درس في الحكم الذاتي
«إني أقمت في مصر مدة قبل أن تحققت قلة علمي بموضوع اشتغالي، ووجدت إلى آخر أيامي في تلك البلاد أني كنت أتعلم في كل يوم أمرًا جديدًا»
لو أن رجلًا أنشأ مدرسة ليعلم الأبناء، أكان يدل على مهارته أن تبقى مدرسته نحو أربعين حَوْلًا بناء تغشاه سحابة الجهل على رغم أنه يحشوها كل يوم بأساتذة جديدين؟
كلا، بل يكون أمر هذا الرجل بين حالين، فهو إما يريد أن يكون تاجرًا حيث لا يريد أن يكون معلمًا، وإما يريد الخير ولكنه لا يعرف سبيله؛ إذن فهو لا ينفع، فإن تَشَبَّثَ بأن تبقى يده آخذة بزمام الناشئين بعد هذه التجربة الطويلة، فلا يكون ذلك حقًّا له.
هذا مثلنا بين الماضي والمستقبل، وقد كان الشفيع في بقاء الحالة على ما هي عليه أننا نتلقى العلم والنظام والمدنية في مدرسة السياسة العالية، فإذا جاء اليوم الذي نصبح فيه أهلًا للاستقلال تَرَكَنَا أستاذُنا ومضى مشكورًا، ولكننا نسمع الساسة والكتاب الإنكليز يقولون ما قالوه من قبل، يقولون: إن الذي مضى كان تجربة اقترن بها الفشل. واللورد كرومر يؤيد ذلك بقوله:
«كانت حكومة مصر هذه — يشير إلى حكومتها منذ سنة ١٨٨٢ — تجربة واختبارًا في باب الإدارة الشرقية فانتهت التجربة ببعض الفوز مع ما في هذه الحالة من المساوئ والعيوب».
غير أنهم يقولون الآن: فلنأخذ في تجربة أخرى عسى أن يقارنها الفَلَاحُ، ولكن أسفار التاريخ تعترف بعجزها عن أن تطوي بينها خبر أمة غالبة وضعت سلاح الاستقلال في يد أمة مغلوبة.
إنَّا لا نبتدر هذه الدعوى بالرفض المطلق؛ فإن وراء البحث حجة الحق الناهضة، فلننظر ماذا يُراد أن يكون، ولننشر صحيفة هذا الدرس الجديد، لنشمَّ ما يفوح منها.
يقولون: سنتوسع في الخصائص النيابية، وسنمنحكم نعمة صغرى من نعم الحكومة النيابية لتصعدوا منها إلى النعمة الكبرى، هذا قول أهمل فيه الطرف الذي يصيح بحقه، وظهر به تجاهل الحق المطلوب، فالمصريون يطلبون الاستقلال التام لأنه حقُّهم الطبيعي المؤيد بالمعاهدات، الثابت بإجماع الناس، فكيف يقال لهم: ماذا تطلبون من التوسع في الخصائص النيابية والأخذ بيد التعليم ومداواة الإدارة من أمراضها؟ أليس هذا نهاية ما يكون من تجاهل العارف؟
لا تزال السياسة تطلع على الناس بعجائب يود العقل البشري أن تخسف به الأرض قبل أن تنسب إليه، عجائب تَقَطَّعَتْ بها الأسباب، ورجع آخرها على أولها بمعاول التهديم والتخريب، فمن بدائع السياسة الإنكليزية أن لها رأيًا لم يزل يتردد بلسان التوكيد، فهي ترى أن الأوربي محروم من التوفيق كلما أراد أن يعرف نفس الشرقي معرفة تكشف له عن ميوله وطبعه وعادته وخلقه، ولا يفتح الله عليه بهذا التوفيق مهما أقام في الشرق، والصواب أنه رأي صحيح على غير إطلاقه، فإذا خُصِّصَ التعميم فصارت كلمة «أوربي» في عرف الساسة الإنكليز مرادفة لكلمة «إنكليزي»، بحيث لا تؤدي أكثر من معناها كان حقًّا ما يرون فالإنكليزي لم يفهم الشرقي ولا عرفه، ولا بلغ من حقيقته في ذاته وعادته وخلقه وحياته ما ينبغي أن يبلغه ليملك زمامه، وليس سبب ذلك أن النفس الشرقية مُسْتَكِنَّةٌ في صندوق من الحديد، بل سببه أن النفس الإنكليزية مترفعة عن أن نقف بجانب النفس الشرقية. فهي من وهم صاحبها في برج فولاذي يعلو بها عن منازل البشرية، لا بشرية الشرق وحده، بل بشرية الغرب أيضًا!
يقول اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»:
«إني أقمت مدة في مصر قبل أن تحققت قلة علمي بموضوع اشتغالي، ووجدت إلى آخر أيامي في تلك البلاد إني كنت أتعلم في كل يوم أمرًا جديدًا».
كذلك يقول اللورد كرومر، فيشهد على نفسه أنه أقام في مصر مدة كان يعمل فيها عمله المعروف — وهو عمل الحاكم المطلق الذي لا ينازعه أحد — على غير علم تام بموضوع عمله.
واللورد كرومر هو الذي يقول قومه إنه رجل فَذٌّ خبر مصر خبرة لم تتفق لإنكليزي سواه، ومع ذلك فقد عمل في مصر مدة وهو لا يعلم موضوع عمله، على أنه بقي ناقص العلم بما لا بد منه لمن يستحل أن يقوم مقامه في مصر، فهو نفسه يقول إنه أدرك إلى آخر أيامه في هذه البلاد أنه كان يتعلم كل يوم أمرًا جديدًا، هذا مبلغ علم اللورد كرومر بمصر، وهو الذي أقام فيها نصف عمره كما قال، فما مبلغ علم غيره؟ وأين القدرة على تأهلينا للاستقلال إذا تَوَفَّرَ حسن النية؟
بل نحن نبالغ في التسامح إلى ما لا يحتمل التسامح، نحن نقول: فلتجلسوا لتضعوا صورة الدرس الجديد في الحكم الذاتي ولكن هل يَتَّسِعُ المجلس لنا ولكم؟ هل تشركوننا في وضع هذه الصورة؟ فإن اشتركنا وإياكم فما نحن وإياكم بمتفقين، نحن نريد صورة لا نأخذها درسًا مجهولًا لأننا لم نعد نجهل هذا الدرس، وأنتم تريدون أن نكون تلاميذ نتلقى درسًا لا نجهله، نحن نريد صورة يرى الناس فيها جمال سلطة الأمة، وأنتم تريدون صورة يرى الناس فيها مظهر إخضاعها، نحن نريد حكمًا ذاتيًّا يمشي بين صفوف من جلال الاستقلال، وأنتم تريدون شيئًا موصوفًا بأنه طريق الحكم الذاتي وهو في الواقع ليس كذلك.
هذه حالنا وإياكم إذا ضمنا وإياكم مجلس واحد تخلق فيه صورة الدرس الجديد، فإذا أبيتم الاشتراك فما أنتم بفاعلين شيئًا، ولا قادرين على شيء لأنكم لا تعرفوننا فلا تعرفون ما ينفعنا، بل قد لا تعرفون ما ينفعكم لدينا.
كأنَّنَا ننظر إلى المجلس النيابي الذي يقال إنه سيكون مظهر سعة الخصائص الدستورية ومجال المنح التي تدني يد الأمة من آلة الحكم، كأننا ننظر إلى هذا المجلس في الصورة التي سيولد بها، ولكن كأننا أيضًا نري نوابنا فيه نيامًا على مقاعدهم؛ لأنهم لا يملكون أن يتناولوا مطالع الحياة بالعقل الفياض والرأي الراجح، وكأن كل ما سيجتمعون له أن ينظروا في ضريبة الخفراء وعشور النخيل، وتأديب العمد، ومسائل الأمن العام، وأشكال التعليم الأولي، وما يسمى «بدل الانتقال والسفر» للموظفين … إلخ إلخ. وما أشبه أن تكون هذه الأشياء أوليات لا تحتاج إلى مجلس نيابي!
إن الدرس الذي يُرَادُ أن نتلقاه، كالدرس الذي تلقيناه من قبلُ في موضوعه وغايته، ما دام على الصورة التي لمحناها في صحف أيامنا الحاضرة!