درس في الإدارة
«إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العام الآن»
قد يفترض الإنسان الشيء وهو غير كائن؛ مجاراة لخصمه، ليصل به إلى محل الإقناع بالحجة القاطعة، وليتصور الأمر المحذور بصورته التي يدل عليها قياس المستقبل بالماضي فيحذره ويتقيه.
إنك لتصف الطريق المخيفة لأخيك الذاهب في سبيل الغاية المطلوبة، ويكون حقًّا عليك أن تصفها له؛ فإنك إذا لم تفعل كنت قد أهملت الواجب، وفرطت في أداء الحق.
وإنك لتدل الساري في جوف الليل على مكان الظلام، كما تدله على مطلع القمر حتى لا تنصرفَ عينُه عن النور الساطع إلى الظُّلمة الحالكة، فتزل قدمه ويضل هداه.
بل إنك لتأنس من نفسك حدة النظر وسلامة البصر، ثم تحتاج إلى من يرفع حجب الخداع عن عينك ويمنع مغالطة الحس عن قلبك، فلا يخدعك لمعان السراب ولا يغرك البرق الكذاب.
إن الفجر الكاذب يجاور الفجر الصادق، فإن لم تكن على بصيرة من هذا وهذا، فقد يُرْدِيكَ الأوَّل بضلاله، بينا أنت تطلب الثاني لتهتدي به.
كذلك نحن نرسم صورة فرضية، والفرضيات أمثلة تصوُّرية يقتضيها وجوب الحذر مما يقدر أنه ناشئ عنها.
ونحن قد شبعنا وعودًا ومواثيق، حتى أصابنا مرض البطن لكثرة ما تجرعنا من حلوها ومرِّها، ووفرة ما ازدردنا من علسها وبصلها، بل أصابتنا تخمة المواثيق والوعود، فأصبحنا في حاجة إلى الشفاء من هذه التخمة، وماذا علاجها إلا أن تلقى الأفواه ما ملأ البطون، ثم لا تعيده مرة أخرى خشية أن ترجع العلة أضعاف ما كانت، إنا نسمع وعودًا ومواثيق، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالناس هم الناس، يعدون اليوم كما وعدوا أمس، والطريق هي الطريق، يسلكها غدًا من سلكها اليوم.
أبت مصر إلا أن تكون في ثلث القرن الجديد كما تريد لنفسها وكما تريد أن تكون إلى الأبد، فهل تتبدل إرادتها بما يقال إنها ستناله من القشور التي تعلم تفاهتها، ولا تجهل أنها قشور تنفصل عن اللب الخالص فتجف وتسحق وتذروها الرياح، ثم لا تكون شيئًا مذكورًا؟
وماذا عسى أن تكون تلك القشور؟ لقد أسلفنا بعضها واليوم ننظر في شيء آخر هو الذي يُسَمَّى إصلاح الإدارة، أو كما يُراد أن يقال: تلقين المصريين درسًا جديدًا في مدرسة الأعمال الإدارية.
آمنَّا وصدقنا أن القوم آمنوا وصدقوا الآن فقط إن الإدارة مختلفة معتلة، وإن المصريين مُبْعَدُونَ عن المناصب الإدارية فعلًا وحكمًا؛ لأن الْأَكْفَاءَ الكثيرين ضُرِبَ بينهم وبين هذه المناصب بسور من حديد السياسة، ولأن الذين تقلَّدوها لا يملكون تقديمًا ولا تأخيرًا، فلا رأي ولا سلطة ولا عمل إلا أن يتحركوا بالخطة الموضوعة كما تتحرك قطع الآلة الحديديَّة الصماء بقوة الدفع المسلط عليها، ولكن هل قال أحد من المصريين إنَّنا نطلب إصلاح الإدارة بأي صورة من السياسة التي تريد أن تتبرع بهذا الإصلاح؟ وكيف تسمع السماء والأرض ضَجَّةَ المصريين العالية بطلب شيء مخصوص محدود معين هو الاستقلال التام، ثم تريد تلك السياسة أن تتجاهل هذه الصورة، أو تقول إن أُذُنَ السماء والأرض مريضة بالصَّمَمِ لأنَّ أذنها هي لم تسمع صوت المصريين أو سمعته استقلالًا، وفهمته حماية بعد أن كان احتلالًا؟
لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لحاربت حربًا شديدة في سبيل الوفاء بالوعود القديمة، ولأَصَرَّتْ على الرفض والإباء إذا فرض أن أحدًا طلب منها أن تبقى في مصر لحظة واحدة بعد الآن. نعم، لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لفعلت ذلك ليقوم لها من حسن النية شفيع يخرجها من مصر طاهرة الذيل بعد أن أمضت ستًّا وثلاثين سنة تتكلف الإصلاح فلا يطاوعها، وتناديه فلا يجيبها، وتستلينه وتستعطفه فلا يلين لها ولا يعطف عليها، ولكن هذه السياسة ضرب من السياسة العامة، والسياسة لا قلب لها، فلا ترحم نفسها ولا ترحم أحدًا.
وكيف تريد السياسة أن يكون إصلاح الإدارة في مصر؟ لا ريب سيقولون: نضع أنظمة جديدة فيضعونها، ونعطي المصريين حصة من العمل في الإدارة أزيد من حصتهم الحاضرة فيعطون أو لا يعطون. ولكن مصلحة السياسة ومصلحة مصر متضادتان، فأي دليل على أن هذه الأنظمة ستكون في مصلحة مصر، ولو فرض أنها ستكون في مصلحتها فأي دليل على أنها تنتقل من القول إلى الفعل؟ ولو فُرِضَ إنها ستنتقل فأي دليل على أن هذا الانتقال دائم؟ وأخيرًا أي دليل على أن المصريين الذين ينالون تلك الحصة الواسعة من العمل الإداري سيكونون مُخَيَّرِينَ لا مُسَيَّرِينَ؟
اللهم إن هناك دليلًا واحدًا هو الماضي، وهذا الماضي يشهد أن شيئًا من ذلك لا يكون، فخير ألَّا يكون من أصله، وخير أن ترجع السياسة إلى الصداقة على البعد، إلى الفوز بعطف أمة لها من مركزها ونهضتها تأثير عظيم في الشرق والغرب، إلى مطلب الأمة الصحيح، إلى الاستقلال التام؛ فقد عقد المصريون عليه خناصرهم وأصبحوا لا يقنعون بما دونه، لأنهم يريدون أن يكونوا أحياء، ولأنهم أدركوا أن الحياة هي الاستقلال.
قال المستر روبرتسون سنة ١٩٠٥ ما معناه:
«إن الموظفين الإنكليز يفعلون بغيرهم ما لا يريدون أن يفعله غيرهم بهم، سواء في ذلك موظفو الإدارة في مصر، والسياسيون في إنكلترا، والصحفيون الأوربيون في إنكلترا ومصر».
كان هذا رأي «المستر روبرتسون» قبل أربع عشرة سنة، فهل تغيرت الحال؟ كلا فإنها غريزة في الفطرة، وخلق يجري من النفوس مجرى الدم من الأجسام، وخطة وُضِعَتْ لغاية لا تتخلف، ولكن المصريين لا يريدون أن يفعل غيرهم بهم إلا ما يفعلونه به إقامة لحكم المساواة بين الناس، وهيهات أن يرضى القوم ذلك، فإنها طبيعة لا يغيرها الزمن ولا شيء آخر قط.
ولسنا ندري ماذا يقول المستر روبرتسون اليوم، وقد بَقِيَ الموظفون في إدارة الأحكام والسياسيون في إنكلترا والصحفيون البريطانيون في إنكلترا ومصر على عهده بهم منذ أربع عشرة سنة؟ على أننا لا ندري ماذا يقول هؤلاء جميعًا إذا سألهم سائل: لماذا تصفون المصريين بما تصفونهم به، وأنتم الذين أخذتم على أنفسكم تعليمهم وترقيتهم؟ ومتى يتعلمون ويرتقون؟ وماذا تقولون في التبعة؟ من يحتملها ومن الجدير بها؟ ومن الذي يجب أن يترك هذه الشئون حتى لا تتجدد تبعته مرة أخرى؟
إن أعذب ما قيل في هذا الباب كلمة قالها المستر روبرتسون أيضًا سنة ١٩٠٥ وهي:
«إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العالم الآن، عرفوا ما قامت به الأمة اليابانية، وأدركوا سخافة الأوربيين الذين اعتمدوا على التكهُّن الغربي المتأصل فيهم، فكانوا يزعمون أن اليابان لن تحرز ما أحرزته الآن».
لم تزل للمصريين تلك الآمال، وهي لم تقف عند المنزلة التي كانت لها يوم قال المستر روبرتسون هذه الكلمة، فقد تولَّتها الحياة النامية فضوعفت، وتعهدتها النفوس المخلصة فعظمت، ولم تكن حركة العالم الكبرى منذ أربع عشرة سنة إلا ذرة من حركته اليوم، فكم يكون انتباه المصريين؟ وكم تكون يقظتهم؟
ألا إن الإرادة لا تصلح إلا في أيدي أصحابها، وما كان لغريب الدار واللسان والخلق والعادة أن يعرف ما يعرفه صاحب الدار لنفسه، هل يكون ساكن المريخ أستاذًا يُلْقِي دروسه على ساكن الأرض؟ إن أعجب العجب أن يكون ذلك أو يصدقه عقل، فإن كان فلا صلاح ولا فلاح!
اللهم إن وحي الإلهام الإلهي يحدثنا أن في سجل قضائك المبرم سطرًا كتبتْه قدرتك العالية: إن مصر مع نفسها في ثلث القرن الجديد، وإلى الأبد.