الانحياز التأكيدي (الجزء الثاني)
تعرَّفنا في الفصل السابق على الأب لكل أخطاء التفكير: «الانحياز التأكيدي». وهنا نُقدِّم عليه بعض الأمثلة. كلنا مُجبَرون على تصميم نظرياتٍ عن العالَم والحياة والاقتصاد والاستثمارات والنجاح المهني … إلخ، ودون هذه الافتراضات لا تسير الحياة، وكلما كانت النظريةُ ذات قوةِ امتصاصٍ مثل الإسفنج، كانت مغالَطةُ التأكيد أقوى؛ فمَن يعتنق في حياته نظريةَ أن «الناس طيبون»، فسيجد ما يكفي من الدلائل ليؤكِّدها، وكذلك مَن يعتنق نظريةَ أن «الناس سيِّئُون»؛ فكلٌّ من مُحِبِّ البشر وكارِهِهم سيقوم بدحض «الدليل اللاتأكيدي» (البرهان المضاد) ليجد أطنانًا من التأكيدات على صواب رؤيته للعالم.
يعمل المنجِّمون وخبراء الاقتصاد وَفْق المبدأ نفسه؛ فمقولاتهم إسفنجية لدرجة أنهم يجتذبون التأكيدات كالمغناطيس: «ستعاني من لحظاتٍ حزينةٍ في الأسابيع المقبلة» أو «في المدى المتوسط سيزيد الضغط على خفض الدولار». ما معنى المدى المتوسط؟ وما معنى الضغط على الخفض؟ الخفض قياسًا إلى ماذا؟ الذهب، أم الين، أم البيزو، أم القمح، أم الأملاك العقارية في حي كرويتسبيرج في برلين، أم سعر النقانق المبهَّرة بالكاري؟
وبفضل قدراتها الإسفنجية الفائقة تُعَدُّ المعتنقات الدينية والفلسفية تربةً خصبة ﻟ «الانحياز التأكيدي»؛ فهنا ينتشر الانحياز بشراسة. المؤمنون يرَوْن في كل خطوةٍ أن الله موجودٌ، على الرغم من أنه لا يُظهِر نفسه إلا للأميين في الصحراء والقرى الجبلية النائية، لكن ليس في مدينةٍ مثل فرانكفورت أو نيويورك. يبيِّن بوضوحٍ كَمْ أن «الانحياز التأكيدي» أمرٌ قوي؛ فحتى أكثر الاعتراضات إفحامًا تُستبعَد.
وليس ثَمَّةَ نوعٌ مهني يعاني من «الانحياز التأكيدي» أكثر من مُحرِّري القسم الاقتصادي بالصحف. غالبًا ما يقدِّمون نظريةً رخيصة، ويسوقون دليلَيْن أو ثلاثة على صحتها، وهكذا ينتهي المقال. مثال: «جوجل نجاحُها كبيرٌ لأنها شركةٌ تعيش في ثقافة الإبداع.» وهكذا يذهب المحرر، يبحث عن شركتين أو ثلاثٍ تعيش أيضًا في ظل ثقافة الإبداع؛ وبذلك تكون شركات ناجحة (دليل تأكيدي). لكنه لا يبذل مجهودًا ليجد «الدليل اللاتأكيدي»؛ أيْ لا يبحث عن الشركات التي ترعى الإبداعَ لكنها ليست شركات ناجحة، أو تلك الشركات الناجحة دون أن ترعى الإبداع؛ فثَمَّةَ عددٌ كبير من الشركات في النوعين كلَيْهما، إلا أن المحرِّر يقرِّر أن يتجاهلها بشكلٍ متعمَّد؛ فلو أنه ذكر بعضها، لَعرف أن مقاله يستحق أن يُلقَى في سلة المهملات. أما أنا فسأقوم ببَرْوزة هذا المقال، الذي يُمثِّل جوهرةً في بحرٍ من الأبحاث التافهة غير النافعة.
ووَفْقَ المبدأ نفسه تُكتَب كُتُب المساعدة على النجاح والحياة؛ حيث يتم تقديم أكثر النظريات ابتذالًا، مثل: «التأمل هو المفتاح للسعادة الوجدانية». وبطبيعة الحال، قد وجد المؤلِّف أكوامًا من الأمثلة التي تؤكِّد صحةَ مقولته، لكنْ لو بحثنا عن «دليل لا تأكيدي» لَظلَّ بحثنا بلا جدوى: أُناس يعيشون في سعادةٍ دون ممارسة التأمُّل، وأُناس يعيشون في تعاسةٍ على الرغم من ممارسة التأمُّل. إنه لَأمرٌ يدعو للأسى حين نعرف أعدادَ القراء الذين يقعون في فخِّ مثلِ هذه الكتب.
وتتمثَّل اللعنة في أن «الانحياز التأكيدي» يظلُّ في اللاوعي؛ فطبيعيٌّ أننا لا نحب أن يخترق الرصاصُ قناعاتِنا ويُحدِث بها ثقوبًا. لكنْ أليس من الصحيح أننا نُقِيم المتاريسَ أمام قناعاتنا لنحميَها؟ فالأمرُ يبدو وكأننا يُصوَّب علينا بمسدسٍ مزوَّدٍ بكاتمٍ للصوت؛ فالرصاص ينطلق لكننا لا نسمعه.
والإنترنت يُسهل أن نلتقيَ بمَن يماثلوننا في الرأي؛ فنحن نقرأ المدونات التي تدعم نظرياتنا. وشخصنة الأخبار تُكرِّس أن الآراء المتضادة لا تَظهر على شاشة راداراتنا. وصرنا نتحرك باطِّرادٍ تجاه مجتمعاتٍ من أفرادٍ متشابهي التفكير، يقومون على تعزيز «الانحياز التأكيدي».
كيف يمكن أن نحميَ أنفسنا؟ تبدو عبارة آرثر كيلر كاوتش مفيدة: «اقتُلْ حبيباتك.» كان الناقد الأدبي يخاطب الكُتَّاب الذين يجدون معاناةً حقيقيةً في شطب الجُمَل التي تبدو جميلةً لكنها زائدة. إن مناشدة كيلر كاوتش لا تنطبق فقط على الكُتَّاب الناشئين المتردِّدين، ولكنْ على الجميع. الخلاصة: تشاجَرْ مع «الانحياز التأكيدي». دوِّنْ معتقداتك، سواءٌ أكانت حول نظرتك للعالم، أم الاستثمار، أم الزواج، أم الرعاية الصحية، أم الأنظمة الغذائية أم الاستراتيجيات المهنية، ثم ابحثْ عن «الدليل اللاتأكيدي»؛ فقتْلُ النظريات المفضَّلة لدى أيِّ إنسان عملٌ شاقٌّ، لكنَّ الروحَ المستنيرة لا تملك أن تلتفَّ حول المسألة.