دروس مصر لنفسها
«لقد أَبَنَّا بتمام الجلاء أن الأمة تريد أن تكون سيدة منزلها، سيدة صاحبة عزم وحزم، والآن تريد أن تبين أنها تريد أن تكون سيدة عادلة، ولكن تريد أن تكون سيدة على كل حال»
الدروس التي نفترض جدلًا أن غيرنا سيُلْقِيهَا علينا في معالجة الأمراض التي عجز هذا الغير عن معالجتها خلال سِتٍّ وثلاثين حجة، أو الدروس التي يريدون أن يُلْقُوهَا علينا كرهًا لا طوعًا، هي التي وصفناها فيما مضى، والتي وصفنا مادتها وصيغتها، واللسان الذي تُلْقَى به، والأسلوب الذي يعرب عنها، وقد علا صوت الأمة وصح عزمها على ألَّا تدخل مدرسة تلك الدروس مرة جديدة؛ لأنها تهلكة، ولأن الذي يلقي بنفسه في التهلكة هو المجنون.
والأمة تعرف سبيلها يوم تنفرد في وطنها كما ينفرد صاحب الدار في داره إذا تركه الضيف الذي يُزاحمه في امتلاك الدار، تعرف الأمة سبيل التجديد والترميم، ولا تبطئ في بناء الأركان المهدومة والجدران المنقضة، كلما رأت ما فعل ضيفها الراحل الأمة التي بنت فهدموا، وغرست فاجتثوا، وأحيت فأماتوا، ورفعت فخفضوا، والأمة التي أقامت دهرًا طويلًا مغلولة اليد إلى العنق ترى الهدم والاجتثاث والإماتة والخفض، تأبى إلا أن تبني وتغرس، وتحيي وترفع، إذا أُطلقت يدها المغلولة وحطم قيدها الشديد.
ولكن عسى أن يتطلع الناس لمعرفة ما ستصنع هذه الأمة لنفسها يوم تترك لنفسها، ولئن لم ينطق التاريخ بما ستفعل فإن حياتها الحاضرة وعزمها المنشور ينطقان به.
إن الأمة المصرية صادقة الأمل في الحياة، واثقة بأنها ستظفر بحياتها الكاملة لأن لها عزيمة تخضع قوة الزمن قبل أن يخضعها، ولها إرادة تحطم إرادة الدهر قبل أن يحطمها، ولم تفتقر أمة إلى أكثر من هذه الإرادة وتلك العزيمة، وكل أمة كانت مغلوبة فانتصرت على غالبها إنما كتب لها النصر بصدق إرادتها ومضاء عزيمتها.
ليست ثقة المصريين وليدة الحركة التي أطبقت على الأرض في هذه الأيام، وليس أملهم مخلوقًا مع الآمال التي أحيتها مطامع النور في هذه الأعوام، ولكن ثقة المصريين وأملهم قديمان، ولو لم يكونا كذلك لكان أقل جهاد للسياسة كفيلًا بأن يمسخهم ألوانًا وأشكالًا ونفوسًا غير ألوانهم وأشكالهم ونفوسهم، غير أن السياسة جاهدت جهاد المستبسل وصبرت على طول الزمن لتبلغ النصر، ثم كانت عاقبتها وعاقبتنا أن بقيت في مصر أمة ممتلئة حياة ونشاطًا وأملًا، مندفعة في سبيل الرفعة والمجد الوطني اندفاع السيل المنحدر، وكان من فضل ذلك أن حفظت قوميتها ولغتها وأخلاقها ووطنيتها وأصابت من العلم بنفسها ما لا يتَّفق لأمة أخرى أن تصيبه لو أن السياسة وقفت لها موقفها لهذه الأمة.
هذا الحاضر الماثل أمام الأبصار صفحة بيضاء ينظرها الناس فيقيسون بها ما سيفعله المصريون لأنفسهم يوم تشرق عليهم شمس الاستقلال التام، أما المستقبل فما أيسر أن نقص على الناس ما تنوي الأمة أن تستوفيه من عظمته ومجده.
سنصلح المالية فلا تنفق أموالنا آلافًا مؤلفة فيما لا ينفع، ونذرًا يسيرًا فيما ينفع ظاهرًا ويضر باطنًا، ولا تكون خزانتنا كالوقف الأهلي تفيض على الموظفين الإنكليز في غدواتهم وروحاتهم، وفي يقظتهم ونومهم، وفي حضرتهم وغيابهم، وفي بقائهم موظفين فإذا اعتزلوا الوظائف وعادوا إلى بلادهم أفاضت عليهم معاشًا فخمًا ضخمًا، ومكافآت أضخم وأفخم من المعاش، ولا تخترع لنا كل ساعة أمورًا جديدة يبرق ظاهرها باسم «مشروعات الإصلاح» وهي تستنفد المال ولو كان جبالًا.
سنصلح ماليتنا ونحفظها وهي جديرة بالإصلاح والحفظ؛ لأنها وافرة ولأن الينابيع التي تفيض بها فائرة مباركة، وبعد أن نصلحها ونحفظها يرانا العالم بُرآء من الدَّين الثقيل، ونشعر بأننا خفاف لا ننوء بالدَّين الذي يعجب الناس منه لأنه باقٍ إلى الآن، ولأنه ما كان ينبغي أن يبقى على حاله؛ فإن مصر غنية، والمزعوم أنها سعدت بالإصلاح المالي العظيم.
وسنصلح حياتنا الاقتصادية فنعود كما كنا أغنياء عن غيرنا إلا ما يقتضيه تبادل المنافع وتداول المصالح، تروج تجارتنا رواجًا لا يقف بها داخل حدود البلاد، ولا يجعل حياتها معلقة على استجلاب المتاجر من الجهات التي أرادتها السياسة، وتنهض صناعتنا بما يشد أزر التجارة ويضاعف سعتها، وما يفي للأمة بحاجاتها من مصنوعاتها الوطنية الخاصة، فيبقى الربح لنا وتنمو به ثروتنا وتقوى مصالحنا، ويتوفر العمل لأبناء الأمة فلا يشقى عاطل بعيشه، ولا يختل النظام العام بكثرة العاطلين.
وسنصلح حياتنا العلمية، فلا نرى العلم تجارة في يد الحكومة تبخل به على من يعجز عن ثمنه، ولا تظل هذه التجارة رديئة النوع غالية الثمن كما هي الآن في السوق التي أقامتها سياسة التعليم، على أن العلم النافع، علم الحياة في هذا العصر، علم المزاحمة والمنافسة، هو الذي سنفجر عيونه فتروي نفوسًا كاد يقتلها الظمأ، وتضيء سبيلًا كثرت شبهاتها بظلام العلم الناقص الأبتر.
وسنصلح حياتنا الاجتماعية، فلا تطغى علينا سيول الفساد، ولا يدخل غش المدنية بأدرانها وأوضارها على النفوس الطاهرة والأخلاق المرضية، ولا تبقى الأبواب مفتوحة لكل طارق، يبيعنا السم الزعاف فيقتلنا بثمن نؤديه إليه، ويقضي على أخلاقنا وقوميتنا بجزاء حسن نجزيه به.
لا نريد أن يشاركنا أحد في أنفسنا، لنوصد أبواب الفساد ونشرح صدر الشرف الذي خذلته المدنية السياسية فأصبح حزينًا كئيبًا.
سنصلح جملة شأننا وعامة أمرنا، فنقف بين الأمم أمة لا ينكر الناس منها أن حاضرها غير ماضيها، وأن حياتها لا تتفق مع مزايا وطنها، وهيهات أن نصلح جملة الشأن وعامة الأمر، إلا أن نكون مع أنفسنا، وأن يرفع كل غريب يدَه عنَّا.
أوحت إلينا التجاريب الكثيرة القاسية أن السياسة تكون صادقة لأنها تقسم وتحلف وتتعهد، ولكن التجاريب أوحت إلينا أيضًا أن صدق السياسة هو الكذب، إنَّا لا نطمع في صدق السياسة، بل نطمع في أن نقيم الحجة على أننا أمة تريد لنفسها ما تريده الأمة الإنكليزية لنفسها، ولا ننتظر أن تقول السياسة الإنكليزية إنكم تطلبون شططًا. فإن الناس يجيبونها إذن: لقد طلبت الأمة الإنكليزية لنفسها شططًا.
يقول المستر لويد جورج من خطبته في حفلة الاحتفاء بالجنرال اللنبي:
«لقد أَبَنَّا بتمام الجلاء أن الأمة تريد أن تكون سيدة منزلها، سيدة صاحبة عزم وحزم، والآن تريد أن تبين أنها تريد أن تكون سيدة عادلة، ولكن تريد أن تكون سيدة على كل حال».
ونحن نريد أن نسأل: هل السؤدد في المنزل الخاص نعمة خلقها الله للأمة الإنكليزية وحدها؟ اللهم لا، فهو نعمة خلقها الله لكل أمة؛ إذن لماذا يكون من فضائل الأمة الإنكليزية أنها تريد أن تكون سيدة منزلها ولا يكون من فضائل الأمة المصرية أنها تريد أن تكون سيدة منزلها أيضًا؟ هل تقترف هذه الأمة جريمة عظيمة إذا أرادت ذلك؟!
كلا: إن أمتنا تريد أن تكون سيدة منزلها، ولكنها لا تريد أن تكون سيدة على كل حال كما قال المستر لويد جورج في الأمة الإنكليزية، بل تريد أن تكون سيدة عادلة، سيدة صاحبة عزم وحزم، في حال واحدة هي العدل، فإذا لم تجد العدل في الرضا بإرادتها، فهنالك تقول:
أريد أن أكون سيدة منزلي على كل حال.