفلاحة أعيان البلاد ووجهاءها وعمدها، أولئك الذين يشتركون في صحف السوء بما يشبه الأمر المقضي به، غير أن مكاتب البريد في أرجاء القطر تعلم كيف كانوا يرفضون هذه الصحف كلما وقع حادث يهيج شعور الوطنية، بينما كانت تلك الصحف لا تخجل أن تؤلمهم بقحة، وتجرح شعورهم بجرأة.
وفي الحادثة المحزنة التي حملت وزرها سنة ١٩٠٦، تجلَّت وطنية الفلاح المصري مشوبة بالكمد، ممزوجة بالدمع الذي جرى مجرى الدم المراق، فكانت القرى كالمرجل تغلي بنار الوطنية، وكان ضوء هذه النار يسطع في الصحف جمعاء، وكان بريقها يلمع على أسلاك البرق، وضوء هذه الوطنية هو الذي نفذ إلى أقطار الغرب كافَّة فبدَّد ما نسجت يد التضليل، واستقامت به الحقيقة التي حُرِّفَتْ عن موضعها.
ولم تكد شمس الوطنية تتوارى بحجابها بين جوانح الفلاح المصري، حتى أشرقت يوم النكبة بفقد المغفور له مصطفى كامل، ولعل المأتم الذي أقامته الأمة كلها حزنًا عليه أنطق دليل على أن المصري الفلاح وغير الفلاح لا يرضى غير مصره، ولا يحب سوى أمته.
لم يكن مصطفى نبيًّا أمر الله بطاعته، ولا كان ملكًا يستوجب الطاعة على العباد بالجبروت المطلق، ولا كان ذا جاه يرهب الناس بجاهه، ولا مال يستهوي النفوس بماله، ولكن الأمة أطاعته وأحبته، وسمعت منه ووثقت به، على حين أن بينها الأمراء ممن لم يبلغ إمارتهم، وأصحاب النفوذ ممن لم تكن له سطوتهم، وخزنة الأموال ممن لم تكن له أموالهم، ولم يكن مصطفى ساحرًا ولا ماكرًا، فكيف وجد النصر والتأييد في القرى والمدن؟ وكيف هتف الفلاح وابنه وامرأته باسمه وراء المحراث، وفي طريق القرية وعلى سطح الدار؟ كان ذلك وهو حيٌّ بيننا، لأنه نفذ إلى مقر الوطنية في القلوب، ولأنه هتف باسم مصر وهو أحب الأسماء إلينا وأغلاها عندنا، فهتفنا باسمه في كل مكان، أما جنازته يوم مات فقد شيَّعها في القاهرة آلاف الفلاحين الذين جاءوا من أبعد قرى الريف في شمال القطر وجنوبه، بل كانوا يرون أن حرمته عليهم وحقهم في تشييعه، يقضيان أن يطلبوا بألسنة البرق تأخير الجنازة حتى يدركوها، وأما مأتمه فقد كان مأتم الأمة، فلا مدينة ولا قرية إلا كانت حزينة مكتئبة، ولا دار ولا معبد إلا وجبت فيه التعزية والبكاء، وعقدت مجالس الترحم والدعاء، وقد لبثت القرى والمدن في مأتمه أربعين يومًا.
ليس صعبًا أن يراجع الناس صحف مصر في عشر سنوات بين عام ١٩٠٤ و١٩١٢؛ فإنهم إذا فعلوا رأوا الفلاح المصري ظاهرًا أبدًا بين جماهير المحتجين على ما وقع خلال هذه السنوات، وليسأل المنصفون: كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور بالوطنية أيام حادثة «الكاملين» وما تلاها من سوق الوطنيين إلى المحاكم كما يُسَاقُ القتلة السافكون، وجرمهم هو جرمهم الذي لا يزالون يقترفونه، بل الذي تقترفه الأمة كلها اليوم، هو الألسنة الوطنية والأقلام الوطنية، ثم ليسألوا كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور وطنية يوم عرضت مسألة «القناة» ووقف نواب الأمة لها موقفهم التاريخي المشهود.
أكان الفلاح خلال هذه الأيام كلها راضيًا أم غاضبًا؟ نعم كان راضيًا، ولكنه رضا المؤمن يقبل القدرَ ويسأل الله اللطف فيه.
كابد الفلاح المصري من نظام الري ما أصابه بالنكبة في خصوبة الأرض، وجودة الزرع، ولم ينقطع عهد الفلاح بما كان لأرضه من الخصوبة، ولزرعه من الجودة، قبل الزمن الذي جاء فيه هذا النظام، فالفلاح يعلم اليوم أنه أُصيب في المقتل من حياته الاقتصادية، بعلم أن بطن الأرض امتلأ ماء ففسد، وأن متوسط محصول الفدان من القطن أصبح ثلاثة قناطير، وقد كان في أيامه الماضية ستة قناطير، ويعلم أن الأرض الواسعة لم تزل بورًا في وطنه وهو في حاجة إليها، ويعلم أن الآفات سُلِّطَتْ على زرعه لا نقمة من الله بل أثرًا لازمًا لفساد الطرق التي اتُّخِذَتْ لتوزيع الماء.
يعلم الفلاح أن زينة الظاهر تنبئ بخبر مكذوب، وأن وراء هذا الظاهر باطنًا هو الذي يعرفه؛ لأنه هو الذي يشقى به، ويصلى ناره، على أن هذا الفلاح أدرك أن العلمَ حقٌّ مباح له منذ كان المغفور له محمد علي باشا يأخذ ابنه ليعلمه، ثم تلفت حوله فإذا هو محروم من العلم؛ لأن سياسة التعليم قضت أنه ليس أهلًا للإنسانية التي يتخذ العلم زينة لها.
هذا بعض ما كابده الفلاح فيما قبل السنوات الخمس الأخيرة، وهذه وطنيته وشعوره، فإن كان بعد ذلك راضيًا محبًّا مغرمًا، كانت مسألة فيها نظر!