درس في القضاء
«نرى لهذه المسألة حلًّا واحدًا وهو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها بيدها»
لعل الدرس الذي يُرَادُ أن نَتَلَقَّاهُ لإصلاح القضاء المصري، هو الدرس الذي وضع اللورد كرومر موادَّه وعناصره منذ كان لا يرى أن يصلح القضاء إلا بإلغاء الامتيازات الأجنبية.
نعم، هو هذا الدرس القديم، هو الذي لم تغب عن الأمة خوافيه فاعترضته، وهو الذي طارت الآمال بأصحابه تحت غبار الحرب فألَّفوا له «لجنة إلغاء الامتيازات الأجنبية»، وجعلوا روحه ما يُسمى توحيد القضاء هو الأمل المنتظر والعمل المدخر، غير أنهم لم يُحْكِمُوا نسجَ شباكه، فاستطعنا أن نرى من ثقوبها شبح المستقبل المخيف.
لا ريب أن شريعة العدل لا تَتَمَشَّى نزيهة طاهرة إلا أن تكون صالحة للزمان والمكان، وليس معنى ذلك أن تكون صلتها بهما زمنية ومكانية، بل معناه أن تكون هذه الصلة بشرية ترجع إلى أهل المكان الذي تشترط صلاحيتها له، وتوافق أهل الزمان الذي تشترط له هذه الصلاحية في مكانهم، فعدل الشريعة الموضوعة مُسْتَمَدٌّ من روح الاجتماع الخاص، من العادات والأخلاق واللغة والدين والقومية، ولكن القوم يريدون أن يخالفوا هذه السُّنَّةَ الطبيعية حين يضعون شريعة إصلاح القضاء المصري، أو تقويضه وإقامة قضاء آخر في محله.
ليست اللغة ولا الدين ولا الأخلاق ولا العادات في شيء من الشريعة التي لا يريدون التحول عنها، ليست منها في شيء قليل أو كثير، وليس يُنْتَظَرُ أن تكون منها قط، ما دام النظر إليها في هذه الشريعة ينقض الغرض ويعكس المطلوب، ولو أنه أُرِيدَ، أو لو أنه يراد أن تكون إحدى هذه الخصائص القومية في شيء من الشريعة القائمة بذهن السياسة، لما أُلِّفَتْ «لجنة إلغاء الامتيازات وتوحيد القضاء» على نحو ما أُلِّفَتْ، بل لَمَا أجاب «السير برونيات» نقابة المحامين الأهليين ذلك الجواب الصريح الْمُرَّ، حين طلب أن يمثلهم أمام اللجنة فرد واحد فقالوا: إن رجلًا واحدًا لا يمثل أمة كاملة في وضع شريعتها، فقال: ليس من الضروري أن يكون فرد ولا أكثر من فرد.
نترك ما يصيب المسألة المادية من عدل هذه الشريعة الجديدة، فقد يكون ما يصيبها أهون من غيره، وقد يصبر المصري على النكبة التي يجرها عليه قضاء لا أثر فيه لشيء من خصائص الأمة، نترك هذا وننظر إلى المسألة الأخرى، إلى الغاية التي تنتهي إليها تلك الشريعة، أفلا تتمزق الحجب عن المستقبل فترى العين تحته قضاء معقدًا مشكلًا يودي إلى نتيجة واحدة، هي مسخ الروح الاجتماعي ومسخ العدل الوطني وتقمُّص روح الاجتماع والعدل جسدًا غير مصري عملًا بحكم التناسخ السياسي؟
لا يجوز أن نطمع في غير هذا؛ فإنا إذن نطمع في شيء ينافي ما لا بد منه للسياسة، فعلى الذين يجهلون العاقبة أن يُوَطِّنُوا النفس على رؤية القضاء في هذه الصورة، وتناول الدرس الجديد بهذا المذاق، أما الإصلاح النافع فهو الذي تَوَفَّرَتْ عليه براهين الحق ووجده المنصفون من الإنكليز وغير الإنكليز سبيل المصلحة لمصر ولإنكلترا جميعًا.
وقد بحث السياسي الإنكليزي صاحب كتاب «تحرير مصر» مسألة القضاء المصري بحثًا دقيقًا، وتناوله بعقل وحكمة لم تَضِعْ معهما مصلحة إنكلترا نفسها كما لم تَضِعْ معهما مصلحة مصر أيضًا، وأبان مصاعب الأخذ برأي «اللورد كرومر» في توحيد القضاء وابتنائه على خليط من الشرائع الغربية، ثم قال في تضاعيف بحثه:
«كيف يوجد نظام قانون يقنع المصريين والإنكليز واليهود والفرنسيون واليونان وكثيرين غيرهم، وإذا فرضنا وجود مثل هذا النظام فمن يستطيع أن يقدمه للموافقة عليه وقبوله، ولو فرضنا زوال كل هذه العقبات فإن إلغاء المحاكم القنصلية يكون من المصائب الكبرى على مصر من الوجهة السياسية».
وقال بعد هذا:
«إن المسألة القضائية أكثر تعقيدًا من المسألة المالية، ولا يمكن التفكير في أنها تُحَلُّ بعقد مؤتمر دولي يجتمع فيه مندوبو الدول ويقرون في شأن القضاء المصري ما يرون، فيسعى هذا المؤتمر لتوحيد القانون بأن يضع قانونًا رسميًّا يطابق أغراض الجميع، وينفذ في رعايا الجميع، غير أن عقد مثل هذا المؤتمر بعيد الحصول جدًّا، فإنه إذا اجتمع لا يلبث أعضاؤه أن يختلفوا شتى الاختلافات؛ لأن لكل طائفة دينًا ولغة ومبادئ تخالف دين غيرها ومبادئه ولغته، ولا يبالغ من يقول إن مثل هذا المؤتمر لا يوشك أن يجتمع حتى ينقض، على أننا نرى لهذه المسألة حلًّا واحدًا هو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها بيدها، يجب عليها أن تسأل الدول أن يسمحن لها بدخول صفوفهن وأن يعددنها منهن لتستطيع أن تنفذ عدالتها بيدها».
هذا رأي رجل إنكليزي منصف لا ينسى مصلحة أمته حين يدل على مصلحة مصر ومصلحة العدل لذاته في مصر، ولكن أبلغ من هذا قوله:
«أليس عجيبًا أن تبقى مصر كل هذا الزمان محرومة من الحقوق التي نالتها جمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور وهما حكومتان صغيرتان، سادتهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟! هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلَّموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوربية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا يُحْرَمُونَ من التمتع بالحقوق التي يتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟!».
حجة تنهض بالحق فلا دافع لها، أنهضها صاحبها منذ ثلاث عشرة سنة، فكيف إذا ضرب الحق بها الآن وجه الباطل؟
نحن نتمشى مع السياسة إلى أقصى غايات التسامح المُمْكِنَةِ، ونُشْهِدُ الناس على أننا نقدم حسن الظن بين أيدينا، ولكنا نفتقر إلى دلائل تؤدي إلى أدنى مراتب الإقناع بحسن الظن. نقول: كيف توضع شريعة القضاء الجديدة؟ ومن الذي يضعها؟ إن الذي رأيناه أنها وُضِعَتْ على نحو ما قال صاحب كتاب «تحرير مصر» من التذبذب بين الأهواء المختلفة والمنافرة الشديدة، وستوضع على هذا النحو إذا نسخت صورتها التي فرغوا من وضعها، أما الذين وضعوا هذه الصورة، أو سيضعون الصورة الأخرى، فرجال لا نُنْكِرُ أن لهم كفاءة فيما هو خاص بهم، هم كانوا قضاة ومحامين وإداريين وماليين، وهم أصحاب كرامة تأبى لهم أن يقولوا في أنفسهم إنهم شُرَّاعٌ، أو إن معرفة القانون في مسائلة القضائية، ومعرفة الإدارة في صنوفها الإدارية، ومعرفة الفنون المالية والسياسة المادية، هي الكفاءة كل الكفاءة لوضع الشرائع وتكوين روح العدل، ولكن هؤلاء هم الذين وضعوا شريعة القضاء المصري في صورته التي شُغلوا بها، فكيف تكون هذه الشريعة ذات قوام ثابت، ومنهج عدل صحيح؟
بل فوق أنهم فعلوا ما ليس لهم أن يفعلوه، استعاروا للعدل المصري عناصر غريبة قضت السياسة أن تحمل عليها شرائع القضاء في الهند وغيرها من المستعمرات، وهم باقون على استعارة هذه العناصر إذا قدر أن توضع شريعة القضاء المصري مرة أخرى، فكيف يجوز أن يكون الناس سواء فيما يُقضى به في أوطانهم؟ لئن جاز أن تصلح الشرائع الفرنسوية والألمانية والروسية والأمريكية… إلخ إلخ مكان الشريعة الإنكليزية في بلادها؛ جاز أن تصلح في مصر شريعة ليست إلا خليطًا متعجنًا مرتبكًا مستعارًا من شرائع المستعمرات في الشرق والغرب.
ولكن السياسة هكذا تريد، والأمة لا تريد ما تريده السياسة وشتان بين إرادة يأباها الحق فينفر منها، وأخرى يرضاها فيسكن إليها، على أن الله لم يخلق للمصريين عقولًا تفهم الدرس الذي يُرَادُ أن يأخذوا به في هذا الشرع الجديد، ذلك أمر الله، والله غالب على أمره.