الرأي العام
«أما الجنس الذي هو أهل للعمل فسيحيا حتمًا؛ فإن كل أمة عاملة سينقذها العمل منقذ كل عامل»
للشعب المصري وطن قديم وله تاريخ جليل، وله حب لوطنه وعلم بتاريخه، فهل عليه ذنب إذا أحب وطنه وأخلص إليه؟ وهل عليه لوم إذا استضاء بتاريخه فمشى في نوره يستعيد المجد العظيم، ويطلب الحياة الغالية؟
كَأَنَّمَا يُرَادُ من الشعب المصري أن ينفض يده من وطنه، أو لا يحبه على الأقل، ولكن هل يحب الوطن لأنه رقعة يابسة من الأرض تطأ الأقدام مثلها في كل ناحية، أو لأنه مَلَاذُ أهله ومنبت حياتهم وموطن عزهم، والدار التي يعيشون بها أباة أعزاء، لا يمسهم فيها ضيم ولا ينالهم ذل؟ إنما يُحَبُّ الوطن لذلك، فإذا أريد المصريون على ألَّا يحبوا وطنهم، ففي طي هذه الإرادة شيء آخر هو أن يكرهوا أنفسهم ما داموا لا يحبون وطنهم، أي أن يكونوا أعداء أنفسهم.
متى كان حب الوطن غريزة في الفطرة كان لا بد أن يقصد أهل الوطن مقاصد تبلغ به مكان العز والشرف، وأول ما يقصدونه أن ينظروا إن كان وطنهم مأخوذًا من أيديهم أو معرضًا لذلك سعوا ليستخلصوه، وإذ ذاك يأتلف رأيهم ويجمعوا أمرهم حيث تكون الغاية واحدة، وقد لا يكون الوطن مأخوذًا ولا عرضة للأخذ فتصح النية على العمل لرفعة شأنه حيث تكون الغاية واحدة أيضًا، وفي كلتا الحالين يتكوَّن ما يسمونه الرأي العام، وربما لا يكون الرأي العام في الأمة الواحدة مُتَّحِدَ المجرى، ولكنه على كل حال يكون مُتَّحِدَ الغاية، فإذا جاءت الطامة كان واحدًا في مجراه وغايته، فترى الأمة كلها حزبًا واحدًا وقد كانت أحزابًا شتى.
في مصر رأي عام قديم لم تختلط عليه السبل، ولم ينحرف عن قصد الغاية، وللرأي العام المصري قوة مثله في كل بلد وإن لم يكن له بطشه، لا لعجز فيه بل للأناة والتؤدة، ولا بلاغ العالم أنه موجود وأنه غير باغٍ ولا عادٍ، ولأن المصري يريد أن يكون الإنصاف عدَّته والحق سلاحه، كي لا يقال إنه لم يحكم إنصاف العالم في قضيته، أو إنه عمل وحده فليترك وحده.
عُرفت قوة الرأي العام المصري في تولية الملوك، فهو الذي حمل الدولة العثمانية على الرضا بمحمد علي واليًا لمصر، هو الذي طلب ذلك وأجمع عليه منذ قرن وربع قرن فلم تجد الدولة العثمانية وهي في عظمتها بُدًّا من أن تكون عند إرادته.
وعرفت قوة الرأي العام المصري في تقييد الحاكم الفرد المطلق منذ ثلاث وخمسين سنة، فقد أُنْشِئَ المجلس النيابي المصري سنة ١٨٦٦ في أول العهد بحكم الخديو إسماعيل، وهنا يجب أن نلتفت إلى أمر لا بد منه، وهو أن إسماعيل كان يومئذٍ طليقًا من كل قيد، آمنًا كل رقيب، كان يومئذٍ بعيدًا عن أشباح الحوادث التي وقعت في آخر أيامه، فلا يقال إنه رضي أن توضع في يديه قيود الحكومة النيابية وأن تقوم سلطة الأمة بجانب سلطته ليخدع أوربا أن يغش ساستها، ولم يخلق إسماعيل من طينة غير طينة الملوك والأمراء المطلقين حتى تكون الحكومة النيابية خاطرًا في نفسه لم يشعر به أحد سواه، وحتى يُبَادِهَ الأمة بهذا الخاطر غرة حين لا يكون قد أحسه من جانبها أو لا تكون الأمة قد أرته نور أمنيتها.
وعُرفت قوة الرأي العام المصري سنة ١٨٨١ يوم توفرت عزيمة الأمة كلها على مقصد واحد، فأعاد لها الخديو توفيق مجلسها النيابي لا إعطاء بل أخذًا، حتى إذا جاءت سنة ١٨٨٣ بطشت القوة الطارئة بهذا المجلس فقضت عليه.
وعُرفت قوة الرأي العام المصري في الحرب الأولى التي نشبت بين الدولة العلية واليونان، فقد كانت مصر تغلي بأحر مما تغلي به تركيا نفسها، ولم يكن ذلك لأنها تريد أن تظفر تركيا فتقوى على مسخ الاستقلال المصري، بل لأن السيادة الاسمية العثمانية كانت هي الصخرة الصلبة أمام القضاء على هذا الاستقلال وكانت الأمة تعلم ذلك، وتعلم أن في قوة تركيا بقاء هذه الصخرة حتى يزيلها المصريون أنفسهم، أو يزيلها غيرهم ممن لا يطمعون في أن يضعوا مكانها صخرة أقسى منها.
وعرفت قُوَّةُ الرأي العام المصري في حادثة العقبة، وكان غليانه إذ ذاك استمساكًا بتلك السيادة الاسمية خشية أن ينقطع خيطها فترزح الأمة بسيادة فعلية تذهب باستقلالها الداخلي، وتضاعف عناءها في طلب الاستقلال التام.
وعُرفت قوة الرأي العام المصري في حادثة المحكمة الشرعية العليا يوم أغلقها قاضيها حتى ترفع يد العبث بالأحكام القضائية، فكان رأي الأمة عضده القوي.
وعُرفت قوة الرأي العام المصري يوم نُكِبَ العدل وفجعت الإنسانية بحادثة «دنشواي» سنة ١٩٠٦ فثارت النقمة على الجبروت المتمرد في كل دار، وارتفع صوت الغضب حتى أطبق على الأقطار وحتى سجلت الوصمة على أصحابها، وخرج العدل مرفوع الرأس، وظفرت الأمة بما شهد الناس من حياتها، وإن لم يكن ذلك كله قد رُدَّ عليها فائتًا، ولا أحيا ميتًا.
عُرفت قوة الرأي العام المصري منذ تولى محمد علي ولاية مصر وفي كل ما قدمنا من الحوادث وغيرها مِمَّا تعاقب بعدها ولم يزل ناميًا قويًّا، يتجلى في كل مواقفه المشهودة ليدل الناس على أن الأمة لا تهن عن تفرق، ولا تؤخذ لجهالة، ولا تُغْلَبُ افتقارًا لأهلية الاستقلال.
كان الرأي العام المصري يقظًا شديدًا؛ لأنه كان ولم يزل معتزًّا بالعدل، مؤيدًا بالحق، فلم يكن يخشى أن تكون له شدة في طلب الحق، وصلابة في إقامة العدل.
وفيما بين هذه السنة التي نحن بها وسنة ١٩٠٦ كان شأن الرأي العام المصري عظيمًا؛ فقد عَزَّ جانبه، ورسخت قدمه، وبلغ من القوة مكانة الرأي العام في أعز الأمم جانبًا وأرفعها مكانًا.
أَلَحَّتْ الكوارث على الأمة من كل ناحية فكانت كالمطر الغداق يسيل على المرتفعات والآكام كما يسيل في الأغوار والأودية، ولكن هذه الكوارث كانت تعطي الرأي العام قوة بدل الضعف وتزيده نورًا بدل الظلام، لم يهب أن تلح الكوارث عليه، بل سار تحتها وهي مُرْعِدَةٌ مُبْرِقَةٌ، فخلص بقوته الروحية وبقوة الحق الذي في يده إلى أعمدة الجبروت فهزَّها.
هل ارتعدت الأمة بكوارث الأيام فلم تظهر شديدة في حقها إلى اليوم، فماذا يُرَادُ أن يكون من أمة هذه حياتها؟
إنا نحن ذلك الجنس الذي قال المسيو كليمانصو فيه سنة ١٨٨٢:
«أما الجنس الذي هو أهل للعمل والنظام — يريد الجنس المصري — فَسَيَحْيَا حتمًا؛ فإن كل أمة عاملة سينقذها العمل منقذ كل عامل».
وقد بقينا نحن المصريين ذلك الجنس وزدنا عملًا ونظامًا، فإن لم ينقذنا العمل فلا أنقذ أمة في الأرض.