الصناعة
«إن مصر غدت مهد حضارة هي من أغنى الحضارات القديمة وأمجدها، كما أنه بسبب التقصير في الانتفاع بالمزايا الطبيعية قدر لهذه البلاد ألَّا تبلغ درجة الرقي والرخاء التي كانت جديرة بها»
ما كانت البلاد المصرية في أي عهد من عهود الحضارة في منزلة تهبط عن الدرجة الأولى بين غيرها من البلاد جميعًا، اللهم إلا هذا العهد فقد هبطت حتى أصبحت سفلًا، وتأخرت حتى صارت ذيلًا.
ومصر مخلوقة لتسكنها أمة تمشي أمام الأمم وفي يدها لواء الحضارة؛ فإن بها من الخصائص الطبيعية والمزايا الكونية ما ليس بغيرها، وإذا كانت للحضارة مقومات من ظواهر الطبيعة في الأرض والهواء والماء والجو والإنسان، فهذه المقومات وفيرة على أكملها في مصر، حتى كأنها اختصَّت بها دون سواها، ولكن العهد الذي احتواه ثلث القرن الأخير جعل مصر في ذيل الناس؛ لأنه أهمل كل هبة أنعمت بها الطبيعة على مصر، فكان من الضروري أن تكون نتيجة الإهمال غروب شمس الحضارة المصرية واقتحامها سبيل الحياة في لُجَّةٍ من الظلام الدامس، على أن الأمة لم تعجز عن أي توري همتها فتقدح شررًا تستضيء به.
ادخل أيَّة مدينة مصرية، وانظر هل تقف عينك منها على شيء أبدع من آثار الصناعة القديمة، افتح أي كتاب في تاريخ مصر القديم والحديث، وانظر هل تقرأ إلا شهادات تنطق بأن الصناعة المصرية كانت في العهد القديم أيام الفراعنة، وفي العهد المتوسط أيام الفاطميين وغيرهم من الولاة والأمراء المسلمين، وفي العهد الذي بدأت فيه النهضة الحديثة أيام محمد علي وخلفائه من بعده؛ في منزلة من الرقي والإبداع والجودة ودقة الذوق لم تبلغها منزلة الصناعة في أمة أخرى حتى في هذه الأيام؟ فإذا رأيت ما تبصر عينك وقرأت ما يشهد به التاريخ فسل: لماذا وقفت صناعة مصر منذ ابتداء العهد الأخير موقف الجمود، ثم تحدَّرت على درج الانحطاط والفناء حتى عفا أثرها، وانقطع خبرها؟
وحيثما كانت الأمة ناهضة لتقف بين صفوف الأمم في الموقف الذي تقتضيه الحياة الكريمة، وجب أن تحمل نصيبًا عظيمًا من العمل لهذا الموقف، كذلك كانت الأمة المصرية في كل أيامها.
ولم تنس هذه الأمة أن الصناعة هي الدرجة الأولى في السُّلَّمِ التي تصعد فيها الأمم لموقفها الرفيع، فكل حاجة من حاجات الحياة إنما تقوم على عمادٍ قوي من الصناعة، ولا تدرك الأمة حاجاتها كاملة إلا حين تعتمد على صناعتها أو يكون أعظم اعتمادها عليها، فلو أن أمة عاشت عالة على غيرها في كل مصنوع لبقيت مشلولة اليد ناقصة الحاجات.
نقيم الحجة على اليد التي أخذت السبيل على منافس الحياة الصناعية مما تقوله الألسنة الرسمية نفسها، هذا هو التقرير الذي وضعته لجنة التجارة والصناعة الرسمية يقول: إن صناعة مصر لم تمت عن فقر ولا عوز، ولم تهلك عن غباوة في الصانع المصري؛ فالمواد الأولى موفورة لا تعوز مصر إلى غيرها، والصانع المصري ذكي صبور مبدع، هكذا تقول لجنة التجارة والصناعة في كل سطر من تقريرها؛ إذن لماذا ماتت صناعتنا؟ إن تقرير هذه اللجنة ينطق بالجواب أيضًا، فهو يقول:
«في سنة ١٨٣٦ بلغت قيمة المنسوجات المصدرة للخارج ٦٢٠٠٠ جنيه مصري أي بنسبة ٣ في المئة من مجموع الصادرات، وفي سنة ١٩١٣ هبطت قيمتها إلى ١١ ألف جنيه أي بنسبة تكاد تكون في حكم العدم، ونلاحظ أخيرًا أن المحصولات الصناعية الأخرى كانت قيمتها في صادرات سنة (١٨٣٦): ٥١٠٠٠ جنيه مصري أي بنسبة ٢ ونصف في المئة من المجموع، أما في سنة ١٩١٣ فلا تتجاوز نسبتها ٠٬٩ المئة».
ويقول بعد ذلك:
«حلت إنكلترا في المنزلة الأولى التي كانت لتركيا في سنة ١٨٣٦ سواء في تجارة الواردات أو في تجارة الصادرات، وقد أصبحت أهم بلد تورد لنا بضائعها وتستورد بضائعنا».
نعم، لعلَّنا نجد في هذا القول الرسمي جواب السؤال.
وليست الآثار السيئة التي أدَّى إليها موت الصناعة المصرية خاصة بإقامة الأمة مقام الافتقار الدائم إلى الغير، وظهور نصيبها من الرُّقِيِّ في مظهر يمكن أن يقال معه إنها عاجزة عن أن تعول نفسها وتترك لذاتها، بل آثاره السيئة أصابت الأمة أيضًا بالفقر الأدبي إلى جوار الفقر المادي؛ فإن هذه الأمة القوية تسكن وطنًا تَوَفَّرَتْ فيه أسباب النماء الإنساني، فمن النتائج الطبيعية أن تتناسل ويكثر أبناؤها، كذلك تقول الاحصاءات. وبمقدار تَهَدُّمِ الدور الصناعية يضيع أطفال وشبان ورجال هيَّأتهم الفطرة للصناعة، وزادوا عن حاجة الزراعة وغيرها من الأعمال، وقد وقعت هذه النتيجة الخطرة فأدت إلى العواقب التي لا بد أن تؤدي إليها كخلل الأمن العام وكثرة العاطلين وشيوع التسوُّل والتعويل على مرتزقات حقيرة تُتَّخَذُ عند الراقين دليلًا على صنعة الأمم والبلاد، ولم يكن أبناء الأمة ليركبوا هذا المركب على جهل به، بل كانوا يركبونه اضطرارًا على رغم أنهم أكرم من أن يركبوه مختارين.
كانت الأمة ترى شبح هذه الحالة فيملأ عينيها ظلامًا، وكانت لا تجهل ما وراءه من عاقبة تَنْصَبُّ بالويل على أعز شيء في مستقبلها، ولكنها لم تكن مستسلمة ولا نائمة، إن الإمة رفعت أعلام يقظتها فصاحت الصحافة الوطنية تُشهد العالم على ما يحدث وعلى أنها عارفة بما يحدث، وصاح القادة في الأندية الرسمية وغير الرسمية يُشهدون العالم أيضًا هذه الشهادة، وبينا كانت تقيم برهان يقظتها على هذا النحو كانت تستجمع قوَّة العمل وهي مكتوفة ولكنَّ الآثار التي أخرجتها حركة الشعب المكتوف نزلت بين آثار الشعوب الأخرى منزلة عالية.
صاح المصريون: لتحيَ صناعة مصر، وليحيَ مجدها الصناعي، وليَعُدْ عهد الحضارة العظيمة. ولم يلبث هذا الصياح أن هبط على قلب الصانع المصري في حانوته الحقير، فماذا فعل؟ أخرج البدائع مما شبعت العين بجماله وهو معروض أمام الأبصار في المعارض الصناعية، ولو نطقت ألسنة الإنصاف لسمع الناس أن أعظم ما يفتخر به مُمَدِّنُو الشعوب في فخامة القصور التي شُيِّدَتْ في المدن المصرية لهذا العهد ليس إلا عمل الصناع والعمال المصريين الذين يحشدون لبناء تلك القصور والعمائر كما حشدوا من قبل لبناء الأهرام.
وقد يلذ للإنصاف أن يسمع الناس أيضًا صوت الحق فيما رأوه من ظواهر العناية الرسمية بالصناعة المصرية في السنوات الأخيرة، ولا أسهل على الحق من أن يقول: إن الأثر يدل على المؤثر. وهذا هو المؤثر فأين الأثر؟ هذه هي إدارة التعليم الفني والصناعي فأين هذا التعليم على وجهه الصحيح؟ وأين ما أجرى الله على يد هذه الإدارة من الآثار الفنية والصناعية والتجارية؟ هنالك آثار جليلة لها، فإذا سألت عنها فسل قبل ذلك: لماذا اقترن وجودُ إدارة التعليم الفني بنهضة الأمة الصناعية؟ ولماذا نرى كل الحرص على أن تمتد يدُها إلى كل مكان تَسْتَقِلُّ فيه الأمة بإحياء الصناعة، من مدرسة أو مصنع أو غيرهما؟
ولكن الأمة ناهضة لا محالة، والأمة الناهضة بعزم غير مفلول لا تغلب على ما تريد، فإذا غلبت كان ذلك إحدى فلتات الطبيعة!