سياسة التعليم
«إن مسائل التعليم الأهلي كيفما تنوعت طرق حلها ذاتُ اتصال بحياة الامم وفنائها»
نَصِفُ التعليم في مصر — على سبيل التسامح — بأنه أجنبي ووطني، أما الأجنبي فالذي تنشره مدارس الجاليات الأجنبية، وأما الوطني فللأمة فيه نصيب عظيم، ونصيب الحكومة هو البقية الضئيلة.
هذه صورة الواقع على حقيقتها وعلى ما يشهد التاريخ من أنها قديمة، وقد عرف الناس جميعًا أن التعليم الحكومي في مصر كالمريض الذي أعضل داؤه، فلا هو يموت ليريح أهله من بلواه ولا هو يشفى ليُرجى نفعه وتؤمل فائدته.
ويدل الواقع الذي تبصره العين، على أن التعليم في مدارس الجاليات الأجنبية كان منذ وُجِدَتْ هذه المدارس في مصر، ولم يزل كذلك كالتربة الخصبة يربو نباتها ويزهر غرسها وتعطي أكلها وفيرًا شهيًّا، ولا كذلك التعليم في مدارس الحكومة فهو كالتربة السبخة، تستغرق جهد الزارع، وتنهب ماله في نفقتها، ثم تقتل البذر الذي يُلْقَى لها.
يدخل المصريون مدارس الجاليات الأجنبية الفرنسوية والإيطالية والأمريكية، فتغذوهم ما لا تغذوهم مدارس الحكومة، فإذا أكملوا الدرس بها خرجوا بأهلية تامة، ووجدوا العدة للحياة العملية، فلا يشعرون أنهم آلات أخرجتها المدارس للحكومة فقط كما وصف اللورد كرومر غرض التعليم في مدارسها، ويذهب المصريون بأنفسهم إلى أوربا ليستوعبوا ما فاتهم من العلم في جامعاتها، فيعودون ببضاعة ليست مزجاة يَغْشَوْنَ بها كل سوق من أسواق العلم والعمل فتروج.
أما مدارس الحكومة فيدخلها المصري إنسانًا ثم يغادرها آلة لا تصلح إلا لعمل خاص معين هو خدمة الحكومة، فإذا سُدَّتْ في وجهه أبواب هذه الخدمة انفتح له باب آخر واسع، هو باب العطلة، باب الفراغ، باب الضياع، باب النكبة التي تصيب الأمة في شبابها.
فهل المصريون أذكياء في مدارس الجاليات الأجنبية وفي جامعات أوربا، أغبياء في مدارس الحكومة المصرية؟ هل تتغير فطرة المصريين إذا دخلوا مدارس غير مدارس حكومتهم، ولا تتغير إذا دخلوا مدارسها؟ هل العلم شيء يتقيد بالمكان والزمان فهو يشرق في تلك الجامعات والمدارس، ولا يشرق في كل مكان ينسب إلى وزارة معارفنا؟ كلا، لا شيء من هذا كله، وإنما الأمر كما سترى.
قال اللورد مورلي: «إن مسائل التعليم الأهلي كيفما تنوعت طرق حلها ذات اتصال بحياة الأمم وفنائها».
ماذا يقول اللورد مورلي؟ يقول إنك تستطيع أن تتخذ التعليم الأهلي سبيلًا للحياة كما تستطيع أن تتخذه سلاحًا للفناء، ونحن لا نقول إن تعليم الحكومة كان خلال ثلث القرن الأخير أحد هذين الأمرين، ولَكِنَّا نرسم له ولما فُعِلَ به صورة صحيحة لا تنكرها سياسة التعليم نفسها لأنَّ لها يدًا في رسم هذه الصورة، ثم للناس أن يقولوا ما شاءوا.
ألَّفت الحكومة أثناء سنوات الحرب لجانًا كثيرة، منها ثلاث فرغت من عملها ووضعت تقاريرها وهي: لجنة التجارة والصناعة، ولجنة التعليم الأولي، ولجنة الشئون الصحية. وقد وَصفت كل واحدة من هذه اللجان الثلاث النقص الذي رأته في عملها الخاص واتفقت كلها على أن النقص هائل عظيم، وأرجعت كلها سبب هذا النقص الهائل العظيم إلى فساد التعليم في البلاد، ولكن كل هذه اللجان لم تَجِدْ في نفسها قدرة على أن تصف للناس علة فساد التعليم وتُشهدهم على سببه الصحيح، اللهم إلا لجنة التعليم الأولي فقد أشارت إلى جزء من العلة وشطر من السبب فقالت:
«إن مجموع ما تنفقه الحكومة المصرية على التعليم ٤٦٥٧٥٣ جنيهًا في السنة، وهو يعادل ٢ في المئة من مجموع الميزانية العمومية للمصروفات».
ثم قالت:
«وإذا قوبلت نسبة صافي المصروفات هذه — وهي ٢ في المئة — بمثلها في الممالك الأجنبية ظهر فرق مدهش جدًّا، لا من حيث ميزانيات الدول العظمى فقط، بل من حيث الممالك التي حالها المالية قريبة من حال القطر المصري؛ لأنه إذا أُنْفِقَ على التعليم من ميزانية الحكومة المصرية بنسبة ما يُنْفَقُ في رومانيا أو بلغاريا مثلًا حيث تبلغ هذه النسبة ١٠ في المئة من مجموع الميزانية؛ لزم أن تزيد اعتمادات التعليم في مصر دفعة واحدة من ٤٦٥٧٥٣ جنيهًا إلى٣٣٥٠٠٠٠».
وأبانت اللجنة في موضع آخر الوجوه التي يُنْفَقُ فيها هذا القدر من المال ثم خلصت إلى نتيجة لا تؤدي إلى الفزع أكثر مما تنطق بالعار؛ إذ قالت:
«إن ما تنفقه الحكومة في الحقيقة من إيراداتها الخاصة في كل سنة على تعليم الشعب نحو ١٩٠٠٠ جنيه فقط».
هذا جزء من العلة وشطر من السبب، على أن لجنة التعليم الأولي لم تَجِدْ قُدْرَةً على الجهر بهذه الوصمة الْمُسَجَّلَةِ إلا بعد أن أعذرت للحكومة بعذر فرغ الناس من إبطاله، فقد قالت في صدر تقريرها:
«والحقيقة أن حال مصر المالية كانت إلى عهدٍ قريب تمنع من إعداد وسائل التعليم على اختلاف فروعه ومن سد حاجة الأمة إليه سدًّا وافيًا».
فهذه الحقيقة مقلوبة إلا أن يكون المقصود بالعهد القريب أول العهد بحكم محمد علي، فهل تقصد اللجنة ذلك؟
إن العلة الصحيحة والسبب الحق فيما نطق به لسان السياسة التي قعدت على صدر التعليم في مصر وما نطقت به ألسنة أعوانها، ولقد كانت هذه السياسة تقلب الحقائق البديهية ولا تتقي أن يسمع العالم أجمع ما تثني به على من يقلبون الحقائق، قال يعقوب أرتين باشا الذي لبث وكيلًا لوزارة المعارف عمرًا طويلًا، والذي شرفه السادة الإنكليز بثقتهم في كتاب له يسمى «التعليم العام»:
«إن وجود المجانية في المدارس الابتدائية في مصر أمر غير عادل ومخالف للذوق السليم، وهي في الواقع في غير محلها فضلًا من أنها خطر على موظفي الوزارة».
إلى هذا الحد تبلغ الجرأة برجل صعد إلى أرفع المناصب في حكومة مصر على أكتاف الأمة، فيرى أن المجانية في المدارس المصرية الرسمية ليست من العدل ولا من موافقة الذوق السليم! بل إنها خطر! خطر داهم عظيم يفترس الموظفين كما يفعل الوحش بفريسته! ولم يكن رأي هذا الرجل العادل السليم الذوق المشفق على الموظفين من افتراس المجانية، رأيًا من عند نفسه، أقنعته التجربة أو أقنعه العلم بصحته، ولكنه كان وحيًا يهبط عليه فيصدع به أداء لأمانة التبليغ، فما كان أعظمه أمانة، وما كان أشقى مصر بأمانته!
قال اللورد كرومر في تقريره سنة ١٩٠٠:
«كانت نسبة المجانية في مدارس الحكومة سنة ١٨٨٩ — أي قبل الاحتلال — ٩٥ في المئة، أما السنة الماضية فكانت نسبة الذين يدفعون المصروفات المدرسية في المدارس الابتدائية الأميرية ٩٨ ونصف في المئة، وفي المدارس الثانوية ٩٦ في المئة، وأنا واثق أن هذه السياسة ستظل متبعة بثبات حتى تلغى طريقة التعليم المجاني إلغاء تامًّا أو تكون في حكم ذلك».
صدق اللورد كرومر وصدقت ثقته؛ فإن عينه لم تَنَمْ عن تحقيق العمل بالسياسة التي وَثِقَ أنها ستظل مُتَّبَعَةً، حتى لقد وصف اغتباطه بنجاح هذه السياسة بعد زمن قصير، فقال في تقريره سنة ١٩٠٤:
«ومِمَّا يستحق الذكر أن تلميذًا واحدًا فقط يتعلم مجانًا في المدارس الابتدائية».
نعم هذا عمل عظيم يستحق الذكر لأنا قضاء على الأمة بالجهل.
أي شيء أرسلته السماء على مصر حتى أصيبت في العلم، في روح الحياة، في سر البقاء، في مطلع النور، فضُرِبَتْ عليها ضرائب التعليم، وقُضِيَ على المجانية في مدارسها، هل هكذا بطش السياسة؟ تكون نسبة المجانية سنة ١٨٧٩: ٩٥ في المئة، ثم تكون نسبة الذين يؤدون أجور التعليم سنة ١٩٠٠: ٩٨ في المئة؟ أكانت مصر غنية فافتقرت؟ أم كانت سفيهة السياسة فرشدت؟
أُلْغِيَتِ البعوث العلمية، فلا أحد يذهب إلى أوربا في ظل الحكومة المصرية يتلقى الفن والعلم، اللهم إلا بضعة أفراد عادت وزارة المعارف فجعلت ترسلهم إلى إنكلترا فقط، وقد وصف ذلك المسيو لامبير آخر ناظر فرنسوي لمدرسة الحقوق المصرية فقال:
«إن أمر الإرسالية مدهش؛ فقد كانت قبل أن يتولى الإنكليز مقاليد المعارف في مصر مُوَزَّعَةً في أوربا، ولكنهم قصروها الآن على إنكلترا، ويا ليت أنهم اختاروا المدارس الراقية التي تُخْرِجُ للمصريين رجالًا نافعين يماثلون الإنكليز المتعلمين! فإنهم اختاروا مدارس كمدرسة بوردو في آيل وورث على مقربة من لندن وهي مدرسة تُخرج طلبة في كفاءة حاملي شهادة البكالوريا المصرية».
وليس المسيو لامبير وحده صاحب هذا الرأي، فهناك كثيرون غيره من الإنكليز المنصفين يشاطرونه ما يرى، بل لا يقال إن ذلك رأيٌّ نظري فإنه الواقع الذي لا ينكره أحد.
انظروا، أين المدارس التي أنشأها محمد علي؟ أين المدارس العالية لا في القاهرة وحدها، بل في مدن القطر من أسوان حيث كانت المدرسة العالية المعروفة باسمها إلى الإسكندرية؟ إنها أطلال تجيب من بكاها وتنعي من بناها، ذلك ماض له شمس تشرق في نفوس المنصفين فلا يملكون إلا أن يقولوا الحق، في نور هذه الشمس شهد هتزرزنر في كتابه «مصر في عهد الاحتلال الإنكليزي» فقال:
«ألغيت ٢٢ مدرسة تجهيزية من مدارس الحكومة سنة ١٨٨٣ وثلاث مدارس فنية ومدرسة المعلمين ومدرسة المساحة».
وإِنَّا لنجد أمامنا فيضًا عظيمًا من تلك الشهادات ومن الأقوال الرسمية نفسها لا نريد أن نطيل به، ولكنا لا نكتم فضل الأمة فيما نشب من معارك التعليم بينها وبين سياسته.
وقد كانت الأمة دائمًا ظافرة، أليس ذلك لأنها تأبى أن تضل سبيل الحياة؟
إن الفشل في تجربة ثلث قرن لا يدل على خير منتظر، فإن كان الفشل عن عجز فليس وراء العجز في ثلث قرن مطلب للقدرة، وإن كان عن قصد فلا يتحول الإنسان عن قصده المطلوب، إن المصلحتين متناقضتان، والسبيلين متعاكستان، والحق في جانب واحد هو جانب الأمة، ولا يرجع صاحب الحق عن حقه، ولا عهد للناس بحق يضيع ووراءه مطالب؛ فإن ضاع كان شذوذًا في سنة الاجتماع!