نظرة إجمالية
«وهل يعقل أن تفشل حكومة وطنية مثل فشلنا في مدة ٢٥ سنة مضت؟!»
يقولون إن لجنة «اللورد ملنر» سَتَفِدُ على مصر لتضع نظامًا جديدًا للحكم غير الأنظمة الكثيرة التي تعاورتها التجربة خلال ثلث القرن الأخير، فلقائل أن يقول — وقد يكون قوله حقًّا — إن التجربة الجديدة على فرض أنها ستكون لا تشذ عن التجارب الأولى، أي إنها ستكون عرضة للمسخ والنسخ والمحو الإثبات ما دام الغرض واحدًا لا يتغير، وهو رسوخ القدم في مصر إلى ما شاء الله.
لنفرض أن تجربة المستقبل ستستغرق ثلث قرن آخر، ولننظر إليها بعين الحق والعدل، أفلا نرى حينئذٍ أنها طريق ترسم إلى غرض يخالف الغرض الذي تطلبه الأمة، لا يستطيع أحد أن يقنع العقل البشري بأن هذين الغرضين متفقان أو يمكن اتفاقهما؛ فالتاريخ يشهد بغير ذلك، وحوادث التاريخ لا تدل على أن أمة حاكمة تتبرع من نفسها بوسائل الحكم الصحيح لأمة محكومة كرمًا منها وفضلًا، الشهادة التاريخية التي كانت صادقة في كل وقت تقضي أن تسير الأمة الأولى بالأمة الثانية على جسر من القطيعة، وفي سبيل لا يوجد الخلاص النهائي عند غايتها.
إنا ليسهل علينا جدًّا ان نقول إن مصر تستطيع أن تصبر ثلث قرن جديد لو أنها وَثِقَتْ ثقة صحيحة بأن القوم سيودعونها بسلام يوم ينقضي أمده، ولكن هل في الأرض شيء يستطيع أن يجعل هذه الثقة في محل الإيمان من قلوب المصريين؟ إن كل ما يمكن أن يقال لمصر إنه مطلع تلك الثقة ليس إلا وعودًا وعهودًا وأقسامًا مغلظة ومواثيق مبرمة، بل أكثر من ذلك معاهدات دولية وقرارات برلمانية، غير أن مصر تستطيع مع هذا كله أن تقول: إن الوعود والعهود والمواثيق والأقسام، لا تخدع إلا الساذج ولا تغر غير الأبله، بل إنها تنزع الثقة من الصدور كلما تجددت واشتدت. لا، بل تستطيع مصر أن تقول فوق ذلك: إن هذه الأساليب علمتني أن أكون من اليوم غير ساذجة ولا بلهاء.
كان الميثاق من قبل مصوغًا في هذا الأسلوب: «لا ننوي البقاء في مصر إلى الأبد، ولا نطمع أن نبسط يدنا بحماية عليها»، فكيف كان هذا الميثاق بعد؟ مضت سنة وأخرى، وعشر وعشرون، ثم كاد القرن ينتصف، فماذا رأينا؟ لم نَرَ إلا عملًا وأنظمة ووسائل وتدابير لا يحتاج إليها الذي ينوي الارتحال، بل هي حاجة من ينوي البقاء إلى الأبد، على أن الأيام طاحت بصدق الشطر الأخير من الميثاق، فلم يصدق ما قيل من إنهم لا ينوون بسط الحماية، ونحن اليوم نسمع ميثاقًا جديدًا لولا أن مصر تحركت حركة الحياة والإباء والشرف لما سمعناه، هذا الميثاق الجديد هو أن العدل والرحمة قضيا أن يُدَرَّبَ المصريون على الحكم الذاتي، ثم يكون لهم هذا الحكم!
لا ريب أن الناس جميعًا ينظرون صورة هذا الميثاق فيرونه في الأرض، بينا يرفعون بأبصارهم إلى منزلة الأمة ومكان أمنيتها وموضع حقها فيرونها في السماء.
يريدون أن يدربوا المصريين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ثم ماذا؟ لم يتفضلوا فيقلوا ماذا يكون بعد ذلك، ولكنا نحن نستطيع أن نقول، ويستطيع العدل أن يسمع حديثنا فتطيب نفسه.
الذي سيكون أحد أمرين: فإما أن نصل إلى غاية الحكم الذاتي، وإما ألَّا نصل، وعلى كل حال لا نعرف الوقت الذي ضُرِبَ أجلًا لهذا الدرس الجديد، فليكن ثلث قرن كالذي مضى، فإذا وصلنا كانوا قد انتقضوا على أنفسهم وأضاعوا غرضهم، فأي شيء يضطرهم إلى إضاعة الوقت والغرض فيما لا يجديهم، وإذا لم نصل كانوا قد أتموا الإجهاز علينا.
إذا كان يُرَادُ مِنَّا الآن أن نقتنع بأننا سنحكم أنفسنا بأنفسنا في المستقبل، وإنهم سيودِّعُونَنَا وداعًا جميلًا في يوم لا يعلمه إلا الله، فلماذا لا يكون ذلك اليوم؟!
وإذا كان القاصر لم يبلغ رُشْدَهُ على يد وَصِيِّهِ بعد أن تولاه ثلث قرن فمتى يبلغه؟ إن القاصر يصف نفسه بالرشد وينسب إلى الوصي ما ينسب إلى كل وصي خشن اليد، حديد الناب، طويل الظفر. ويقيم الحجة على ما يدعي فيقتنع الناس بحجته، فكيف لا يُترك لنفسه ليرى الناس هل رَشد أو لا يزال قاصرًا؟
لئن كان حقًّا ما قاله المستر «روبرتسون» سنة ١٩٠٥:
«هل يعقل أن تفشل حكومة وطنية مثل فشلنا هذا في مدة ٢٥ مضت؟».
فحق أيضًا ما قاله الإنكليزي المنصِف صاحب كتاب «تحرير مصر» سنة ١٩٠٦:
«لماذا لا نعترف بأن مصر بلغت سن الرشد، وأنها تعلمت ما يكفيها، وأن الساعة قد أتت لتقوم الأمة المصرية بشأن نفسها وتدبر أمرها بعقلها؛ لأن آمال القارة الأفريقية كلها معقودة بمصر؟».
نعم، كِلَا القولين سؤال حق، ونحن أيضًا لا ندري لماذا لا يكون هذا الاعتراف؟ ولا نعلم كيف يعقل أن تفشل حكومة وطنية كفشلهم في ربع قرن؟
أليس في الأرض إنصاف؟ على أن الإنصاف في السماء إذا لم يكن في الأرض!