القومية واللغة
«إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها»
إذا صُوِّرَتِ القومية جسدًا فاللغة روحها، وإذا انفصل الروح عن الجسد فارقته الحياة.
وقد صدقت شواهد التاريخ، ولم يكذب نذيره للناس ألَّا يناموا عن لغتهم خشية أن تفنى فتفنى قوميتهم معها، في التاريخ شواهد الصدق، فهو يقول: إن أول ما يكون هلاك اللغة أن يتخللها دخيل لغة أخرى، فيحمل معه إلى نفوس أهلها طبائعًا غير طبائعهم، وعادات غير عاداتهم، وآدابًا غير آدابهم، تمكنها منها تلك الألفاظ السهلة السيالة التي تخالط لغتهم الأهلية، وكلما قوي هذا الدخيل انبسطت به الألسنة، واعتادت معانيه الأذهان، فتنقبض اللغة الأهلية شيئًا فشيئًا، ثم تذوب أمام غلبته، وهنالك تودِّع الأمة قوميتها وتقابل قومية جديدة لا تبصر فيها تاريخًا خاصًّا، ولا خلقًا خاصًا، ولا وطنية خاصة.
أين قوميات الأمم القديمة والحديثة التي هضمت لغتها مَعِدَاتُ اللغات الزاحفة عليها؟ أين قومية هنود أمريكا وأهل المستعمرات الأوربية من وسط أفريقيا؟ وأين قومية «المغاربة» من أبناء «زنانة» و«كتامة» وورثة «القرطاجيين»؟ وأين قومية غير هؤلاء ممن كانوا قديمًا وحديثًا أصحاب وطن عزيز الجانب ووطنية ناهضة الجناح؟ لقد هضمتها أيدي الغالبين حين هضمت لغاتُهم لغاتِها، وإنك لتحتال بكل حيلة لترى خيط الصلة بين من يسكنون تلك البقاع اليوم وبين آبائهم الأولين، فلا ترى ذلك الخيط؛ لأنهم كانوا أممًا روحها اللغة فانتسخت لغاتهم فمسخوا أممًا أخرى. ثم بادت لغاتهم الجديدة فمُسِخُوا مرة ثانية، هكذا يروي التاريخ وتصدق روايته، وإنه ليحدثنا أيضًا أن الفاتحين إنما يغلبون الأمم ويخضعونها بسلاحين: اللغة والسيف.
أصبحت اللغة العربية لغة مصر، ومضت عليها القرون الطويلة فصارت وعاء لآداب الأمة وعاداتها وأخلاقها وتاريخها، وصارت قوام شخصيتها ومساك جنسها وصارت لسانها في التأليف والكتابة والمخاطبة، وفي كل حاجة للغة فيها وساطة، ولعل اللغة العربية أقوى اللغات على الذيوع وبسطة السلطان، وأقدرها على الثبات والظفر بالفوز على أحداث الزمن، أما قوتها على الذيوع فلأنها لغة دين بجانب أنها لغة قومية، ولغة الدين لا تحتاج إلى شيء يعينها على إخضاع غيرها من اللغات متى أقبلت النفس على هذا الدِّين، وأما أنها قادرة على الثبات فلأن لها من بقاء القرآن آخر الدهر نصيرًا شديد البأس بجانب القومية وهي النصير العام، وإنك لتدرك مقدار أثر الدين في حفظ اللغة العربية إذا سمعت هذه الدعوى المقلوبة:
قال اللورد دفرين في تقرير خاص بالتعليم في مصر وضعه سنة ١٨٨٢:
«وأخال أن أمل التقدم ضعيف ما دامت العام تتعلم اللغة العربية الفصحى التي هي لغة القرآن».
على رغم أن للأمة المصرية من لغتها تلك القوة وهذا الثبات، فقد وجدت هذه اللغة في وطنها خلال ثلث القرن الأخير ما لا يجده الخصم من خصمه، ولكن الأمة لم تكن تخضع لما يفسد عليها لغتها ثم ينتهي بفنائها، بل كان كل سهم يرمى به القلب اللغة يجد دواء عاجلًا يرد عليها العافية أكثر مما كانت، ويعيد إليها البهجة أعظم مما فقدت، ويزيدها تمكينًا، ويزيد نهضتها صعودًا، وسوقها رواجًا، ولا ريب أن لغة الأمة تمشي الآن بين صفوف من الجلال لم تكن تمشي بينها من قبل.
ظهرت مخاصمة اللغة الوطنية في دور الحكومة فأغفل أمرها في المخاطبات ووضع التقارير وتأليف القوانين واللوائح، ولم يبق لها ظل إلا فيما لا بد منه لإبلاغ الأمة ما تريد الحكومة أن تبلغها من أعمالها، والحكومة مصرية والوطن مصري، واللغة العربية لغة الحكومة الرسمية الوطنية، ولغة الوطن التي لا عوض عنها، ولكن حكومتنا عاشت ثلث قرن تقابل لغتها الرسمية بوجه عابس، وتصافحها بيد مقبوضة، كانت الحكومة تعدل عن لسانها الرسمي إلى لسان آخر أجنبي، ولا نعرف حكومة وطنية لها لغة خاصة تفعل ذلك إلا حكومتنا.
القوانين تُوضع أعجمية، وتُبحث بلسان أعجمي، ويُقضى بتنفيذها وطاعتها، وبعد ذلك تترجم بلغة الأمة. فإذا سألت: لماذا يكون ذلك؟ فلا تجد جوابًا إلا أن هناك لغة غريبة يُراد أن تكون أصلًا واللغة الرسمية فرعًا، أو رأسًا واللغة الوطنية ذيلًا، وإذا سألت: لماذا لا يعرف الموظفون الأجانب لغة البلاد لأنهم المحتاجون إلى الوظائف ولأنهم موظفون في حكومة البلاد؟ فلا تجد جوابًا إلا أنهم أرادوا عكس الآية وكفى.
وظهرت مخاصمة اللغة العربية في التعليم منذ سنة ١٨٩١، فقد كانت اللغة العربية لسان التعليم في المدارس كلها، وفي هذه السنة دخلت اللغة الأجنبية المدارس الابتدائية، وجُعلت لسان التعليم في دراسة علمي الأشياء والجغرافيا، وفي سنة ١٨٩٢ دخلت المدارس الثانوية وجُعلت لسان التعليم في دراسة العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا، ولما جاءت سنة ١٨٩٧ لم يكن للغتنا أثر في التعليم بهذه المدارس.
وإذا كان يشفع في هذا أن إهمال اللغة في الدرجتين الأوليين من درجات التعليم لا يضيرها كثيرًا لأن حضانة الأسر لأبنائها كفيلة بحفظها؛ فإنَّا ننكر أن إشراب النفوس الناشئة لغة أخرى منذ الحداثة، لا ينزل هذه اللغة من نفوسهم في المكان الذي يجب أن تنزله لغتهم القومية، على أن سياسة التعليم التي رأت أن تنسخ ظل اللغة العربية من التعليم الابتدائي لتنزع جذورها من الصدور نسخت ظلها من التعليم العالي أيضًا، والنتيجة المقصودة أن تبقى اللغة بعيدة عن المنهج العلمي فلا تكون لغة علم كما لا تكون لغة قومية.
كانت لغة الأمة لسان التعليم في مدرسة الطب إلى سنة ١٨٩٧، ثم أغارت عليها اللغة الأجنبية في تلك السنة، كانت لغة البلاد لغة التعليم كله في صغريات المدارس وكبرياتها، فرأينا وقتًا طُرِدَتْ فيه لغتنا من مدارسنا كافة، ولولا أن الأمة شديدة الغيرة على قوميتها فهي شديدتها على لغتها، لما عادت اللغة العربية لسانًا للتعليم في بعض المدارس.
ومن عجيب ما حدث أن التقرير الذي وضعته لجنة التجارة والصناعة بيانًا لنتيجة عملها وُضِعَ بلغة أجنبية ثم تُرْجِمَ إلى العربية، وكان هذا أيضًا شأن لجنة التعليم الأولي في تقريرها، وهو شأن كل لجنة تؤلفها الحكومة المصرية لتؤدي عملًا.
أما موقف الأمة فيدل على جلاله هذا الفخر الذي وعاه صدر الأيام، والذي استحقته بفضل الغيرة الدائمة على لغتها والجهاد الدائم لنصرتها، وقد ذاعت الصحف الوطنية فأدَّت نصيبًا غير قليل في خدمة اللغة، هذَّبت الأساليب، وأدتها إلى الأفهام مستقيمة، ونثرت المفردات الفصيحة؛ فوعتها الأذهان وظهرت في التفاهم كتابة ومخاطبة، ومن جميل ما فعلته الصحف الوطنية أن طهرت الأساليب من الألفاظ الفاسدة والتراكيب السقيمة والكلمات التي ينفر منها الذوق، مما دخل به المتمصرون على هذه البلاد.
أما الأدب والتأليف فالفخر بهما عظيم، وإنك لتعد الجم من الشعراء المطبوعين على سلامة الذوق وتجويد اللفظ والمعنى، والكتاب المنشئين ممن يمتعك بيانهم، ويطربك حريف أقلامهم، وإنك لتستقبل كل يوم مؤلفًا جديدًا أقل ما فيه من الخير أن به من مفردات اللغة ما يدل على مستحدث المعاني ومستجد الأشياء.
هذه غيرة الأمة على لغتها، وهذا جهادها في سبيل نصرتها، فهل يضيرها بعد ذلك أن تبقى مخذولة بين جدران الدور الحكومية؟ هل يضيرها ألَّا يرسم بها شيء، وأن توضع أسفل من غيرها في كل ورقة أو بطاقة، وأن يجري بها القلم الحكومي سقيمًا عليلًا، لا ينتسب إلى العربية أكثر مما ينتسب إلى الأعجمية؟
إن الذي يرى كتابًا أو منشورًا خارجًا من إحدى دور الحكومة لا يرى فيه حكومة مصر في هذا القرن، بل يراها في قرن الاختلاط، فلغتها قبطية لا تنسب إلى عرب ولا إلى عجم.
راجت سوق اللغة وأرغمت أنف البغي، ولا سبيل إلى القضاء على قومية أمة إلا أن يُقضى على لغتها، قال «ماكس نوردو» الألماني:
«إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها».
أما قومية الأمة المصرية فمحال أن يُقضى عليها لأن لها لغة أبدية الحياة، فالطمع في ذلك سقطة من سقطات العقل!